الأزمة الاقتصادية العالمية 1929-1930
انعدام الثقة التجارية:
في سنة 1929 كانت هناك موجة عظيمة من انعدام الثقة في القطاع التجاري امتدت أمريكا الشمالية إلى الشرق الأوسط. فقد توقفت المصارف عن منح القروض لرجال الأعمال الموثوق بهم و بالمقابل توقف رجال الأعمال عن بيع بضائعهم بالدين و بدأت المصارف و المحلات التجارية بالمطالبة بسداد جميع الديون.
لقد تأثرت أعمالنا- التي كانت تسير بشكل جيد جداً حتى ذلك الحين- بهذه الأزمة. كنا نضبط رأسمالنا من 4 إلى 5 مرات في صفقاتنا مع زبائننا- أصحاب المحلات في عرب پينار( كوباني – المترجم) و رأس العين و تل أبيض و عين العروس و الرقة. كنا نشتري و نبيع السلع التجارية بالدين بشكل منتظم. ظل زبائننا يطلبون السلع، التي كنا عاجزين عن شرائها و تسليمها لهم. لذلك انزعجوا منا و توقفوا عن إرسال المدفوعات لنا. لقد توقفت الحركة التجارية توقفاً تاماً.
كنا ندفع لدائنينا ما نملكه من سيولة نقدية حتى لم يتبق لنا شيء. كان زبائننا في نفس الوضع فإما أنهم لم يكونوا يمتلكوا السيولة النقدية لأنهم كانوا يبيعون بالدين أيضاً، أو أنهم أدركوا مدى سوء الحالة فتظاهروا بعدم امتلاكهم لنقود كافية لدفعها لنا. كنا نملك كميات ضخمة من الصوف للبيع لكن تجار الصوف توقفوا عن الشراء. لذلك بعنا ما قدرنا على بيعه بخسارة 500 ليرة ذهبية فقط لكي نتمكن من دفع ديوننا. لكن حتى ذلك لم يكن كافياً. (هناك مثل يقول:”دزاگو ميدز، گارگُدانو بوزديگ.” و الذي معناه: الثقب كبير ولكن الترقيعة صغيرة جداً)
قمنا ببيع المحلات الأربعة و المنزل الكبير الذي كان أخي هاروتين قد اشتراه في رأس العين. مع هذا ظل ذلك غير كاف للإيفاء بكل ديوننا. كانت لنا ديون كثيرة على الناس لكن أحداً لم يقم بسدادها.
ارتفاع قيمة الذهب و انخفاض قيمة الفضة :
قبل الحرب العالمية، كانت الليرة الذهبية العثمانية الواحدة تساوي 5 مجيديات فضة أو 125 قرشاً. لكن خلال الحرب و بعدها، ارتفعت قيمة ليرة الذهب بتدرج إلى 275 قرشاً. كان الكل قلقاً بشأن سعر مجيدية الفضة لذلك بدؤوا بشراء ليرات الذهب بالمجيديات. في النهاية، أصبحت قيمة ليرة الذهب أكثر ارتفاعاً. فقد وصلت إلى 15 ثم 20 ثم 30 مجيدية. أثناء فصل الشتاء، كان أصحاب المحلات في بلدات مثل عرب پينار و رأس العين يبيعون السلع للقرويين بالدين متوقعين إيفاءها في الصيف بعد موسم الحصاد. إلا أن القرويين لم يستوعبوا أن أسعار الذهب و الفضة كانت تتغير نسبة إلى بعضها البعض……….(صفحة 149)
سنتان من القحط:
كان جفاف سنتي 1929 و 1930 أسوأ حتى من الأزمة الاقتصادية العالمية و من ارتفاع سعر الذهب. فبسبب شح المطر جفت كل المحاصيل من قمح و شعير و ذرة ..إلخ. مما أدى إلى خسارة القرويين لما بذروه ناهيك عن الربح المرجو منه.
يبست كل الأعشاب في المراعي و نفقت الماشية جوعاً. لم يكن قرويو تركيا و سوريا يخزنون العلف لمواشيهم، حتى عند وفرة المحاصيل. نتيجة لذلك، أصابهم الإفلاس و لم يعد بمقدورهم دفع أي من التزاماتهم المالية. تلاشت كل الديون الواجبة لأصحاب المحلات بكل بساطة. و هذا ما حصل مع آلاف الليرات التي كنا استدناها. لكي نحفظ ماء الوجه و نتجنب الإفلاس، قمنا بدفع كل ما كنا نملك. لكننا لم نستطع تسوية كل حساباتنا. …….( صفحة 150 )
(١ ١٥) – (١٥٢ ) قمنا أنا و هاروتين بفصل أعمالنا :
خسرنا كل رأسمالنا، و كان أغلبه ملكا لي، كما قل دخلنا أيضا. لم يعد بالإمكان إعالة أسرتين بإيراد واحد. كنت أنا و أخي نعيل ثلاثة أطفال لكل منا في تلك الفترة. و بما أن منزلا واحدا كان ضيقا علينا نحن الاثنين لذلك قررت استئجار منزل آخر و شرعت بتقسيم أعمالنا.
كانت كل املاك عائلتي من منازل و محلات و أراضي موجودة في تركيا. أما آل إيميرزيان فكانت لديهم املاك أكثر و كان بعضها في سوريا. كنت أدير هذه الممتلكات مع أن نصفها ل”لوسين”، زوجة الطبيب “زاكار كيليجيان” الذي كانت طبيعة مهنته لا تسمح له بإدارة ممتلكاته. فغالبا ما كان يسافر بعيدا عن حلب. و لذلك كنت أنا الذي يدير مصالحه حيث كنت أدفع نصف الدخل للوسين و أقدم لها كشفا بالحسابات كل سنة.
هذه قائمة بممتلكات آل إيميرزيان: نصف قرية شيخ جوبان، قرية كبيرة جدا. اشترينا أنا و الطبيب زاكار النصف الآخر لاحقا و بذلك أصبح كامل القرية ملكا لنا. ربع “رسم المراق”، قرية كبيرة أخرى قرب “تل أبيض”. بلغ مجموع حصتنا حوالي ٢٠٠ فدان. ربع الأرض مع الطواحين في قرية “عين العروس”. ربع الطواحين في كل من “هيابند” و “عالون”. كان لكل طاحونة حجر رحى خاص بها. عندما كنت أعمل مع أخي، لم أكن متفرغا كفاية لمراقبة كل هذه الملكيات شخصيا. لذلك اعتمدنا على شريكين أرمنيين في كل منها. كنت أزور الملكيات شخصيا في المناسبات. و كنت أمضي حوالي يوم أو يومين هناك. على أية حال، بعد انفصالي عن أخي، بدأت بإدارة كل شيء بنفسي. غالبا ما كنت أمضي شهورا في القرى أثناء موسم الحصاد و عند تجهيز البذار و بيعها و زراعتها. كنت أهتم بشراء ثيران جديدة و بيع القديمة منها.
كنت قد اشتريت الصوف مع هاروتين لمصلحة معمل السجاد في “غازير”. أرادني السيد “جاكوب كونتزلر” و السيد “هوفهانس طاشجيان” أن أقوم أيضا بشراء القمح و الذرة البيضاء و السمن لأجل الميتم. فذهبت إلى شيخ جوبان أثناء الموسم. كان هناك الكثير من الحنطة المعروض للبيع. فقمت بشراء عدد من أكياس الحنطة بمساعدة “نعسان” الأمين. ثم سافرت إلى قامشلي و اشتريت ٣٠٠ كيس من الذرة البيضاء من بعض الأصدقاء. أرسلت كل هذا إلى بيروت بالقطار. . . . . كان السيد جاكوب و السيد طاشجيان سعيدين جدا بالنتيجة. فاصطحباني إلى منزلهما و كافآني بسخاء لأنني نجحت بشراء كل شيء بأسعار زهيدة جدا. و لأن الأسعار تضاعفت بسرعة، فقد استطاع الميتم ادخار بضعة مئات من الليرات الذهبية.
كان السيد هوفهانس عضوا في هيئة الأمناء للمشفى الأرمني في “آزونيه” قرب بيروت. و بطلب منه سافرت إلى عرب بنار و اشتريت ٣٠ صفيحة (تنكة) من سمن الغنم لأجل المشفى و قمت بشحنها إليهم. لقد جعلتنا النقود، التي كسبتها من هذه المهمات و من الطواحين الثلاث التي كنا نمتلكها، نشعر بالراحة و الاستقلالية و الاكتفاء الذاتي أكثر بكثير من قبل. علما أنني كنت دائما أقدم نصف المدخول من المزارع و الطواحين إلى لوسين. (١٥٣)
يتبع ….
- من مذكرات بدروس دير بدروسيان
الترجمة عن الانكليزية: غياث حسين