أدباء الكرد الكلاسيكيون ومسألة اللغة .. أحمد الخاني نموذجاً

شارك هذا المقال:

لم يغب موضوع أهمية اللغة عن بال المثقفين الكرد منذ بداية النهضة الأدبية الكردية في أواخر القرن السادس عشر الميلادي وحتى الآن. فقد ظهرت تجليات الاهتمام بهذا الموضوع الحساس في كتاب شرفنامه للأمير الكردي شرف خان البدليسي والذي ألفه سنة 1596 م.

ينتقد شرف خان، وهو الأمير والمؤرخ المطلع على حالة المجتمع الكردي ونفسيته وبنيته الثقافية في ذلك العصر، النخبة الكردية المثقفة بأنها تتجه للاهتمام بعلوم الفقه والحديث والمنطق وعلم الكلام لكنهم لا يلتفتون إلى العلوم الأدبية والاجتماعية مثل الشعر والإنشاء وحسن الخط[1].

وأعتقد أن ابتعاد الكرد عن دائرة الأدب كان سببه اللغة بالأساس فالإبداع باللغة الأم تعبير عن الروح القومية، لكن الأمور لم تكن متيسرة للكرد في ذلك الوقت بسبب الغياب الكلي لأي دعم للغة الكردية وغياب حكم مركزي تتراكم فيه المعرفة وتنشأ بفضله مراكز ثقافية تعتمد اللغة الكردية كلغة رسمية.

لم يكن هناك من سبيل أمام المثقفين الكرد إلا اللجوء إلى اللغات العثمانية والعربية والفارسية لتدوين علومهم وحتى أشعارهم. لقد كتب الشاعر البدليسي الشهير شكري باللغة العثمانية وألف سليمنامه البالغة حوالي 8000 بيت بلغة السلاطين العثمانيين تقرباً منهم وبسبب ما كان يلقاه من دعم في هذا الخصوص. أما شرفخان الذي تشرب حتى العظم باللغة الفارسية وثقافتها خلال وجوده الطويل في بلاد إيران قد آثر أن يكتب أهم كتاب تاريخي باللغة الفارسية. هذا بالإضافة إلى علماء ومؤرخين كرد آخرين كتبوا كتبهم التاريخية باللغة العربية مثل ، وابن خلكان والفارقي وغيرهم.

وفي كتاب تاريخ الكرد وكردستان للمرحوم محمد أمين زكي ورد أن الرحالة العثماني أوليا چلبي صاحب سياحتنامه يذكر في كتابه عن مأساة انهيار إمارة بدليس على يد الوالي العثماني أحمد باشا سنة 1655: كان من مخلفات أمير بدليس أبدال خان سبعة أحمال جمال من الكتب النادرة، وكانت المكتبة الخاصة للأمير تحوي أكثر من أربعة آلاف نسخة من الكتب القيمة، أما تأليفاته الخاصة فبلغت ستة وسبعين كتاباً ومئة وخمس رسائل بالعربية والفارسية[2].

والأمثلة غير ما أوردناه أكثر من أن تُحصى.

وهكذا نرى أن النخبة الكردية المثقفة لم تنتبه إلى أهمية الكتابة والتدوين باللغة الأم ولهذا سببان أساسيان في اعتقادي:

  1. اعتناق غالبية الكرد الدين الإسلامي وتبني لغته العربية لغة للثقافة والدين والأدب
  2. غياب أي رؤية واضحة لدى الطبقات الكردية الحاكمة حول مفهوم اللغة كوعاء لذاكرة الشعوب وبالتالي عدم تشجيع الكتاب على استعمال الكردية في كتاباتهم.

لكن الأمور تحسنت قليلاً في ظل بعض الإمارات الكردية خاصة بعد معركة جالديران 1514. ويذكر شرفخان أن الأمير يعقوب بك حاكم إمارة درزينى كان ينظم الشعر باللغة الكردية وله في ذلك ديوان مجموع. ويعقوب بك هذا عاش أميراً ربع قرن في النصف الثاني من القرن السادسس عشر قبل أن يتنازل عن الحكم لولده سنة [3]1586.

كما يتحدث شرف خان عن الأمير بير بوداق بن الأمير أبدال حاكم ومؤسس الإمارة البابانية وكيف أن شعراء الكُرد عمدوا بعد مقتله إلى سيرته فنظموها في سلك القوافي والقصص وتتناقلها الألسن وينشدها المغنون في المجالس والمحافل لدى الحكام بأنغام ومقامات خاصة بالقوم. والمعروف أن بير بوداق أسس الإمارة البابانية في مفتتح القرن السادس عشر وتحديداً في العام 1501 ميلادي[4].

المؤسف في هذا الموضوع أن صناعة الكتاب الكردي ونسخه وحفظه في المكتبات لم تكن عادة متبعة في الإمارات الكردية في ظل غياب وعي معرفي ورؤى مستقبلية لدى الحكام والأمراء ولذلك فقد ضاعت المدونات العديدة التي نظمها وألفها الشعراء والكتاب الكرد بالكردية وأصبحت نهباً للنسيان.

ففي حين نلاحظ اهتمام العثمانيين مثلاً بكتاب سليم نامه حيث نسخوه عدة مرات مع العشرات من المنمنمات الرائعة التي تزين صفحاته، نجد أن كتاباً هاماً مثل مم وزين لم يهتم به الكرد ولم نجد نسخة مزينة باللوحات كما هو حال الملاحم عادة. وكذلك فبينما نجد ديوان حافظ في نسخ بالغة الروعة نرى أن ديوان الجزري وبالرغم من أنه يضاهي ديوان حافظ، لم يتم الاهتمام به كما ينبغي. وهذا يشير إلى غياب أي استراتيجية لدى الحكام الكرد بخصوص خطورة وأهمية التدوين بالكردية.

لقد كان المثقف الكردي الذي لجأ إلى الكردية كلغة تعبير يدرك أهمية ما هو بصدده ويدرك أيضاً وعورة الطريق الذي يسلكه بسبب غياب الدعم والاهتمام وانصراف الناس عن كل ما هو مدون باللغة الكردية.

من هذا المنطلق كانت دعوة الشاعر الكبير ملايى جزيري واضحة حيث أنه دعا إلى ترك الشيرازي والالتفات إلى الملا (يقصد نفسه):

گەر لوولویێ مەنسوور ژ نەزمێ تو دخوازی

وەر شیعرێ مەلێ بین تە بە شیرازی چە حاجەت؟

إن كنت تبغي اللؤلؤ المنثور من الشعر

فتعال واقرأ قصائد الملا واترك الشيرازي[5].

لم يكتف الشاعر بهذا البيت الذي هو في ظاهره دعاية شخصية، بل كرر في كثير من المرات أن أشعاره وقصائده ترقى إلى مصاف المعجزات وهو بذلك لا ينتصر فقط لنفسه ولشعره، بل إنه يريد لفت الأنظار إلى اللغة الكردية المرنة والحيوية والتي بلغت في عصره مرحلة من الكمال بحيث صار من الممكن كتابة ديوان جميل بها.

وهذا بالضبط ما لمح إليه الشاعر الكبير نالي أيضاً بقوله:

فارس وکورد وعەرەب هەرسێم بە دەفتەر گرتووە

نالي ئەمڕۆ حاکمی سێ موڵکە، دیوانی هەیە[6]

ما معنى هذا الكلام؟ وكيف يمكن لديوان شعر باللغة الكردية أن يشكل انتصاراً على ثلاث ممالك دفعة واحدة؟ بالتأكيد لا يقصد نالي المعنى الحقيقي للممالك هذه، بل يود الإشارة إلى أن مملكتين من هذه الممالك كانت تفرض سيطرتها على المثقف الكردي والكاتب الكردي عبر لغتيها القوميتين. صحيح أن هناك إمارات مستقلة وشعب كردي يتمتع بالحرية النسبية في ظلال تلك الإمارات، لكن بما أن اللغات المستعملة في دواوين تلك الإمارات ومراسلات حكامها بلغة غير اللغة الكردية فإن الاستقلال منقوص والحرية غير مستوفية الشروط. لذلك فإن الكتابة بالكردية تعني التحرر الكلي من سيطرة الأجنبي ومن سطوة ثقافته.

لكن مسألة اللغة لم تبرز بشكل واضح وصريح إلا على يد الشاعر والمفكر أحمد خاني. ولهذا أيضاً سبب أساسي وهو أن أحمد خاني كان صاحب مشروع نهضوي تنويري مرتكز على المبادئ القومية. ومن المعروف أن اللغة أهم ركيزة من ركائز نهضة الأمم وهي أهم جامع يمكنه ربط مشاعر شعب في عقد لا ينفرط.

لقد كان أحمد خاني واضحاً جداً في طرح فكرته. قالها دون مواربة في مقدمة ملحمته الشعرية مم وزين. قال إنه سيكتب بالكردية ويترك الفارسية وغيرها من اللغات. أكد أنه سيجلو الصدأ عن نحاسه أي لغته الكردية وسيهجر الذهب والفضة أي اللغات الأخرى. لكنه استدرك أن هذا النحاس لن يتحول إلى عملة رائجة ما لم يكن عليها ختم ملك أو سلطان. فهم أحمد خاني أهمية اللغة في إرساء قواعد شخصية مستقلة للكرد فكتب كل مؤلفاته بالكردية. كانت خطوته جبارة حتى أنه سعى إلى ما أسميه (تكريد الإسلام) أي شرح الدين الإسلامي والعقيدة والتفسير باللغة الكردية. فالخاني كان يدرك أهمية الدين في حياة الكرد، ولو قيض لهذا المشروع الرائد أن ينجح لقفزت اللغة الكردية قفزة كبيرة إلى الأمام. برزت الدعوة إلى الاهتمام باللغة الكردية بالموازاة مع الدعوة إلى تحرر الكرد من ربقة الصفويين والعثمانيين. أي أن دعوة الخاني كانت شاملة لجانبها الثقافي والسياسي فلم يهمل هذا ولا ذاك.

لقد عرف خاني أن أية نهضة أدبية في كردستان تتطلب دعماً من المؤسسة الحاكمة وبدون ذلك لا يمكن فعل شيء مؤثر:

فلو كان لنا صاحب ذو لطف وكرم.

كان العلم والفن والأدب والمعرفة، والشعر والغزل والكتاب. محط اهتمامه وقبوله.

لرفعت راية الشعر في أعالي السماء.

وبعثت روح ملى جزيري وأحييت بها علي حريري.

وأبهجت (فقيه طيران) كي يبقى مشدوهاً إلى الأبد.

ولكن ما العمل والسوق كاسدة، وليس من مشترٍ لما يُعْرَضُ من قماش.

خاصة في هذا العصر الذي أصبح فيه كيس النقود محبوبنا جميعاً.

أي من الطمع أصبحت الدنانير والدراهم لنا معشوقات.

فلو قايضت العلم كله بفلس واحد، وعرضت بيع الحكمة مقابل حذاء.

لما قبل أحد أن يجعل جامي سائس خيل له، ولما رضي أحد أن يقبل نظامي خادماً له[7].

هذه الأبيات الطافحة بالمرارة من مقدمة مم وزين تمثل خيبة أمل المثقفين الكرد الكبيرة بسلطتهم السياسية الغافلة عن تأثر القوة الناعمة سواء في الجبهة الوطنية الداخلية أو على مستوى الجبهات الخارجية في خضم الصراع السياسي.

بطبيعة الحال يمكننا إدراك أن انصراف الحكام الكرد عن مشروع المثقفين المتمثل باستعمال اللغة الكردية سببه عدم ثقتهم بهذه اللغة وتأثيرها أو من عدم قدرتهم على فهم المعادلة المتمثلة أن اللغة القومية ضرورية لبناء الكيان القومي وهي ركيزة من ركائز النضال بموجب قول القرآن: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.

لقد كافحت النخبة الثقافية الكردية في سبيل جعل اللغة الكردية لغة للأدب على الأقل بالرغم من الصعوبات الهائلة التي اعترضت طريقهم وأولها سطوة اللغات المجاورة.

فقد كانت اللغات السائدة آنذاك هي أولاً العربية بسبب كونها الوعاء الذي احتضن الحضارة الإسلامية وكانت لغة مقدسة، وثانياً الفارسية وقد فرضت نفسها بعد أن صقلتها أجيال من المبدعين الفرس أثروا تأثيراً بالغاً على أدباء المنطقة الممتدة من الآستانة وحتى الهند. ثم التركية وكانت لغة الحكام المحتلين في كردستان. وهكذا فقد كانت اللغة الكردية تخوض معركة البقاء بأسلحة قليلة وفرسان أقل، فقام جيل من الشعراء ليدونوا أحاسيسهم بلغتهم المهملة ويفتحوا الباب أمام الأجيال اللاحقة  وبذلك اجتازت هذه اللغة امتحانها العسير بنجاح فظهرت أشعار الجزري وقصص فقى طيران الشعرية وغزليات علي حريري وتداولها الناس وحفظوها  وتغنوا بها في مجالسهم مما ترك أثراً طيباً في النفوس وعزز ثقة المثقفين بهذه اللغة، وقد أشار خاني إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة بالاسم في مقدمة مم وزين وتحسر على أن الأمير لا يتعاطى الأدب ولا يقبل بالمعرفة والعلم وأربابهما في ديوانه ولولا ذلك لأحيا خاني أرواح هؤلاء وأسعدها إلى الأبد. 

إن أحمد الخاني يصرح بدون مواربة أنه اختار اللغة الكردية قصداً لكي يدون به مم وزين. وأنه يعرف مسبقاً أن حظوظه قليلة في الرواج فاللغة الكردية نحاس يأتي بها الخاني إلى سوق الذهب والفضة، لكنه يقول إن هذا النحاس أيضاً يتحول إلى عملة بشرط أن تكون عليه سكة أحد الأمراء. أي أن السلطة السياسية هي التي ترفع من قيمة اللغة عبر دعم مشروعاتها وإغداق الأموال على من يقف في خندق الدفاع الأول عنها.

لقد  أثر أحمد الخاني بأفكاره الرائدة هذه على  أجيال من الشعراء جاؤوا بعده فحذوا حذوه وكرروا عباراته تقريباً. مثل الشيخ عبد الرحمن آق تبي صاحب روضة النعيم وشقيقه الشاعر خاكي (محمد جان) الذي نظم قصة مجنون ليلى بالكردية وهذان الشاعران جاءا في زمن انهيار الإمارات الكردية المستقلة وكتبا في مقدمتيهما عن جمال اللغة الكردية وضرورة الكتابة بها.

إن أفكار أحمد خاني التي وردت في مقدمة مم وزين لا تزال محتفظة براهنيتها وتصلح لزمننا المعاصر إذ أن اللغة الكردية لا تزال تعاني من آفات عديدة ليس أولها قلة الاهتمام بها ولن يكون آخرها انقسام الشعب الكردي بين لهجات مكتوبة عدة تقف حائلاً أمام انصهار الشعب الكردي بكافة طوائفه في كيان متماسك منسجم.


[1] شرفنامه. 14 ترجمة محمد علي عوني. دار إحياء الكتب العربية. مصر

[2] تاريخ الكرد وكردستان. محمد أمين زكي

[3] شرفنامه. ص234

[4] شرفنامه 278

[5] العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري. ص144. ط1 2013. Nûbihar. وفي شرح المرحوم الملا أحمد الزفنكي: لا حاة للذهاب إلى بلدة شيراز.

[6] ديوانى نالى. انتشارات كردستان. سنه. 1379 ص582

[7] الدر الثمين في شرح مم وزين. ص187جان دوست. منشورات سبيريز. دهوك 2006.

شارك هذا المقال: