مغالطة البديل الصيني للنظام الغربي

شارك هذا المقال:

ترجمة عن مادة منشورة في موقع:

The Fallacy of a Chinese Alternative to the Western Order

https://www.wilsoncenter.org/article/fallacy-chinese-alternative-western-order

بقلم

Christopher Colley

ترجمة: مسلم عبد طالاس

على مدى العقد الماضي, تضاعف حجم الاقتصاد الصيني تقريبًا (أي مقدار الناتج المحلي الاجمالي GDP- المترجم) , من 8.93 تريليون دولار في عام 2012 إلى 16.33 تريليون دولار في عام 2022 (أحدث البيانات المتاحة). وقد أدى هذا إلى مخاوف من أن الصين تمثل بديلاً قابلاً للتطبيق للنظام الغربي وأن “نموذج الصين” متفوق على تجربة الغرب. وقد امتدت هذه المخاوف إلى أعلى هرم الحكومة الامركية. تزعم استراتيجية الأمن القومي الأخيرة للبيت الأبيض أنه يجب علينا التفوق على الصين, وتنص كذلك على أن “جمهورية الصين الشعبية هي المنافس الوحيد الذي لديه نية إعادة تشكيل النظام الدولي, ويمتلك , وبشكل متزايد, القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”. وقد أعلن الرئيس بايدن بشكل مباشر في بيانه الصادر في مارس 2021   “علينا أن نثبت أن الديمقراطية تعمل”, مما أدى إلى مخاوف من أن نسخة الصين من التنمية والاستبداد ليست مفضلة فحسب, بل والأهم من ذلك أنها أكثر ملاءمة لاحتياجات البلدان النامية.

إن مثل هذه المخاوف مضللة. صحيح أن نمو الصين كان هائلاً مع تحول البلاد من مجتمع زراعي إلى قوة تكنولوجية عملاقة, وأصبحت الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم. يقدر البنك الدولي أن هذا النمو انتشل ما يقرب من 800 مليون شخص من براثن الفقر, ووفقًا للأمم المتحدة, ارتفع مؤشر التنمية البشرية في الصين من 0.41 في عام 1978 إلى 0.76 في عام 2021, وهو أحدث البيانات. وقد أدت هذه الإحصاءات المثيرة للإعجاب إلى القلق بين البعض من أن نسخة من الاستبداد هي شرط ضروري للنمو الاقتصادي. ومع ذلك, فإن هذه المخاوف في غير محلها.

إن التجربة الصينية (وليس ما يسمى “النموذج الصيني”) لا تمثل بديلاً قابلاً للتطبيق بدلا من التنمية في ظل حكومات ديمقراطية ذات مؤسسات قوية. والبيانات في العالم الحقيقي لا تدعم الحجة القائلة بأن الأنظمة غير الديمقراطية تحقق أداءً أفضل في تنمية بلدانها. والواقع أن البيانات تثبت أن الديمقراطية متفوقة كثيراً على الاستبداد.

لا شك أن الحكومة الصينية قد فعلت الكثير من الأشياء الصحيحة في سعيها إلى تحديث الصين وتحويلها إلى قوة عظمى, إلا أن هناك سؤالاً رئيسياً يظل قائماً: هل تمثل الصين بديلاً للنظام الغربي؟ هذا السؤال ليس نقاشاً أكاديمياً نخبويا. إذا كانت الصين تمثل “نموذجاً” قابلاً للتطبيق وبديلاً للتجربة الغربية, فقد يكون من الأفضل للدول الأخرى محاكاة التجربة الصينية. لقد خيم التنافس الصيني الأمريكي على هذه القضية واتخذت دلالات أيديولوجية مع إصرار المسؤولين الصينيين على أن “نظامهم الاشتراكي” “متفوق” وزعم المعلقون الصينيون أن الولايات المتحدة ونظامها للحكم في حالة انحدار.

بناء على مراجعة المصادر المكتوبة باللغة الصينية والدراسات الأكاديمية والبيانات المتاحة للجمهور, أزعم أن الصين وتجربتها التنموية لا تشكل تحدياً للنظام الغربي. وأقسم دراستي إلى ثلاثة أجزاء. أولاً, أشير إلى أنه, وعلى عكس الاعتقاد السائد, لا يوجد “نموذج” واضح متميز للصين. ثانياً, إذا كان هناك نموذج صيني محدد, فبعد 45 عاماً من “الانفتاح والإصلاح” في الصين, يجب أن تكون هناك أمثلة حقيقية في العالم لبلدان تبنت بنجاح تجربة الصين. والحقيقة هي أنه لا توجد دول نسخت تجربة الصين بفعالية. وأخيراً, إذا كان أساس تجربة الصين هو التفوق المفترض للأنظمة غير الديمقراطية في “إنجاز الأمور”, فإن البيانات المتعلقة بالتنمية العالمية ونوع النظام يجب أن تعكس هذا. لكن البيانات لا تفعل ذلك.

نموذج أم عملية؟

إذا كانت تجربة الصين تشكل بديلاً قابلاً للتطبيق للأنظمة القائمة على السوق والديمقراطية, فلابد من التوصل إلى اتفاق تقريبي حول ما يتألف منه “نموذج الصين” على وجه التحديد. يؤكد صندوق النقد الدولي أن النماذج الاقتصادية يمكن تفسيرها من خلال انتظام أنظمتها أو الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. ومن المؤسف بالنسبة للصين أنه لا يوجد اتفاق حول ماهية نموذج الصين بالضبط, حيث يصف بعض العلماء ما يسمى بالنموذج بأنه أسطورة. ويزعم شياويانج تانج من جامعة تسينغهوا أن الحكومة الصينية لم تحدد بالضبط ماهية نموذج الصين. ويشير يو وين تشين وأوبيرت هودزي إلى أن هذا النموذج كثيراً ما يتم تعريفه من خلال مقارنته بإجماع واشنطن(وصفة ذات طابع ليبرالي لمعالجة المشكلات الاقتصادية للدول النامية- المترجم)  بدلاً من تعريفه بما هو عليه في الواقع. ومن المثير للاهتمام أن تشاو تشي تشنغ, الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية في اللجنة الوطنية للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني, تجنب استخدام مصطلح “نموذج” الصين في عام 2010, وذكر أنه ليس فقط غير عالمي, بل إن “تصدير “نموذج الصين” ينتهك التزام الصين بمبدأ صياغة السياسات بالاقتران مع الظروف الوطنية للصين”. وعلاوة على ذلك, يفضل تشاو مصطلح “حالة الصين” بدلاً من “نموذج الصين”. وبصرف النظر عما إذا كان هناك “نموذج” متماسك بالفعل, فقد صرح الرئيس الصيني شي جين بينغ في المؤتمر التاسع عشر للحزب بأن الصين تقدم “مسارًا جديدًا للدول النامية الأخرى لتحقيق التحديث. كما تقدم خيارًا جديدًا للدول والأمم الأخرى التي تريد تسريع تنميتها مع الحفاظ على استقلالها؛ وتقدم الحكمة الصينية والنهج الصيني لحل المشاكل التي تواجه البشرية”. وفي الآونة الأخيرة, عززت زيارة الرئيس شي جين بينغ في أغسطس/آب 2023 لحضور قمة مجموعة البريكس في جنوب أفريقيا هذا التصور.

إن النجاح الاقتصادي والتنموي الذي حققته الصين يمكن فهمه على أفضل وجه باعتباره عملية من التجربة والخطأ (“عبور النهر من خلال لمس الحجارة”) والتي اختلطت فيها مناهج مختلفة على مدى عقود من الزمان. والأمر الحاسم هو أن  هناك العديد من تجارب الصين أثبتت تناقضها على مدى عقود من الزمان. حيث كانت هناك فترات من رأسمالية السوق الحرة, والقيود السوقية المتشددة, ورأسمالية الدولة, والهجمات على قطاع التكنولوجيا مؤخرًا. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر ككل, فإنه لا يشكل نموذجًا, ولكن من الأفضل فهمه باعتباره عملية ذات جوانب رئيسية مثل: عدد كبير من السكان الريفيين, وحقن كبيرة من الاستثمار المباشر الأجنبي, والمزايا الجغرافية, ومستويات عالية من قدرة الدولة, وربما الأهم من ذلك, بيروقراطية واسعة وكفؤة ومهنية. وعندما يقترن هذا بالتغييرات المستمرة في الاتجاه من جانب الدولة الصينية, فمن الصعب تحديد عناصر النموذج التي تحتاج الدول الاخرى إلى تكرارها حتى تتمكن من تحقيق النجاح.

إن غياب نموذج تدريجي يجعل من الصعب للغاية, إن لم يكن من المستحيل, تقليده. على سبيل المثال, هل ينبغي للدول الأجنبية تقليد رأسمالية السوق الحرة الأكثر ودية لريادة الأعمال التي اتبعتها الصين في ثمانينيات القرن العشرين, أو الحملة على القطاع الخاص بعد أحداث ميدان السلام السماوي في عام 1989, أو تفكيك الشركات المملوكة للدولة في أواخر التسعينيات, أو “العصر الذهبي” للرأسمالية المحابية (الزبائنية- المترجم) في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, أو توسع الدولة على القطاع الخاص, أم ينبغي لها أن تركز على تحقيق مستويات عالية من قدرة الدولة والبيروقراطية المهنية؟ ما يهم هنا هو أن السياسات المتناقضة لفترات مختلفة من الإصلاحات الاقتصادية الصينية تكذب التصور القائل بوجود نموذج خطي, وبالتالي يسهل اتباعه. إن فهم الصعود والهبوط في تجربة الصين أمر ضروري. ومن المؤسف بالنسبة للصين وبقية العالم أن المعلومات عن المنعطفات المهمة في التاريخ الاقتصادي للصين لم تعد في متناول اليد بسبب الرقابة التي تفرضها الحكومة الصينية. على سبيل المثال, لعب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الصيني, تشاو زيانج, دوراً فعالاً في الإصلاحات الاقتصادية المبكرة في الصين في ثمانينيات القرن العشرين, ولكن تم إبعاده إلى حد كبير من سجلات التاريخ الرسمي.

أين الأمثلة؟

منذ بداية الإصلاحات الصينية قبل 45 عامًا, كان هناك متسع من الوقت لظهور أمثلة واقعية للمحاكاة وتحديد ما إذا كان “نموذج” الصين قابلاً للنقل. بالإضافة إلى ذلك, يمكن اعتبار حقيقة أن بكين ترعى برامج تدريبية في الصين للأشخاص والمجموعات من جميع أنحاء العالم (وخاصة الجنوب العالمي) للتعرف على تجربة الصين بمثابة محاولة من بكين لمشاركة تجربتها. على سبيل المثال, أنشأت بكين مؤسسات تدريبية مثل معهد التعاون والتنمية بين بلدان الجنوب (ISSCAD) الذي تم إنشاؤه في جامعة بكين في عام 2016 لتدريب المسؤولين الأجانب والنخب من العالم النامي. يحصل هؤلاء الأشخاص على درجة مهنية في التنمية الوطنية. تم إنشاء أكاديمية أخرى في قوانغشي لأغراض مماثلة, حيث يأتي معظم الطلاب من دول جنوب شرق آسيا.

في المقابلات المتعمقة التي أجراها كاتب هذا المقال مع خبراء يعملون في مراكز الأبحاث والجامعات, فضلاً عن مسؤولين حكوميين سابقين وحاليين في دول تتراوح من نيبال إلى سريلانكا إلى كينيا, يسمع المرء عن “نموذج الصين” وكيف أنه يقدم بديلاً. ومع ذلك, فإن التفاصيل شحيحة حول ما هو “نموذج الصين” وما تفعله دولهم بشكل محدد لتطبيقه. أشارت وسائل الإعلام والتقارير العلمية أن الدول الأفريقية هي أفضل حالات الاختبار لنجاح التحديث على الطريقة الصينية. ومع ذلك, عند الفحص الدقيق, خلصت العديد من هذه التقارير إلى وجود أدلة قليلة على محاكاة الدول الأفريقية لتجربة الصين.

لقد تم الإشارة إلى إثيوبيا باعتبارها حالة اختبار حاسمة لتطبيق “نموذج الصين”. في ثاني أكبر بلد من حيث عدد السكان في أفريقيا (123 مليون نسمة), كانت النخب الإثيوبية حريصة على محاكاة الصين ونجاحها منذ عام 2005 على الأقل. كانت النتائج بالنسبة لإثيوبيا, في أفضل الأحوال, مختلطة. تدعم الصين سعي إثيوبيا لتصبح مركزًا صناعيًا أفريقيًا, وقد تأثر هذا القطاع في بلصين. ومن الأهمية بمكان, كما يشير إدسون زيسو, أن إثيوبيا لم تقلد نموذج الصين تمامًا, بل إن ظروفًا مختلفة قادت البلاد إلى مسار سمح بتلبية المصالح الصينية والإثيوبية. يمكن القول إن البيانات الحاسمة لنسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي هي المؤشر الأكثر أهمية لقياس ما إذا كان تبني أديس أبابا لـ “نموذج” الصين ناجحًا. بالنظر إلى أن القادة الإثيوبيين بدأوا في النظر إلى الصين منذ عام 2005 على الأقل, فيجب أن نشهد نموًا مستدامًا ومتزايدًا في الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقدين الماضيين. بدلاً من ذلك, وفقًا للبنك الدولي, كان معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي في إثيوبيا على مسار هبوطي واضح. في عام 2004, كان 13.6%. وبحلول عام 2012, كان 8.6%, وفي عام 2018 وصل إلى 6.8%, وفي عامي 2021 و2022 كان في نطاق 5%. إن مسار نمو الناتج المحلي الإجمالي في إثيوبيا, إلى جانب الحرب الأهلية الأخيرة والتمرد الحالي, يثير تساؤلات جدية حول مدى قابلية تطبيق “نموذج” الصين في البلاد. وأشارت إحدى الدراسات الأكاديمية إلى أن إثيوبيا ستنتهي بها الحال إلى نسختها الخاصة من التنمية, والتي ستطلق عليها “نموذج التنمية الصيني” لكي تربطها ظاهريًا بالصين.

لقد تبنى القادة الأفارقة المعايير الصينية ليس بسبب جاذبية تجربة الصين, بل كمبرر لدولة قوية تحافظ على أنظمتهم في السلطة. لقد انخرط القادة في زامبيا وأوغندا وزيمبابوي مع الصين  في تحدي القيم الليبرالية وتشديد الرقابة على مواطنيها. وبالتالي فإن تبني “النموذج الصيني” من قبل النخب الأفريقية يُنظَر إليه باعتباره وسيلة للقادة للاستفادة من علاقاتهم مع بكين لإعادة التفاوض مع الغرب. وقد زعمت إحدى الدراسات العلمية أن النخب الأفريقية “تتظاهر باتباع التفضيلات الإيديولوجية للصين للحصول على فوائد مادية”. وعلى الرغم من محاولات زيمبابوي لتنفيذ “النموذج الصيني”, إلا أنها فشلت في تبني أي إصلاحات ذات مغزى تهدف إلى زيادة الإبداع والتجريب. وبدلاً من ذلك, حاولت زيمبابوي على مدى السنوات العشرين الماضية تعزيز الحزب الحاكم ولكنها أهملت مجالات حاسمة مثل البيئة المؤيدة للأعمال التجارية, والبنية السياسية المستقرة والبيروقراطية القوية.

وخارج السياق الأفريقي, تلقي دراسات أخرى بظلال من الشك على قدرة “نموذج الصين” على اكتساب الزخم في بيئات أخرى. ويُستشهد بالمستويات المنخفضة نسبيا من قدرة الدولة في العديد من دول الشرق الأوسط باعتبارها عائقا رئيسيا أمام النموذج في المنطقة. وفي غياب المؤسسات القابلة للاستمرار وصناع السياسات المؤهلين, لن تتكرر تجربة الصين في معظم البلدان. ​​وتختلف دول الخليج في أنها تعتمد بشكل كبير على ريع موارد الطاقة لديها. وعلى هذا النحو, فهي لا تحتاج إلى اتباع مثال الصين. وعلاوة على ذلك, حتى في الدول القريبة سياسيا من الصين, مثل إيران, لا يوجد إجماع على “نموذج الصين”.

وبشكل عام, هناك نقص في الأدلة الملموسة على نجاح دولة نسخت ما يسمى “النموذج الصيني” بفعالية وشهدت زيادات طويلة الأجل في النمو الاقتصادي. وهذا يثير تساؤلات جدية حول امتلاك بكين لنموذج تنمية قابل للتطبيق ويمكن تصديره.

التجربة اكبر برهان

“أنظر, أتوقع أن أطفالك أو أحفادك سوف يقومون بإعداد أطروحاتهم للدكتوراه حول قضية من الذي نجح: الاستبداد أم الديمقراطية؟ لأن هذه القضية هي على المحك, وليس فقط ما يتصل منها بالصين.”

الاقتباس الوارد أعلاه هو من تصريحات الرئيس بايدن في عام 2021 متحدثا عن جوهر المخاوف بشأن ما إذا كانت الصين تمثل نموذجًا قابلاً للتطبيق وقابلًا للتكرار ويمكن أن يتفوق على النهج الغربي. من حسن حظ الرئيس بايدن أنه لا داعي للقلق بشأن هذا, على الأقل في الوقت الحالي, حيث لدينا طريقة بسيطة وواضحة للتأكد مما إذا كانت الدول الديمقراطية أو الاستبدادية تحقق أهداف شعوبها.

كما أشرنا أعلاه, فإن مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة هو مجموعة بيانات تحظى بالاحترام  على نطاق واسع. من خلال قياس متوسط ​​العمر المتوقع والدخل ومستويات التعليم, يصل المؤشر إلى جوهر المنافع التي تقدمها الدولة لشعبها. إذا تم تعريف السياسة بشكل تقريبي على أنها “من يحصل على ماذا, ومتى, وكيف”, فإن مؤشر التنمية البشرية هو وسيلة جيدة لقياس ذلك. لكي يشكل الاستبداد تهديدًا كبيرًا للمعايير الديمقراطية, يجب أن نرى عددًا كبيرًا من الدول غير الديمقراطية ممثلة بين الدول ذات الدرجات العالية في مؤشر التنمية البشرية. بناءً على درجات مؤشر التنمية البشرية لعام 2019 (تم استخدام عام 2019 لأن جائحة كوفيد-19 ربما شوهت مستويات مؤشر التنمية البشرية لاحقا), نجد أنه من بين أفضل 30 دولة التي حققت أعلى درجات مؤشر التنمية البشرية, هناك دولتان فقط (هونج كونج – جزء من الصين وسنغافورة) ليست ديمقراطيات كاملة وفقًا لمؤشر الديمقراطية لمجلة الإيكونوميست. وبنفس القدر من الأهمية ملاحظة أنه بين الدول الثلاثين الأدنى على مؤشر التنمية البشرية لا توجد دولة واحدة ذات ديمقراطية “كاملة” أو “منقوصة”.

إن ما تظهره البيانات هو أن الدول الديمقراطية, على الرغم من كل عيوبها وتراجعها الأخير, متفوقة بشكل كبير في تقديم الخدمات لشعوبها. والواقع أنه لا يوجد بديل قابل للتطبيق. وباستثناء دول الخليج النفطية, تشكل الصين الاستثناء الذي يثبت القاعدة عندما يتعلق الأمر بالدول الاستبدادية والتنمية الاقتصادية. وبعبارة بسيطة, فإن التجربة الصينية تشكل شذوذاً ولَّد فرصاً هائلة للشعب الصيني, ولكنها لا تنطبق على دول أخرى. والواقع أن تجربة الصين ليست فريدة بالضرورة, ولكنها متميزة بما يكفي للحد من امكانية محاكاتها من قِبَل دول أخرى. وعلاوة على ذلك, يتعين علينا أن نضع في اعتبارنا حقيقة مفادها أن الديمقراطيات تنشر غسيلها القذر وتسلط الضوء على مشاكلها وتناقضاتها المتأصلة. وحقيقة أن الصين توقفت عن نشر بيانات ثقة المستهلك والبطالة بين الشباب في الأشهر القليلة الماضية يشكل دليلاً دامغاً على وجود شيء تخفيه.

إن الأزمة الاقتصادية الحالية في الصين هي إلى حد كبير نتيجة لسوء اتخاذ القرارات في قمة النظام السياسي في الصين. وعلاوة على ذلك, فإن “سياسة صفر كوفيد” الكارثية(التشدد الكبير في اجراءات العزل اثناء الوباء- المترجم), والتي أدت وفقًا لدراسة حديثة إلى ما يقدر بنحو 1.87 مليون حالة وفاة إضافية, كان من الممكن تجنبها تمامًا. في الحقيقة إن الحكومة الصينية رفضت قبول لقاحات MRNA الأكثر فعالية من الغرب عشية إنهاء سياسة صفر كوفيد أمر مروع. وبصرف النظر عن هذا, يبدو أنه لم يكن هناك أي استعداد للكارثة المتوقعة التي أعقبت مباشرة نهاية السياسة. وفي حين كان أداء الغرب ضعيفًا أيضًا أثناء الوباء, فإن حقيقة أن الصين كانت تروج لنموذجها المتفوق المفترض أثناء الوباء, ثم تركته يختفي, تثير تساؤلات خطيرة حول جدوى “نموذج الصين”.

الخلاصة

إن المخاوف الأميركية من انتصار الاستبداد على المعايير الديمقراطية مبالغ فيها. فقد شهدت الصين الاستبدادية نمواً اقتصادياً مذهلاً على مدى العقود الأربعة الماضية, ولكن نموذجها غير مفهوم بشكل جيد, ومن الصعب للغاية, إن لم يكن من المستحيل, تكراره في بيئات غير صينية. وحقيقة أن الصينيين أنفسهم يختلفون حول ماهية “نموذج الصين” تشكل مؤشراً واضحاً على الصعوبات التي تواجهها بكين في تحدي النظام الغربي. والمخاوف من أن الصين تريد أن تجعل العالم “ملاذا للاستبداد” ليست بلا أساس, ولكن هذا لا يمثل نظاماً بديلاً للتنمية قابلاً للتطبيق. والأمر الأكثر أهمية هو النمو المستدام الذي يخدم الناس.

لقد استمرت الإصلاحات الصينية لمدة 45 عاماً, مما وفر الكثير من الوقت للدول النامية الأخرى لنسخ تجربة الصين بنجاح وتحويل بلدانها.  ما لايسعد للصين هو أن هناك أدلة ضئيلة على قيام دول أخرى بذلك. وكثيراً ما تتحدث الدول النامية عن اتباع مثال الصين ونسخ نظامها, ولكن الواقع التجريبي هو أنها لا تفعل ذلك. وتشمل الأسباب عوامل متعددة, تتراوح بين الافتقار إلى المعرفة بماهية تجربة الصين في الواقع, إلى تقديم الكلام المعسول للصين من أجل الحصول على المزيد من المنافع من بكين والغرب, إلى وجود بيروقراطيات غير كفؤة وفاسدة.

صحيح أن العديد من الدول الديمقراطية, بما في ذلك الولايات المتحدة, شهدت تآكلاً للممارسات والمعايير الديمقراطية على مدى العقد الماضي, ولكن مرونة الديمقراطيات وقدرتها على تصحيح نفسها عملت كمكابح لانهيار النظام. والواقع أننا لا نحتاج إلى إثبات أن الديمقراطية لا تزال تعمل, فالبيانات العامة تشير بوضوح إلى أنها تعمل, بل إن الصين تحتاج إلى إثبات أن الاستبداد قادر على تحقيق تنمية قابلة للقياس على المدى الطويل تتجاوز بضع دول صغيرة أو دول نفطية. والأزمة الاقتصادية الحالية في الصين دليل على عدم كفاءة نظامها. وقد أدى هذا إلى دعوات بأن “نموذج” الصين في “نوبات موته”. والسؤال الحقيقي هو, هل كان هناك نموذج في الأساس؟

شارك هذا المقال: