الكابينة العاشرة: نحو حكومة موحدة ومتماسكة وبرلمان قوي

شارك هذا المقال:

د. سربست نبي

أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة كويه

تمّت انتخابات برلمان إقليم كردستان الأخيرة في ظلّ تحديات داخلية وعراقية وإقليمية غاية في التعقيد والحساسية، تتعلق بمصالح الإقليم ومستقبله. كان التنافس الحزبي الحادّ هو السمة البارزة التي طبعت هذه الانتخابات بطابعها وخيّمت على الواقع الاجتماعي وأوجدت انقساماً مجتمعياً عارضاً. وللوهلة الأولى بدا هذا الانقسام الصاخب تهديداً بعواقب خطيرة، مما خلق توجساً وخوفاً لدى المراقبين من أن الانتخابات لن تنتهي بسلام. حيث اتخذت الدعاية الانتخابية لدى عدد غير قليل من المرشحين، وحتى القوائم الانتخابية المتنافسة أشكالاً استعراضية منحرفة ومتطرفة في أوقات كثيرة، مستعيرة لغة تهديد كيدية واتهامية خارجة عن أيّ اجماع قومي أو مجتمعي، وصلت إلى حدّ الابتذال في بعض الأحيان، وشهدت ممارسات فعلية وصلت إلى حدّ الاعتداءات الجسدية والمادية.

وبخلاف كلّ تلك الهواجس ومشاعر الترقب تمّت الانتخابات في ظلّ أجواء إيجابية للغاية، وشارك الناخبون في الإقليم بحماسة عالية وبحسّ رفيع بالمسؤولية القومية والمجتمعية. وهذه الحماسة تؤشر على وعي عميق لدى مواطني الإقليم بحجم المخاطر السياسية والتحديات، التي مرّ بها الإقليم طوال السنوات السابقة، وعلى استعدادهم وتوجسهم لمواجهة تحديات أشدّ في السنوات القادمة. الأمر الذي يستوجب على أيّة حكومة عتيدة مقبلة أن تأخذ هذه الهواجس بجدّية حتى تحظى بثقة المواطنين وتشكّل منصة صلبة لرهانهم القومي والوطني.

بخلاف الكثير من التوقعات، التي كانت تراهن على تنامي السخط الداخلي والتذمر لدى المواطنين بسبب الأزمات الاقتصادية والمعيشية وحدوث تحوّل جذري في اتجاهات الرأي العام لدى الناخبين، جاءت نتائج مطابقة تقريباً للانقسامات الاجتماعية في القاعدة الحزبية المعهودة، وكأن هذه النتائج قد أعدّت بصورة مسبقة كي تحافظ على حالة الاستقرار والثبات المجتمعي في الإقليم وتحول دون أي إخلال بحالة التوازن القائمة منذ عقد ونصف من الزمن.

  • الإطار السياسي والإقليمي:

منذ استفتاء الإقليم عام ٢٠١٧م حدث خلل بنيوي في مكانة الإقليم ودوره، صاحب ذلك أزمات اقتصادية ومعيشية، نتيجة الخلافات مع الحكومة المركزية، فضلاً عن شيوع حالة من الفساد الإداري والخلل الوظيفي في المؤسسات الحكومية وما ترتب على ذلك من نقص للخدمات العمومية، ناخت جميعها بثقلها على كاهل المواطنين، وجعلت الكابينة التاسعة برئاسة السيد مسرور البارزاني في مواجهة صعوبات وتحديات داخلية وعراقية جمّة، لم يكن من السهل تخطيها دون ضريبة باهظة من استقرار الإقليم وأمنه، إلا أن هذه الحكومة تخطت عنق الزجاجة. ولعل إنجاز الانتخابات البرلمانية الأخيرة على هذا النحو، رغم المماطلات التي حدثت وتأجيلها، يعدّ انجازاً قومياً يستحق الإشادة به.

عمدت الحكومة المركزية، طوال الفترة السابقة، التي يهمين عليها أحزاب عقائدية تتبع أجندة إقليمية، إلى محاصرة الإقليم والحدّ من مكانته وحقوقه الدستورية وإضعافه بشتى السبل. فقد تواطأت بعمق مع الأجندة الإيرانية والتركية، بعد الاستفتاء، بغرض تجويف النظام الفيدرالي وتهميشه، وصولاً إلى جعل الكيان الفيدرالي لإقليم كردستان هيكلاً فارغاً مجرداً من حقوقه الدستورية وهويته. ومن هذا المنطلق راحت تتخذ من المحكمة الاتحادية، التي يهمين عليها شخصيات غير مستقلة منصة لتمرير الأجندة والمكائد السياسية ضد الإقليم عبر إصدار سلسلة قرارات عسفية وجائرة ليست بريئة من دوافعها السياسية.

كان محتملاً أن تفضي تلك التدابير السياسية إلى تقويض مكانة الإقليم ووجوده، لو استمرت بتلك الوتيرة والتعاون بين الأقطاب الثلاثة، في ظلّ سياسة لامبالاة ومداهنات أمريكية وأوروبية للسياسات الإيرانية والتركية في العراق والمنطقة، لولا حدوث متغير إقليمي، غير متوقع، عصفت بالمنطقة وأيقظت لدى مراكز القرار الدولي مخاوفها وهواجسها المعلقة من المخاطر المحدقة بمصالحها في المنطقة.

في أكتوبر ٢٠٢٣ أقدمت حركة حماس على مغامرة، يصح القول عنها الآن بأنها كانت انتحارية تماماً،  بحق مدنيين إسرائيليين في محيط قطاع غزة، كانت نتيجتها مقتل أكثر ١٢٠٠ شخص واختطاف المئات من المواطنين الإسرائيليين والأجانب. بدا النصر السريع والخاطف للوهلة الأولى باهراً بالنسبة لمؤيدي حماس ومناصري ما يسمى( محور المقاومة)، الذين اعتقدوا تحت نشوة الانتصار بأن إسرائيل هي( أوهن من بيت العنكبوت) وأن سحقها وزوالها بات أقرب منالاً كما صرح المرشد الإيراني خامنئي. و هكذا راح الطرف الإيراني يغذّي الموقف بشعارات الدعم والمساندة وبأن تحرير القدس على يد مجاهدي محور المقاومة بات قريباً، وأوعز للفصائل الموالية، العراقية واليمنية وفي مقدمتها حزب الله اللبناني بضرورة الاستعداد للمعركة الكبرى الفاصلة، في الوقت، الذي انخرطت فيه الدبلوماسية الإيرانية بنشاط ومكر، خلف المكاتب المغلقة، في التفاوض حول المعطيات الجديدة الناشئة عن مغامرة حماس، بغرض تعزيز مكاسبها الدبلوماسية إقليمياً ودولياً، وخدمة لأجندتها العسكرية في تطوير برنامجها النووي.

بدا العالم الغربي مصدوماً من نتائج تلك المغامرة، التي أقدم عليها متطرفو حماس و الرؤوس الحامية في الحركة، وهذا يفسّر تجاهلهم للعواقب الكارثية لحجم الردّ الإسرائيلي وقسوته، وتفهمهم للانتقام الإسرائيلي بداية. بموازاة ذلك نشأت هالة كبيرة من الشك حول الدور الإيراني في تحريض حماس للإقدام على تلك العملية ودعمها لوجستياً، وأخذت وسائل الإعلام الغربية والعربية توجّه أصابع الاتهام صراحة إلى تورط إيراني في العملية.

لم يكن أحد من مؤيدي حماس وصناع القرار فيها يتوقعون حجم وقوة ردة الفعل الإسرائيلي على تلك العملية، ويبدو لنا إن نهم قادة حماس والمحور الإيراني إلى إنجاز نصر سياسي دعائي على إسرائيل دفعهم إلى ابتلاع انتصار فاق توقعاتهم. وأكاد أقول إن حماس اختنقت بتلك الوجبة الكبيرة من الانتصار حتى أنها عجزت عن هضمها أو تقيؤها. الأرقام التالية تترجم حجم ردّة الفعل الإسرائيلية حتى هذه اللحظة، تدمير ٩٣٪ من البنية التحتية لغزة، تدمير ٨٦٪ من المرافق الصحية، التدمير الشامل لـ٧٠ ٪ من المباني، عدد الضحايا القتلى تخطى ٤٥ ألف بينهم قرابة ٢٠ ألف من مقاتلي حماس، الإصابات والجرحى ١٠٠ ألف. عدد قتلى الجنود الإسرائيليين قرابة ٨٠٠، مليونا نازح.

كان متوقعاً أن تزجّ إيران بقوات حزب الله اللبناني في معركة حماس لإطالة أمد المعركة تحقيقاً لأهدافها الأمنية والاستراتيجية، وقد عمدت الحكومة الإيرانية طوال تلك الفترة إلى النأي بنفسها عن الانخراط المباشر في المواجهة، تحت شعار( الصبر الاستراتيجي)، بهدف استغلال الوقت لتطوير مشروعها النووي و صولاً لإنتاج القنبلة النووية الإيرانية الرادعة، باستثناء مناوشات صاروخية اتخذت طابع الكرنفالات والألعاب النارية، لم تخلّف ضرراً يستحق الذكر في الجانب الإسرائيلي.

بدوره كان الرئيس التركي المولع باستعراض وصايته على دنيا الإسلام والمسلمين غير بعيد عن استغلال محنة غزة والصراع الدائر بين حماس وإسرائيل، وراح يطلق الإدانات الصارخة بحق ممارسات نتنياهو ويتباكى على الضحايا، معتبراً قصف الطيران الإسرائيلي لغزة وتدمير البنى التحتية فيها جرائم حرب دولية. في الوقت نفسه كان طيرانه يقصف، دون هوادة، البنى التحتية والمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء في غرب كردستان ويتسبب بقتل وجرح عشرات المدنيين دون رادع، فضلاً عن القصف اليومي للقرى والقصبات في جنوب كردستان وتهجير سكانها. هذه الازدواجية سمة ثابتة تطبع جميع مواقف أردوغان وممارساته السياسية الوصولية، التي من خلالها يحاول أن يقتنص مكاسب سياسية ودبلوماسية ويستثمر في الأزمات والمآسي الإنسانية.

فشل أردوغان في تحقيق نجاح سياسي أو مكسب دبلوماسي ملموس في هذا السياق وعجز عن لعب دور مؤثر في هذا النزاع رغم صراخه المفرط في ادعاء الوصاية على القدس والقضية الفلسطينية، وأخفق في منافسة الدور الإيراني على هذا الصعيد، لعدم ثقة أطراف النزاع بادعاءاته ومزاعمه. والمفارقة تكمن في أن حجم التبادلات التجارية والتعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل لم تتأثر سلباً خلال هذه المرحلة بل تنامت، ولم تكف قوافل الإمداد الغذائية واللوجستية التركية عن الوصول بحراً إلى ميناء حيفا يومياً بصورة أشدّ كثافة، فضلاً عن الغاز الأذري، المصدر الرئيس للطاقة في إسرائيل، والمار عبر الأراضي التركية.

لم يكترث نتنياهو لصراخ أردوغان كثيراً ولم يلق بالاً لإداناته اليومية، بل تعاطى معها بنوع من السخرية والازدراء. ففي الوقت الذي كانت طائراته تلقي حمم قذائفها على غزة والضاحية الجنوبية في بيروت وتلحق دماراً شاملاً بهما كانت عيناه ترنوان بعيداً نحو طهران محاولاً توريطها في حرب شاملة ومفتوحة، كان الهدف منها هو استدراج واشنطن إلى معركة إسرائيل ضد النظام الإيراني، وبالتالي إيجاد الفرصة المناسبة أو الذريعة لتدمير المشروع النووي الإيراني بصورة نهائية والقضاء على احتمالات إعادة بنائه مستقبلاً، كما حدث في العراق. إن تكرار سيناريو عملية( أوبرا ) المعروفة أيضًا باسم عملية بابل، التي نُفذت في 7 يونيو 1981، وأسفرت عن تدمير مفاعل نووي عراقي من قبل الطائرات الإسرائيلية كان الغاية القصوى، التي يطمح إلى تحقيقيها نتنياهو من وراء هذه الحرب. وبالتالي القضاء على احتمال أن تصبح إيران قوّة نووية إقليمية منافسة للنفوذ الجيوسياسي الإسرائيلي في المنطقة. كان الإيرانيون على دراية تامّة بنوايا نتنياهو هذه ولهذا تحلّوا بانضباط شديد، ولم يرغبوا في الوقوع في الفخ الذي نصبه لهم نتنياهو، الذي كان من شأنه أن يضعهم في مواجهة عسكرية، مباشرة وغير مرغوبة، مع الولايات المتحدة. ولهذا دسّ الإيرانيون رؤوسهم في رمال( الصبر الاستراتيجي) وانصرفوا إلى تطوير برنامجهم النووي بهدوء وسرّية، رغبة منهم في تجنب أية معركة تفرض عليهم قبل امتلاكهم القنبلة الذرية. وبموازاة هذا الموقف تكهن الإيرانيون قبل الجميع بفوز ترامب وقدومه إلى البيت الأبيض ثانية، ولهذا أعدّوا أنفسهم لمواجهة مثل هذا السيناريو بعد تحطم مروحية رئيسي، وراحت الدبلوماسية الإيرانية تنتحل لغة جديدة، مرنة ومداهنة، اتجاه الولايات المتحدة منذ فوز بزشكيان.

كان الهدف المباشر لحروب نتنياهو هو القضاء على النفوذ الإيراني في غزة ولبنان وسوريا واضعافه إلى أقصى حدّ في العراق، وفي ضوء هذا الاحتمال علينا أن نتوقع أن يصبح العراق البؤرة الرئيسية للصراع القادم بين النفوذ الأمريكي والإيراني، فضلاً عن كونه هدفاً مرجحاً بشدّة للضربات الإسرائيلية في المرحلة القادمة ضد الفصائل المسلحة الموالية لإيران. أما الهدف الأبعد والنهائي لها فيتمثل في التغيير الشامل لقواعد النزاع العربي الإسرائيلي، التي ترسخت منذ عام ١٩٤٨، الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى تأسيس نظام إقليمي جديد يضمن أمن إسرائيل والتطبيع الشامل معها في محيطها الإقليمي. وهذا النظام الجديد يقوم على مبدأ جوهري خلاصته، ليس فقط انتزاع حق إعلان الحرب من أعداء إسرائيل الفعليين والمحتملين، إنما أبعد من ذلك انتزاع حتى حق التهديد أو التلويح بإعلان الحرب عليها، هذا ما صرّح به نتنياهو عشية إعلان وقف الحرب في لبنان، قائلاً: نحن نغيّر وجه الشرق الأوسط الآن.

إن أيّة حكومة مقبلة للإقليم ستواجه هذه المتغيرات ونتائجها يتعين عليها أن تراعي في سياساتها الداخلية والخارجية انعكاسات مثل هذه التحولات الجيوسياسية النوعية في محيطها الإقليمي، وتأخذ بالحسبان هذه المتغيرات المحتملة:

  • تقارب إيراني أمريكي يفضي إلى إقامة علاقات طبيعية. وكذلك تصاعد الاحتجاجات الشعبية مجدداً، بصورة أشدّ، في إيران.
  • توجيه ضربات إسرائيلية قاسية للميليشيات والفصائل المسلحة الموالية لإيران.
  • مناورات ومحاولات انفتاح أخيرة من قبل أردوغان للانفتاح على القضية الكردية في شمال كردستان. وكذلك في حالة تراخي الموقف الأمريكي إقدام أردوغان على عملية عسكرية أخرى بدعم من ميليشيات المعارضة السورية المرتزقة لغرب كردستان وصولاً إلى الحدود الغربية للإقليم.
  • ضعف نظام بشار الأسد إلى أقصى حدّ، حدّ الانهيار، وتفكك سلطة النظام على بقية الجغرافية السورية، وظهور بوادر اندلاع حرب أهلية مجدداً.
  • ثمة مؤشرات حقيقية على صعود النجم الكردي في سماء السياسية العالمية والإقليمية وتنامي الأهمية الديموغرافية للقومية الكردية في الشرق الأوسط، علاوة على الأهمية الجيوسياسية لجنوب كردستان وغربها، ولهذا نتوقع أن تكتسب القضية الكردية في الأجزاء الأخرى زخماً سياسياً وإنسانياً لدى صناع القرار العالمي وعلى مستوى المجتمعات المتحضرة. ولم يكن تصريح وزير الخارجية الإسرائيلية جدعون ساعر حول ضرورة التحالف مع الكرد مجرد فزّاعة إعلامية لإثارة مخاوف وأرق النظام الإيراني والتركي والسوري…الخ

– التحدّيات الداخلية والاستحقاقات:

لم تفرض نتائج الانتخابات الأخيرة وضعاً فريداً في الإقليم ولم تنبثق عنها لوحة سياسية جديدة، حيث جاءت متوافقة تقريباً مع نتائج الدورات السابقة، وبرهنت مجدداً على قوة ونفوذ الحزبين الرئيسيين( الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني) في تقاسم أصوات الناخبين، المتغير الوحيد تمثل في تراجع نفوذ حركة( التغيير) إلى الحدّ الأدنى، التي كانت تستحوذ عادة على أصوات الساخطين على إدارة الحزبين للحكم، بينما احتلت حركة( الجيل الجديد) مكان الأخيرة وحصلت على اصوات الكتلة الانتخابية الثالثة بفارق فاق التوقعات.

برهنت التجارب السابقة للديمقراطية الكردية الهشّة على أن سياسة التوافقات الحزبية القائمة على المحاصصة وضمان امتيازات الحزبين الرئيسين وإن كانت تحقق نوعاً من الاستقرار والأمان الرخو، إلا أنها غالباً ما راكمت أخطاء تأصلت في الإدارة والمؤسسات، وعطلت أيّ إصلاح إداري أو تقدّم من شأنه أن يحقق وحدة تنظيمية وإدارية في مؤسسات الإقليم ووزاراته، على العكس من ذلك قادت تلك السياسة إلى تكريس واقع انقسامي منحرف ومشوّه طبع هوّية الإقليم بطابعه، ليس على المستوى الإداري فحسب، إنما أيضاً حتى على المستوى السياسي والمجتمعي وحتى الثقافي. وبالنتيجة لم تعدّ هناك سياسة قومية موحدة أو سياسة ثقافية في الهويّة… الخ وأصبحت التكتيكات السياسية الحزبية لدى كل طرف بمثابة استراتيجية قومية شاملة لكل الإقليم.

وهكذا حالت سياسة التوافقات دون نشوء حكومة قوية موحدة ببرنامج وخطاب قوميين. وعوضاً عن ذلك نشأت سلطة أوليغارشية حزبية محلية، كان من مصلحتها ديمومة هذا الموقف، كرّست بقاءها على أساس ولاءات لم تكن في أوقات كثيرة بمنأى عن الأجندة الإقليمية.

فضلاً عما سبق، أفضى هذا الوضع إلى تهميش دور البرلمان و واجباته في التشريع ومراقبة أداء المؤسسات الحكومية في الإقليم، بسبب تغول المؤسسة الحزبية وهيمنتها على البرلمان، الذي كان ينبغي أن يكون الخندق الأخير لقوة الإقليم وشرعيته الدستورية. مما شجع القوى السياسية النافذة في المركز على توجيه دفة المحكمة الاتحادية لتقويض صلاحياته وقراراته التي تعبّر عن الإرادة العامة للإقليم، وسعت إلى تقزيم مكانته كي يكون على مقاس المجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي في زمن الاستبداد البعثي.

بوجه عام، فإن تعقيدات القضية الكردية وأبعادها قد تجعل من المحال إمكان نشوء حكومة قومية للإقليم، قوية ومستقلة، بمعزل عن عن التوافقات الإقليمية، إلا أن تعبيد الطريق لتأسيسها لايبدو كذلك، بشرط واحد هو الابتعاد عن نهج التوافقات الحزبية ومنطق المحاصصة. فالمطلوب الآن وفي المقام الأول، هو استعادة وحدة الإقليم الإدارية، وحدة إرادته التشريعية ومصدرها، وحدة هويته الثقافية والقومية، وحدة مؤسساته الأمنية والدفاعية. إن التمهيد لهذه الأهداف، يبدأ من التخلي عن وهم التوافقات والمداهنات والتلفيقات السياسية الحزبية على حساب مستقبل شعب الإقليم ومصالحه. فقد برهنت التجارب خلال العقدين الأخيرين على أن التفاهمات أو التوافقات السياسية/ الحزبية الفوقية لم تعد صالحة في مواجهة التحديات الراهنة ولم تعد متوائمة مع متطلبات مستقبل الإقليم.

ويبدو جلياً إن معاودة أو تكرار السيناريوهات التوافقية السابقة، تحت أية ذريعة كانت، يشكل تردداً أو استهانة بالمخاطر، التي يواجهها الإقليم راهناً، وتلك المحتملة. فمن غير الحكمة أن نواجه المعضلات عبر اللجوء إلى الحلول نفسها، التي برهنت التجارب السابقة فشلها ولم تعد صالحة لمواجهة التجارب أو المشكلات اللاحقة.

أيّاً كانت التضحيات السياسية أو المادية الضرورية، لأجل تحقيق تلك الأهداف الأربعة لابدّ من قفزة خارج نطاق الخيارات المتاحة والمعهودة والبحث عن نموذج مختلف لتشكيل الكابينة العاشرة في ضوء المهام التاريخية الملحة والمصيرية. فهذه المرحلة تقتضي وجود حكومة متماسكة وموحدة حول برنامج وطني واضح ودقيق، وبالمقابل وجود برلمان قوي يراقب أداء الحكومة وتنفيذ مهامها.

بالطبع ليس هنالك حلّ سحري لتشكيل الحكومة المقبلة، لكن العمل في ضوء المعطيات العملية، التي أفرزتها نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، هو ما يرسم لنا ملامح الحكومة المحتملة وشكلها. ولعل سيناريو تكليف الكتلة الفائزة بأكثرية نيابية هو الأكثر ترجيحاً للشروع بالخطوة الأولى. وهذا السيناريو هو الأقرب للتصورات، التي تفترضها هذه الورقة عن ضرورة تأسيس حكومة متماسكة وموحدة، تتصدى لمهام توحيد الإدارتين والمؤسسات الحكومية وتتخطى المعضلات، التي ورثتها عن  الحكومات السابقة.

تقوم هذه المقاربة لشكل الحكومة القادمة وتنظيمها على قناعة تقول، ليس من الضرورة بمكان أن تستحوذ كتلة الأكثرية البرلمانية على أكثرية السلطات التنفيذية والحصص الوزارية، إنما عليها أن تبادر وتشرع في تشكيل الحكومة وتحتفظ لنفسها بالحدّ الأدنى من الوزارات مع ترؤسها لمجلس الوزراء وبالمقابل تعمد إلى مشاركة الطيف الأوسع من الكتل البرلمانية أغلبية السلطات التنفيذية والمناصب الوزارية، أي رئاسة رشيقة مدعومة بأكثرية برلمانية قوية.

لضمان تقاسم هذه الصلاحيات التنفيذية ووحدة عمل الحكومة وتماسكها، ينبغي الاتفاق بداية على برنامج عملي حكومي دقيق وملزم لجميع الأطراف المشاركة في السلطة التنفيذية. وبموازاة ذلك يتعين على كتلة الأكثرية المكلفة بتشكيل الحكومة أن تعوّل في تنفيذ برامجها على تقوية دور برلمان الإقليم في التشريع والرقابة. ولهذا الغرض عليها أن تتجه نحو تأسيس نواة صلبة لأغلبية برلمانية تكون أولى مهامها مراقبة تنفيذ البرنامج الحكومي. إن من شأن هذه الخطوة أن تحقق عدة أهداف، منها:

– تقوية دور برلمان الإقليم وإعادة الاعتبار إليه بصفته سلطة تشريعية ورقابية.

  • ترشيق أداء مجلس الوزراء.
  • تحقيق توازن ديناميكي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
  • التخلص من أعباء التورم البيروقراطي في عمل مجلس الوزراء وتجاوز حالة المحاصصة الحزبية المعطلة في اتخاذ القرارات وتنفيذها.
  • تحقيق توافق سياسي ومجتمعي بين المكونات والقوى، وتأسيس شرعية للحكومة، لا على أساس الامتيازات والمحاصصة الحزبية، إنما على أساس تعاقدي يقوم على تنفيذ البرنامج الحكومي بصرف النظر عن أصحاب المصلحة الحزبية.
  • تقاسم المسؤوليات بين جميع الأطراف السياسية على نحو متساو.
  • استعادة نفوذ وهيبة حكومة الإقليم وبرلمانه ليس في نظر الجمهور فحسب، وإنما أيضاً على مستوى النظام الاتحادي العراقي.
  • توحيد الخطاب السياسي والإعلامي للإقليم ومأسسته بعيداً عن الأجندة والاعتبارات الحزبية الجزئية والضيقة، بصفته خطاباً شرعياً يعبر عن إرادة عامة ومشتركة لشعب الإقليم.
  • نشوء سلطة عامة شرعية تعلو على السلطة الحزبية الجزئية، قادرة على فرض قراراتها وإرادتها على الجميع دون استثناء، بما تمتلكه من شرعية عامة، وبوسعها تحقيق خططها وبرامجها دون أية عقبات عارضة.

وبصرف النظر عن هذه النتائج وغيرها، تبرز مهام ملحة ومصيرية أمام الحكومة العتيدة، أيّاً تكن طبيعتها ومصدرها، تتوقف جدارتها وشرعيتها على درجة تنفيذ هذه المهام القومية، منها:

  • توحيد قوات الپيشمرگة، ومعها القوات الأمنية. وتعد هذه المهمة الملحة مقدمة لأيّ توحيد لمؤسسات الإقليم، إنها مهمة قومية حساسة، ويجب أن تقوم على رؤية واضحة لتوحيدها على أساس المصلحة القومية، وخطة عمل محكمة لتحقيق هذه الرؤية. كما يجب أن تكون هذه الخطة متعددة الجوانب وشاملة لجميع جوانب العملية. وفي النهاية، يجب أن يتم توحيد القوات المسلحة بشكل يلبي احتياجات الإقليم ومتطلباته الأمنية، وفقًا للمعايير العسكرية المهمة التي تشمل، مركزية الولاء والانضباط، الحياد السياسي، التنسيق والتعاون والتدريب واللغة والثقافة والأخلاق والقيم والعدالة والمساواة والقدرة على التعامل مع التحديات الأمنية والاحترام والتزام حقوق الإنسان.                                                           

– إصلاح المؤسسة القضائية وتعزيز استقلالها. حيث تعدّ معايير سيادة القانون واستقلال القضاء من أساسيات النظام القانوني في الدول الديمقراطية، وهي التي تحدد حدود السلطات وتضمن حماية حقوق المواطنين وتضمن تطبيق العدالة بصورة نزيهة ومستقلة، بحيث يكون الجميع متساوين أمام القانون. بمعنى أنه لا يجوز أن تكون هناك فئات تتمتع بامتيازات خاصة أو معاملة تفضيلية، سواء كانت هذه الفئات تخص النوع أو العرق أو الطبقة الاجتماعية أو الدين، أو الانتماء السياسي أو الحزبي أو الاجتماعي. ومن الواجب أن تكون القوانين والإجراءات القضائية واضحة وشفافة بحيث يمكن للمواطنين فهمها ومعرفة حقوقهم وواجباتهم.

كما ينبغي أن يتمتع القضاة بحرية تامة في تقدير الحقائق وتطبيق القانون، ولا يجوز أن يكونوا تحت أي تأثير من السلطات الحكومية أو الحزبية أو أي فئة أخرى. وبالمثل من الواجب أن تتمتع المؤسسات القضائية في الإقليم بإدارة جيدة وفعالة، وأن يتم توفير الموارد اللازمة لها لتحسين أدائها وتحقيق العدالة، بمعزل عن أيّ تأثير.

– إصلاح قطاعي التربية والتعليم العالي وتطويرهما. من الضرورة بمكان أن تضع الحكومة المقبلة نهجاً شاملاً لإصلاح قطاعي التربية والتعليم، وتؤسس لتنمية مستدامة على هذا الصعيد، تأخذ بالحسبان معايير تطوير مناهج التربية والتعليم والارتقاء بها وتكييفها مع متطلبات العصر، وتركّز على تنمية التفكير العلمي النقدي لدى الطلاب والتلاميذ وتشجعهم على الابداع والابتكار. وفي هذا السياق يغدو مهماً العمل على وضع فلسفة للتربية تأخذ بعين الاعتبار حماية الهوية القومية وتكريس الوعي بالانتماء لدى التلاميذ والطلبة.

– إعادة تنشيط وتفعيل المطالبة بتنفيذ البنود والمواد الدستورية العالقة، وبخاصة تلك التي تمسّ مصالح الإقليم وحقوقه الفدرالية وتتعلق بالسلطة والسيادة والميزانية الموارد والمسؤوليات والحقوق الدستورية لإقليم كردستان. ومن المهم أن تتبع الأطر العامة والسياقات، التي تحدد العلاقة بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية، ومنها الالتزام بمبادئ الدستور الاتحادي، إذ ينبغي أن يشكل الدستور مبدأً أساسياً للتفاوض بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية. وفي هذا السياق تحتل المادة ١٤٠ من الدستور العراقي، مكانة مركزية في القضايا الخلافية العالقة بين الإقليم والمركز. إن تعطيل أو تسويف تنفيذ المادة ١٤٠ حتى الآن يعني أن الحكومات الاتحادية المتعاقبة تحاول التملص من الاستحقاقات القومية والتاريخية لشعب كردستان، وتتجاهل الأضرار التاريخية وأشكال الغبن، التي تعرض لها الكرد طوال عقود من الاستبداد والعنصرية، من تهجير قسري وسطو على أملاكهم وأراضيهم. ومن جانب أخر يتعلق هذا الموضوع بتحديد حدود إقليم كردستان الإدارية والتاريخية. إن من شأن تنفيذ هذه المادة والتوصل إلى اتفاق بشأن المناطق المتنازع عليها أن يوفر الحماية اللازمة للمدنيين في هذه المناطق ويحقق استقراراً فيها، وهذا مطلب قومي ملح أمام الحكومة القادمة.

  • العمل على ضمان التعايش السلمي بين المكونات القومية والدينية في إقليم كردستان استناداً إلى قيم العدل والمساواة والتفاهم المتبادل، وتكريس ثقافة التسامح الديني وعدم التمييز بناءًا على العرق أو الدين، وترسيخ الاحترام المتبادل بين المكونات القومية والدينية، وتشجيع ثقافة الحوار والتفاهم بينها وتعزيز أشكال التعاون والتعاطف، والوعي بأهمية التنوع الديني والثقافي في الإقليم. وهذا شرط رئيس لاستقرار الإقليم وتنميته بشكل شامل. وبالمقابل يتعين على الحكومة العتيدة مواجهة الأنماط المتنوعة من الممارسات السلوكية والثقافية والدعائية، التي تحض على التطرف الديني والتعصب القومي أو المجتمعي، وردع مساعي استغلال المنصات الإعلامية والمنابر الدينية أو المؤسسات التربوية للترويج لثقافة الكراهية الدينية والخطاب التكفيري ووضع قوانين عقابية زاجرة بهذا الخصوص.
  • أخيراً، لعل أهمية جميع تلك الأهداف الملحة وغيرها تبقى مجردة ومعلّقة مالم تكن هناك منظومة تشريعية دستورية، أو وثيقة قانونية سامية، تحدد المبادئ الأساسية لإدارة الحكم وتنظم العلاقة بين بين السلطات العامة وبين الأفراد في الإقليم. إن علّة غياب أو عدم إعلان دستور ناظم للإقليم، رغم مضي أكثر من عقدين على صدور الدستور العراقي، هي سياسة التوافقات الترقيعية بين الأحزاب في إدارة الإقليم، التي أعاقت تطوره وتقدمه. لهذا يبدو ضرورياً أن تعمل الحكومة العتيدة بدأب خلال الفترة القادمة على إصدار دستور للإقليم، يضمن المبادئ والحقوق والحريات، وينظم شكل الحكم وآلية عمل السلطات، ويضع قواعد العلاقة بين الحكومة والمواطن، ويكرّس مبدأ سيادة القانون، بحيث يشكّل مرجعية لحل جميع النزاعات الفردية والسياسية. إذ يتعذر الحديث عن أيّ استقرار سياسي أو ضمانات للعدالة والمساواة في ظلّ غياب الدستور، كما يغدو الحديث عن سيادة شعب ما وحريته لغواً فارغاً مالم تكن هناك منظومة تشريعية سامية تكرّس هذا المبدأ في قانون ناظم.
شارك هذا المقال: