منذ قرن، في العام 1916، عقدت اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا لتقاسم تركة الدولة العثمانية المنهارة في الحرب العالمية الاولى. وقد ثارت ضجة واسعة حولها عندما تسربت تفاصيلها عقب وصول البلاشفة للسلطة في روسيا في اكتوبر 1917. لكن الاتفاقية لم تنفذ بل كانت احد المسودات لاتفاقيات متتالية، واهمها معاهدة سيفر 1920 التي اعادت رسم الخرائط من جديد بين الدولتين المنتصرتين في الحرب. كما أقر مجلس عصبة الأمم في العام 1922 وثائق الانتداب على الدول المقامة. ثم جائت اتفاقية لوزان عام 1923 كنتيجة لانتصار اتاتورك في “حرب الاستقلال التركية” واسترداد العديد من المناطق، التي كانت الدولتان ستقيم فيهما دولا متعددة لتفكيك الدولة العثمانية، لترسم الحدود النهائية للدولة التركية ودول الشرق الاوسط واليونان وبلغاريا.
لكن رغم قبر الاستعمار العالمي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بعد ثورات الشعوب التي تكونت في حدود الدول التي انشأت، وتم الاعتراف باستقلالها في حدودها الراهنة من قبل الامم المتحدة التي لعبت دورا مهما في انهاء الاستعمار، رغم ذلك فإن نخب شرق اوسطية لا تزال ترى ان كل ما يحدث في البلدان المستقلة التي نشأت في المنطقة هو من تخطيط القوى الخارجية استكمالا لاتفاقية سايكس بيكو، التي لم تنفذ اصلا. فالدول العظمى “الشريرة” قوة كلية القدرة، تتآمر “علينا” بشكل دائم، وتخطط لمنع توحدنا وتقدمنا، وتفتيت دولنا ومجتمعاتنا اكثر مما هي مفتتة، ونهب ثرواتنا وتدمير ثقافتنا وعاداتنا القديمة وديننا!.. فلو تركنا وحدنا لتقدمنا وتوحدنا واعدنا ازدهارنا التاريخي يوم كان العرب والاسلام يصدرون الحضارة للعالم!
اتفاقية سايكس بيكو، ولدت لدى النخب القومية العربية “مظلومية” معروفة لدى اطباء النفس ب «البارانويا» عقدة الشعور بالاضطهاد. اصبحت الاتفاقية اساس ل”مظلومية عربية” تتباكى على تاريخ كان فيه من يتكلمون العربية موحدين في دولة واحدة، رغم ان ذلك لم يحدث في التاريخ في اي وقت من الاوقات، فالامبراطوريات التي قامت فيها كانت “اسلامية” تضم عشرات الشعوب من قوميات متعددة، كما قادها في عهود متتالية قادة من قوميات مختلفة. وحتى لو كان هناك في فترات محدودة غلبة للعنصر العربي فان ذلك لم يستمر طويلا ولم يشمل كل ما يسميه القوميون العرب “الوطن العربي” كما يرسمون له خريطة حاليا ليشمل الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وهو ليس اساس كاف لمطالباتهم بتوحده من جديد.
وتفضل النخب الاسلامية عموما ان توسع “المظلومية” لتتجاوز مؤامرة سايكس بيكو الى اعتبار ان العالم يتآمر على المسلمين في كل دولهم، لتفسر الصراع العالمي بانه تكتل الغرب لمحاربة الاسلام كديانة وكامة “متخيلة”، وقد يسمى البعض ذلك حربا صليبية مستمرة، رغم الحريات الواسعة التي يتمتع بها المسلمون في الدول الغربية، التي يكاد لا يتوفر مثيل لها في بلدانهم. ولا ننسى الفرع الشيعي من المظلومية الاسلامية المستمر في جلد الذات منذ مقتل الحسين من 14 قرنا مضت، والذي يسعى من خلال النظام الايراني وملحقاته، للثأر ممن يرى انهم ورثة يزيد بن معاوية بن ابي سفيان!
وفي الطرف المقابل نشأت نتيجة اتفاقية سايكس بيكو غير المنفذة، والمعاهدات التي تلتها ورسمت حدود المنطقة، “مظلومية” اخرى لنخب كردية، تتمسك بمعاهدة سيفر غير المنفذة وترفض معاهدة لوزان الاقرب للاوضاع التي آلت اليها حدود الدول القائمة حاليا، لتدعي ان الدول العظمى ظلمتها ولم تقم لها دولتها الخاصة التي سمتها “كردستان”، بالاعتماد على احداث مجتزأة من تاريخ المنطقة القديم. علما بأن”الإعلان العالمي لحقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية أو ثقافية أو دينية” الصادر عام 1992عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد على حقوق الأقليات بحماية وتطوير هويتها ولغتها وثقافتها وحقها في المشاركة في إدارة مناطقها، ومسؤولية الدولة في رعاية وتطوير هذه الحقوق، ودور المجتمع الدولي في منع تعرضها لانتهاكات خطيرة تمس حقوقها ومصالحها الأساسية.
“المظلومية التاريخية” السائدة في برامج نخب شرق اوسطية ينتظم فيها قوميون وإسلاميون، مرض ابتليت به النخب منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى واستعمار المنطقة من قبل بريطانيا وفرنسا، اللتين ادارتا دولها بين الحربين العالميتين، قبل ان تستقل وتحكمها نخب محلية ابتعدت عن التحليل الموضوعي للوقائع الراهنة ودوافعها الحقيقية والعوامل التي ادت اليها ونتائجها. وهربت من مواجهتها نحو نصوص تاريخية مجتزأة ومحدودة وبعضها متخيلة او مضخمة ومغالى في اهميتها، للاسترشاد بها في القرن ال 21 الذي تجاوز كل ما نعرفه من التاريخ عن الانسان وحقوقه وطبيعة حياته وعلاقات افراده ببعض.
الضرر الذي أحدثه تبني المظلوميات التاريخية ترك المواطنين حائرين، بين انتماء قومي او ديني خيالي “لأمة واحدة”، وبين انتماء لدولة يحملون جنسيتها ولكنها مرفوضة من القوميين والاسلاميين بصفتها ثمرة تجزئة اصطناعية، علما بأن “الاصطناع” في إقامة الدول يشمل معظم دول العالم، وكل “اصطناعي” يصبح مع مضي الزمن طبيعياً، فلمفاعل الزمن تأثير كبيرعلى واقع الدول.
يسعى القوميون والاسلاميون خلف أوهام أيديولوجية لتقويض “الدول” القائمة. وكنتيجة لضياع الانتماء فإن الدول القائمة حاليا مهزوزة، تبقى موحدة ب”سلطة” الدولة الاستبدادية الامنية التي تستمر بالقمع بدون توافق بين مواطنيها، وعند انهيارها تتحلل مكوناتها الغير مندمجة إلى العشائرية والطائفية والإثنية. فيما الأقدر على إبقائها موحدة الديمقراطية، وبناء توافقات دستورية للتعايش المشترك، والتركيز على الهوية الخاصة بالدولة ضمن حدودها الراهنة، حيث الانتماء والمواطنة يحددهما القانون والجنسية وليس اللغة أو الطائفة.
الدول المتخلفة اجمالا شعوب ماضوية تنزلق نخبها لحوارات وصراعات عقيمة حول التاريخ الماضي منذ قرون على حساب الحاضر والمستقبل، وتغمض العين عن الوقائع العالمية الحداثية الراهنة التي لا يمكن معارضتها بمفاهيم وقيم تراثية أو ثقافية قديمة. العديد من النخب العربية والكردية والاسلامية عموما، التي يقع عليها العبء الأكبر في وضع الحلول للمسائل الشائكة، ما زال تفكيرها وأهدافها وثقافتها ووسائلها وخياراتها وأولوياتها، متعلقة بتاريخ وشعارات واهداف عفا عليها الزمن، مما جعل بلدانها في مؤخرة الركب العالمي.
الهوة الشاسعة بيننا وبين العالم إذا لم نضيقها، نخاطر بمصير شعوبنا وبالمزيد من المآسي والكوارث والهزائم، وهدر الوقت والطاقات وراء أهداف تجاوزها الزمن، وخاصة وراء شعارات وصراعات الهوية والانتماء التاريخي القديم. فالاولوية لوضع شعوبنا على طريق نهضة حقيقية، تنهي الاستبداد وتؤمن الانتقال للديمقراطية التي تحشد جهود كافة المواطنين بصرف النظر عن دياناتهم واصلهم القومي، لمواجهة التخلف واللحاق بالعصر. وهو الطريق الأهم لإعادة كافة المواطنين للمشاركة في القرار والفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبالتالي المشاركة في البناء والتنمية.
المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والتنمية المتوازنة والعادلة، هي الوصفة الناجعة للحاق بالمسيرة الانسانية. الدول التي تجاوزت مخلفات التاريخ تقف حاليا على رأس الدول الناجحة والتي تتمتع شعوبها بالتقدم والرقي والحرية والحداثة. فيما التمسك بالتاريخ القديم وصفة ناجعة للتخلف والكوارث الناجمة عن صراعات وحروب ودمار وقتل لا نهاية له.
بناء الدول في حدودها الوطنية الحالية لا تمنع مستقبلاً من الانتقال إلى اتحادات أوسع. ليس المهم أن تتم عندها على أساس الهوية القومية، بل يمكن أن تضم قوميات متعددة ومتجاورة، والتجربة الأوروبية أكبر دليل، فبعد مجازر وحروب كان آخرها كارثة الحرب العالمية الثانية، تخطت الدول الاوروبية الحدود والهوية القومية والتاريخ القديم لتنشئ اتحادها الذي يقف في مقدمة الحضارة الانسانية. واميركا مثال آخر للدول المتعددة الاثنيات والقوميات والديانات التي توحدها المواطنة الاميركية، فيما تنوعها عاملا مهما في جعلها على رأس الدول المتقدمة في العالم.
هل نتعظ ؟
ام نستمر في صراعاتنا من اجل الهويات المتخيلة، واستعادة التاريخ القديم، واوهام الدول القومية والدينية ؟
جورج كتن – نيسان 2016