كيفورك خاتون وانيس
ثمة حقيقة تاريخية لا تقبل التشكيك أو الجدل هي أن كل أنظمة الحكم التي أُسقطت كانت تستحق ذلك، لا بل في حالات كثيرة تأخر إسقاطها؛ فقد كانت أنظمة استبدادية قمعية لا يتسع المجال هنا لذكر ممارساتها الشنيعة في كل المجالات، هذا علاوة على أنها باتت معروفة للقاصي والداني.
لكن ثمة حقيقة أخرى وهي أن الأنظمة التي حلت محلها لم تكن أقل سوءاً في إدارة البلاد اقتصاديا وسياسياً !
فالتاريخ، الشاهد الأصدق، يتناول الأثنان بذات الموضوعية. إذ أنه يذكر بأن الثورة الروسية على آل رومانوف كانت مستحقة ومشروعة لكنه في ذات الوقت لا يغفل عن ذكر معاناة الناس في حقبة حكم البلاشفة التي لم تكن أقل قسوة من معاناتهم تحت حكم القياصرة الروس.
أما الثورة الكوبية فقد بات التاريخ يشعر بالخجل وهو يصفها بالثورة الشعبية رغم أحقيتها في اسقاط حكم الجنرال باتيستا، إذ أن حكامها الجدد لم يتوقفوا عند تحويل كوبا إلى دولة شمولية ( حكم الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع) بل حولوها إلى حكم عائلي بامتياز!
ولا ينسى التاريخ أن يعرج على الشرق الحنون المجنون ليقدم لنا أغرب صفحة وأقسى تجربة تغيير؛ ألا وهي إسقاط شاه إيران واستبداله بنظام حكم لا مثيل له سوى في القرون الوسطى الأوروبية.
إذا كانت هذه هي مآلات أشهر ثورات القرن العشرين التي تغنى بها الملايين ولا يزال، فإن مآلات ثورات القرن الحادي والعشرين لم تكن أفضل، حيث أنها لم تنتقل من حكم شمولي إلى آخر بل إلى حالة أخطر، فقد تحولت في بعضها إلى حروب أهلية تنذر بتمزيق النسيج المجتمعي وتهديد كيان الدولة بأكملها.
طالما أن التاريخ يعجز عن تقديم نموذج ناجح عن أنظمة حكم وصلت إلى السلطة عن طريق التغيير الجذري العنيف (الانقلاب أو الثورة) رغم أحقية ومشروعية التغيير، لا بد عندها من سؤال محوري عن مكمن الخلل وعن إمكانية تفاديه أو معالجته. أم أن كلتا طريقتي التغيير تحملان في جيناتهما شيفرات القمع والاستبداد والتفرد بالسلطة وإقصاء كل من لا ينضوي تحت عباءة السلطة الجديدة؟
المراقب لمسيرة الأنظمة التي وصلت إلى السلطة عن طريق العنف (الانقلاب أو الثورة) يلاحظ بأنها تتوقف عند الهدف (الإسقاط) وتهمل الغاية (البناء)؛ بل ترفض مشاركة شخصيات أو منظمات معارضة، كان لها تاريخ عظيم في مقارعة النظام السابق، في الإدارة الجديدة (وهو مؤشر خطير، إذ أن خطوة كهذه لا تقبل التبرير بكل المقاييس) وتمنح نفسها السلطة المطلقة اعتماداً على ما يُعرف بالشرعية الثورية، واعدين الشعب بأنها فترة مؤقتة أو انتقالية، فيباشرون بتثبيت أركان سلطتهم تارة باستخدام أسلوب التخويف من فراغ السلطة، وتارة أخرى باستحضار جرائم وممارسات العهد السابق كلما دعت الحاجة، بالإضافة إلى تخوين كل رأي مخالف أو انتقاد (وكأن النقد سيعطلهم عن البناء!) وإسكاته بمختلف الوسائل اللاإنسانية طبعاً.
وبسؤال التاريخ عما إذا كان يتضمن بعض الصفحات عن تجارب ناجحة لدول أدى تغيير منظومة الحكم فيها إلى سلطة أفضل من سابقتها، يقدم لنا فصلان، واحدة عن تجارب التغيير الناجحة في دول النادي الديمقراطي الغربي، وأخرى عن تجارب ما عرفت بالكتلة الشرقية في فترة الحرب الباردة أو ما وراء الستار الحديدي. والتجربتان اتبعتا أسلوب التغيير التدريجي المتوازي في جهاز الدولة والمجتمع!
عند وضع هذه التجارب إلى جانب التجارب الفاشلة يمكن تمييز نقطيتين هامتين: تشترك التجارب المريرة في أن معظمها عقائدية أو إيديولوجية، كما أنها جميعاً اعتمدت على ما يسمى بالعنف الثوري في التغيير، لا بل الاستمرار في استخدامه ليس فقط لفترة قصيرة بعد زوال النظام السابق (ليس فقط ضد خصومهم من بقايا العهد السابق بل فيما بينهم أيضاً) بل طيلة فترة حكمها، وإعلائهم من شأن الشرعية الثورية فوق الدستور والقانون وصناديق الاقتراع!
لكن هناك حقيقة أخرى لا يصح القفز فوقها أو إنكارها خاصة من قبلنا نحن أبناء الدول التي حُكمت بأنظمة ديكتاتورية، وهي أن تغيير هذه الأنظمة أو أقله إصلاحها يستحيل إنجازه بطرق سياسية أو سلمية؛ فالأحزاب محظورة (إلا تلك التي تنضوي تحت عباءة السلطة)، والاحتجاجات أو المظاهرات الشعبية ممنوعة، ولا وجود لمنظمات المجتمع المدني.
لكن هذه الحقيقة تحفز سؤالاً هاماً: إلى أي مدى يمكن إعفاؤنا نحن الشعوب بشكل عام من مسؤولية صناعة الطغاة مرة بعد أخرى، ووصول الدولة إلى حالة الاستعصاء والاضطرار إلى الحل العنيف الذي يعيد إنتاج حالة لا تقل سوءاً؟
كل ما ذكر من حقائق تظهر بأن السكوت عن ممارسات السلطة الجديدة أو تبريرها، كما أن تمجيدها وتعظيمها تزلفاً وسعياً وراء مكاسب شخصية ضيقة، ما هي إلا مساهمات من قبل المحكومين في بناء أصنام جديدة، وتأجيل لحالة صدام عنيفة سيكون الشعب الخاسر الوحيد فيها.
أخيراً وليس آخراً، لا يمكن لأي مجموعة وصلت إلى السلطة بإحدى الطريقتين المذكورتين أن تستمر في الحكم طويلاً (مهما امتلكت من الأدوات) بالاعتماد على العنف فقط، فالاستبداد لا يدوم إلا بتلازم شرطين: الإخضاع (عنف السلطة) والخضوع (الولاء المطلق)!