محسن سيدا:
شهدت الحركة الثقافية الكردية ، في السنوات الأخيرة ، نشاطاً ملحوظاً ولافتاً من شأنه تغيير الصورة السائدة عن الثقافة الكردية ، وما زالت حركة التأليف والترجمة تشق طريقها إلى الفضاء المعرفي الرحب، عبر مؤسسات مدنية أو حكومية رغم ما يعتورها من صعوبات ومشاكل مردها الظروف التي يعيشها الكرد . في سياق هذا النشاط الثقافي المتصاعد
ظهرت في السنوات الأخيرة مؤلفات عدة من كتب السير والتراجم أغنت جانبا مهملا من المكتبة الكردية وساهمت في تنشيط حركة البحث العلمي ، إلا أن هذه الكتب رغم أهميتها ،عانت من بعض الثغرات و لم تستطع تغطية الأعلام والشخصيات التي كان لها دورها في حياة الكرد والمنطقة وخاصة ما يتعلق بأعلام الكرد في سورية .
من الشخصيات الهامة التي تركت أثراً في الحياة الثقافية للكرد في سورية العلامة ملا عبيد الله العمري الهێزاني ،الذي نقل تقاليد الحلقات العلمية و المدارس الدينية الكردية من عمق بلاد الكرد إلى تخومها ويعد من أوائل من أرسو الحلقات العلمية في بلدة عاموده . ، كما كان له دور بارز في صياغة تطور مدينة عاموده من الوجهتين المعرفية والعمرانية.بل إن دوره الروحي والثقافي تخطى مدينة عاموده ليشمل معظم المناطق الكردية في سورية من خلال طلابه وتلامذته .
رغم أهمية دور هذه الشخصية العلمية ومكانتها، فإنها لم تحظ بالبحث والدراسة بشكل كاف و لم تأخذ مكانها، حسب علمي، في كتب التراجم والأعلام ، إلا أن اثنين من تلامذته كتبا لمحة عن سيرته العلمية وأشادا بدوره وفضله وهما الشاعر جگرخوين في كتابه ” حياتي ” والذي اتخذ منحى فكريا مغايراً لأستاذه ، والعلامة محمد عبد اللطيف الأومركي الإيواني في سيرته الذاتية، والذي تولى مهام التدريس في مدرسة ” حجرة ” عاموده بعد وفاة الأستاذ ” سيدا” ملا عبيد الله.
تذكر المصادر الشفهية أن المناطق الكردية في الجزيرة السورية لم تشهد ظاهرة الحلقات العلمية الدينية قبل مجيئ العلامة ملا عبيد الله الهێزاني إلى عاموده واستقراره فيها وهذا ما ذكره الملا عبد الله ملا رشيد الغرزي (1925- 2011م) إذ أكدّ على دور الملا عبيد الله وشقيقه الملا فتح الله في نقل تقاليد المدارس الكردية إلى عاموده وتنشيط الحركة الثقافية فيها (1)
ترجمة ملا عبيد الله الهێزاني:
يرجع ملا عبيد الله بأصوله إلى قبيلة هَسَنان في منطقة هێزان (حێزان) إحدى المعاقل الهامة للثقافة الكردية التقليدية بفضل أمرائها الذين أولوا اهتماما بفتح المدارس و تشجيع الأدباء والعلماء(2) وقد قدمت هذه المنطقة للأدب الكردي الكلاسيكي جمهرة من الأدباء والشعراء أمثال الشاعر سليم الهێزاني مؤلف قصة يوسف و زليخا باللغة الكردية والشاعر والفقيه ملا خليل الأسعردي ( 1751 – 1843م) وغيره من الشعراء الذين لا يتسع المقام لذكرهم جميعاً.كانت منطقة هێزان معقلا لشيوخ الطريقة النقشبندية كالشيخ صبغة الله الارواسي الملقب ب” غوث هێزان” أو ” الغوث الأعظم ” ( توفي سنة 1880م) وغيره من المشايخ.
في ظل هذه البيئة الثقافية ، وما يصاحبها من طقوس التعليم والتلقين نشأ ملا عبيد الله بن صوفي جانگير في قرية ” كولات ” (3)، تلك القرية التي استوطنها الشيخ صبغة الله الأرواسي لفترة زمنية ، وفيها تلقى دروسه الاولى، حسب تقاليد المدارس الكردية ، ودرس على يد أساتذة بلاده حتى نال إجازته العلمية في بلاده هێزان من الشيخ أسعد الجوقرشي(توفي سنة عام 1902م) أحد أشهر علماء الكرد في زمانه والذي تتلمذ على يده المصلح الديني ” سعيدي كردي” الملقب بـ ” بديع الزمان النورسي” (1878 – 1960م)(4)
يفرد الملا محمد عبد اللطيف في سيرته فصلا ًخاصاً بـ ” بيان أحوال أستاذه قبل الهجرة ” فينقل عنه قائلاً:”قال الأستاذ الملا عبيد الله، رضي الله عنه : أخذت الإجازة حسب الطريقة المتبعة في بلادنا من قراءة العلوم الدينية و آلتها فقط ، [و]لا يقرؤون علم الحكمة والهيئة والحساب فأردت أن اتوسع وأطلع على هذه العلوم وغيرها فخرجت من دياري وحضرت مدرسة …. الشيخ عبد الرحمن (1850- 1905) )ابن مولانا حسن النوراني (1787- 1863م)الآقتبي.(5)
كانت هجرة ملا عبيد الله الاولى سياحة فكرية وعقلية لطلب العلم والمعرفة و فرصة للعيش في بيئات مغايرة ، أتاحت له التعرف ، أكثر،على مدارس و علماء كردستان عن كثب ، فحل في سهل ماردين قاصدا مدرسة الشيخ محمد سعيد بن مولانا الشيخ عبد الله ابن الشيخ حامد ، الملقب بـ “شاه ماردين” . وبعد نيله الإجازة في قرية “دارا” عام (1315هـ – 1897م) على يد الشيخ محمد سعيد قفل راجعاً إلى بلاده ” هێزان”
“وصار إماما في قرية ” موريا” عند رئيس العشيرة ” تاج الدين بك الحسني” وفتح مدرسة ودرّس الطلبة بجد ونشاط “
وبعد قيام الحرب العالمية الأولى ودخول القوات الروسية إلى كردستان و ما رافقها من أعمال قتل و تهجير، اضطر ملا عبيد الله إلى الهجرة وسكن قرية عينكاف في سهل ماردين عند الشيخ فتح الله وبقي فيها ستة أشهر و من ثم سكن قرية ” خزني” عند السيد الشيخ احمد المشهور بـ ” بافي كال ” ثم انتقل إلى قرية ” دارا ” عند نجل أستاذه الشيخ محمد بشير الحامدي وبقي فيها إلى أن جاء إليه وفد من أعيان عاموده يطلبون منه الانتقال إلى بلدتهم . يذكر الأستاذ ملا عبد اللطيف قصة انتقال الأستاذ إلى عاموده فيقول : ” …. إن جماعة من أعيان قرية عاموده حضروا عند الأستاذ وطلبوا منه أن ينتقل إلى عاموده ليكون إماما و مرشدا لهم و ألحوا عليه ……. فرضي و انتقل إلى عاموده سنة ( 1336هـ – 1920م) وبدأ بالتدريس وأجتمع طلبة العلم عنده بكثرة حتى ضاقت الحجرة فبنوا حجرة ثانية ” . و في هذا السياق يقول الشاعر جگرخوين في سيرته فيقول: “عندما جاء ملا عبيد الله إلى عاموده كنت راعياً …… ومعتقداً فيه اشد الاعتقاد و احبه حبا جماً” (ص83)
كان للمدارس الكردية ،المنتشرة على مديات الريف الكردستاني، اثر بالغ في الحياة الثقافية والاجتماعية و العمرانية للمجتمع الكردي التقليدي ، المفكك جغرافياً وقبلياً و سياسياً اذ حافظت على التراث الادبي الكلاسيكي ،وفيها بدأ التدوين والتدريس باللغة الكردية ، كما ساهمت في تحويل بعض القرى إلى أشباه مدن ، يجتمع فيها الطلبة (فقه) من مناطق كردستان كافة بعيدا عن انتمائهم القبلي او المناطقي ، يتبادلون اطراف الحديث عن شؤون بلادهم وهموم شعبهم . فغدت هذه المدارس مراكز لتلاقح الافكار و التفاعل الثقافي بين ابناء الشعب الكردي ، فلا غرابة اذًاً ان يكون رواد الفكر القومي من خريجي هذه المدارس بدءاً من الشيخ أحمدي خاني و مروراً بالشيخ عبد الرحمن الآقتبي وانتهاء بالشاعر جگرخوين تلميذ ملا عبيد الله .
يروي الشاعر جگرخوين في سيرته، أنه التقى في قرجداغ بالسيد شوقي بك الارغني الذي تلقى منه الدروس الاولى في القومية ، وعندما عاد إلى عاموده روى لأستاذه ملا عبيد الله ما دار بينه و بين شوقي بك من حديث عن ضرورة الدفاع عن القضية الكردية وتحرير كردستان من السيطرة التركية.فيقول : ” هز رأسه و قال : شيخو ، يبدو ثمة امر ما بين الزعامات الكردستانية ، في هذا الربيع سافرت إلى موطني و قلت لخالد بك الحسني أريد المجيء إلى موطني ، فقال لي تريث قليلا يا أستاذ ، إما أن تأتوا إلينا أو نأتي إليكم .” و يضيف جگرخوين أن الأستاذ ملا عبيد الله حث على ضرورة الاستعداد للمرحلة القادمة من أجل الدفاع عن حقوق الكرد .(ص126- 127)
وفاة الأستاذ : بعد أداء الأستاذ لمناسك الحج عام 1926م و بصحبته شقيقه الملا فتح الله و الملا صالح الكرمي (6) خليفة الشيخ احمد الخزنوي والملا شيخموس القرقاطي أصيب في الطريق بمرض لازمه ثلاث سنوات وذهب إلى حلب للعلاج دون جدوى، فقفل راجعا و عبر نهر الفرات و نزل في قرية (7) و توفي فيها عام 1929 و دفن جنوبي المقبرة القديمة في عاموده فغدت مقبرة لبلدة عاموده . كانت لوفاة الأستاذ (سيدا) أثر بالغ على طلابه وتلامذته فرثاه الشاعر جگرخوين بقصيدة (8)لم يدرجها في دواوينه لاسباب ” فكرية” وتخرج من مدرسته عدد لا يحصى من الطلبة ، وثقهم في سيرته تلميذه الأستاذ الملا محمد عبد اللطيف الذي شغل منصب التدريس في مدرسة استاذه فاستحق بجدارة لقبه ” سيدا” .
في هذه المقاربة حاولت تسليط الضوء على جوانب من هذه الشخصية المؤثرة التي وضعت اللبنات الاولى للسجال الثقافي في مدينة عاموده ، و هي تستحق دراسة متأنية لانها تختزل السيرة العلمية لمعظم علماء كردستان في حلهم وترحالهم ولأنها فضلت تغليب العلم والمعرفة على المشيخة و من حق هذه الشخصية ان تجد طريقها إلى كتب التراجم والأعلام .
1- صحيفة دلنامه الالكترونية ، العدد الثالث، عام 2011م . لقاء مع المرحوم ملا عبد الله الغرزي . أجريت هذا اللقاء مع المرحوم في داره بمدينة القامشلي بتاريخ 4/ 6/ 2000م .
2- يووسف و زوله يخا ، ص 8 ، فه وزارتن و به رهه فكرنا ته حسين ئيبراهيم دوسكي، منشورات سبيريز، دهوك 2004م
3- مذكرات الشاعر جگرخوين ، ” سيرة حياتي ” باللغة الكردية ، منشورات APECK، ستوكهولم، السويد ، ط1 1995م.
4- عقد الجمان في تراجم العلماء والأدباء الكرد والمنسوبين إلى مدن وقرى كردستان، جمع و إعداد حمدي عبد المجيد السلفي و تحسين إبراهيم الدوسكي . أشكر الأخ الباحث تحسين دوسكي الذي أرسل لي ، مشكوراً، النسخة المعدة للطبعة الثانية .
5- السيرة الذاتية لملا عبد اللطيف بن الملا إبراهيم الأومركي الأيواني (1898-1976)، (مخطوط) يتناول فيها سيرة أساتذته والمدارس الدينية في سهل ماردين وعاموده ، ويذكر لمحة عن سيرة زملائه وطلابه . المعلومات الواردة عن سيرة الأستاذ ملا عبيد الله مستلة من هذا المخطوط القيم الموجود لدى أبنائه في عاموده.
6- ملا صالح الكرمي (1880-1966) هو جد عائلة سيدا في كوباني ، توفي ودفن في الجامع الذي شيده بدعم ومساندة الرجل المحسن المرحوم, مجحان آغا المدفون بجواره.
7- روى لي الملا إبراهيم (1925م- ) المعروف في كوباني بـ (ملا إبرام) من قرية ترمك، وكان من طلاب الملا عبد اللطيف، وعاش قرابة عقدين من الزمن في عاموده، أن الملا عبيد الله توفي في قرية إيلجاخ .
8- نشرت هذه القصيدة في صحيفة آڨستا الورقية عام 2000, ألمانيا. انظر صفحة الموقع على الفيسبوك. https://www.facebook.com/madaratkurd