الجسد بوصفه كينونة طبيعية
حين ينزلق الجسد إلى العالم الخارجي يكون محاطاً بقداسة الكينونة الأم وأقصد هنا الطبيعة الروحانية الغرائبية لكن بمجرد تسمية هذا الجسد تراه ينتمي إلى ثقافة المجتمع الذي ولد فيه ويعتاد على عزلته التي يقوم هذا المجتمع بوصفه الوصي عليه بإحاطته بها. وهنا يحضرني تعبير (فوكو) بأن “الجسد هو أول موضوع تمارس عليه السلطة فعلها، والحقيقة إن السلطة تخلق الفرد ابتداء من جسده” هذا الجسد بنوعيه الأنثوي والذكوري سيتعرض لاحقاً للتنميط وفرض قيود عليه بحسب ثقافة المجتمع الموجود فيه.
تسليع الجسد
بإمكاننا القول إن صفة القدسية ستسحب من الجسد وسيرتدي صفة تلائم الوضعية الجديدة كأن يرزح تحت وطأة عبودية القيم والمبادئ المجتمعية التي ستبيح أفعالاً وأساليبَ بحقه. هذه القيم المجتمعية ستهدف إلى تقسيم فضاء الجسد إلى فضاءين مختلفين، فضاء الرجل الذي يتمتع بكل شيء وفضاء المرأة الذي يفرض عليها أساليب وقوانين تخضع لها رغماً عنها. وسيُسهم هذا المجتمع بشكل أو بآخر في ترغيب أنماط سيخضع لها الجسد الأنثوي رغماً عنه؛ لأنه ببساطة وسيلة لرغبات هذا المجتمع الذكوري الذي فرض ثقافته البنيوية العميقة وجعل من المرأة سلعة تُباع وتُشترى على سبيل المثال: عند الزواج حين يحدّد لها المجتمع (مهراً) أي قيمة مادية إذ دون هذا المقابل لا تخرج الفتاة من بيت والدها أو بيت العائلة، هذا المقابل المادي يفرض على المرأة نوعاً من العبودية يهدُّ كاهلها، فهي وسيلة للمتعة الجنسية، المطلوب منها أن تكون جاهزة في أي لحظة يرغب بها الزوج وحين يغفل الطلب، عليها أن تعرض عليه ذلك قبل أن ينام؛ فهذا واجب عليها، فهي وعاء للحمل وإنجاب الأطفال وخادمة تقوم بكل شيء في البيت من تربية الأطفال، التنظيف، الطبخ و… تقوم بكل هذه الأعمال دون أجر فقد دفع الرجل مهرها.
إسهام المرأة في تسليع ذاتها
هذا الأمر الجلي هو ما يثير الدهشة إذ رضيت النساء بهذه الحال وقد غدت أغلبية النساء تتبنى الفكر الذكوري أقصد هنا ” نظرية المهر” بل ويتفاخرن به، فالفتاة لا تتزوج دون مقابل وإن قبلت بذلك فستضع (مُؤَخَّراً كبيراً=مبلغ من المال) على العريس خوفاً من الطلاق. وكأن الرجل حين يرغب بتركها سيوقفه المؤخّر الكبير. هذه الاستراتيجية التي باتت فتياتنا بامتهانها أمست تسليعاً للجسد أولاً وأخيراً وذلك بإرادة النساء أنفسهن.
طرق أخرى لتسليع جسد الأنثى
لم يكتفِ الفكر الذكوري في جعل النساء خادمات له شرعاً بل تمادى إلى أبعد من ذلك حين ربط بين جسد المرأة والمنتوجات الاستهلاكية وما الإعلانات التي تملأ فضاء الانترنت والتلفاز وغيرها إلا نوافذ تعرض تلك المنتوجات متزامنة مع جسد المرأة وعريه بدءاً من أقل منتج قيمة وصعوداً بالأغلى قيمة والمرهون بعرض جسد المرأة ومدى استجابة الجمهور لها. ومن الأهمية بمكان ذكر المتاجرة بالأجساد هنا فهو بحق موضوع شائك مثير للجدل، استباحة الجسد يعتبر انتهاكاً للقيم الإنسانية. ومن وجهة نظري المرأة لا تبيع جسدها لأي كان دون سبب وجيه ويكون غالباً الفقر والعوز، للأسف تضطر لذلك وتضطر مقابل ثمن بخس لممارسة البغاء لكي يكون باستطاعتها تأمين احتياجاتها واحتياجات أسرتها.
كان البغاء قديماً يمارس في الأماكن المقدسة على مرأى من الآلهة ويعتبر مقدساً، لم أجد إلى الآن تفسيراً لقدسية البغاء، متى كان استباحة الجسد مقدساً؟ ولمَ إضفاء صفة القدسية على هذا الفعل المنافي لحقوق الجسد؟ إن المجتمع الذكوري هو المستفيد الوحيد من هذا البغاء الذي من أجل متعته يقدم على ممارسة البغاء. والمرأة التي لا تجد عملاً تضطر إلى قبول هذه المهنة لكي تؤمن لقمة عيشها، أما كان من المجدي أن يفتح هذا المجتمع مجالاً لهؤلاء النسوة للتخلص من هذه المهنة واكتساب مهنة تعيلهن من دون التعرض لانتهاك إنسانيتهن؟
من البديهي أن نعلم أن هناك أسباباً أخرى لممارسة النساء البغاء. ويمكن القول إن المشاكل الأسرية، تفكُّك العائلة، تعنيف النساء، التحرش الجنسي، الاغتصاب والزواج المبكر. هذه الأسباب قد تكون مساعدة بالدرجة الأولى على أن تهرب الفتاة من بيئتها لتدخل في شرك البغاء وتبيع جسدها كسلعة للزبون الذي يدفع أكثر ولا تفكّر بشيء آخر سوى المقابل الذي ستأخذه عوضاً عن استباحة الزبون لجسدها.
الحركات النّسوية تحاول بشتى الوسائل فضح هذه الممارسات وتعريتها بحق المرأة، هذه الممارسات التي حكمت على الجسد طويلاً بالإلغاء والاستغلال، الأمر الذي ساعد المرأة لاحقاً على أن تتجه إلى اكتشاف جسدها وكسر القيود التي تنتهك أسراره وجمالياته.