دارون آسم اوغلو, سيمون جونسون, جيمس روبنسون
DARON ACEMOGLU, SIMON JOHNSON, JAMES A. ROBINSON
ترجمة : مسلم عبد طالاس
فصل من كتاب, الحلقة (1 من 4)
عنوان الفصل: Institutions as a Fundamental Cause of Long-run Growth
عنوان الكتاب: Handbook of Economic Growth
الملخص
يتناول هذا البحث الحالة التجريبية والنظرية التي تؤكد أن الاختلافات في المؤسسات الاقتصادية هي السبب الأساسي للاختلافات في التنمية الاقتصادية. سنقوم أولاً بتوثيق الأهمية التجريبية للمؤسسات من خلال التركيز على “تجربتين شبه طبيعيتين” في التاريخ, وهما تقسيم كوريا إلى قسمين بمؤسسات اقتصادية مختلفة للغاية واستعمار جزء كبير من العالم من قبل القوى الأوروبية بدءًا من القرن الخامس عشر. ثم نقوم بعد ذلك بتطوير الخطوط العريضة الأساسية لإطار للتفكير في سبب اختلاف المؤسسات الاقتصادية عبر البلدان. تحدد المؤسسات الاقتصادية الحوافز والقيود المفروضة على الجهات الفعاليات الاقتصادية, ومن ثم تشكل النتائج الاقتصادية. وعلى هذا النحو, فهي قرارات اجتماعية, يتم اختيارها نظرا لعواقبها. ولأن المجموعات والأفراد المختلفين يستفيدون عادةً من مؤسسات اقتصادية مختلفة, فهناك عمومًا صراع حول هذه الخيارات الاجتماعية, والذي يتم حله في النهاية لصالح المجموعات ذات القوة السياسية الأكبر. ويتحدد توزيع القوة السياسية في المجتمع بدوره من خلال المؤسسات السياسية وتوزيع الموارد. فالمؤسسات السياسية تخصص السلطة السياسية(الرسمية) بحكم القانون, في حين تمتلك المجموعات ذات القوة الاقتصادية الأكبر عادة قوة سياسية بحكم الأمر الواقع (فعلية). وعلى هذا فإننا نعتقد أن ما هو مناسب هنا هو إطار نظري إطاراً ديناميكي يعتمد على متغيرين للدولة هما المؤسسات السياسية وتوزيع الموارد متغيرات الدولة. وهذه المتغيرات ذاتها تتغير بمرور الوقت لأن المؤسسات الاقتصادية السائدة تؤثر على توزيع الموارد, ولأن المجموعات التي تتمتع بالسلطة السياسية بحكم الأمر الواقع تسعى اليوم إلى تغيير المؤسسات السياسية من أجل زيادة سلطتها السياسية الرسمية في المستقبل. تنشأ المؤسسات الاقتصادية التي تشجع النمو الاقتصادي عندما تخصص المؤسسات السياسية السلطة لمجموعات ذات مصالح في إنفاذ حقوق الملكية على نطاق واسع, وعندما تخلق قيوداً فعّالة على أصحاب السلطة, وعندما يكون الريع التي يمكن لأصحاب السلطة الاستحواذ عليه قليلا نسبيا. سنوضح الافتراضات والعمليات والآثار المترتبة على هذا الإطار باستخدام عدد من الأمثلة التاريخية.
1- المقدمة
السؤال
إن السؤال الأكثر بساطة وحسماً في مجال النمو الاقتصادي والتنمية هو: لماذا تكون بعض البلدان أفقر كثيراً من غيرها؟ تفسر نماذج النمو الكلاسيكية الجديدة التقليدية, التي تسير على نهج Solow (1956) و Cass (1965) و Koopmans (1965) , الاختلافات في دخل الفرد بالاعتماد على الاختلافات في مسارات تراكم عوامل الانتاج (راس المال, العمل, الموارد الطبيعية). في هذه النماذج, ترجع الاختلافات في تراكم العوامل بين البلدان إما إلى الاختلافات في معدلات الادخار (سولو), أو التفضيلات (كاس-كوبمانز), أو غيرها من المؤثرات الخارجية, مثل نمو إجمالي إنتاجية عوامل الانتاج. توجد مؤسسات في هذه النماذج. على سبيل المثال, تتمتع الفعاليات الاقتصادية بحقوق ملكية محمية جيداً ويتبادلون السلع والخدمات في الأسواق. لكن الاختلافات في الدخل والنمو لا يمكن تفسيرها بالاختلاف في المؤسسات.
كانت الموجة الأولى من النسخ الأحدث لنظرية النمو, والتي سارت على نهج Romer (1986) و Lucas (1988), مختلفة بمعنى أنها أكدت على أن النواتج الثانوية الناجمة عن تراكم رأس المال المادي والبشري يمكن أن تحفز النمو المستقر المستدام. ومع ذلك, فقد ظلت أيضًا ضمن التقليد الكلاسيكي الجديد لتفسير الاختلافات في معدلات النمو من حيث التفضيلات والموارد. أما الموجة الثانية من النماذج, وخاصة Romer (1990) و Grossman and Helpman (1991) و Aghion and Howitt (1992) , فقد عملت على إضفاء الطابع الداخلي(بحيث تكون الاسباب هي نتائج ايضا- المترجم) على النمو المستقر والتقدم التقني, ولكن تفسيرها للاختلافات في الدخل يشبه تفسير النظريات الأقدم. على سبيل المثال, في نموذج رومر (1990), قد تكون دولة أكثر ازدهارًا من دولة أخرى إذا خصصت المزيد من الموارد للابتكار, ولكن ما يحدد هذا هو في الأساس التفضيلات وخصائص التكنولوجيا في خلق “الأفكار”[1].
ورغم أن هذا التقليد النظري لا يزال نابضاً بالحياة في علم الاقتصاد وقد قدم العديد من الرؤى حول آليات النمو الاقتصادي, إلا أنه بدا لفترة طويلة عاجزاً عن تقديم تفسير أساسي للنمو الاقتصادي. وكما قال North and Thomas (1973, p. 2): “إن العوامل التي أدرجناها (الابتكار, واقتصادات الحجم, والتعليم, وتراكم رأس المال, وما إلى ذلك) ليست أسباباً للنمو؛ بل هي نمو” . وتراكم العوامل والابتكار هما مجرد أسباب مباشرة للنمو. ومن وجهة نظر نورث وتوماس, فإن التفسير الأساسي للنمو المقارن هو الاختلافات في المؤسسات.
ما هي المؤسسات بالضبط؟ يقدم نورث North (1990, p. 3) التعريف التالي: “المؤسسات هي قواعد اللعبة في المجتمع أو, بشكل أكثر تحديدا, هي القيود التي ابتكرها الإنسان لتأطير التفاعل البشري“. ويواصل التأكيد على الآثار الرئيسية للمؤسسات, حيث “نتيجة لذلك, فإنها تعمل على هيكلة الحوافز في التبادل البشري, سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية“.
إن المؤسسات الاقتصادية في المجتمع, مثل بنية حقوق الملكية ووجود الأسواق وأدائها, هي ذات أهمية أساسية في تحقيق النتائج الاقتصادية. وتكتسب المؤسسات الاقتصادية أهميتها لأنها تؤثر على بنية الحوافز الاقتصادية في المجتمع. فبدون حقوق الملكية, لن يكون لدى الأفراد الحافز للاستثمار في رأس المال المادي أو البشري أو تبني تقنيات أكثر كفاءة. كما تكتسب المؤسسات الاقتصادية أهمية لأنها تساعد في تخصيص الموارد لاستخداماتها الأكثر كفاءة, فهي تحدد من يحصل على الأرباح والإيرادات وحقوق صافي رأس المال(الفرق بين اصول وخصوم الشركة- المترجم). وعندما تغيب الأسواق أو يتم تجاهلها (كما كانت الحال في الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال), فإنه لا يتم الاستفادة من المكاسب التي تتحقق من التجارة ويتم تخصيص الموارد بشكل خاطئ. أما المجتمعات التي تتمتع بمؤسسات اقتصادية تسهل وتشجع تراكم عوامل الانتاج والابتكار والتخصيص الفعّال للموارد فسوف تزدهر.
إن ما يكتسب أهمية بالغة في هذا الفصل وفي كثير من البحوث الاقتصادية السياسية التي تتناول المؤسسات هو أن المؤسسات الاقتصادية, والمؤسسات على نطاق أوسع هي متغير تابع؛ فهي تتحدد, جزئياً على الأقل, من قِبَل المجتمع, أو شريحة منه. وبالتالي فإن السؤال حول سبب فقر بعض المجتمعات بدرجة كبيرة مقارنة بغيرها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسؤال حول سبب امتلاك بعض المجتمعات “مؤسسات اقتصادية أسوأ كثيراً” من غيرها.
ورغم أن العديد من العلماء, بما في ذلك جون لوك, وآدم سميث, وجون ستيوارت ميل, وآرثر لويس, ودوجلاس نورث, وروبرت توماس, ومؤخراً العديد من الأوراق البحثية في دراسات النمو الاقتصادي والتنمية, قد أكدوا على أهمية المؤسسات الاقتصادية, فإننا بعيدون كل البعد عن الإطار المفيد للتفكير في كيفية تحديد المؤسسات الاقتصادية ولماذا تختلف عبر البلدان. بعبارة أخرى, في حين أن لدينا أسباباً وجيهة للاعتقاد بأن المؤسسات الاقتصادية مهمة للنمو الاقتصادي, فإننا نفتقر إلى الادلة الساكنة المقارنة الحاسمة التي ستسمح لنا بتفسير سبب اختلاف المؤسسات الاقتصادية المتحققة بين البلدان (وربما يكون هذا جزءاً من السبب وراء تركيز قدر كبير من الأدبيات الاقتصادية على الأسباب المباشرة للنمو الاقتصادي, وإهمال الأسباب المؤسسية الأساسية إلى حد كبير).
يهدف هذا الفصل إلى تحقيق ثلاثة أهداف. أولاً, نستعرض بشكل انتقائي الأدلة التي تثبت أن الاختلافات في المؤسسات الاقتصادية تشكل سبباً أساسياً للاختلافات في الرخاء بين البلدان. ثانياً, نرسم إطاراً للتفكير في سبب اختلاف المؤسسات الاقتصادية عبر البلدان. ونؤكد على النتائج الساكنة (الستاتيكية) المقارنة المحتملة لهذا الإطار ونوضح أيضاً الآليات الرئيسية من خلال سلسلة من الأمثلة التاريخية ودراسات الحالة. وأخيراً, نسلط الضوء على عدد كبير من المجالات التي نعتقد أن العمل النظري والتجريبي المستقبلي فيها سيكون مثمراً للغاية.
المنطق الاساسي
يمكن تلخيص المنطق الأساسي لهذا الفصل على النحو التالي:
1. المؤسسات الاقتصادية مهمة للنمو الاقتصادي لأنها تشكل حوافز الجهات الاقتصادية الرئيسية الفاعلة في المجتمع. فهي تؤثر بصورة خاصة على الاستثمارات في رأس المال المادي والبشري والتكنولوجيا, وتنظيم الإنتاج. ورغم أن العوامل الثقافية والجغرافية قد تكون مهمة أيضًا للأداء الاقتصادي, فإن الاختلافات في المؤسسات الاقتصادية تشكل المصدر الرئيسي لاختلافات النمو الاقتصادي والازدهار بين البلدان. فالمؤسسات الاقتصادية لا تحدد إمكانات النمو الاقتصادي الكلي للاقتصاد فحسب, بل تحدد أيضًا مجموعة أخرى من النتائج الاقتصادية, بما في ذلك توزيع الموارد في المستقبل (أي توزيع الثروة, أو رأس المال المادي أو رأس المال البشري). وبعبارة أخرى, فهي لا تؤثر فقط على حجم الفطيرة الكلية, بل تؤثر أيضًا على كيفية تقسيم هذه الفطيرة بين مجموعات وأفراد مختلفين في المجتمع. ونلخص هذه الأفكار بشكل تخطيطي على النحو التالي (حيث يشير الرمز t إلى الفترة الحالية و t + 1 إلى المستقبل):
المؤسسات الاقتصادية في الفترة t تحدد:
- الاداء الاقتصادي في الفترة t
- توزيع الموارد الاقتصادية في الفترة t+1
2. إن المؤسسات الاقتصادية متغير داخلي. وهي تتحدد كاختيارات جماعية للمجتمع, ويرجع هذا إلى حد كبير إلى العواقب الاقتصادية المترتبة عليها. ولكن ليس هناك ما يضمن أن كل الأفراد والمجموعات سوف يفضلون نفس مجموعة المؤسسات الاقتصادية, وذلك لأن المؤسسات الاقتصادية المختلفة, كما ذكرنا آنفاً, تؤدي إلى توزيعات مختلفة للموارد. وبالتالي, سوف يكون هناك عادة تضارب في المصالح بين مختلف المجموعات والأفراد بشأن اختيار المؤسسات الاقتصادية. فكيف إذن يتم اختيار مجموعة محددة من المؤسسات الاقتصادية لمجتمع ما؟ فإذا كان هناك, على سبيل المثال, مجموعتان من الناس لهما تفضيلات متعارضة بشأن مجموعة المؤسسات الاقتصادية, فأي من المجموعتين سوف تسود؟ إن الإجابة تعتمد على القوة السياسية للمجموعتين من الناس. ورغم أن كفاءة مجموعة من المؤسسات الاقتصادية مقارنة بمجموعة أخرى قد تلعب دوراً في هذا الاختيار, فإن القوة السياسية سوف تكون الحكم النهائي. وأي مجموعة من الناس تتمتع بقوة سياسية أكبر من المرجح أن تضمن اختيار مجموعة المؤسسات الاقتصادية التي تفضلها. وهذا يقودنا إلى اللبنة الثانية من إطارنا:
القوة(السلطة) السياسية في الفترة t تحدد المؤسسات الاقتصادية في الفترة t
3. إن الفكرة الضمنية في فكرة أن القوة السياسية تحدد المؤسسات الاقتصادية هي أن هناك مصالح متضاربة بشأن توزيع الموارد وبالتالي, وبشكل غير مباشر, بشأن مجموعة المؤسسات الاقتصادية. ولكن لماذا لا تتفق مجموعات الناس ذات المصالح المتضاربة على مجموعة المؤسسات الاقتصادية التي تعمل على تعظيم النمو الكلي (حجم الفطيرة الكلية) ثم تستخدم قوتها السياسية ببساطة لتحديد توزيع المكاسب؟ لماذا يؤدي ممارسة القوة السياسية إلى عدم الكفاءة الاقتصادية وحتى الفقر؟ اجابتنا هي أن هذا يرجع إلى وجود مشاكل الالتزام(الثقة) المتأصلة في استخدام القوة السياسية. فالأفراد الذين يتمتعون بالقوة السياسية لا يمكنهم الالتزام بعدم استخدامها لصالحهم, وهذه المشكلة المتعلقة بالالتزام تخلق معضلة عدم الفصل بين الكفاءة والتوزيع لأن التحويلات التعويضية والمدفوعات الجانبية الموثوقة لا يمكن أن تتم لتعويض العواقب التوزيعية لأي مجموعة معينة من المؤسسات الاقتصادية.
4.لكن توزيع القوة السياسية في المجتمع هو أيضًا متغير داخلي. في إطارنا, من المفيد التمييز بين عنصرين من عناصر القوة السياسية, والتي نشير إليها بالقوة السياسية القانونية (المؤسسية أو الرسمية) والقوة السياسية الفعلية(بحكم الامر الواقع). هنا تشير القوة السياسية القانونية إلى القوة التي تنشأ من المؤسسات السياسية في المجتمع. تحدد المؤسسات السياسية, على نحو مماثل للمؤسسات الاقتصادية, القيود والحوافز التي تحكم الجهات الفاعلة الرئيسية, ولكن هذه المرة في المجال السياسي. تشمل أمثلة المؤسسات السياسية شكل الحكومة, على سبيل المثال, الديمقراطية مقابل الدكتاتورية أو الاستبداد, ومدى القيود المفروضة على السياسيين والنخب السياسية. على سبيل المثال, في النظام الملكي, تخصص المؤسسات السياسية كل السلطة السياسية القانونية للملك, وتضع قيودًا قليلة على ممارستها. على النقيض من ذلك, تستجيب الملكية الدستورية لمجموعة من المؤسسات السياسية التي تعيد تخصيص بعض السلطة السياسية من الملك إلى البرلمان, وبالتالي تقيد السلطة السياسية للملك بشكل فعال. وبالتالي فإن هذه المناقشة تعني أن:
المؤسسات السياسية في الفترة t تحدد القوة السياسية الرسمية في الفترة t
5. ولكن القوة السياسية لا تقتصر على المؤسسات السياسية. فحتى لو لم تخصص المؤسسات السياسية القوة لمجموعة من الأفراد, على سبيل المثال كما هو محدد في الدستور, فقد تمتلك مع ذلك القوة(السلطة) السياسية. أي أنهم يستطيعون الثورة, أو استخدام الأسلحة, أو استئجار المرتزقة, أو الاستعانة بالجيش, أو استخدام الاحتجاجات المكلفة اقتصاديًا ولكنها سلمية إلى حد كبير من أجل فرض رغباتهم على المجتمع. ونحن نشير إلى هذا النوع من القوة السياسية بالقوة السياسية الفعلية(بحكم الامر الواقع), والتي لها في حد ذاتها مصدران. أولاً, تعتمد على قدرة المجموعة المعنية على حل مشكلة العمل الجماعي, أي ضمان عمل الناس معًا, حتى عندما يكون لدى أي فرد حافز للانتفاع المجاني. على سبيل المثال, كان بإمكان الفلاحين في العصور الوسطى, الذين لم يُمنحوا أي سلطة سياسية بموجب الدستور, في بعض الأحيان حل مشكلة العمل الجماعي والقيام بثورة ضد السلطات. ثانياً, تعتمد القوة الفعلية لمجموعة ما على مواردها الاقتصادية, التي تحدد قدرتها على استخدام (أو إساءة استخدام) المؤسسات السياسية القائمة, وكذلك خيارها في توظيف القوة واستخدامها ضد مجموعات مختلفة. ولأننا لا نملك حتى الآن نظرية مرضية حول متى تكون المجموعات قادرة على حل مشاكل العمل الجماعي, فسوف نركز على المصدر الثاني للقوة السياسية الفعلية, وبالتالي:
توزيع الموارد في الفترة t تحدد القوة السياسية الفعلية في الفترة t
6. وهذا يقودنا إلى تطور أحد متغيري الدولة الرئيسيين في إطارنا, المؤسسات السياسية (المتغير الآخر للدولة هو توزيع الموارد, بما في ذلك توزيع مخزونات رأس المال المادي والبشري, إلخ). والمؤسسات السياسية وتوزيع الموارد هما متغيرا الدولة في هذا النظام الديناميكي لأنهما يتغيران عادة ببطء نسبي, والأهم من ذلك أنهما يحددان المؤسسات الاقتصادية والأداء الاقتصادي بشكل مباشر وغير مباشر. وتأثيرهما المباشر واضح ومباشر. فإذا وضعت المؤسسات السياسية كل القوة السياسية في أيدي فرد واحد أو مجموعة صغيرة, فإن المؤسسات الاقتصادية التي توفر الحماية لحقوق الملكية والفرص المتساوية لبقية السكان يصعب الحفاظ عليها. ويعمل التأثير غير المباشر من خلال القنوات التي ناقشناها أعلاه: تحدد المؤسسات السياسية توزيع القوة السياسية بحكم القانون, الأمر الذي يؤثر بدوره على اختيار المؤسسات الاقتصادية. وبالتالي يقدم هذا الإطار مفهومًا طبيعيًا لـ”هرمية المؤسسات”, حيث تؤثر المؤسسات السياسية على مجموعة المؤسسات الاقتصادية , والتي تحدد بدورها النتائج الاقتصادية.
إن المؤسسات السياسية, وإن كانت بطيئة التغير, هي أيضاً متغير داخلي. فالمجتمعات تنتقل من الدكتاتورية إلى الديمقراطية, وتغير دساتيرها لتعديل القيود المفروضة على أصحاب السلطة. وبما أن المؤسسات السياسية, مثلها كمثل المؤسسات الاقتصادية, هي اختيارات جماعية, فإن توزيع السلطة السياسية في المجتمع هو العامل الرئيسي الذي يحدد تطورها. وهذا يخلق ميلاً إلى الاستمرار: فالمؤسسات السياسية تخصص السلطة السياسية بحكم القانون, وأولئك الذين يمتلكون السلطة السياسية يؤثرون على تطور المؤسسات السياسية, وسوف يختارون عموماً الحفاظ على المؤسسات السياسية التي تمنحهم السلطة السياسية. ومع ذلك, فإن السلطة السياسية بحكم الأمر الواقع(الفعلية) تخلق أحياناً تغييرات في المؤسسات السياسية. وعلى الرغم من أن هذه التغييرات تكون متقطعة في بعض الأحيان, على سبيل المثال عندما يؤدي اختلال التوازن في القوة إلى ثورة أو يؤدي التهديد بالثورة إلى إصلاحات كبرى في المؤسسات السياسية, فإنها غالباً وببساطة تؤثر على الطريقة التي تعمل بها المؤسسات السياسية القائمة. على سبيل المثال, ما إذا كانت القواعد المنصوص عليها في دستور معين تُحترم كما هو الحال في معظم الديمقراطيات العاملة, أو يتم تجاهلها كما هو الحال في زيمبابوي اليوم. وتلخيصاً لهذه المناقشة, لدينا:
السلطة السياسية في الفترة t تحدد المؤسسات السياسية في الفترة t+1
من خلال جمع كل هذه القطع معًا, نحصل على التمثيل التخطيطي (والبسيط) لإطار عملنا على النحو التالي:
إن متغيري الحالة هما المؤسسات السياسية وتوزيع الموارد, ومعرفة هذين المتغيرين في الوقت t كافية لتحديد جميع المتغيرات الأخرى في النظام. وفي حين تحدد المؤسسات السياسية توزيع السلطة السياسية القانونية في المجتمع, فإن توزيع الموارد يؤثر على توزيع السلطة السياسية الفعلية في الوقت t. ويؤثر هذان المصدران للسلطة السياسية, بدورهما, على اختيار المؤسسات الاقتصادية ويؤثران على التطور المستقبلي للمؤسسات السياسية. تحدد المؤسسات الاقتصادية النتائج الاقتصادية, بما في ذلك معدل النمو الكلي للاقتصاد وتوزيع الموارد في الوقت t +1. وعلى الرغم من أن المؤسسات الاقتصادية هي العامل الأساسي الذي يشكل النتائج (الاداء) الاقتصادية, إلا أنها في حد ذاتها متغير داخلي وتحددها المؤسسات السياسية وتوزيع الموارد في المجتمع.
هناك مصدران للاستمرار في سلوك النظام بدون تغيير: أولاً, المؤسسات السياسية تتميز بالديمومة, و في نفس الوقت هناك ضرورة لتغيير كبير في توزيع القوة السياسية لإحداث تغيير فيها, مثل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. ثانيًا, عندما تكون مجموعة معينة غنية نسبيًا مقارنة بغيرها, فإن هذا من شأنه أن يزيد من قوتها السياسية الفعلية وتمكينها من الدفع نحو المؤسسات الاقتصادية والسياسية المواتية لمصالحها. ومن شأن هذا أن يميل إلى إعادة إنتاج التفاوت النسبي الأولي في الثروة في المستقبل. وعلى الرغم من ميل هذه الاتجاهات للاستمرار, فإن الإطار يؤكد أيضًا على إمكانية التغيير. وعلى وجه الخصوص, “الصدمات”, بما في ذلك التغيرات في التكنولوجيات والبيئة الدولية, التي تعدل توازن القوة السياسية (الفعلية) في المجتمع ويمكن أن تؤدي إلى تغييرات كبيرة في المؤسسات السياسية وبالتالي في المؤسسات الاقتصادية والنمو الاقتصادي.
قد يكون من المفيد تقديم مثال موجز لتوضيح هذه المفاهيم قبل التعليق على بعض الافتراضات الأساسية ومناقشة السكونيات المقارنة (مقارنة بين حالتين متشابهتين مع وجود اختلاف في متغير مهم أو نفس الحالة قبل وبعد تغير المتغير – المترجم). ولنتأمل تطور حقوق الملكية في أوروبا خلال العصور الوسطى. فلا شك أن افتقار ملاك الأراضي والتجار وأصحاب الصناعات الأولية إلى حقوق الملكية كان ضاراً بالنمو الاقتصادي خلال هذه الحقبة. وبما أن المؤسسات السياسية في ذلك الوقت وضعت السلطة السياسية في أيدي الملوك وأنواع مختلفة من الملكيات الوراثية, فقد كان هؤلاء الملوك هم الذين يقررون هذه الحقوق إلى حد كبير. ما اضربالنمو الاقتصادي أن الملوك, في حين كانت لديهم كل الحوافز لحماية حقوق الملكية الخاصة بهم, عموماً لم يحموا حقوق ملكية الآخرين بشكل كاف. بل على العكس من ذلك, كثيراً ما استخدم الملوك سلطاتهم لمصادرة ممتلكات المنتجين, وفرض الضرائب التعسفية, والتنصل من ديونهم, وتخصيص موارد المجتمع الإنتاجية لحلفائهم في مقابل الفوائد الاقتصادية أو الدعم السياسي. ونتيجة لهذا, لم تقدم المؤسسات الاقتصادية خلال العصور الوسطى سوى القليل من الحوافز للاستثمار في الأراضي, أو رأس المال المادي أو البشري, أو التكنولوجيا, وفشلت في تعزيز النمو الاقتصادي. كما ضمنت هذه المؤسسات الاقتصادية سيطرة الملوك على جزء كبير من الموارد الاقتصادية في المجتمع, الأمر الذي عزز سلطتهم السياسية وضمن استمرار النظام السياسي.
ولكن القرن السابع عشر شهد تغيرات كبرى في المؤسسات الاقتصادية والسياسية مهدت الطريق لتطور حقوق الملكية وفرض القيود على سلطة الملوك, وخاصة في إنجلترا بعد الحرب الأهلية عام 1642 والثورة المجيدة عام 1688, وفي هولندا بعد الثورة الهولندية ضد آل هابسبورغ. فكيف حدثت هذه التغيرات المؤسسية الكبرى؟ في إنجلترا, على سبيل المثال, كان الملك حتى القرن السادس عشر يمتلك قدراً كبيراً من السلطة السياسية بحكم الأمر الواقع, وبصرف النظر عن الحروب الأهلية المتعلقة بخلافة العرش, لم تتمكن أي مجموعة اجتماعية أخرى من حشد ما يكفي من السلطة السياسية بحكم الأمر الواقع لتحدي الملك. ولكن التغيرات في سوق الأراضي الإنجليزية [Tawney (1941)] وتوسع التجارة عبر الأطلسي في القرنين السادس عشر والسابع عشر [Acemoglu, Johnson and Robinson (2005)] أدت تدريجياً إلى زيادة الثروات الاقتصادية, وبالتالي زيادة القوة الفعلية لملاك الأراضي والتجار. كانت هذه المجموعات متنوعة, ولكنها كانت تضم عناصر مهمة اعتبرت أن مصالحها تتعارض مع مصالح الملك: ففي حين كان الملوك الإنجليز مهتمين بالافتراس (الاستيلاء على الممتلكات)ضد المجتمع لزيادة دخولهم الضريبية, كان النبلاء والتجار مهتمين بتعزيز حقوق الملكية الخاصة بهم.
وبحلول القرن السابع عشر, وبفضل الرخاء المتزايد الذي تحقق للتجار والنبلاء, بسبب على التجارة الداخلية والخارجية وخاصة عبر المحيط الأطلسي, تمكن هؤلاء تعبئة قوات عسكرية قادرة على هزيمة الملك. وقد تغلبت هذه القوة الفعلية على ملوك ستيوارت في الحرب الأهلية والثورة المجيدة, وأدت إلى تغيير في المؤسسات السياسية التي جردت الملك من الكثير من سلطته السابقة على السياسة. وأدت هذه التغييرات في توزيع السلطة السياسية إلى تغييرات كبرى في المؤسسات الاقتصادية, مما عزز حقوق الملكية لكل من مالكي الأراضي ورأس المال وحفز عملية التوسع المالي والتجاري. وكانت النتيجة نموًا اقتصاديًا سريعًا, بلغ ذروته في الثورة الصناعية, وتوزيعًا للموارد الاقتصادية مختلفًا تمامًا عن ذلك الذي كان سائدا في العصور الوسطى.
من المهم أن نعود في هذه المرحلة إلى افتراضين حاسمين في إطارنا. أولاً, لماذا لا تتفق المجموعات ذات المصالح المتضاربة على مجموعة المؤسسات الاقتصادية التي تعمل على تعظيم النمو الكلي؟ وهذا يعني في حالة الصراع بين الملكية والتجار, لماذا لا تعمل الملكية على إنشاء حقوق ملكية آمنة لتشجيع النمو الاقتصادي وفرض الضرائب على بعض المداخيل المتحققة؟ ثانياً, لماذا تريد المجموعات ذات القوة السياسية تغيير المؤسسات السياسية لصالحها؟ على سبيل المثال, في سياق المثال أعلاه, لماذا استخدم النبلاء والتجار قوتهم السياسية الفعلية لتغيير المؤسسات السياسية بدلاً من مجرد تنفيذ السياسات التي أرادوها؟ تدور الإجابات على كلا السؤالين حول قضايا الالتزام وتذهب إلى قلب إطارنا.
إن توزيع الموارد في المجتمع قرار محل نزاع بطبيعته, وبالتالي فهو قرار سياسي. وكما ذكرنا آنفاً, فإن هذا يؤدي إلى مشاكل كبيرة تتعلق بالالتزام, لأن الجماعات ذات القوة السياسية لا تستطيع الالتزام بعدم استخدام قوتها لتغيير توزيع الموارد لصالحها. على سبيل المثال, لم تكن المؤسسات الاقتصادية التي زادت من أمن حقوق ملكية أصحاب الأراضي ورأس المال خلال العصور الوسطى لتتمتع بالمصداقية طالما احتكر الملك السلطة السياسية. كان بإمكانه أن يعد باحترام حقوق الملكية, ولكن في مرحلة ما, يتراجع عن وعده, كما تجسد في حالات التخلف عن سداد العديدة التي تعرض لها ملوك العصور الوسطى [على سبيل المثال, Veitch (1986)]. إن حقوق الملكية الآمنة الموثوقة تتطلب تقليص السلطة السياسية للملك. وعلى الرغم من أن حقوق الملكية الأكثر أمانًا هذه من شأنها أن تعزز النمو الاقتصادي, إلا أنها لم تكن جذابة للملوك الذين سيخسرون ريعهم من الافتراس والمصادرة فضلاً عن العديد من الامتيازات الأخرى المرتبطة باحتكارهم للسلطة السياسية. وهذا هو السبب وراء عدم قبول ملوك ستيوارت للتغييرات المؤسسية التي طرأت على إنجلترا نتيجة للثورة المجيدة. فقد كان لزامًا أن يُخلع جيمس الثاني من منصبه حتى تتم هذه التغييرات.
لنوضح أكثر سبب وجود الكثير من حالات استخدام القوة السياسية لتغيير المؤسسات السياسية. ففي عالم ديناميكي, لا يهتم الأفراد بالنتائج الاقتصادية اليوم فحسب, بل يهتمون أيضًا بالمستقبل. وفي المثال أعلاه, كان النبلاء والتجار مهتمين بأرباحهم وبالتالي بأمن حقوق ملكيتهم, ليس فقط في الحاضر ولكن أيضًا في المستقبل. لذلك, كانوا يرغبون في استخدام سلطتهم السياسية (الفعلية) لتأمين الفوائد في المستقبل وكذلك الحاضر. لكن لم يكن الالتزام بالتخصيصات المستقبلية (أو المؤسسات الاقتصادية) ممكنًا لأن القرارات في المستقبل ستقررها أولئك الذين لديهم سلطة سياسية في المستقبل مع القليل الالتزام بالوعود الماضية. لو كان النبلاء والتجار متأكدين من الحفاظ على سلطتهم السياسية الفعلية, فلن تكون هناك مشكلة. لكن القوة السياسية الفعلية غالبًا ما تكون عابرة, على سبيل المثال لأن مشاكل العمل الجماعي التي يتم حلها لتجميع هذه القوة من المرجح أن تطفو على السطح في المستقبل, أو يمكن لمجموعات أخرى, وخاصة تلك التي تسيطر على السلطة القانونية, أن تصبح أقوى في المستقبل. وعلى هذا فإن هناك احتمال مرتفع ان أي تغيير حالي في السياسات والمؤسسات الاقتصادية بالاعتماد فقط على القوة السياسية الفعلية يمكن أن ينعكس في المستقبل. فضلاً عن ذلك فإن العديد من الثورات تتبعها صراعات بين الثوار أنفسهم. وإدراكاً لهذا, وفي أعقاب انتصاراتهم ضد ملكية ستيوارت, سعى النبلاء والتجار الإنجليز ليس فقط إلى تغيير المؤسسات الاقتصادية لصالحهم , بل وأيضاً إلى تغيير المؤسسات السياسية والتخصيص المستقبلي للسلطة القانونية. ومن ثم فإن استخدام القوة السياسية لتغيير المؤسسات السياسية يبرز كاستراتيجية مفيدة لجعل المكاسب أكثر ديمومة. وبالتالي فإن الإطار الذي نقترحه يؤكد على أهمية المؤسسات السياسية, والتغييرات في المؤسسات السياسية, كوسيلة للتلاعب بالقوة السياسية المستقبلية, وبالتالي تشكيل المؤسسات والنتائج الاقتصادية المستقبلية والحالية بشكل غير مباشر.
إن هذا الإطار, على الرغم من تجريده وبساطته الشديدة, يمكّننا من تقديم بعض الإجابات الأولية على سؤالنا الرئيسي: لماذا تختار بعض المجتمعات “المؤسسات الاقتصادية الجيدة”؟ وفي هذه المرحلة, نحتاج إلى أن نكون أكثر تحديدًا بشأن ماهية المؤسسات الاقتصادية الجيدة. والخطر الذي نود تجنبه هو أن نعرّف المؤسسات الاقتصادية الجيدة بأنها تلك التي تولد النمو الاقتصادي, مما قد يؤدي إلى مجرد حشو الكلام. وينشأ هذا الخطر لأن مجموعة معينة من المؤسسات الاقتصادية قد تكون جيدة نسبيًا خلال بعض الفترات وسيئة خلال فترات أخرى. على سبيل المثال, قد لا تكون مجموعة من المؤسسات الاقتصادية التي تحمي حقوق الملكية لنخبة صغيرة معادية للنمو الاقتصادي عندما تكون جميع فرص الاستثمار الرئيسية في أيدي هذه النخبة, ولكنها قد تكون ضارة للغاية عندما تكون الاستثمارات والمشاركة من قبل مجموعات أخرى مهمة للنمو الاقتصادي [انظر Acemoglu (2003b)]. لتجنب مثل هذا الحشو ولتبسيط وتركيز المناقشة, فإننا نفكر طوال الوقت في المؤسسات الاقتصادية الجيدة باعتبارها تلك التي توفر أمن حقوق الملكية والوصول المتساوي نسبيًا إلى الموارد الاقتصادية لقطاع عريض من المجتمع. ورغم أن هذا التعريف بعيد كل البعد عن اشتراط تكافؤ الفرص في المجتمع, فإنه يعني ضمناً أن المجتمعات التي لا يتمتع فيها سوى جزء ضئيل للغاية من السكان بحقوق الملكية التي يتم إنفاذها بشكل جيد لا تتمتع بمؤسسات اقتصادية جيدة. ونتيجة لهذا, وكما سنرى في بعض الحالات التاريخية التي نناقشها أدناه, فإن مجموعة معينة من المؤسسات الاقتصادية قد يكون لها تأثيرات مختلفة للغاية على النمو الاقتصادي تبعاً للإمكانيات والفرص التكنولوجية.
وبناءً على تعريف المؤسسات الاقتصادية الجيدة هذا, أي باعتبارها توفر حقوق الملكية الآمنة لشريحة واسعة من المجتمع, فإن إطارنا يقودنا إلى عدد من السكونيات المقارنة المهمة, وبالتالي إلى إجابة على سؤالنا الأساسي. أولاً, إن المؤسسات السياسية التي تفرض ضوابط على أولئك الذين يمسكون بالسلطة السياسية, على سبيل المثال, من خلال خلق توازن القوى في المجتمع, مفيدة لظهور المؤسسات الاقتصادية الجيدة. وهذه النتيجة بديهية؛ فبدون الضوابط المفروضة على السلطة السياسية, يصبح حاملو السلطة أكثر ميلاً إلى اختيار مجموعة من المؤسسات الاقتصادية المفيدة لأنفسهم والضارة ببقية المجتمع, والتي ستفشل عادةً في حماية حقوق الملكية لشريحة واسعة من الناس. ثانياً, من المرجح أن تنشأ المؤسسات الاقتصادية الجيدة عندما تكون السلطة السياسية في أيدي مجموعة واسعة نسبيًا تتمتع بفرص استثمارية كبيرة. والسبب وراء هذه النتيجة هو أنه في هذه الحالة, إذا تساوت كل العوامل الأخرى, فإن أصحاب السلطة سوف يستفيدون هم أنفسهم من حقوق الملكية الآمنة[2]. ثالثًا, من المرجح أن تنشأ المؤسسات الاقتصادية الجيدة وتستمر عندما يكون الريع التي يستطيع أصحاب السلطة انتزاعه من بقية المجتمع محدودا, لأن مثل هذه الريع من شأنه أن يشجعهم على اختيار مجموعة من المؤسسات الاقتصادية التي تجعل نزع ملكية الآخرين أمرًا ممكنًا. وبالتالي, تضع هذه السكونيات المقارنة المؤسسات السياسية في مركز القصة, كما أكد مصطلحنا “هرمية المؤسسات” أعلاه. المؤسسات السياسية ضرورية, لأنها تحدد القيود المفروضة على استخدام السلطة السياسية (بحكم الأمر الواقع وبحكم القانون) وأيضًا المجموعات التي تمتلك السلطة السياسية بحكم القانون في المجتمع. سنرى أدناه كيف تساعدنا هذه السكونيات المقارنة في فهم الاختلافات المؤسسية عبر البلدان وعلى مر الزمن في عدد من الأمثلة التاريخية المهمة.
الخطوط العريضة
في القسم التالي نناقش كيف تشكل المؤسسات الاقتصادية الأساس لنظرية أساسية للنمو, ونقارن ذلك بنظريات أساسية محتملة أخرى. وفي القسم 3 ندرس بعض الأدلة التجريبية التي تشير إلى دور رئيسي للمؤسسات الاقتصادية في تحديد النمو في الأمد البعيد. كما نؤكد على بعض المشاكل الرئيسية التي تنطوي عليها إقامة علاقة سببية بين المؤسسات الاقتصادية والنمو. ثم نوضح في القسم 4 كيف يمكن استخدام تجربة الاستعمار الأوروبي كـ “تجربة مخبر طبيعي” يمكنها معالجة هذه المشاكل. وبعد تحديد الدور السببي المركزي للمؤسسات الاقتصادية وأهميتها بالنسبة للعوامل الأخرى في الاختلافات بين البلدان في الأداء الاقتصادي, يركز بقية البحث على تطوير نظرية للمؤسسات الاقتصادية. ويناقش القسم 5 أربعة أنواع من التفسير لسبب وجود مؤسسات مختلفة في البلدان, ويزعم أن الأكثر ترجيحًا هو وجهة نظر الصراع الاجتماعي. ووفقًا لهذه النظرية, تنشأ المؤسسات السيئة لأن المجموعات ذات القوة السياسية تستفيد من المؤسسات السيئة. إن التركيز على الصراع الاجتماعي ينشأ بشكل طبيعي من ملاحظتنا أعلاه بأن المؤسسات الاقتصادية تؤثر على توزيع الموارد وكذلك الكفاءة. وبالتالي فإن المجموعات أو الأفراد المختلفين سوف يفضلون مؤسسات مختلفة وسوف ينشأ الصراع عندما يحاول كل منهم الحصول على ما يريد. يتعمق القسم السادس في مسائل الكفاءة ويسأل لماذا لا تصمد النسخة السياسية من نظرية كوز Coase. ونؤكد على فكرة أن مشاكل الالتزام متأصلة في ممارسة السلطة السياسية. في القسم السابع نجادل بأن سلسلة من الأمثلة التاريخية للمؤسسات الاقتصادية المتباينة يمكن تفسيرها بشكل أفضل من خلال وجهة نظر الصراع الاجتماعي. توضح هذه الأمثلة كيف يتم تحديد المؤسسات الاقتصادية من خلال توزيع السلطة السياسية, وكيف يتأثر هذا التوزيع بالمؤسسات السياسية. يجمع القسم الثامن هذه الأفكار معًا لبناء نظريتنا للمؤسسات. في القسم التاسع نتناول مثالين موسعين لأداء النظرية في التطبيق. المثال الاول هو صعود الحكم الدستوري في أوروبا الحديثة المبكرة, والمثال الثاني هو إنشاء الديمقراطية الجماهيرية, وخاصة في بريطانيا, في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويختتم القسم العاشر بمناقشة الاتجاه الذي يمكن أن يتجه إليه الباحثون في المرحلة التالية.
2- الأسباب الأساسية للفوارق في الدخل
نبدأ بالتراجع خطوة إلى الوراء. كان الافتراض في المقدمة هو أن المؤسسات الاقتصادية مهمة, وينبغي في الواقع أن نفكر فيها باعتبارها أحد الأسباب الأساسية الرئيسية للنمو الاقتصادي والاختلافات في الأداء الاقتصادي بين البلدان. كيف نعرف ذلك؟
ثلاثة أسباب أساسية
إذا كانت النماذج الاقتصادية المعيارية لتراكم العوامل والتغير التقني الداخلي لا تقدم سوى تفسيرات تقريبية للنمو المقارن, فما هي التفسيرات التي قد تشكل تفسيرات أساسية؟ ورغم عدم وجود حكمة تقليدية في هذا الشأن, فإننا نستطيع أن نميز بين ثلاث مجموعات من النظريات من هذا القبيل: المجموعة الأولى من النظريات, والتي نركز عليها بشكل رئيسي في هذا الفصل, تؤكد على أهمية المؤسسات الاقتصادية, التي تؤثر على النتائج الاقتصادية من خلال تشكيل الحوافز الاقتصادية؛ وتؤكد المجموعة الثانية على الجغرافيا, وتؤكد المجموعة الثالثة على أهمية الثقافة (الاحتمال الرابع هو أن الاختلافات ترجع إلى “الحظ”, فبعض المجتمعات كانت محظوظة فحسب؛ ومع ذلك فإننا لا نعتقد أن الاختلافات في الحظ تشكل في حد ذاتها أسباباً أساسية كافية للاختلافات في الدخول بين البلدان).
1- المؤسسات الاقتصادية
في جوهرها, تقوم الفرضية القائلة بأن الاختلافات في المؤسسات الاقتصادية هي السبب الأساسي وراء أنماط مختلفة من النمو الاقتصادي على فكرة مفادها أن الطريقة التي يقرر بها البشر أنفسهم تنظيم مجتمعاتهم هي التي تحدد ما إذا كانوا سيزدهرون أم لا. تشجع بعض طرق تنظيم المجتمعات الناس على الابتكار, والمجازفة, والادخار للمستقبل, وإيجاد طرق أفضل للقيام بالأشياء, والتعلم وتعليم أنفسهم, وحل مشاكل العمل الجماعي وتوفير السلع العامة. والبعض الآخر لا تفعل ذلك.
إن فكرة أن ازدهار أي مجتمع يعتمد على مؤسساته الاقتصادية تعود إلى آدم سميث على الأقل, على سبيل المثال في مناقشاته حول المذهب التجاري ودور الأسواق, وكانت بارزة في أعمال العديد من علماء القرن التاسع عشر مثل جون ستيوارت ميل [انظر المناقشة في Jones (1981)]: المجتمعات ناجحة اقتصاديًا عندما يكون لديها مؤسسات اقتصادية “جيدة”, وهذه المؤسسات هي سبب الازدهار. يمكننا أن نفكر في هذه المؤسسات الاقتصادية الجيدة على أنها تتكون من مجموعة مترابطة من الأشياء. يجب أن يكون هناك إنفاذ لحقوق الملكية لشريحة واسعة من المجتمع حتى يكون لدى جميع الأفراد الحافز للاستثمار والابتكار والمشاركة في النشاط الاقتصادي. يجب أيضًا أن تكون هناك درجة ما من المساواة في الفرص في المجتمع, بما في ذلك أشياء مثل المساواة أمام القانون, حتى يتمكن أولئك الذين لديهم فرص استثمارية جيدة من الاستفادة منها[3].
نستطيع أن نفكر في أنواع أخرى من المؤسسات الاقتصادية, وقد تجاوزت العديد من تفسيرات النمو والتنمية النماذج القائمة على التفضيلات والتكنولوجيا وعوامل الإنتاج إلى التركيز على ما يمكن أن نطلق عليه بشكل فضفاض المؤسسات. وقد أكدت على مجموعة من الأفكار,المهمة لعملنا, مثل أن الصراع على الموارد والافتراس, فضلاً عن الإنتاج, تشكل قوى أساسية في المجتمع. وقد قام علماء مثل Skaperdas (1992) , و Grossman and Kim (1995, 1996) , و Hirshleifer (2001) و Dixit (2004) بفحص الكيفية التي يمكن بها لحقوق الملكية المستقرة أن تنشأ في مثل هذه الظروف. وقد درس هؤلاء العلماء نماذج خالية من المؤسسات تقريبًا وتساءلوا عن الكيفية التي قد ينشأ بها نوع النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه النماذج الاقتصادية المعيارية من تلقاء نفسه. ويرتبط بهذا العمل ارتباطًا وثيقًا البحث الذي يوضح كيف أن البحث عن الريع والصراع على إعادة التوزيع بشكل عام له آثار مهمة على النمو [على سبيل المثال, Tornell and Velasco (1992) , و Murphy, Shleifer and Vishny (1991) , و Acemoglu (1995) , و Alesina and Perotti (1996) , و Benhabib and Rustichini (1996)].
لقد أكدت دراسات أخرى, على خطى الروايات التقليدية للنمو الاقتصادي التي كتبها المؤرخون, على غرار آدم سميث, على كمال الأسواق وانتشارها, وهو ما يشكل بوضوح مؤسسة اقتصادية أساسية [Pirenne (1937) , Hicks (1969)]. ومن الواضح أن مشاكل عدم كمال الأسواق أو غيابها قد يكون لها عواقب وخيمة على تخصيص الموارد, والحوافز, والنمو. لقد لعبت أسواق رأس المال دوراً محورياً في هذا السياق. على سبيل المثال, اقترح Banerjee and Newman (1993) و Galor and Zeira (1993) نماذج تقليدية لكيفية إعاقة الأسواق المالية غير الكاملة للنمو والتنمية. وتستند نماذج فخاخ الفقر التي وضعها Rosenstein-Rodan (1943) , و Murphy, Vishny and Shleifer (1989a, 1989b) , و Acemoglu (1995, 1997) , إلى فكرة مفادها أن عيوب السوق قد تؤدي إلى وجود توازنات متعددة مرتبة وفقاً لأمثلية باريتو. ونتيجة لهذا فإن أي دولة قد تتعثر في حالة توازن أدنى من باريتو, وهو التوازن الذي يرتبط بالفقر, ولكن الخروج من مثل هذا الفخ يتطلب تنسيق الأنشطة التي لا تستطيع السوق أن توفرها. ومن الممكن أن تؤدي آليات أخرى, مثل زيادة العائدات على الحجم, إلى مواقف مماثلة [على سبيل المثال, Durlauf (1993) , و Krugman and Venables (1995) , انظر Azariadis and Stachurski (2005) , للاطلاع على آليات وأمثلة أخرى]. وقد تم النظر في الآثار المترتبة على العديد من أنواع عيوب السوق الأخرى, على سبيل المثال في سوق العمل [Aghion and Howitt (1994) , و Pissarides (2000)] وقام علماء آخرون بفحص الآثار المترتبة على التنظيم الصناعي, وبنية السوق, وطبيعة المنافسة [على سبيل المثال, Acemoglu and Zilibotti
(1997) , و Aghion et al. (2001) , و Aghion and Howitt (2005)].
كانت فكرة أن عيوب السوق والمؤسسات الاقتصادية تلعب دورًا مركزيًا في التنمية مهمة أيضًا في الأدبيات الأكاديمية حول اقتصاديات التنمية منذ بدايتها. زعم كل من آدم سميث وألفريد مارشال أن نظام الزراعة المشتركة كان وسيلة غير فعّالة لتنظيم الزراعة لأنه أعطى حوافز غير صحيحة للمستأجرين. وقد تم صياغة هذه الحجة رسميًا, وفي قلب الأدبيات الكبيرة حول التنمية توجد عيوب في أسواق الإيجار والعمالة والأرض والائتمان [انظر Ray (1998), Bardhan and Udry (1999), Banerjee and Duflo (2005)].
وأخيرا, فإن الأدبيات التي قد يصنفها المرء على نطاق واسع باعتبارها مؤسساتية قد ناقشت على نطاق واسع نماذج الاقتصاد السياسي. والأكثر تأثيرا هي الأعمال المبكرة Perotti (1993),Saint-Paul and Verdier (1993), Alesina and Rodrik (1994) and Persson and Tabellini (1994) الذين طوروا نماذج ديناميكية لفحص تأثير الضرائب التوزيعية على النمو. وهناك الآن العديد من النماذج حيث يمكن للآليات والنتائج السياسية أن يكون لها تأثيرات مهمة على معدل النمو [انظر Ades and Verdier (1996), Krusell and Ríos-Rull (1999), Bourguignon and Verdier (2000) ومساهمات أخرى نناقشها في متن الورقة]
وعلى مستوى ما, هناك مجموعة محيرة من الأفكار التي تربط المؤسسات, سواء الاقتصادية أو السياسية, بالنمو والتنمية. ولكن في هذا الفصل, كما سيتضح بالفعل, لا نحاول دراسة كل هذه النظريات. بل نحاول بدلاً من ذلك تطوير منظور حول هذا الموضوع يدور حول ما نعتبره قضايا رئيسية. ومن الجانب التجريبي, يستلزم هذا تحديد الدور السببي للمؤسسات في التنمية. ومن الجانب النظري, يستلزم هذا التأكيد على أهمية فهم سبب اختلاف المؤسسات عبر البلدان. ومن منظور هذا الفصل, فإن المشكلة الرئيسية في معظم الأبحاث الحالية هي الافتقار إلى السكون المقارنة وغياب التركيز المقارن الحقيقي. على سبيل المثال, في نموذج Grossman and Kim (1995), قد تظهر حقوق الملكية المستقرة كتوازن, ولكن ما إذا كانت تظهر أم لا يعتمد على معايير في تكنولوجيا القتال والتي يصعب تفسيرها في الواقع. إن أغلب نماذج الأسواق غير الكاملة والتوازنات المتعددة تفشل في تقديم تفسيرات إما لسبب عيوب الأسواق أو عدم كمالها, أو لكيفية تمكن بعض المجتمعات من الوصول إلى توازنات جيدة بينما لا تتمكن مجتمعات أخرى من ذلك. وإلى الحد الذي ترتكز فيه الأسواق غير الكاملة على عيوب في المعلومات أو إمكانيات السلوك الانتهازي (الراكب المجاني), فإن المرء يرغب في معرفة كيف ولماذا تختلف هذه الأسواق عبر البلدان بطرق تتفق مع الحقائق الأساسية حول الاختلافات في النتائج الاقتصادية النسبية. نحن نعتقد أن بنية الأسواق متغير داخلي, وتحددها جزئياً حقوق الملكية. وبمجرد أن يتمتع الأفراد بحقوق ملكية آمنة وتتوافر المساواة في الفرص, فإن الحوافز سوف توجد لإنشاء الأسواق وتحسينها (على الرغم من أن تحقيق الأسواق المثالية عادة ما يكون مستحيلاً). وعلى هذا فإننا نتوقع أن تكون الاختلافات في الأسواق نتيجة لأنظمة مختلفة لحقوق الملكية والمؤسسات السياسية, وليس خصائص غير قابلة للتغيير مسؤولة عن الاختلافات بين البلدان في الأداء الاقتصادي. وهذا يحفزنا على التركيز على المؤسسات الاقتصادية المرتبطة بإنفاذ حقوق الملكية لشريحة واسعة من المجتمع.
هناك بعض الدراسات المقارنة الحقيقية في الأدبيات. على سبيل المثال, يشير كل من Banerjee and Newman (1993) , و Alesina and Rodrik (1994) , و Persson and Tabellini (1994) إلى الاختلافات في توزيع الثروة باعتبارها مفتاح النجاح أو الفشل. وسوف نناقش في وقت لاحق نظريات أخرى من هذا القبيل, على سبيل المثال تلك المرتبطة بجذور القانون [على سبيل المثال, La Porta et al. (1998)]. ومع ذلك, فإن هذه الدراسات تختلف تمام الاختلاف عن النهج الذي نقترحه في هذا الفصل.
2- الجغرافيا
في حين تؤكد النظريات المؤسسية على أهمية العوامل التي يصنعها الإنسان في تشكيل الحوافز, فإن البديل هو التركيز على دور “الطبيعة”, أي البيئة المادية والجغرافية. وفي سياق فهم الاختلافات بين البلدان في الأداء الاقتصادي, يؤكد هذا النهج على الاختلافات في الجغرافيا والمناخ والبيئة التي تحدد كل من التفضيلات ومجموعة الفرص المتاحة للفعاليات الاقتصادية في المجتمعات المختلفة. ونحن نشير إلى هذا النهج الواسع باسم “فرضية الجغرافيا”. وهناك على الأقل ثلاث نسخ رئيسية من فرضية الجغرافيا, كل منها تؤكد على آلية مختلفة لكيفية تأثير الجغرافيا على الرخاء.
أولاً, قد يكون المناخ عاملاً مهماً في تحديد الجهد المبذول في العمل, أو الحوافز, أو حتى الإنتاجية. وتعود هذه الفكرة على الأقل إلى الفيلسوف الفرنسي الشهير مونتسكيو (1748), الذي كتب في كتابه الكلاسيكي “روح القوانين”: “قد تكون حرارة المناخ مفرطة إلى الحد الذي يجعل الجسم هناك بلا قوة على الإطلاق. وعلى هذا فإن الكسل سوف ينتقل حتى إلى الروح؛ فلا فضول, ولا مشروع نبيل, ولا مشاعر سخية؛ وسوف تكون الميول كلها سلبية هناك؛ وسوف يكون الكسل هناك سعادة”, و”الناس أكثر قوة في المناخات الباردة. وسكان البلدان الدافئة, مثل الرجال المسنين, جبناء؛ وسكان البلدان الباردة, مثل الشباب, شجعان”. إن مارشال, أحد مؤسسي علم الاقتصاد الحديث, هو شخصية بارزة أخرى أكدت على أهمية المناخ, حيث قال: “إن القوة تعتمد جزئيًا على الصفات العرقية: ولكن هذه الصفات, بقدر ما يمكن تفسيرها على الإطلاق, تبدو وكأنها ترجع في المقام الأول إلى المناخ” [مارشال (1890, ص 195)].
وثانياً, قد تحدد الجغرافيا التكنولوجيا المتاحة للمجتمع, وخاصة في مجال الزراعة. وقد طور هذا الرأي أحد الحائزين الأوائل على جائزة نوبل في الاقتصاد, ميريدال, الذي كتب “إن الدراسة الجادة لمشاكل التخلف… ينبغي أن تأخذ في الاعتبار المناخ وتأثيراته على التربة والنباتات والحيوانات والبشر والأصول المادية ـ أو باختصار, على ظروف المعيشة في التنمية الاقتصادية” [ميريدال (1968, المجلد 3, ص 2121)]. وفي الآونة الأخيرة, تبنى دياموند هذا الرأي, “… كانت العوامل المباشرة وراء غزو أوروبا للأميركيتين هي الاختلافات في جميع جوانب التكنولوجيا. وقد نشأت هذه الاختلافات في نهاية المطاف من تاريخ أوراسيا الأطول كثيراً من الكثافة السكانية… [المجتمعات المعتمدة على إنتاج الغذاء]”, والذي كان بدوره يحدده الاختلافات الجغرافية بين أوروبا والأميركيتين [دياموند (1997, ص 358)]. كان الخبير الاقتصادي ساكس من المؤيدين الأقوياء لأهمية الجغرافيا في الإنتاجية الزراعية, حيث صرح بأنه “مع بداية عصر النمو الاقتصادي الحديث, إن لم يكن قبل ذلك بكثير, كانت تقنيات المناطق المعتدلة أكثر إنتاجية من تقنيات المناطق الاستوائية …” [ساكس (2001, ص 2)]
إن النسخة الثالثة من فرضية الجغرافيا, والتي كانت شائعة بشكل خاص خلال العقد الماضي, تربط الفقر في العديد من مناطق العالم بـ “عبء المرض”, مؤكدة أن: “عبء الأمراض المعدية أعلى بشكل مماثل في المناطق الاستوائية منه في المناطق المعتدلة” [ساكس (2000, ص 32)]. ويزعم بلوم وساكس (1998) أن انتشار الملاريا, وهو مرض يقتل ملايين الأطفال كل عام في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى, يقلل من معدل النمو السنوي لاقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بنسبة تزيد عن 1.3٪ سنويًا (وهذا تأثير كبير, مما يعني أنه لو تم القضاء على الملاريا في عام 1950, لكان دخل الفرد في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ضعف ما هو عليه اليوم).
3- الثقافة
يؤكد التفسير الأساسي الأخير للنمو الاقتصادي على فكرة أن المجتمعات المختلفة (أو ربما الأعراق أو المجموعات العرقية المختلفة) لديها ثقافات مختلفة, بسبب الخبرات المشتركة المختلفة أو الديانات المختلفة. يُنظر إلى الثقافة باعتبارها عاملاً رئيسيًا في تحديد قيم وتفضيلات ومعتقدات الأفراد والمجتمعات, وتذهب الحجة إلى أن هذه الاختلافات تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل الأداء الاقتصادي.
على مستوى ما, يمكن الاعتقاد أن الثقافة تؤثر على نتائج التوازن على مجموعة معينة من المؤسسات. ومن المحتمل أن تكون هناك توازنات متعددة مرتبطة بأي مجموعة من المؤسسات, والاختلافات في الثقافة تعني أن المجتمعات المختلفة سوف تتعاون على تحقيق توازنات مختلفة. من منظور آخر, وكما زعم جريف (1994), فإن الثقافات المختلفة تولد مجموعات مختلفة من المعتقدات حول كيفية تصرف الناس, وهذا يمكن أن يغير مجموعة التوازنات لمواصفات معينة من المؤسسات (على سبيل المثال, ستسمح بعض المعتقدات باستخدام استراتيجيات العقاب بينما لن تسمح بها معتقدات أخرى).
إن الرابط الأكثر شهرة بين الثقافة والتنمية الاقتصادية هو الذي اقترحه فيبر (1930) الذي زعم أن أصول التصنيع في أوروبا الغربية يمكن إرجاعها إلى الإصلاح البروتستانتي وخاصة ظهور الكالفينية. وفي رأيه, كانت مجموعة المعتقدات الاساسية للبروتستانتية حول العالم حاسمة لتطور الرأسمالية.وأكدت البروتستانتية على فكرة القدر بمعنى أن بعض الأفراد “مختارون” بينما لم يتم اختيار الآخرين. “نحن نعلم أن جزءًا من البشرية قد نجا, والبقية ملعونة. إن افتراض أن الفضل البشري أو الذنب يلعبان دورًا في تحديد هذا المصير سيكون بمثابة التفكير في مراسيم الله الحرة تمامًا, والتي تم تسويتها منذ الأزل, باعتبارها عرضة للتغيير من خلال التأثير البشري, وهو تناقض مستحيل” [ويبر (1930, ص 60)].
ولكن من الذي اختير ومن لم يختَر؟ لم يشرح كالفن هذا الأمر. ويشير فيبر (1930, ص 66) إلى أنه “من الطبيعي أن يكون هذا الموقف مستحيلاً بالنسبة لأتباعه… بالنسبة للجماهير العريضة من الناس العاديين… لذا, أينما اعتنقت عقيدة القدر, لم يكن من الممكن إخفاء السؤال عما إذا كانت هناك أي معايير معصومة من الخطأ يمكن من خلالها معرفة المختارين”. وسرعان ما تم تطوير حلول عملية لهذه المشكلة, “… من أجل تحقيق تلك الثقة بالنفس, يُنصح بالنشاط الدنيوي المكثف باعتباره الوسيلة الأكثر ملاءمة. فهو وحده يبدد الشكوك الدينية ويعطي يقين النعمة” [ويبر (1930, ص 66-67)]
وبالتالي فإن “الأعمال الصالحة مهما كانت عديمة الفائدة كوسيلة لبلوغ الخلاص… إلا أنها لا غنى عنها كعلامة على الاختيار. فهي الوسيلة التقنية, ليس لشراء الخلاص, بل للتخلص من الخوف من الإدانة” (ص 69). ورغم تشجيع النشاط الاقتصادي, فإن التمتع بثمار هذا النشاط لم يكن كذلك. “إن إهدار الوقت هو… أول وأخطر الخطايا من حيث المبدأ. إن عمر الإنسان قصير للغاية وثمين لضمان اختياره. إن إهدار الوقت من خلال… الاختلاط, والثرثرة, والترف, وحتى النوم أكثر مما هو ضروري للصحة… يستحق… الإدانة الأخلاقية المطلقة… إن عدم الرغبة في العمل هو أحد أعراض نقص النعمة” (ص 104-105).
وهكذا أدت البروتستانتية إلى مجموعة من المعتقدات التي أكدت على العمل الجاد, والاقتصاد, والادخار, وحيث تم تفسير النجاح الاقتصادي على أنه متوافق مع (إن لم يكن في الواقع إشارة) اختيار الله للإنسان. قارن فيبر بين خصائص للبروتستانتية هذه وتلك الخاصة بالأديان الأخرى, مثل الكاثوليكية, التي زعم أنها لا تعزز الرأسمالية. على سبيل المثال, في كتابه عن الدين الهندي, زعم أن نظام الطبقات يعيق التطور الرأسمالي [ويبر (1958, ص 112)].
وفي الآونة الأخيرة, زعم علماء مثل لاندس (1998) أن أصول الهيمنة الاقتصادية الغربية ترجع إلى مجموعة معينة من المعتقدات حول العالم وكيف يمكن تحويله من خلال الجهود البشرية, والتي ترتبط مرة أخرى بالاختلافات الدينية. وعلى الرغم من أن بارو وماكليري (2003) يقدمان أدلة على وجود علاقة إيجابية بين انتشار المعتقدات الدينية, وخاصة فيما يتعلق بالجحيم والجنة, والنمو الاقتصادي, فإن هذا الدليل لا يظهر تأثيراً سببياً للدين على النمو الاقتصادي, لأن المعتقدات الدينية متغير داخلي يتبع النتائج الاقتصادية وغيرها من الأسباب الأساسية للاختلافات في الدخل [النقاط التي طرحها تاوني (1926), وهيل (1961ب), في سياق أطروحة فيبر].
إن الأفكار المتعلقة بكيفية تأثير الثقافة على النمو لا تقتصر على دور الدين. ففي الأدبيات التي تحاول تفسير التنمية المقارنة, كانت هناك حجج مفادها أن هناك شيئًا خاصًا فيما يتعلق بالمواهب الثقافية المعينة, والتي ترتبط عادةً بدول قومية معينة. على سبيل المثال, قد تكون أمريكا اللاتينية فقيرة بسبب تراثها الأيبيري, في حين أن أمريكا الشمالية مزدهرة بسبب أصولها الأنجلوساكسونية [فيليز (1994)]. بالإضافة إلى ذلك, يزعم عدد كبير من الأدبيات في علم الأنثروبولوجيا أن المجتمعات قد تصبح “مختلة” أو “غير متكيفة” بمعنى أنها تتبنى نظامًا من المعتقدات أو الطرق أو العمليات التي لا تعزز نجاح أو ازدهار المجتمع [انظر إدجيرتون (1992), لمسح هذا الأدب]. إن النسخة الأكثر شهرة من هذه الحجة ترجع إلى بانفيلد (1958) الذي زعم أن فقر جنوب إيطاليا كان راجعاً إلى حقيقة مفادها أن الناس تبنوا ثقافة “الألفة غير الأخلاقية” حيث لم يثقوا إلا في أفراد أسرهم ورفضوا التعاون أو الثقة في أي شخص آخر. وقد أعيد إحياء هذه الحجة في الدراسة التجريبية المكثفة التي أجراها بوتنام وليوناردي ونانيتي (1993) الذين وصفوا مثل هذه المجتمعات بأنها تفتقر إلى “رأس المال الاجتماعي”. وعلى الرغم من أن بوتنام وآخرين, على سبيل المثال, ناك وكيفر (1997) ودورلاوف وفافشامبس (2004), يوثقون الارتباطات الإيجابية بين مقاييس رأس المال الاجتماعي والنتائج الاقتصادية المختلفة, إلا أنه لا يوجد دليل على وجود تأثير سببي, لأنه, كما هو الحال مع المعتقدات الدينية التي ناقشناها أعلاه, فإن مقاييس رأس المال الاجتماعي قد تكون متغيرات داخلية.
[1] – على الرغم من أن بعض المساهمات الحديثة في نظرية النمو تؤكد، كما سنناقش لاحقًا، على أهمية السياسات الاقتصادية، مثل الضرائب، ودعم البحوث، والحواجز أمام تبني التكنولوجيا، وسياسة رأس المال البشري، فإنها لا تقدم عادةً تفسيرًا لسبب وجود اختلافات في هذه السياسات عبر البلدان.
[2] – السبب الذي دفعنا إلى إدراج تحذير “مجموعة واسعة نسبيا” هو أنه عندما تسيطر مجموعة صغيرة تتمتع بفرص استثمارية كبيرة على السلطة، فإنها قد تختار في بعض الأحيان نظاما أوليغارشيا حيث يتم حماية حقوق الملكية الخاصة بها، ولكن لا يتم حماية حقوق الآخرين [انظر Acemoglu (2003b)].
[3] – Acemoglu, Johnson and Robinson (2001), صغنا مصطلح مؤسسات الملكية الخاصة لمجموعة من المؤسسات الاقتصادية الجيدة، بما في ذلك سيادة القانون وإنفاذ حقوق الملكية، ومصطلح المؤسسات الاستخلاصية للإشارة إلى المؤسسات التي تغيب فيها سيادة القانون وحقوق الملكية بالنسبة لغالبية كبيرة من السكان.