أسطورة الشعب الواحد: هل يمكننا الحديث عن “شعب” سوري؟

شارك هذا المقال:

عروة محمد

دائما ما يتكلم السوريون عن “الوطن” و “الشعب” و”المجتمع” ومفاهيم مماثلة بدون أن يتم تحديد هذه المفاهيم او معالمها، ويتم التعامل مع هذه المصطلحات وكأنها فئات وقيم مطلقة، موجودة بغض النظر عن سياق تطورها التاريخي، وبالرغم عمن يُدَّعى تمثيله من خلالها، مما يزيد من الضبابية والارتباك في محاولات استخدامها في السياق السياسي. كما تحتل هذه المصطلحات مكان المقدسات، فتأخذ كلمة “الشعب” مكان كلمة “الأمة” في التراث الإسلامي، من دون الالتفات أو الاهتمام لما إذا كان سكان المنطقة قد مروا بالتغيرات الاجتماعية والسياسية الضرورية لتكوين وتشكيل ذلك “الشعب” كفئة واعية لذاتها ولِلرَّوابط التي تصل أفرادها ببعضهم البعض. في هذا الجو من الضبابية يجب إعادة طرح سؤال: هل يمكننا الحديث عن “شعب” سوري حقًا؟

ما الشعب؟

لطالما عُرِّفَ “الشعب” من منظور اجتماعي وسياسي بأنه مجموعة من الأفراد الذين تجمعهم روابط ثقافية، لغوية، تاريخية، أو سياسية، ويعيشون ضمن إطار جغرافي معين، مع إدراك مشترك لهويتهم الجماعية. إلا أن هذا التعريف يثبت المفهوم في فئات “طبيعية” و”أبدية” كاللغة والتاريخ والثقافة، وبذلك لا يمتثل مع مفاهيم الدولة الحديثة والحداثة، ما يتم إغفاله في كثير من الأحيان هو أن وجود الشعب يتطلب توفر مرجعية موحدة للقيم والمعايير التي تحدد الصواب والخطأ داخل المجتمع، مما يساهم في بناء هوية جماعية مستقرة (أندرسون, 1983). إن أحد المعايير الأساسية لوجود الشعب هو وجود إرادة جماعية للعيش المشترك ضمن كيان سياسي موحّد، وهو ما يعبر عنه العقد الاجتماعي الذي ينظم علاقة الأفراد بالدولة وببَعضهم البعض، إن وجد (رولز, 1971).

بناء على ذلك، لا يمكن اعتبار أي كتلة سكانية “شعبًا” بالمعنى المتكامل إلا إذا امتلكت إطارًا قانونيًا أو سياسيًا يوحّدها، بالإضافة إلى درجة من التوافق حول القيم والمعايير الأساسية. ويوضح بنديكت أندرسون أن مفهوم “الشعب” يتجاوز كونه مجرد مجموعة سكانية ليصبح “مجتمعًا متخيلًا”، حيث يُعرِّف الأفراد أنفسهم كجزء من كيان أوسع حتى دون معرفة مباشرة ببعضهم البعض. في غياب هذه المرجعية المشتركة، كما هو الحال في المجتمعات التي تعاني من النزاعات والانقسامات العميقة كالمجتمع السوري، يفرغ مفهوم “الشعب” من معناه ويحول إلى مفهوم هلامي لا يحمل قدرة دلالية بالرغم من حفاظه على قدرته الخطابية، في غياب “الشعب” تتحول الكتلة السكانية إلى كتل متعددة وكيانات مفككة تحكمها الولاءات الضيقة والعمودية، مما يعيق بناء دولة وطنية موحّدة (غلنر, 1983). بناءً على ذلك، فإن التحدي الأساسي في المجتمعات المنقسمة، مثل سوريا، يكمن في إعادة تشكيل هوية جامعة تستطيع تجاوز الانقسامات، وهو ما يتطلب تسويات سياسية واجتماعية قادرة على تحقيق الحد الأدنى من التوافق المشترك.

أسطورة “الشعب السوري الواحد”

تكوّن مفهوم “الشعب السوري” الحديث في سياق التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة منذ انهيار الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين. خلال الحقبة العثمانية، لم يكن هناك مفهوم موحد لـ “الشعب السوري”، بل كانت سوريا جزءًا من ولايات مختلفة معظمها مقسوم بين ولاية حلب ودمشق، وكانت الهويات السائدة قائمة على الانتماءات الدينية والطائفية والعشائرية، إلى جانب هوية إسلامية عثمانية أوسع. ومع سقوط الدولة العثمانية وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا عام 1920، بدأ يتبلور مفهوم حديث للأمة السورية، واستمر مخاض ذلك التبلور إلى ما بعد الاستقلال، في صراعات ما بين قوميين سوريين وقوميين عرب وإسلاميين وغيرهم من التوجهات، وغلبت على إثر ذاك المخاض الهوية القومية العربية إلى فترة طويلة، وكانت غلبة بمعنى غياب توافق حقيقي، بل قدرة طرف على فرض مفهومه للـ”شعب” على بقية الأطراف.

يمكن اللجوء إلى الأدوات التحليلية التي قدّمها المفكر الفرنسي رولان بارت في كتابه الشهير أسطوريات (1957) لتحليل وفهم مصطلح “الشعب السوري” من الناحية الوظيفية، حيث يشرح بارت كيف تتحول المفاهيم اليومية إلى أساطير تعمل على إخفاء تعقيد الواقع تحت غطاء من “الطبيعة” و”البديهة”. وفقاً لبارت، الأسطورة ليست كذبة، بل نظام دلالي من الدرجة الثانية. ففي حين أن العلامة في المستوى الأول (مثل كلمة “شجرة”) تربط بين دال ومدلول بطريقة مباشرة، فإن الأسطورة تأخذ هذه العلامة وتعيد استخدامها كدال جديد في نظام دلالي آخر. هذه العملية تسمح للمعاني الثقافية والسياسية بأن تظهر وكأنها طبيعية، وكأنها غير قابلة للنقاش. “الأسطورة تُنقّي الأشياء، تُجرّدها من تاريخها، وتجعلها طبيعية، أبدية، واضحة بذاتها”، كما كتب بارت. وهي بهذا تُخفي الطبيعة الأيديولوجية للغَة والمفاهيم المستخدمة.

ولطالما استخدم مصطلح “الشعب السوري” بطريقة أسطورية. على مدار عقود قُدّم الشعب على أنه “واحد”، “صامد”، “رافض للتدخل الخارجي” ومؤخرا على أنه “ثائر ضد الاستبداد”، وكأن هذا الكيان الاجتماعي متجانس تماماً، من دون أي تباين داخلي. من خلال هذا الاستخدام، يتحوّل مفهوم “الشعب” من كونه معطًى اجتماعيًا متعدداً إلى أداة رمزية توظّف لتثبيت شرعية سردية معينة. وقد حدث ذلك على صعيد النظام البائد والمعارضة كذلك، ونرى اليوم الإدارة الجديدة تقوم بترويج سردية وجود “شعب سوري” واحد، وإن اختلف هنا المدلول المقصود. يُغفل واقع التنوع، ويُقدّم مفهوم الشعب ككتلة واحدة، دون الاعتراف بتعدد المرجعيات، واختلاف المطالب، وحتى تضارب الرؤى أحيانًا بين فئات “الشعب” نفسه. فإن كانت الأسطورة تستخدم كأداة سلطة أو أداة معارضة، فهي تحافظ على خصائصها الأساسية: تبسيط الواقع، ونزع التاريخية، وادعاء البديهية.

يُخفي هذا الاستخدام واقع الانقسامات الاجتماعية والسياسية والدينية التي كانت موجودة منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة، لكنها كانت تُدار أو تُقمع أو تُهمّش. الطائفية، التفاوت الطبقي، الصراعات بين الهويات المحلية والقومية، كلّها كانت تحت السطح، وتمت تغطيتها بخطاب قومي أو وحدوي لا يعترف إلا بوجود شعب “واحد موحد”. إن ما كشفه بارت في كتاب أسطوريات هو كيف أن اللغة، حين تُستخدم لتصنيع المعنى السياسي، تتحول إلى أداة قمع رمزية. وهي في ذلك لا تُقنع فقط، بل تُخفي. فحين تقول السلطة إن الشعب يدعمها، أو تقول المعارضة إن الشعب معها، فهما معًا تُخفيان واقعًا مفاده أن هذا “الشعب” ذاته غير موجود كوحدة متجانسة، بل كمجموعة من الفاعلين المختلفين، المتنازعين أحيانًا، الذين لا تجمعهم مرجعية مشتركة.

هذا الافتقار إلى هوية وطنية حقيقية متماسكة أو مرجعية مشتركة برز بشكل واضح مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث انقسم السوريون إلى هويات فرعية متضاربة على أسس طائفية وإثنية وأيديولوجية، مما كشف عن هشاشة مفهوم “الشعب السوري” كما كان يُروَّج له سابقًا. على الرغم من رواج سردية “تطييف” النظام للصراع السوري، وحتى وإن سلمنا بمحاولة النظام القيام بذلك، وهو بالطبع طرح نفسه كحامٍ للأقليات، لم تكن تلك المحاولات لتنجح إن وجدت هوية وطنية جامعة حقًا، لم تخلق الحرب السورية الانقسامات أيًّا كان شكلها، بل كشفتها وكشفت عمقها. إذا كانت الحرب السورية قد دلّت على شيء، فهو عدم وجود أي مرجعية أو إجماع يحددان ما هو مقبول ومرفوض، وما هو صواب أو خطأ. فلكل جهة من جهات الصراع مرجعيتها وأفكارها الخاصة حول هذه الأمور. حتى أولئك الذين ادّعوا الاستناد إلى مرجعية حقوق الإنسان أو القوانين الدولية، سواء من الناشطين أو المعارضة، تبيّن بعد سقوط النظام البائد والمجازر والإبادة التي ارتكبت وترتكب بحق العلويين في الساحل، أن مشكلتهم كانت تكمن في هوية من يرتكب القتل، وليس في فعل القتل ذاته.

مسألة وجود مرجعيات محددة شديدة الأهمية، حيث تشكل تلك المرجعيات حجر الأساس لوجود أي شعب. فبدونها، ليس هناك إطار موحّد ينظم العلاقات بين الأفراد أو يحدد كيفية التعامل مع الخلافات. هذه المرجعيات قد تكون قيمًا ثقافية وأخلاقية، مثل الشعور بالعدالة والمساواة والتضامن الاجتماعي، أو قوانين وتشريعات، تضمن الحقوق والواجبات وتضع معايير موحدة لحل النزاعات، أو عادات وتقاليد مشتركة تحدد أنماط الحياة والسلوكيات المقبولة داخل المجتمع. عندما تكون هذه المرجعيات محل إجماع، يصبح الشعب قادرًا على التعايش رغم وجود اختلافات داخلية. أما في حال غيابها أو تصادمها، فإن المجتمع يدخل في حالة من التفكك والتناحر، مما يهدد استقراره.

هل يمكن بناء “الشعب”؟

في ظل الصراعات العميقة والانقسامات التي شهدتها سوريا، يبقى السؤال الأساسي: هل يمكن تشكيل مرجعية جديدة تساهم في إعادة بناء الشعب السوري؟ لا يمكن فرض مرجعية واحدة بالقوة، بل يجب أن تنشأ من توافق مجتمعي وسياسي حقيقي، ويلعب الدستور دورًا محوريًا في إعادة تعريف المرجعية الوطنية، فهو الوثيقة التي تحدد طبيعة الدولة، نظام الحكم، وحقوق المواطنين وواجباتهم. نظرًا لتنوع سكان سوريا لا يمكن تحقيق ذلك اليوم من غير صيانة وضمان الحقوق الفردية والشخصية، ووجود دستور علماني ديمقراطي وفق أسس المواطنة الدستورية التي تتطلب المساواة أمام القانون، بغض النظر عن الدين، العرق، أو التوجه السياسي. في غياب هذا المبدأ، سيظل الانتماء للطوائف والجماعات السياسية أقوى من الانتماء للدولة، مما يعيد إنتاج الانقسامات السابقة. لا يمكن الحديث عن “الشعب” اليوم إلا بصيغة إنشائية، فالشعب، في أفضل الأحوال، لا يزال قيد التكوين، وقد يتشكل أو لا يتشكل، وذلك يعتمد على طبيعة التسوية التي ستنتج عن هذه الفوضى، وما إذا كانت ستتضمن عقدًا اجتماعيًا قادرًا على بناء مواطنة دستورية، إن كنا سنصل إلى تسوية أساسًا.

ويجب التنويه إلى أهمية عملية العدالة الانتقالية في بناء مفهوم الشعب والمواطنة كذلك، العدالة الانتقالية ليست مجرد محاكمات ومحاسبة، بل عملية أوسع تشمل كشف الحقيقة، الاعتراف بالجرائم، تعويض الضحايا، وإعادة هيكلة أجهزة ومؤسسات الدولة لبناء الثقة بها. في الحالة السورية، لا يمكن الحديث عن مصالحة أو بناء “شعب” متماسك دون معالجة إرث الجرائم التي ارتكبت بحق فئات واسعة من السوريين، حيث يكمن أحد أهداف العدالة الانتقالية في المساهمة في إعادة تشكيل الهويات، وإضعاف الجوانب من الهوية التي كانت مصدرًا للعنف والصراع، مع تقوية موازية للإجماع والاتفاق السياسي، المبني على المرجعية المشتركة لسردية تعترف بآلام ومعاناة الجميع وتعمل على ضمان عدم تكرار المآسي. إلا أن ما يحدث اليوم هو تكرار لتلك الجرائم ومراكمة لإرث إجرامي أكبر يوسع رقعة المعاناة من المأساة السورية.

ولا تقتصر العدالة الانتقالية فقط على الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها النظام، بل يجب أن تشمل جميع الانتهاكات التي حدثت من كافة الأطراف وإلا كانت عدالة انتقائية كما يقال. من الضروري أن يحصل جميع الضحايا على حقوقهم بغض النظر عن الجهة التي ارتكبت الانتهاكات، وإلا فستبقى أجزاء واسعة من من الشارع تشعر بالتهميش أو الخسارة. إذا نال جزء من الشعب حقوقه بينما تم تجاهل حقوق جزء آخر، فسيؤدي ذلك إلى تراكم مشاعر الضغينة بمرور الوقت، مما قد يسبب مشاكل مستقبلية. لذلك، يجب أن تشمل عملية العدالة الانتقالية جميع الانتهاكات، سواء كانت من قبل النظام، أو هيئة تحرير الشام، أو قوات سوريا الديمقراطية، أو غيرهم، لضمان معالجة شاملة للجرائم المرتكبة.

إذا كنا لنعود لأرض الواقع ختامًا، سنجد بعد السرد السابق أن أكبر عائق أمام بناء “الشعب” هو سلطة الأمر الواقع الحالية في دمشق تحت حكم هيئة تحرير الشام . رغم حديثهم وخطاباتهم المليئة بتلك الكلمة، أثبتوا خلال الأشهر الماضية عدم استعدادهم لمشاركة أحد في عملية بناء الدولة السورية، بذلك يوظف الشرع والهيئة مفهوم الشعب بذات الطريقة التي تم استخدامها من قبل نظام الأسد: أداة قمعية لطمس الاختلافات ومعاقبة كل من لا يمتثل إلى مسلمات لا تمثله وإلى سردية مركزية تفرض بالقوة والإكراه، طبعا مع اختلاف الهوية الطاغية على مفهوم الشعب.

المراجع:

  • بندكت أندرسون (1983). مجتمعات متخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها. فيرسو.
  • جون رولز (1971). نظرية في العدالة. مطبعة جامعة هارفارد.
  • إرنست غلنر (1983). الأمم والقومية. مطبعة جامعة كورنيل.
  • رولاند بارت (2006). أسطوريات. ترجمة نوفل الجديدي، دار الجمل
شارك هذا المقال: