اندماج أم  صهر ؟!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

يُجهد الكثير من المغتربين من أبناء الشرق وخاصة النخب المهتمة بقضايا اللجوء والهجرة، في تصوير ما يُعرف بسياسة الاندماج المتبعة مع المهاجرين في دول اللجوء كما لو أنها مجموعة قوانين وأنظمة صارمة الهدف من ورائها هو سلخ اللاجئ عن مجتمعه الأصلي وحرمانه من هويته الثقافية، وبأنها من خلال هذه الإجراءات تسعى إلى مجانسة المهاجرين أو بتعبير أدق صهرهم في بوتقة ثقافة البلد المستضيف!

تجنباً للدخول في  جدل المصطلحات دعونا نستعرض في عجالة الإجراءات الميدانية التي تنتهجها الدولة المستضيفة في التعامل  مع اللاجئين من اللحظة الأولى لوصولهم وحتى الاستقرار النهائي .

بعد استقبال الدولة المستضيفة  للاجئ تبدأ بإعطائه فكرة مبسّطة عن تاريخ وثقافة المجتمع بالإضافة إلى معلومات ضرورية عن الإجراءات والتدابير الإدارية التي سيحتاجها اللاجئ وأسرته خلال مسيرة حياتهم لكي يسهل عليه التعامل مع المؤسسات الحكومية؛ كل ذلك من خلال دورة تثقيفية تدّرس باللغة الأم للاجئ أو ما يًعرف بـ دورة الاندماج!

كما تباشر المؤسسات الثقافية في البلديات  بإقامة دورات تعليم لغة البلد كي يتمكن اللاجئ من التواصل مع المحيط الذي يعيش فيه كالمشافي والبلديات وما شابه، وكي يصبح مؤهلاً  للدخول في سوق العمل.

بعد انتهاء دورة اللغة، تقوم المؤسسات المختصة بشؤون التدريب والتأهيل المهني بمساعدة اللاجئ في اختيار الدورة المهنية التي يود اتباعها. كما تحفزه  وتساعده في البحث عن فرصة عمل، لمن يملك مؤهلات مهنية جاهزة أو لمن انتهى للتو من الدورة المهنية.

 طبعاً خلال كل هذه المرحلة وحتى تاريخ حصول المقيم على فرصة عمل، تتكفل الحكومة والبلديات بتأمين معيشة اللاجئين وعوائلهم من خلال صرف رواتب شهرية، هذا بالإضافة إلى تكفّلها بمصاريف الدورات  التثقيفية واللغوية والمهنية!

هنا تنتهي ما تُسمى بسياسة الاندماج (نظرياً قد ُيشير المصطلح إلى أبعد ما يتم على أرض الواقع)، فهل  في كل ما سبق من تدابير ما يشير إلى اتباع الدولة لسياسة محو لهوية اللاجئ الثقافية وانتمائه الاجتماعي وصهره في قالب معين؟ أم أنها ليست أكثر من مجرد إجراءات بسيطة ضرورية تصّب في مصلحة اللاجئ أكثر من الدولة المستضيفة؟

ثم أنه إذا كانت ذات الدولة تسمح للاجئين بتأسيس  جمعيات ثقافية خاصة بهم وفتح مدارس باللغة الأم وإقامة فعاليتهم وممارسة أنشطتهم وكأنهم في بلدهم الأصلي، لا بل وتقدم لهم الدعم المادي والمعنوي!  فكيف لنا أن نقول بأن الدولة المستضيفة تتبع سياسة الصهر مع المغتربين ؟ هل هي شعبوية نخبوية أم نتاج قراءة غير دقيقة؟

على الرغم من الفرق الواضح بين مفهومي الاندماج  (Integration) والصهر (Assimilation)؛ إذ أن الأول تسلكه الدولة بهدف التكامل والتعايش في مجتمع متعدد الثقافات تحت سقف القانون وخيمة الدستور، بينما الثاني فالدولة تسعى من خلاله إلى إلغاء الثقافات الأصغر أو المستضعفة وإذابتها في الأكبر أو المسيطرة، لكن مع ذلك قد يكون من المفيد في هذا السياق عرض بعض نماذج سياسة الصهر او المجانسة المجتمعية التي طُبقت في القرن الماضي في أكثر من دولة.

بعد عدة سنوات من تلاشي الإمبراطورية العثمانية وتشكّل الجمهورية التركية، رفعت الدولة الوليدة شعار: كل من يعيش ضمن جغرافية الدولة الجديدة هو تركي حتى إن لم يكن تركيا”، والذي بموجبه تم حظر التحدث بأي لغة آخرى، ومنع القيام بأي أنشطة ثقافية أو اجتماعية بغير اللغة التركية، والذي عّرف بسياسة التتريك التي طبقها مؤسس الجمهورية  متأثراً بآراء عالم الاجتماع ضياء كوك ألب “أبو القومية التركية”!

وعندما سقطت الإمبراطورية الروسية تبنى من وصل إلى سدة الحكم فكرة إعادة تشكيل الدولة وإعطائها هوية جديدة (السوفييت) فتم فرض عملية مجانسة أو صهر على بقية شعوب الدولة الجديدة (الاتحاد السوفيتي) من أجل صهرها في البوتقة الروسية فجاءت النتائج عكسية ومريرة ولا زالت مآلاتها ماثلة حتى يومنا هذا من خلال الحروب القومية والصراعات الاثنية  بين شعوب تلك الدولة !

أما أشد النتائج  مرارةً لتطبيق سياسة الصهر فقد عاشتها ولا تزال منطقة البلقان، وبالتحديد الاتحاد اليوغسلافي أو ما كان يُعرف بـ يوغسلافيا، ذلك “الاتحاد” الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية من ست دول تضم عدة قوميات ومذاهب دينية، لكن سياسة المجانسة التي طبقتها سلطات هذه الدولة لإنجاز حالة الاتحاد عن طريق خلق هوية جديدة “يوغسلافية” أتت بنتائج كارثية وعكسية، مازالت تجلياتها المأساوية مستمرة حتى يومنا هذا!

من خلال استعراض هذه الحالات وغيرها، يمكن التوصل إلى استنتاجين أحدهما يتعلق بظرف تطبيق هذه السياسة والآخر بأصحاب هذه السياسة :

 سياسة الصهر أو المجانسة هي عملية مصاحبة لإعادة  تشكيل الدولة جغرافياً وفقاً لهوية جديدة مصطنعة، تهدف إلى خلق كيان متماسك وذلك بإزالة الاختلافات الثقافية واللغوية وصهرها في بوتقة الثقافة المسيطرة أو الكبرى كي تصبح كتلة واحدة “متجانسة” يضمن استمرارها.

القاسم المشترك بين الدول التي تطبق هذه السياسة هي كونها بلدان محكومة من قبل أنظمة شمولية (التي تبداً بدولة الحزب الواحد وتتحول إلى دولة الزعيم الأوحد )؛ فهي بطبيعتها لا تقبل أي نوع من الاختلاف مهما كان صغيراً إذ أنها تخشى منه على تفردها بالسلطة وديمومتها!

شارك هذا المقال: