تحسين إبراهيم دوسكي
تمهيد وبيان:
يتشعب الحديث كلما كان دائراً عن الحب، ذلك أن الحب دنيا فسيحة من العواطف، وعالم شاسع من المشاعر، فهل رأيتم يوماً تعبيراً -مهما أوتي من قوة وبراعة- قادراً على أن يترجم عن عاطفة، أو يحيط بشعور؟
والحب في سموه يعلو كالقمر نتحدث عنه ولا نحوزه، وهو في عمقه يغور كالبحر نغوص فيه دون أن ندرك قاعه، فهل رأيتم يوماً من يقدر أن يضع القمر في كفه، أو يصب البحر في قدحه؟
والحديث يتعقد كلما كان دائراً عما يسميه أرباب الهوى من الصوفية بـ (العشق الحقيقي)، ذلك لأنه -عندهم- سر الحياة وروح الوجود، فهو الذي كان موجوداً يلمع نوره قبل أخذ العهد من بني آدم في يوم (ألستُ) بل لما كان (العرش والكرسي) لا يزالان بعدُ مخفيين في كنز القدرة الإلهية.. ألم يقل الجزيري:
عهرش وكورسی هێژ دمهخفی بوون د كهنزا قودرهتێ
حـوسـنـێ حـهق بـوو د ئستوائێ لامعا عشقێ هـهبـوو
(أي: كان العرش والكرسي لا يزالان مخفيين في كنز القدرة، حينما كان حسن الحق مستوياً ولمعان العشق موجوداً).
أفتظنون -بعد كل هذا- أن بإمكان قلم لم ينتش يوماً بكأس المحبة، ولم يغترف من معينها، كالقلم الذي أكتب به الآن لكم بقادر على أن يسلك سبل العشق، ليترجم عما في ضمير شاعر كالجزيري شاخ في العشق، وخبر حزنه وسهله، من معان دقيقة، أو يكشف عما في قراره من درر ثمينة؟
غير أننا نريد هنا أن نعرج على بعض أبياته لندلَّ فقط على ما في ثناياها من الإشارات المبثوثة والرموز المدسوسة، لا أن نستقرى كتاب عشقه ونستكشف خفايا قلبه، فذلك لا يتأتى لمثلنا في عجالة كهذه، وحسبنا أن نكون في عملنا هذا كالدّلال ينادي على البضاعة، أو كالدليل الذي يقدمونه لك وأنت على عتبة معرض للوحات الفنية تقدم على رؤيتها، يبغون بذلك أن يختصروا عليك الطريق، لا أن يكون دليلهم هذا بديلاً عما في المعرض من التحف، فهو -عندهم- لا يغنيك عن التجول في أروقة المعرض.
ثم إن الحديث عن نظرة الجزيري للمحبة غزير لكنه منصب في الغالب عما يدعونه بالعشق الإلهي، أو العشق الحقيقي، وطالما رأينا الباحثين في عشق الجزيري يعافون الحديث عن كل جانب يقرب عشق الجزيري من المجازات أو المحبة المتصورة في هيئات جسمية، وكأن الجزيري العاشق لم يمر يوماً بمفازة العشق الأدنى، ولم يتزود منه ما يدفعه إلى التقدم والتحلق نحو المراتب العليا من العشق، أو كأنهم صموا آذانهم عن قول الجزيري نفسه بأن طريق الحقيقة لا يمر إلا بالمجاز:
لامعا حـوسـن وجهمالێ دێ ژ علمی بێته عهین
عشق دا ژێ هلبتن كێ دى حهقیقهت بێ مهجاز
(أي: لمعان الحسن والجمال يأتي لا محالة من العلم إلى العين ليشعل بمجيئه ذلك العشق في القلب، إذ من ذا الذي رأى الحقيقة بلا مجاز؟).
فهو إذن يصرح بلا خفاء أن لمعان الحسن الحقيقي وإن كان ثابتاً في علم اليقين لكل ذي قلب، إلا أنه لابد أن ينزل في مرتبة عين اليقين، ويحل في صورة مخلوق يمكن مشاهدته ومعاينته، فيتحول بسبب تلك المشاهدة إلى مرتبة عين اليقين، فيخلص من الوهم، ويكون أقوى تأثيراً، وأدعى للجذب، وهو بذلك وإن كان قد نزل من برج الحقيقة العالي إلى صعيد المجاز الواطئ، لكن لا بأس.. إذ لا وصول إلى الحقيقة إلا عن طريق المجاز. والسؤال هنا هو: ألم يمر الجزيري العاشق في سير سلوكه بمرحلة المجاز؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، ولابد أن يكون كذلك تصديقاً له في قوله السابق، فما كان أثر تلك المرحلة في قلبه وشعره؟ وكيف كانت نظرته إلى المحبة الصورية سواء وهو واقف عندها أو مجاوزٌ لها منتقل إلى ما بعدها؟ هذا ما سنحاول الوقوف عنده هنا، بعد أن نعرف مختصراً بالجزيري.
تعريف موجز بالجزيري:
هو الشاعر الأشهر في تاريخ الأدب الكردي، وشيخ الأدباء الكرد على الإطلاق، أحمد بن محمد الجزيري، المشهور بـ (الملا الجزري) نسبة إلى جزيرة بوتان أو جزيرة ابن عمر -كما كانت تعرف في المصادر الإسلامية-، ينتمي إلى العشيرة البوهتية (البوتية) الشهيرة التي تقطن في مدينة الجزيرة منذ مئات السنين، وقد وجدنا في أكثر من نسخة خطية لديوانه قول الناسخ في نسبه: الجزري الأنصاري، الشيء الذي يدفعنا إلى القول بأنه ينتمي إلى الأسرة الأنصارية المعروفة في الجزيرة، والتي ينتسب إليها بعض مشاهير علماء الجزيرة قديماً وحديثاً.
تخلص في شعره بلقبين اثنين هما: (ملا) ويعني بها في اصطلاح الكرد: العالم الديني الذي نال الإجازة العلمية من المشايخ، و(نيشاني) نسبة إلى (نيشان) التي تعني الهدف والعلامة أو الشامة، وكأنه عد نفسه هدفاً لسهام المحبة، أو أنه ينسب نفسه إلى شامة في خد الحبيب([1]).
وقد أشار الجزري في قصيدة له إلى تاريخ ولادته بـ (حساب الجمل) والتي تتحدد بسنة (975) المصادفة لسـنـتـي (1567 و 1568) الميلاديتين.
وإن كان صحيحاً ما يقال من أن الشاعر (فقي تيران المكسي) -وقد كان زميلاً للجزري، وله معه مساجلة شعرية- قد نظم مرثيته الشهيرة: (ئيرو ورن..) في وفاة الجزري، فسيكون تاريخ وفاته هو سنة 1050 هـ التي تصادف (1640 ـ 1641م) لأنها منظومة في تلك السنة كما يفهم من إحدى رباعياتها.. وهو ما تؤيده الروايات الشفوية التي تقول بأن الجزري عاش خمساً وسبعين سنة.
لم يصلنا شيء من تفاصيل حياته وطريقة نشأته من المصادر التاريخية الموثوقة.. يقول الأستاذ محمد على عوني (1897-1952م) اعتماداً على المصادر الشفوية: إن الجزري دخل المساجد والمدارس الدينية وهو طفل لم يبلغ الحلم على عادة أطفال الكرد، وبتوجيه من أبيه الذي كان عالماً دينياً.. درس القرآن وبعض المبادئ الأولية على والـده، ثـم رحل في طلب العلم وانتقل بين الجزيرة وهكاري ودياربكر والعمادية، وفي الثانية والثلاثين من عمره نال إجازته العلمية من الملا طه فـي قـريـة (سترباس) التابعة لدياربكر، بعد ذلك أصبح إماماً ومدرساً في قرية (سربا) التابعة لدياربكر هي الأخرى، وانتقل فيما بعد إلى حسنكيفا (حصن كيفا) وأصبح فيها مدرساً يجيز التلاميذ، وبعد مدة رجع إلى الجزيرة وبقي فيها يؤم الناس ويجيز طلبة العلوم الدينية حتى وافته المنية هناك وهو في الخامسة والسبعين من عمره. والظاهر -على ما يروى شفوياً كذلك- أنه لم يـتـزوج مطلقاً حتى وفاته.
والمشهور المتواتر على ألسنة أهل بلدته أنه بعد حصوله على الإجازة العلمية التي تؤهله للإمامة والتدريس، واشتهاره كعالم ديني، جلس في المدرسة الحمراء التي تعد من أشهر مدارس الجزيرة الدينية، يعظ الناس ويدرِّس التلاميذ ويجيزهم حتى وافته المنية، ووجود قبره اليوم في قبوٍ بتلك المدرسة يؤكد هذا الرأي ويسانده.
له ديوان شعر شهير بالكردية، يعد أشهر ديوان في الكردية، وقد أشار الجزيري في إحدى قصائده إلى تاريخ وضعه والذي يتحدد في 1/1/1041 هـ (29/7/1631م) حين كان عمره يومئذ (66) سنة، ومعنى هذا أنه عاش تسع سنين بعد وضعه لأصل ديوانه، وهذا يفسر لنا وجود بعض القصائد في بعض نسخ ديوانه الخطية دون بعض. والذي يقرأ ديوان الجزري بتمعن لا يخفى عليه ما أودعه الله في الشاعر من حس مرهف وعاطفة ملتهبة لا يخبو لها ضرام، الشيء الذي يعد واحداً من أبرز عوامل النبوغ لدى الشاعر المجيد، ودليلاً على أنه أحب أول مرة حباً شغل فكره وعقله ثم تدفق في قلبه تدفق الدم إلى أن أضحى من الأصول الراسخة التي يقوم عليها بنيان شعره الذي كان ولا يزال سلوة أهل العشق.
ولما كان الجزري الشاعر واحداً من أبرز رموز التصوف في الأدب الكردي فقد أحيط ديوانه -المطبوع حتى الآن أكثر من عشر مرات والمتـرجم إلى عدة لغات شرقية وغربية- بهالة من القدسية الدينية، وأعتبر من أسمى آثار الأدب الصوفي في الكردية، وكان أئمة المساجد وطلاب العلوم الدينية يكثرون من استنساخ هذا الديوان واقتنائه، وكانوا ينشدون قصائده في حلقاتهم المسجدية بألحان مؤثرة، وكان بعضهم يصر على اصطحاب هذا الديوان معه أينما حل وارتحل تيمناً ببركاته!
ماهية الحب عند الجزيري:
للحب -دون تقيده بصفة- في الرؤية الصوفية عموماً، والجزيري واحد منهم، مكانة سامية، تهفو إليه قلوبهم، وتلهج بذكره ألسنتهم، ولاغرو فهو:
حجر الأساس عندهم، أو حجر الزاوية -كما كان يقال سابقاً- فبه أخرج الكون من العدم، وعليه يقف مدار كشف أسرار الصفات، يقول الجزيري في ذلك:
كــهشـفـێ ئهسرارێ صفاتان بێ مهحهببهت نابتن
صوورهتێ ئهسما دڤێتن دا بكین ژێ كهشفێ راز
(أي: لا یمكن كشف أسرار الصفات وبيان ما فیها من الحكم الخفية، إلا عن طریق المحبة، ولابد لنا من وجود محبوب صوري تتجلى فيه معاني الأسماء لنتمكن من كشف الأسرار وفهمها على الوجه الصحيح).
وعليه فإنك تجد في هؤلاء من يجعل من المحبة -على إطلاقها- غرساً في الفؤاد لا يسلو عنه، وفيهم من يجعله سر بقاء الحياة، ومنهم من يجعله ناراً في القلب تشتعل..
وللحب على رأي الجزيري إشراقة نور تملأ كيان الوجود بقوة الحياة ودفئها، وهو نقطة البداية لكل انطلاقة تريد أن تكون صحيحة تؤدي إلى الهدف الأسمى، وهو الموجه لكل جهد يأبى أن يكون عبثاً، اسمع إليه وهو يفصح عن هذه الفكرة محذراً السالكين من الانخداع بالجذبة -وإن كانت قوية-، والجهد -وإن كان مضنياً- فيظنوا أن بإمكانهم الوصول بهما إلى الغاية المنشودة، يقول:
جــهذبه وسهیرا سولووكێ بێ مهحهببهت نابتن
جههدهیا بێ عشق وحوب چهندى كو كر بێ فهیدهبوو
(أي: الجذبة والسير في السلوك بلا محبة لا يكونان، وأي جهد من غير عشق أو حب يبذل لا يفيد صاحبه).
وهو -أي الحب- عندهم شيء الروح مفطورة عليه، ألم يقل سلطان العاشقين ابن الفارض([2]) يوماً:
شربنا عـلـى ذكــر الحبيب مـدامـة
سكرنا بها مــن قـبـل أن يخلق الكرم
فالروح حتى قبل أن يوجد في الجسم قد فطر على المحبة، لكن بعد تعلقه بالجسد، حبس الجسدُ بترابيته تلك الفطرة، وهي لا تنعتق من أسرها إلا بكسر قفل السجن وتحرر الروح، يقول الجزيري:
حــهیــف د قـهیـــدا خاك وگل بت عارفێ چالاك رووح
دێ موجهررهد بت كو پهرتهو دت ژ نوو ئهو پاك رووح
(أي: أسفاً أن يكون العارف النشيط الذي هو الروح مقيداً في القالب الترابي الطيني -وهو الجسم-، وذلك الروح الطاهر لا يضيء مجدداً حتى يكون مجرداً من تلك العلائق المادية).
ويقول مستأنفاً:
قـهیدێ خاك وگل نهبت دا بێ حجاب وپهرده بت
مثلى بهدرێ جارنان تێخت خوسووفێ خاك رووح
(أي: لابد من انعدام القيد الترابي والطيني حتى ينعدم الحجاب والستر، وإلا فإن القالب الترابي يوقع الروح في الخسوف أحياناً كما يدخل البدر في الخسوف).
فلا يغتر أحد بنقاوة روحه وإضاءته مادام هذا الروح مقيداً بقيود الجسد الترابي، فما أسهل أن يلحق الكسوف بالروح، كما يخسف بالبدر المنير.. فالروح الذي هبط من الملأ الأعلى إلى الجسد المادي، لا يزال يشعر بالشوق إلى عالمه العلوي الذي هبط منه، وشعوره هذا يدفعه من ثم إلى الشعور بالغربة، وعليه يحلو عند هؤلاء ذكر الفراق، ويكثر عندهم شعر الهجر والاغتراب، ويأخذ أحدهم الوجد والجذبة وهو يقرأ شعر الحنين والبعد، والجزيري يستهل قصيدة له خصصها للإفصاح عن ألم الفراق وأثر الهجران بقوله:
ڤێ فورقهتێ ئهبتهر كـرین فهریاد ژ دهستێ فورقهتێ
ژار وضـهعیف وزهر كـرین فهریاد ژ دهستێ فورقهتێ
(أي: هذه الفرقة أبترتنا، فواغوثاه من يد الفرقة، إنها جعلتنا فقراء ضعفاء مصفري اللون، فواغوثاه من يد الفرقة).
وهو في قصيدة أخرى يقرر أن من لم يذق طعم الفراق ويتلظى بنارها فلا يظنن أن به أية كية، يقول:
ههچى فورقهت نهدى هجران نهبێ من داغ وكهى لێنه
ژبـل دربــێ د هـــجــــرانــێ فراقێ رووح وجان كێ دا؟
(أي: كل من لم يرَ الفرقة والهجران فلا يزعم أن به كيات، فهل فارق روح أحد جسده إلا جراء ضربة الهجران؟!).
فالمراد بالفراق عندهم إذن انفصال الروح عن عالمها العلوي، وهبوطها من المكان الأرفع لتستقر في القالب الجسماني، وقد أبدع الصوفي الشهير جلال الدين الرومي في بداية (مثنويته) عندما صور حنين الروح إلى عالمها من خلال التذكير بالقصة المحزنة التي تنثرها ألحان الناي التي تطرب الناس دون أن ينتبه أكثرهم إلى أنها تروي قصة ألم الفراق والبين الذي فصل بين قصبة الناي وأصل منبتها في الغاب.
الحب جلال وجمال:
في نظرته إلى الحب يرى الجزيري أن هناك صلة وثيقة بين الحب الذي يتميز بالجلال والحسن الذي يتمثل في الجمال، فالحسن والحب أو لنقل: الجمال والجلال، كانا ذاتاً قديماً متصلاً قبل الحدوث، ثم انفصلا عندما تعلقا بالحوادث، يقول:
حوسن وحوب ذاتێ قهدیمن لێ جودا بوون ئهو ژ یهك
لـێـنــهــا ئــسـمـێ حودوثێ حكمهت وتهفصیل وه بوو
(أي: الحسن والحب -في الأصل- ذات قديم واحد، لكن افترق بعضهما عن بعض، واسم الحدوث وضع عليهما فيما بعد -أي عند تعلقهما بالحوادث- لحكمة وتفصيل كان هكذا..).
ثم ذكر ذلك التفصيل في البيت التالي:
یهك د ذاتێ سوڕ شرینان بوو جهمال وحوسن وسوڕ
یـهك د قــهلــبـێ ئههلێ دل نار وجهلال وجهذبه بوو
(أي: أما أحدهما وهو الحسن فقد أصبح في ذات الحسان الملاح جمالاً وحسناً وجاذبية، وأما الآخر وهو الحب فقد أصبح في قلوب أهل القلب ناراً وجلالاً وجذبة).
ومع افتراق الحسن عن الحب إلا أنه من المحال وجود أحدهما بدون الآخر لقوة ارتباطهما، فها هو الجزيري يصرح بهذا الأمر في مكان آخر من ديوانه، فيقول:
حــوسـن وحوب بێ یهك دو نابن دێ بكن شاهـ وگهدا
نـــوور نــادت شـــوعــلــهیـا مهحموود بێ شهمعا ئهیاز
مــهعـــنـــهیــا عــشــقــێ دزانـــى ئایهتا حوسنێ بخوون
دا تو حهرفێن موحبهتێ یهك یهك ژ ههڤ كى ئمتیاز
(أي: الحسن والحب لا يوجدان إلا مرتبطين، فأما الحسن فإنه يجعل صاحبه سلطاناً تهفو إليه القلوب العاشقة، والحب يجعل صاحبه سائلاً ذليلاً لمن يحب، ولا عجب فشعلة السلطان محمود ما كانت تضيء لولا حسن خادمه أياز، وأنت -أيها المستمع- إن كنت تريد أن تفهم معنى الحب فاقرأ آية الحسن؛ لكي تتمكن من تميز حروف المحبة بعضها عن بعض).
إذن هناك ارتباط وثيق بين الحب (الجلال) والحسن (الجمال) في منظور الجزيري، بل إن جمال (الحسن) هو الذي يؤدي إلى ظهور جلال (الحب) في قلب المحب، يقول الجزيري:
حوسنێ حوب ئانى ظهوورێ عشقه ئهصلێ عالهمێ
ئـهصــلــێ ئــهشیا دا بزانى وان چ ئهصل ومادده بوو
(أي: الحسن هو الذي أدى إلى ظهور الحب، فأصل العالم هو العشق، هذا لتعلم أصل الأشياء وتدرك ماهية المادة الأصل التي تركبت المحدثات منها).
فلما كان الحب هو مادة الأصل وأساس العالم، وكان الحسن هو الدافع إلى ظهور هذه المادة، كان للجمال مكانة سامية في نظر الجزيري، لذلك تراه -كغيره من كبار أدباء الصوفية وأقطابهم- يهيم في محبته بالحسن، ويأنس بكل جميل في كل ما حوله، في منظر رائع، أو امرأة فاتنة، أو حتى في رجل جميل! إذ يرى في ذلك الجمال أمارة على الجمال الإلهي المطلق ورمزاً له.
المرأة.. وجمال الجلال:
أظهر ما في حب الجزيري كما يبدو لكل قارئ لديوانه هو استعماله لصفات الحسن البشري، ومن ثم خلعها على المحبوب الحقيقي (الإلهي) والتعبير عن هذا الحب بلغة العشاق والمحبين، وهي لغة الشوق والحنين، واللهفة إلى الوصال.
ومن أمارات هذا الحب عند أهله شدة الشوق إلى المحبوب، ذلك الشوق الذي قد يسكن بالوصال لكنه لا يزول، وكذلك الأنس بالمحبوب، والحرص على كتمان أسرار الحب؛ لأن ذلك يعين على إدامة المحبة.
يقول الجزيري في هذا المعنى:
(عشق گها كێ و ل عهقلێ خوه ما)
يـفـتـك بالعاشـق حـسـن المــلاح
حـــل لـــه الـــقـــتـل بــشـــرع الهـوى
مـــن كـشـف الــســر وبـالسر باح
یرید أن داهية العشق لا تحل بأحد فيبقى على حاله متمتعاً بعقله، بل إنه يقرب من الجنون لأن حسن الملاح يفتك به، ويذكي نار الشوق في قلبه، فيدعوه حبه وشوقه إلى البوح بما لا يجوز له البوح به، فيحكم عليه حينئذ بشرع الهوى نفسه بالقتل، فكأنه ألقى نفسه بيديه إلى التهلكة، وهذا ما لا يفعله إلا المجانين!
ونحن عندما نطالع قصص العشق ودواوين العشاق الهائمين بجمال المرأة، نجدهم منقسمين في حبها على مذهبين:
فبعضهم يرى (جمال الجلال) أو حسن المحبة الأنثوي يظهر في “فلانة” من النساء، فيحبها ويهيم بها من أجل ذلك التجلي، وهو حينئذ يشهد (الإلهية) في إبداعها السامي الجميل، وهذا الذي يزعم المتصوفة أنه الحب المجازي الذي يؤدي بالسالك إلى الحب الحقيقي، أو هو المجاز الذي لا تستغني الحقيقة عنه، كما عبر عنها الجزيري فيما أسلفنا من أبياته.
أما البعض الآخر فيرى (الجمال) المجرد، أو الحسن الأنثوي يظهر في جمال “فلانة” من النساء، فيحب ذلك فقط فيها، وهو حينئذ لا يرى في محبتها غير البشرية في حيوانيتها المحتملة.
أما الأولون فقد أدركوا في فلسفتهم في الحب -كما عبر عن ذلك أحدهم- أن الجمال الإلهي قد أودع في قلب الإنسان حنين العشق كمثال يعلمه الحنين إلى الجمال الحق.. وهذا هو (تلطيف السر) كما يسميه الفلاسفة، أي: جعل المحب مستعداً للتوجه من الحب بروح الشهوة إلى الحب بروح العبادة، على أن يرافقه في هذا المسير الفكر الدقيق، والعشق العنيف.
أما الآخرون فلا يلبث حبهم (الهابط) أن يخرج من كل واحد منهم (مجرماً) يدفعه عشقه المجازي إلى أن يذهب في هواه كل مذهب، إلا مذهباً يرفعه عن الحيوانية المذلة([3]).
الجزيري وتقسيم المحبة الصورية:
للجزيري في ديوانه قصيدة طويلة نسبياً خصصها لذكر ما في المحبة (الصورية) من محن وآلام، وغصص وأحزان([4])، وفي ثنايا هذه القصيدة يأتي على ذكر ماهية المحبة الصورية، وتقسيماتها، وأثرها في القلب والروح، يقول ابتداءً في ماهية محبة الملاح التي تفتح عيون صاحبها على (جلال الجمال) لكونها مستمدة من (نور التجلي) وإن كانت مودعة في قالب بشري، كالشمس عندما يظهر نورها للعيان في مرآة صافية:
موحبهتا مهحبووب ولاتـان پــوڕ ڤــهكـر زیوهر صفاتان
دایـه قهلـب ورووح وذاتان ڕۆژ د مـرئــاتـــێ خــویایـه
(أي : إن محبة المحبوب الذي هو كاللات –الصنم المعروف- في انقياد محبوبه له، قد فتح على المحب باباً يطلع من خلاله على الفهم الصحيح لكثير من الصفات الذهبية، وهي -أي المحبة- أضاءت منه القلب والروح والذات، كالشمس عندما يبدو نورها للعيان من خلال المرآة).
فالمحبة عندما تهبط من عالمها العلوي لتستقر في صورة المحبوب، وتظهر في حسنه، لتملأ قلب المحب وروحه وذاته بنورها، وتفتح أمامه الأبواب الموصدة التي تحول بينه وبين التحلي بالصفات المزينة، إنما تشبه الشمس وهي تلقي بأشعتها الذهبية من علوها على صفحة المرآة، فتقوم المرآة بدورها لنقل تلك الأشعة العلوية إلى العيان.. فالمحبة -في أصلها- شيء واحد، تظهر لدى كل عاشق لكل جميل، لكن الفرق بين العشاق فيما بعد يكون في مدى استعداد كل واحد منهم لتلقي أشعتها من المرآة (صورة المحبوب) التي تعكس تلك الأشعة.
وبناءً على اختلافهم في ذلك، تختلف تلك المحبة الصورية، وهي -في نظر الجزيري- تنقسم على قسمين، يقول في ذلك:
موحبهتا صوورى دو قسمه قــوفــل ومــفتاح وطلسمه
هن ژ رووحن هن ژ جسمه نــار ونـــووره هـــن هـهوایه
(أي: المحبة الصورية التي هي للبعض بمثابة قفل يقيد أصحابها، وهي لآخرين مفتاح يفتح لهم الأبواب الموصدة، لكنها في كل الأحوال طلسم غامض يصعب على الجميع فهمها، وهي على قسمين: قسم منبعه من الروح، وقسم من الجسم، فالأول نار ونور، والثاني مجرد هواء).
إذن المحبة الصورية وهي المتمثلة في صورة المحبوب المادية، أو المتخيلة في القلب، والتي شبهها قبل قليل بنور الشمس الذي نستمده معكوساً من المرآة، في أصل منبعها واحد، لكنها من حيث المصب قد تختلف، فهي إن ارتبطت بالروح وأثرت في الروح سمت بصاحبها نحو العلى وفتحت أمامه عوالم كانت مغلقة أمامه، فكانت تلك المحبة مفتاحاً له، وهذا القسم هو الذي يسميه الجزيري لاحقاً (الحب الروحاني)، أما المحبة التي ترتبط بالجسم وتنبع منه فتكون (جسمانية) فحسب وهي بذلك تكون إلى (الحيوانية) أقرب، لذلك فهي لا تزيد صاحبها إلا ظلاماً في القلب، فلا عجب أن تكون له كالقفل المغلق الذي يسجن صاحبه خلف أبواب موصدة.
والمحبة الصورية بقسميها طلسم غامض، وسر عجيب يفتك بصاحبه ويأخذ بلبه، لكن على اختلاف بين قسميه، يبينه الجزيري في تصوير ومثيل بديع..
الحب.. روحاني وجسماني:
وفي عرضه لنوعي المحبة الصورية يبدأ الجزيري بالقفل لينتهي بالمفتاح، يذكر الحب الجسماني ليبين له ماهيته، وتأثيره على صاحبه، ثم ينتقل إلى النوع الثاني الحب الروحاني ليخلص أخيراً إلى القول بأنه الحب الأولى بالإتباع، لأنه خير وأبقى.
أما الجسماني منه فيصفه الجزيري في ثلاثة أبيات فقط، فيقول في البيت الأول:
حـوبـبــێ جسمانی دو ڕۆژن گـهر چ دل پــوڕ پێ دسۆژن
خهف جهگهر پهیكان دنۆژن مـثـلـى نـهقـشێ بێ بهقایه
(أي: القسم الأول من المحبة الصورية هو الحب الجسماني وهو قصير الأمد يدوم يومين فقط، وهو وإن كان قوي الأثر في القلب لدرجة أنه يحرق القلب كثيراً، ونصاله تثقب الكبد، إلا أنه فان لا يبقى أثره طويلاً فهو كالنقش الذي لا بقاء له).
إنه كاللوحة البديعة التي يرسمها أعظم فنان لكن على رمال الساحل، يمسحها أدنى مد يقبل من قبل الشاطئ، إنه حب قوي التأثير في القلب، يثقبه.. يحرقه.. يدخل فيه بشدة، لكنه لما كان عارضاً كان مرتبطاً بالتقلبات، ومعرضاً للزوال والنسيان، فهو قريب الشبه بحب البلبل للوردة العطرة، نعم.. ذلك الحب الذي يمجده عدد غير قليل من عشاق الشعراء، فيصفون حبهم لمن يحبون بحب البلابل للورود، لكنه عند الجزيري حب كاذب منبعه الصورة الجميلة والعطر الفواح فحسب، إنه حب جسماني صفته أنه لا يدوم طويلاً فعمره يوم أو يومان.. يقول الجزيري:
گول حهتا سوهرن ب طێ ڤه بــێــن تـهبــهسسوم پێڤه پێڤه
بـــولـبـولێ سهرخوهش د نێڤه نــهغـــمـــه ونــــال ونـــهوایــــه
هــهر چ جــلــوا بـــوو ژ ناڤـێ نوو گولهك دى گرت خوناڤێ
وى ژ دل چــوو مـوحبهتـا ڤێ ئــهو ب یــا دى ڕا تـــهبـــایـه
(أي: إنه حب یشبه حب البلبل للوردة، فما دامت الوردة حمراء فواحة متعلقة بالغصن، تبتسم حيناً فحيناً وتتفتق بالبهجة والجمال، يبقى البلبل نشوان صادحاً، يقف عليها ويهبها جميل ألحانه الصادرة من أعماقه الشجية، فإذا ما قطفت تلك الوردة وذهب بهاؤها، وسكنت ابتسامتها، وحل محلها وردة أخرى ندية، ترك محبة الأولى، ونسي ما كان يقدم لها من الألحان، وتعلق بمحبة الثانية، المتفتحة جديداً).
كذلك كل حب مصدره الجسمانية فحسب، نعم إنه يؤلم.. وقد يكون ألمه أحياناً مدمراً، لاسيما إن هجم على قلب شاعر أو عظيم؛ لأنه (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) على حد تعبير المتنبي، وقد يتمزق القلب منه كتمزق الأرض عن البذرة المخفية فتكون زرعاً (أخرج شطأه، فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع..) لكنه لما لم يمس موضع السر من روحه، بل توقف على أعتاب المادة المصورة في الجسم فقط، بقي حباً مؤقتاً معرضاً للاستبدال ثم النسيان في كل لحظة، فهل تجد حباً خائباً غير هذا الحب (الشاعري) الذي لا يزيد صاحبه إلا قفلاً فوقه قفل آخر مطلسم!!
أما القسم الثاني من الحب، وهو ما كان روحانياً، فيقول عنه الجزيري:
ههر كهسێ موحبهت ژ رووحه مـوبـتـهلاى نـــوورا ســوبـووحه
وى د دل دا ســهد جـــورووحه جـــهذبـــهء ولــــهرزیــن وتــایـه
(أي: والذي تكون محبته ناشئة من مصدر روحاني، فإنه يكون مبتلى بالنور المنزه، وهو نور الحق، لذلك تكون جروح قلبه بالمئات، وهو يصاب بالجذبة والرجفة والحمى).
فهذا الحب وإن كان كقسيمه السابق صورياً متعلقاً بصورة من الجمال المادي إلا أنه لما كان محل تجلي الجلال فيه، أصبح هو لعاشقه بمثابة المحبوب المجازي يأخذ بيده نحو المحبوب الحقيقي، فهو محبوب نعم.. وهو محب له نعم كذلك، لكنه يرى فيه النور المنزه الذي لا يعتريه الذبول، ولا يتعرض للقطف! فهذا المحب عندما يبتلى بهذه المحبة يتعرض كالمحب حباً جسمانياً إلى آلام وكيات عديدة في قلبه، لكن لا كآلامه ولا ككياته.. إذ أن أمره مختلف تماماً، أما لماذا فلندع الجزيري نفسه يجيب:
ههردو رووح یهك نوورێ طاڤن چـــهرخـــهكــه ودو سـتێر ل ناڤن
هــهردو دانـــه مــــورغ وداڤــــــن ئــســـمــێ حــهى دام لێ ڤهدایه
(أي: هما -المحب والمحبوب- روحان متعددان لكنهما نور مشع من شمس واحدة، أي: مصدرهما واحد، وهما كفلك واحد يدور في وسطه نجمان اثنان، وهما كالطير والحبة التي توضع أمامه ليصطاد بها.. إن اسم الحي هو الذي وضع ذلك الفخ لذلك الطائر).
أفرأيت الآن الفرق الشاسع بينهما؟
هذا الذي يكون حبه روحانياً لا يختلف عن الذي يكون حبه جسمانياً في كونهما عاشقين لصورة مادية جميلة، نعم فلولا ذلك الحسن لما نبع في قلبهما الحب، ألم يقل الجزيري -كما قدمنا من أبياته-: إن الحسن هو الذي أبدى الحب للعيان، وأتى به للظهور؟ فأين يكمن الفرق بينهما إذن؟ إنه في النتيجة التي تترتب على حبيهما، فالحب الجسماني الذي ينتهي كلما تذبل الوردة وتظهر وردة أخرى نضرة، ينتهي إلى لا شيء، أما الحب الروحاني فإنه يدفع بصاحبه إلى رؤية اليد الخفية التي تقف فيما وراء الجمال المادي، ويجعل من صاحبه على يقين بأنه مع محبوبه المادي المجازي شعاعان منبعثان من مصدر واحد، ونجمان يسبحان في فلك واحد، وهذا المحبوب المادي الذي وقف في طريقه إنما كان مثابة حبة وضعتها يد القدرة الإلهية أمامه لتصطاده به، وتدعوه إلى حضرة الجمال المطلق والجلال الأعظم، فإنه يدرك حينئذ أن هذا الحسن المادي أو المحبوب المجازي إنما اعترض سبيله واصطاده بشرك محبته بقدر من الحي تبارك وتعالى، وما يعقده الحي القيوم لا يمكن لعاشق مسكين مثله أن يحله.
وهذا النوع الثاني من المحبة الصورية أمرها غريب، وشأنها عجيب، فبالرغم من كونها نوراً في قلب صاحبها، إلا أنها نادرة الوجود، يقول الجزيري:
نــووره پـــوڕ نــادر ووجووده گــهر چ ئــهووهل نار ودووده
بهرقعێ لامع دێ ل كوو ده حــوب د قــهلــبــان كیمیایه
(أي: هذا النوع من الحب نور نادر الوجود، مع أنه في أوله نار ودخان، لكنه برقع لامع أينما وقع، وهذا الحب في القلوب كيمياء يحولها إلى ذهب خالص).
وهذا يعني أن المحبة -أياً كان نوعها- تكون في بداية أمرها نار محرقة تبعث دخاناً حالكاً، يشوي منها القلب، ويظلم البصر، فلا يكاد صاحبها يتبين من أمره شيئاً، فإن بقيت المحبة في مرحلتها الجسمانية (المجازية) لم تفد صاحبها شيئاً سوى الحرقة والألم والحرمان، وإن تحولت إلى محبة روحانية (حقيقة) أصبحت نوراً مضيئاً وبرقعاً لامعاً أينما حل ووقع أفاد وأنار، وهذا النوع من المحبة نادر الوجود؛ لأن طريقه صعب وطويل، فهو يمر بمرحلة المجاز أولاً، وهي -أي مرحلة المجاز- تغري كثيراً من المحبين فيقفون عندها، ويظنون أنهم أصبحوا من الواصلين وتبعد عليهم الشقة، لكنهم قد يدركون فيما بعد أنهم أخطئوا السبيل.. والأقل من المحبين تدفعهم هذه المرحلة المجازية إلى مواصلة السير نحو الحقيقة، فإذا وصلوا زالت عنهم الحجب، وتحولت نار المحبة في قلوبهم إلى نور مضيء وبرق لامع، والحب بعد كل هذا -إن كان صادقاً- كان للقلب ككيمياء السعادة التي يقال بأنها تحول المادة الخسيسة إلى ذهب خالص، فحياة القلب لا تكون إلا بالمحبة، وزوال حجب الغشاوة عنه لا يكون إلا بهذه الكيمياء النادرة الوجود! وما كان نادر الوجود كان أولى بالحيازة لدى العارفين، لذلك يوصي الجزيري قارئه وسامعه أن يظفر بالمحب الذي يكون بمثل هذا الوصف ولا يفرط فيه فيقول:
عـارفــێ جهوههر شوناسى ئێ ب ڤى شهكل ولباسى
دێ قــهدر بـــهـــتـر بناسى مهقـعــهدێ صــدقێ جزایه
(أي: أيها العارف الخبير بتمييز الجواهر، ألزم الذي يكون بهذا الوصف واللباس، ويلزم عليك أن تعرف وتقدر قيمة من هذا شأنه أكثر من غيره، فإن جزاءه هو مقعد صدق).
والعارف الخبير بالجواهر لا يفرط في الجوهرة الحقيقية عندما يظفر بها، كذلك المحب الصادق الذي يكون الحب في قلبه إكسيراً، تنشأ عنده ملكة سامية تمكنه من إدراك معاني الجمال، فيكون حبه (حتى في مرحلة المجاز) مصدر إلهام حقيقي لنفسه العاشقة، فينزله إلهامه من محبوبه منزلة من لا يرى فيه إلا الجمال الإلهي المنزه والمطلق، ومن كان هذا أمره في حبه كان أولى بالتقدير والاحترام؛ لأن جزاءه يكون (مقعد صدق عند مليك مقتدر).
الحب بين العقل والقلب:
ولنا أن نتساءل الآن: هل هذا الحب الذي حدثنا عنه الجزيري بمرحلتيه تجربة عقلية أم هو تجربة قلبية؟
ولابد لنا في البدء من توضيح مسألة مهمة بهذا الصدد وهي أن المتصدين (لأصول الدين) من (علماء الكلام) من طبقات المعتزلة ومن وافقهم يرون أن العقل هو جوهر الإنسان ولا لذة تعلو لذة العقل، لأن ما فيه من الأدلة وما يفيض عنه من أنوار معرفية ينير السبيل للسالكين ليس إلا.. وعليه لابد من التسليم بأحكام العقل، والعمل على تحرره من كل قيد يكبله كالحواس والعواطف والغرائز، وطلب المعرفة لن يتأتى لأحد ما لم يستنر بالدليل الموضوع في العقل ذاته.. ([5])، أما الجزيري -وهو أشعري صوفي- فيخالف هذا ويصرح أن (جوهر المعرفة) لا يمكن لأحد أن يصل إليه عن طريق العقل المجرد، إنه يقول:
گوفت وگووى مهعرفهت چهندى مهلا پهید بكى
گــهوهــهرا مـهعــرفــهتــێ ناگهتێ كهس ب خـرهد
(أي: يا ملا -يقصد نفسه- مهما بحثت وتناولت القيل والقال، وحصلت على براهين الاستدلال، فإن ذلك لا يفيدك في شيء، ولا يساعدك في الحصول على جوهر المعرفة؛ لأنه لا يتأتى لأحد الحصول عليه عن طريق العقل).
فالعقل المجرد بما فيه من الأدلة -لقصوره- لا يمكنه الوصول إلى المعرفة الحقيقية، بل إنه يؤدي في غالب الأحيان إلى الحيرة والعجز، فإن كان هذا هو شأن العقل في إدراك جوهر المعرفة، فأنى له إذن أن يدل السالك إلى المحبة الحقيقية بل والمجازية كذلك؟!
لا ليس الحب تجربة عقلية؛ لأن التجربة العقلية تخضع للملاحظة والمحاسبة عن حصيلة الأرباح والخسائر.. أي: إن الإنسان فيها يمكنه تجنب أسباب الفشل والمتاعب، وأن يستفيد من تجارب فشله فلا يكررها، فيكون حينئذ قد حكم عقله، لكنه في الحب لا يخضع للملاحظة والمراجعة، وإن حدث وأن راجع المحب متاعبه في الحب فهو يفعل ذلك ليتلذذ بها لا ليتجنبها، وهو قد لا يجد ما يكفيه من الوقت للمحاسبة والبحث عن أسباب المتاعب أصلاً..
ثم إن العقل يقرر ويختار ويرفض وهذا ما لا يكون في الحب أبداً، ألا تجد المحب يفعل ما يجلب له اللوم والتقريع؟ وأن الأمر لو كان بيده (أو واقعاً ضمن اختيار عقله) لاختار الراحة، يقول الشاعر الأمير (پرتو بگ الهكاري) مؤكداً هذا المعنى:
عشق ئهگهر یارى بكهت دێ تهرك بكم ئهز عشقێ یار
ئـخـتـیـارهك گــهر هــهبــت دێ راحــهتــێ كــم ئختیار([6])
(أي: إن كان العشق يلهو كنت سأترك عشق الحبيب، ولو كان لي اختيار في المسألة لاخترت الراحة).
والتجربة العقلية تخضع كذلك لفكرة (التجريبية) أي: إن المسألة فيها تخضع للاختبار والتجارب فهي لذلك معرضة للخطأ والصواب، وعليه فإن الشخص -في التجربة العقلية- يلجأ إلى التجارب المماثلة ويقف عليها ليستفيد منها ويأخذ العبرة، ويحكم على تجربته بالفشل أو النجاح، لكنه في (تجارب) الحب لا يفعل شيئاً من ذلك، وكأنه يعتبر طريقه في الحب حتمياً كالحتمية التاريخية عند أصحابها، فتجارب الحب تتكرر ولا يختلف فيها سوى الاسم دون أن يعتبر أحد بمن سبقه، وكأنك تشاهد مسرحية واحدة الأدوار لا يختلف فيها سوى الأشخاص([7]).
فالتجربة العقلية إذن تستجيب أحياناً لصوت العقل الصادر من الناصح الأمين، لكن المحب يصم أذنيه حتى عن أخلص أصحابه، وقد يعتبره من العذال الجهلة، أو من المنكرين الذين لا يعرفون.. وفي أول قصائد ديوانه يشاطر الجزيري أستاذه حافظاً الشيرازي القول بأن مثل الواقع تحت هموم المحبة ومن يعذله كمثل من يصارع أمواج البحر الهائجة والذين يقفون على الساحل خفيفو الحمل، يوجهون الغريق ويلومونه على ما هو فيه، فأنى للواقفين على الساحل أن يعلموا بحقيقة حال الغريق؟
وفي موضع آخر يطلب الجزيري من العاشق المفتون أن يصم أذنيه عن عذل العذال الذين ما جربوا ألم الحب ولا غصص الهجر، وأن لا يسألهم عن حقيقة محنة العشق، لكونهم جاهلين بها، فيقول:
ژ ههر بێ داغ وبێ دهردى مه پورسن محنهتا عشقێ
چ زانــن بـــێ خــهبــهر ژانــا دلێ داغ وكـهســهر تـێـدا
(أي: لا تسألوا عن حقيقة محنة العشق ممن لم يذق ألم المحبة، ولم يكتو بدائها، إذ كيف للذي لا خبر عنده أن يعلم بحقيقة ألم القلب الذي ملئ بالكيات والحسرات؟).
فالجزيري يرى أن من ابتلي بالحب كمن يقع بين أمواج البحر، لا يملك لنفسه دفعاً ولا خلاصاً، ولا ينبغي للواقف على الساحل أن يلومه فيما هو فيه، أو أن يدعوه إلى التوجه إليه نحو الساحل، لأنه لا يملك أن يدفع الأمواج بساعديه المنهكتين.. ولنا أن نسأل: إن كان حقاً ما يقوله الجزيري بأن الغريق لا يمكنه دفع الأمواج، أما كان بإمكانه عندما (اختار) النزول إلى البحر أولاً أن (يفكر) بالضغط الذي سيتعرض له عندما تثور الأمواج، فيرجع مبكراً دون أن يستجيب لضغط الشعور بلذة ماء البحر وروعة السباحة فيه؟ نعم.. أثبتت سيرة الحب أنه لا يمكننا أن نمنعه وهو واقع، لكن أليس باستطاعتنا أن نمنعه وهو لا يزال في الطريق؟
لو كانت المسألة تجربة عقلية، لكان الجواب بالإيجاب، لكن أما رأيت الجزيري آنفاً يؤكد أن أحداً لا يمكنه أن يحصل على جوهر المعرفة عـن طـريــق الــعـقـل؟ فالعقل إذن لم ولن يكون أداة للحب -لدى المحبين- وإن كان هو لدى الآخرين أداة للمعرفة.
الحب بين الأحاسيس والمشاعر:
والذي سبق يدفعنا إلى إثارة مسألة أخرى ليست بمعزل عن المحبة الصورية وهي: هل الحب مرتبط بالأحاسيس أو هو لصيق بالمشاعر؟ أو هو يبدأ بالأول لينتهي عند الآخر؟
وحتى يكون أصل المسألة واضحاً علينا أن نفرق بين الأحاسيس والمشاعر أولاً، أما الأحاسيس فهي “القوة التي ترتسم فيها صور الجزئيات المحسوسة”([8]) وتكون الحواس الخمسة الظاهرة كالجواسيس لها، أي: أنها تكون مرتبطة بالحواس الخمسة، وبعد إدراك الحواس لها تكون (أحاسيس) يمكن لصاحبها السيطرة عليها بسهولة أو صعوبة، لكنه على أية حال قادر على السيطرة عليها.. وإذا ما اطلعت النفس على تلك الأحاسيس وأدركتها، ارتبطت ثمة بالروح أو القلب فكانت (مشاعر) وأصبح من الصعوبة بمكان السيطرة عليها، بل قد يكون ذلك شبه مستحيل، وقد ورد في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقسم فيعدل ويقول: [ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ] ([9]) وقد فسر الشراح ما لا يملكه بالقلب.
وعلى الرغم من أن الحب الذي محله القلب -كما لا يخفى- مرتبط بالمشاعر، إذ لا يكاد المحب يعرف سبباً وجيهاً -أو حتى غير وجيه- لوقوعه في دائرة الحب الذي يشعر به ولا يملكه، إلا أنه لا يمكن إنكار كون الحب يمر -غالباً- عن طريق الأحاسيس، وهناك من الحب ما يبقى حبيس الإحاسيس لا يتعداها (وهو الذي سماه الجزيري آنفاً بالحب الجسماني، لوقوعه ضمن دائرة الجسم والحواس) وطالما كان الحب باقياً في دائرة الحواس كانت السيطرة عليه ممكنة، أي: كان قابلاً للزوال والنسيان، ألا ترى أن هناك إنساناً -مثلاً- يطربه صوت من الأصوات، أو تعجبه صورة من الصور، فيستعذبها ويتلذذ بها، فيولد ذلك عنده (السرور) الذي يبدو على وجهه أو سائر جسده، وإن حيل بينه وبين السرور بها تعذب وتألم وقاسى حتى ظن أنها نهاية العالم!!
أما إذا انتقل الحب من دائرة الحواس إلى دائرة المشاعر، أو بدأ عندها أصلاً، فإن السيطرة عليه تكون أشبه بالمستحيل، وهذا الحب بوجوده يولد (السعادة) التي تتعلق بالروح وتتدفق في القلب بما يشبه الشلال المتفجر بالحياة والحيوية([10])، وهذا الحب هو الذي سماه الجزيري بالحب الروحاني كما مر بنا.
ومن هذا الحب يتولد حب المتناقضات، أو ما يسمى بالحب بين الشيء وجنسه، كحب المذكر والتغزل به، وهو شيء متفش بين أقطاب الصوفية وشعرائها -ومنهم الجزيري-، وهم يدعون أن هذا الحب (الروحاني) خال من الغايات الجسمية، والرغبة في الوصال الذي ينشده رواد المحبة الجسمانية.. لذلك مجد أقطاب الصوفية -وفي مقدمتهم الجزيري- حب السلطان محمود لخادمه أياس([11])، واعتبروه مثالاً للحب الخالي من الغايات الجسمية.
وهناك من الحب ما يدخل ضمن دائرة الأحاسيس والمشاعر معاً، فيكون حينئذ طاغياً على صاحبه، جارفاً به إلى حيث يدري أو لا يدري، لكن المسألة حينئذ تبقى مرتبطة بطغيان جانب على آخر..
هل يتعدد الحب ويتكرر أم لا؟
عندما يملك الحب شغاف قلب المحب فإنه يجعله يتصور أنه لا أول لحبه ولا آخر، فهو -في نظره- عندما يبدأ لا يكون كمولود يولد ليكوِّن شيئاً لم يكون موجوداً سابقاً، بل إنه يكون بمثابة الكشف عن شيء كان موجوداً.. وهو عندما ينتهي طوعاً أو كرهاً فإنه يبقى في قلب صاحبه حياً، وإن كان في نظر الآخرين قد مات وانتهى أمره، وحجته في ذلك أن الحب (حالة قلبية) لا تقبل التعدد ولا التكرار..
ويؤكد الجزيري هذه الفكرة في قصيدة له مفتتحاً إياها بقوله:
دل یهكه دێ عشق یهك بت عاشقان یهك یار بهس
قـبـلـه دێ یـهك بـت قولووبان دلبهرهك دلـدار بهس
(أي: ما دام أن القلب واحد لزم أن يكون العشق كذلك واحداً، والعشاق يكفيهم محبوب واحد، ولما كانت القبلة واحدة، لزم أن يكون توجه القلوب نحو محبوب واحد فحسب).
فما دام أن الله لم يجعل لأحد من قلبين في جوفه، لم يكن بإمكانه أن يعدد (أو يكرر) عشقه، ولأن القبلة التي يتوجه الإنسان إليها في عبادته البدنية واحدة، كان عليه أن يتوجه بقلبه كذلك إلى وجهة واحدة وهي وجهة الحبيب التي لا تتعدد.
وإن حدث وأن خاض أحدهم تجربة أخرى في الحب، فإنهم يبررون هذه الحالة الجديدة بأنها طريقة للبحث عن الحالة الأولى الدفينة في أعماق القلب، وذلك لوجود شبه بين الحبيب (المجازي) الذي ولى واختبأ في (شغاف القلب) والحبيب الجديد الذي أقبل ليثير الذكريات الراكدة ليس إلا، وإلا كان غير صادق في حبه، كالبلبل الذي سبق للجزيري أن شبه بحبه للوردة الحب الجسماني القصير الأمد، يقول الجزيري:
بولبولان سهد گول د چاڤن چاڤ ل سهد گول دى دكن
مــن د بـــاغــێ گولعوذاران یـهك گــول وگولنار بهس
(أي: البلابل من شأنها أنها تبصر عدداً كثيراً من الورود الجميلة قد يبلغ المائة، لكنها تتطلع إلى مائة أخرى من الورود، لكنني في حديقة الحسان الوردية الوجوه أكتفي بوردة واحدة).
فحبه الذي جاوز المرحلة المجازية فلم يعد مرتبطاً بالحواس أرفع من أن يقبل التعدد أو التكرار، وهو لا يشبه حب البلبل (الكاذب) للوردة، ذلك الحب الذي يقبل الشراكة ويعرض عن التوحيد، وهو يأبى على نفسه أن يحاكي بلابل العشق المجازي فيعلق قلبه بحب محبوبات متعددات حسان الوجوه، إنه لا يهوى سوى وردة واحدة في بستان الجمال، وهي تكفيه، لأن قلبه واحد وقبلته واحدة فلزم ذلك أن يكون حبه واحداً كذلك، ألم يقل قبل ذلك:
مــن د بــهنـد زولفهكێ دل دا ب دهستێ پیرێ عشق
لهو د عشقێ دا مه بهست ئحرام ویهك زوننار بهس
(أي: إنني ربطت قلبي بحب زلف واحد فقط، وفي سبيل ذلك الحب سلمت قلبي لشيخ لعشق وأودعته في يده، ولذلك عقدت الإحرام ولبست زناراً واحداً في عشقه).
فهو لا يؤمن بالتعددية في الحب، فقلبه معقود بزلف محبوب واحد، وقد عقد إحرامه ولبس زناره وتوجه نحو وجهة واحدة، رائده في ذلك شيخ العشق والذي أرجح كونه المحبوب نفسه، فهو الدليل وهو الهدف!
وأخيراً: هل يمكن نسيان الحب؟
مر بنا أن المحبة تجربة قلبية لا تتأثر بدلائل العقل، وأنها حالة قلبية كذلك لا تقبل التعدد ولا التكرار، وأنها حتى وإن انتهت وأسدل عليها الستار طوعاً أو كرهاً من قبل صاحبها، فإنه لا يعترف بانتهائها على اعتبار أنها وليدة حالة قلبية مرتبطة بالمتغيرات الشعورية التي تتقرر على الإنسان دون اختيار منه أو حتى رغبة، ألا ترى البغض الشديد ينقلب أحياناً إلى حب جارف؟!
لذلك قد تظهر تلك الحالة الشعورية لدى الإنسان فجأة، وقد تختفي فجأة دون شعور منه، وبالرغم من أن المحب -كغيرة من الناس- على يقين من أن ظهور تلك الحالة يكون فجأة، لكنه ينكر أن يكون اختفاؤها فجأة كذلك، لذلك فو يصر على أنه من المستحيل عليه أن ينسى حبه، أليس هو قدره الذي لا فكاك منه؟
وعليه تراه يتعلق دوماً بحبال الأمنيات وأسباب الرجاء، بل إنه أحياناً قد لا يصدق أن حبه قد انتهى إلى.. زوال، فهو الحاضر الذي لا يضل ولا ينسى!
([1])ينظر: العقد الجوهري لملا أحمد الزفنكـي، الطبعة الثانية، 1987، مطبعة الصباح، ص (و).
([2])انظر: ديوانه، ط 2، سنة 2005، دار المعرفة، بيروت ص (121).
([3])انظر: وحي القلم، لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب اعربي، ط سنة 2005، (1/77) وما بعدها.
([4])دیوانا مهلایێ جزیری، إعداد: تحسين دوسكي، ط 1 ، 2000، دهوك، ص 221-229.
([5])وكتب الجاحظ -وهو رأس من رؤوس المعتزلة- مشحونة بالتدليل على هذا، وبالإمكان مراجعة كتاب (الجانب الاعتزالي عند الجاحظ) للدكتور بلقاسم الغالي، وهو من منشورات دار ابن حزم في بيروت، للتفصيل في المسألة.
([6])انظر: ديوانا پهرتۆ بهگێ ههكارى، إعداد: تحسين دوسكي، أربيل، 2006، ص (202).
([7])أسرار الحب، محمود محمد عبد الله، دار الغد الجديد، القاهرة، ط 2007، ص 14.
([8])التعريفات، للشريف الجرجاني، مؤسسة الحسنى، المغرب، الدار البيضاء، 2006، ص 82.
([9])رواه أبو داود عن عائشة، انظر: سنن أبي داوود (2/242)، طبعة دار الفكر، بيروت.
([10])أسرار الحب، المصدر السابق، ص 22.
([11])هو السلطان محمود الغزنوي (ت 421 هـ) صاحب خراسان والهند وغيرهما، كان يميل إلى الأثر إلا أنه من الكرامية، كان حنفياً ثم تحول شافعياً، وكان كثير الغزو، اشتهر عند شعراء العجم أنه كان يحب خادمه أياز (أياس) محبة مفرطة، ولا أدري مدى صحة هذه الرواية من الناحية التاريخية، وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 9، 1413، ص 17/483.