في إطار المبادرات الفردية لمواجهة الحملة الشرسة التي بدأت الجهات الشوفينية تثيرها بشكل مبرمج ومدروس ضد الشعب الكردي في سوريا، والتي تستهدف وجوده وتغيير ديمغرافية مناطقه التاريخية، قام مؤخِّراً الأستاذ المساعد في جامعة زاخو بكردستان العراق، الدكتور (علي صالح ميراني)، بانجاز بحث هام وموثق حول إحدى أهم العشائر الكردية في كردستان سوريا، وهي عشيرة ميران ودورها الاجتماعي والسياسي، فقد نشر الكاتب الطبعة الأولى من هذا الكتاب في أواخر عام (2020)، تحت عنوان (تاريخ عشيرة ميران ودورها الاجتماعي والسياسي)، ويتوزع الكتاب على (360) صفحة من القطع الكبير، ويضم بين دفتيه مقدمة وعشرة فصول، فضلاً عن الخاتمة وقائمة هامة من الملاحق والوثائق والصور.
ومن الجدير ذكره، أن مؤلف الكتاب (علي صالح ميراني)، هو باحث كوردي من مواليد منطقة ديريك في كوردستان سوريا عام (1975)، حصل على شهادة البكلوريوس في التاريخ من كلية الآداب جامعة دمشق عام (2000)، وحصل على شهادة الماجستير في التاريخ الحديث من جامعة دهوك سنة (2003)، وأخيراً حصل على الدكتوراه من جامعة دهوك قسم التاريخ عام (2013)، وحالياً يعمل استاذاً مساعداً في جامعة زاخو بكردستان العراق، له العديد من المؤلفات والدراسات والأبحاث التي أصدرها بشكل متتالٍ خلال العقدين المنصرمين، لعل أهمها هو كتابه الذي أصدره عام (2004)، بعنوان (الحركة القومية الكوردية في كوردستان- سوريا/ ١٩٤٦-١٩٧٠).
كما أن كتابه الأخير (تاريخ عشيرة ميران)، الذي بات الآن بين يدي القراء، يتناول بشكل منهجي تاريخ عشيرة ميران التي تتوزع في أجزاء كردستان الثلاثة الملحقة بكل من (سوريا والعراق وتركيا)، ويقف فيه المؤلف على دور هذه العشيرة الكردية العريقة من النواحي الاجتماعية والسياسية وغيرها، وبحسب ما يقوله المؤلف فإن هذه الدراسة: (تتبع الأنماط الرعوية للعشائر الكردية بصورة عامة، وعشيرة ميران على وجه الخصوص.. ص10)، وبالرغم من قلة المصادر التي تتناول هذا الموضوع، إلاّ أنه مع ذلك أنجز بحثه معتمداً على ما توفرت بين يديه من وثائق ومصادرو روايات المعمرين والأغاني الفولكلورية والمخزون التراثي المتوفر، فضلاً عن المعلومات التي يختزنها المؤلف بنفسه عن هذه العشيرة باعتباره أحد أفرادها.
يتناول المؤلف في الفصل الأول من كتابه، أصل عشيرة ميران، وأفخاذها ومراعيها، فيقول معتمداً على المختصين في هذا المجال: (إن عشيرة ميران تنحدر من الكرد المهرانية الذين برزوا بأدوارهم السياسية قبل قرون عدة.. ص17)، وحول مراعيها يقول: (مهما يكن من الأمر، يمكن ملاحظة ارتباط أبناء العشيرة الوثيق بالمراعي التي فرضوا عليها نفوذهم لقرون.. حيث شكلت سهول جزيرة بوتان وهضاب وان الحدود الشمالية لمراعي العشيرة، في حين كانت منطقة كسك وسنجار التابعة لولاية الموصل حدودها الجنوبية، وذلك بحسب المصادر التاريخية وشهادات الرحالة الذين زاروا المنطقة في الفترات المتقطعة.. ص28).
وفي الفصل الثاني يتناول النظام الاجتماعي في عشيرة ميران، ويبحث في عادات أبنائها وتقاليدهم ونمط حياتهم الرعوية، فيقول المؤلف: (من المؤكد أن ترحال أبناء العشيرة بين الحدود الطويلة نسبياً لم يكن ناتجاً عن ترف أو بذخ ما، بل كان أمراً تفرضه الظروف الخاصة بهم، بسبب ارتباط معيشتهم القاسية بتربية المواشي بالدرجة الأساس، إذ أن توفير الكلأ والماء لتلك القطعان الكبيرة كان يتطلب منهم الهجرة معظم أوقات العام، حيث وفرت طبيعة الشمال الأجواء الملائمة لمواشيهم في الصيف، فيما كان الجنوب مكاناً أكثر ملاءمة لقضاء الشتاء.. ص64).
وفي الفصل الثالث من هذا الكتاب يبحث المؤلف في التراث الشفوي لعشيرة ميران، حيث يقول المؤلف بأن: (الذاكرة الجمعية لأبناء العشيرة تتميز بأنها غنية بالإرث الثقافي الشفوي الكردي.. وبأنهم ينفردون باستخدام بعض الصفات والكنايات التي لا يعرفها غيرهم من أبناء العشائر المجاورة، إلى درجة يمكن القول بأن إتقان لهجة الميران، عد على الدوام أساساً للانتساب للعشيرة، ربما حتى أقوى من رابطة الدم ذاتها.. ص120).
والفصل الرابع يتناول المؤلف مهارات العمل عند أبناء هذه العشيرة، كمهنة الرعي والفلاحة وتصنيع الحليب ومشتقاته ونسج الصوف والجلود وغيرها، وفي الفصل الخامس يتناول تاريخها السياسي، وخاصة العلاقة بينها وبين أمراء بوتان وموقف الأمير يزدان شير منها، وانقسامها على نفسها، ويتناول في السادس تنامي نفوذها خلال (1884- 1902)، حيث يقول: (تحولت العشيرة إلى شبه إمارة محلية مرهوبة الجانب بسبب الانضباط الذي عرف به أبناء العشيرة، لا سيما بعد تحول زعيمهم إلى أبرز ضباط فرسان الحميدية.. ص12)، ويضيف المؤلف قائلاً: (شهدت العشيرة نهوضاً واضحاً على يد زعيمها مصطفى باشا بن تمر آغا، بل يمكن القول أنها أصبحت وريثة- نوعاً ما- لنفوذ وهيمنة إمارة بوتان المعروفة.. ص207)، ويتناول في هذا الفصل أيضاً مشاركة عشيرة ميران في أفواج (الفرسان الحميدية).
وفي الفصل السابع يتناول عشيرة ميران خلال (1902- 1926)، وأوضاعها بعد رحيل زعيمها وتسلم نجله لزمامها من بعده، حيث يقول المؤلف: (كان رحيل مصطفى باشا ضربة موجعة لعشيرة ميران وتراجعاً واضحاً لنفوذها، إذ أنه حظي بالاحترام في أعين أبناء عشيرته والذين باتوا رقماً صعباً في المنطقة وتخشاهم العشائر المجاورة، لاسيما أن مصطفى باشا كان قد أصبح قائمقاماً على جزيرة بوتان، وقام بتسجيل أملاك كل الأفخاذ بأسمائها، ولم يشترط تسجيل أملاك ومراعي العشيرة باسمه، وهذا هو السبب في وجود أكثرية سندات تمليك الأراضي والمراعي لدى العوائل التي تزعمت أفخاذها في عهده تحديداً.. ص228)، ويتناول كذلك تسلم نايف بك أمور العشيرة بعد رحيل أخيه عبد الكريم الذي كان قد استلمها بعد رحيل والده مصطفى باشا، فيقول المؤلف: (كما في القرون الماضية، فقد حافظت العشيرة على مرابعها خلال السنوات الأولى من قيادة نايف بك.. ص233)، والذي استقر به المقام أخيراً في جبل قرة جوخ، وكما يقول المؤلف: (فقد تحول هذا الجبل إلى مقر قيادة العشيرة إثر استقرار نايف بك في قرية شكر خاجي الواقعة خلفه.. وكان لاختياره لهذا الجبل دوافع أساسية، أبرزها كونه ضمن مراعي العشيرة منذ قرون، فضلاً عن أهميته من الناحية العسكرية والاستراتيجية.. ص239).
ويتناول المؤلف في الفصل الثامن علاقات عشيرة ميران مع العشائر المجاورة لها، فيقول: (على العموم تعد قبيلة شمر برئاسة آل جربا من أبرز القبائل العربية قرباً من عشيرة ميران الكردية، بسبب محاذاة أراضي العشيرتين جنباً إلى جنب، مع العلم أن قبيلة شمر هاجرت إلى المناطق الكردية بحدود عام 1800، وكانت قبل ذلك تقيم في نجد أولاً، ثم العراق فيما بعد.. ص246)، ويخصص المؤلف الفصل التاسع للحديث عن القرى الميرانية في الجانب العراقي من الحدود، إذ أن : (ترسيم الحدود بين كل من تركيا والعراق وسوريا، أدى دوراً مهماً في منع أبناء العشيرة من التنقل بين مراعيهم كما جرت العادة منذ أقدم العصور، والاستقرار بالدرجة الأساس على طرفي الحدود السورية العراقية في قسمها الكردي .. ص259 )، أما الفصل العاشر والأخير فهو يتناول قرى العشيرة في الجانب السوري من الحدود، حيث ينقل المؤلف عن لازارييف، قوله: (أن المصادر المختلفة تؤكد بأن المناطق الكردية في أقصى شرق سوريا، تعد امتداداً لمنطقة بوتان التاريخية من الناحيتين الجغرافية والتاريخية، إلاّ أن الكرد السوريين وجدوا أنفسهم عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية في بلد آخر، وأصبحوا واقعين تحت سيطرة أجنبية فرنسية.. ص279)، وفي الختام يقول المؤلف،: (إن هذه الدراسة هي فرصة للباحثين والقراء للتعمق في هذه النوعية من الدراسات لأجل إغنائها بالأفكار الجديدة مستقبلاً، إذ أن الهدف الرئيسي كان التركيز على تنمية وتطوير البحث العلمي قبل أي شيء، فضلاً عن رفد المكتبة الكردية بمادة مفيدة.. ص321)، كما أن قائمة الملاحق وكما يقول المؤلف نفسه، فهي: (تضم صوراً منشورة للقرى الميرانية، إلى جانب عدد من الوثائق العثمانية التي تنشر للمرة الأولى.. ص13).
الحقيقة أن الدكتور علي ميراني قدم في بحثه هذا، مشكوراً، معلومات تاريخية قيمة حول هذه العشيرة الكردية التي تنتشر منذ آلاف السنين على رقعة جغرافية واسعة تمتد من هضاب وان إلى جبل سنجار، حيث قسمت اتفاقية سايكس بيكو، مطلع القرن العشرين، أبناء هذه العشيرة ومناطق نفوذها بين حدود (تركيا وسوريا والعراق)، وبذلك يعتبر الكتاب وثيقة هامة بيد الباحثين والمهتمين بهذا الشأن، تجزم حقيقة الوجود الكردي التاريخي في المنطقة عموماً، وتؤكد هذا الوجود ميدانياً في شمال شرق سوريا بشكل خاص، ولايقلل من قيمة الكتاب الأخطاء المطبعية واللغوية الكثيرة التي أساءت كثيراً لصورة الكتاب لدى القارئ، والتي كان يمكن تجاوزها بسهولة لو تم عرضه على مدقق لغوي قبل الإسراع في نشره.
السليمانية 7/4/2021