دوريش عفدي وعدولة (أنا كحل عيني عدولة).. ملحمة البراري والسهوب الكردية

شارك هذا المقال:

فاضل متين

لا تخلو الأساطير والمعتقدات الدينية من الخرافة، فكل عقيدة تتوجه نحو المجموع لا بدّ أن تعرض لجماهيرها حزمة من القصص لترضي نهمها إلى فهم وجودها وما خلف وجودها حتى لو لم تلامس هاتيك القصص العقل والمنطق، فالناس بحاجة إلى من يقدم لهم الحلول التي ترضي داخلهم، وتردم هوة الأسئلة الوجودية المقلقة التي تبتعلهم، ومن ثم هم يتكفلون بعقلنة ما طرح لهم من الأجوبة. الملاحم أيضاً لم تدّعي براءتها من الخرافة غير أنها بخلاف الأساطير والأديان لم تزعم سماويتها ولا امتلاكها حظوة التواصل السري مع الإله، فالبطل ينهض من فضاء أفقي، بين ظهراني مجتمعه، وهو بالكاد يمثل رمزاً للقيم الفريدة التي تؤمن بها الشعوب، وإذا ما بالغ الناس في تعظيمه وتقديسه فإنه لن يتجاوز إلا بكونه هبة من الله للأرض لا أكثر، ولكونه معتاد على كسر المألوف وامتلاكه لحس المغامرة والمواجهة فإن العامة لم تكف عن الاستجداء به أمام أزماتها العصية على التخطي، فالبطل ليس بخارق كلياً لكنه عنصر فعال في اختراق الخطر، فهو بطبعه هجومي، لا يعرف سوى جهة المواجهة، يقدم نفسه على هيئة المخلص، الحامي، رمز الجسارة، لفرط فرادته يغدو بالنسبة للناس مع الأفعال التي يظهرها الأمل في العبور بهم من ظلام المتاهات إلى أنوار الفردوس، ويسرف في حمايتهم من سحابة العتمة المرتقبة، أن يزيل الخطر كما يقول جوزيف كامبل في كتابه البطل بألف وجه، لذا يتحتم عليه أن يحارب لأجلهم، أن يقهر كل عقبة تكسر إيقاع سير راحتهم، أن ينقلهم إلى ضفة الأمان ومن ثم يسكن أغانيهم وطربياتهم، ومن هذا المنطلق لم تخلو أية ملحمة كردية من الحرب، من بطل شجاع قاتل الرياح بسيفه الفولاذي حتى آخر شهقة فيه، ومن مغنين سينقلون لنا الحكاية بحلمها وأنينها ودمعها بشفاههم.

تبدأ الأحداث العظمى بالكلمة، تنطلق منها وبها، فالكون حسب الرواية القرآنية تشكل بكلمة الله ” كن فيكون” وكان الكتاب المقدس قد أشاد بها على أنها مبتدئ كل شيء ومنبعها” في البدء كانت الكلمة” فما أن تنطلق من الفم وتتجاوز مستوى القوة إلى الفعل حتى تنفجر الأحداث وتتشكل الظواهر إثرها، فهي ذات خاصية توليدية خالقة، منتجة. وقد كانت الكلمة التي ألقاها دوريش عفدي وهو في حالة من الحماس على أذني صديقه جيلو إيزولي” أنا كحل عيني عدولة”  أثناء تنافسهما على لعبة الداما منطلقاً لأشهر ملاحم الكرد في القرنين الآخرين، ملحمة دوريش عفدي وعدولة أو كما يحلو للبعض تسميتها بفارس الهدبان، التي أصبحت وليمة يتناولها الشعراء والمغنون على موائدهم تحت سقف الخيم، أو في العرائش المفيئة والغرف المأهولة بسحر الفنون والطربيات كالتي كانت تجمع “باقي خدو” الفنان الشعبي وعازف الكمان “حمدي دومان” في رحاب كوباني قبل أن يترجلا عن موكب الحياة. يقال أن المدينة الصغيرة كانت تسترخي لساعات وتغيب كالأطفال في حلم دافئ داخل مهدها كلما أنشدا الملحمة، ساعاتٌ لا يعرقل نظامها الزمني إلا حينما تضع الملحمة الغنائية أوزارها.

بخلاف الملاحم الأخرى التي يحتفي بها التاريخ لم تولد ملحمة دوريش عفدي وعدولة في القصور والقلاع الملكية كما مم وزين، وقلعة دمدم، ولا في المدن الأثرية والحضارية كملحمة اسبارطا، إنما نبتت في البراري والوديان، في الأراضي المسترسلة بالمراعي، موئل القبائل والرحل، فشخوصها ليسوا بارستقراطيين من ذوي النعمة يقيمون في الأبنية المقببة والجدران السميكة، إنما ولدتهم أمهاتهم خلف ستائر الخيم ذات الجدران الهوائية، يجمعهم مهنة مطاردة المراعي أينما شاءت دوائبهم وأغنامهم، لهذا التجأوا إلى البيوت المتنقلة لتسهل الهجرة عليهم، إذاً الحكاية كلها تدور في مناخ بدوي قبائلي ولا تتأسس على بنية دينية أو قومية إنما على أسس تشاركية عشائرية، يربط ما بينها مصالح مادية ووجودية، القصد منها المحافظة على الكيان من القوى الخارجية والاتحادات القبائلية الأخرى التي تتنافس معهم على المروج  الخضراء والأراضي الآهلة بالمراعي كما يقول الباحث عبدالناصر حسو، وهذا ما يفسر سبب انضمام عشيرة الشرقيان الايزيدية المتمثلة بزعيمها عفدي ملحم والد دوريش إلى التجمع الملي المسلم بقيادة تمر باشا والد عدولة، وهي علامة على أن النزعة القومية الكردية لم تكن نشطة آنذاك في الوقت الذي كان الأتراك العثمانييون يديرون البلدان المنضوية تحت جناحهم وفق نظام عائلي ضيق..

*لمحة عن أحداث الملحمة.

يشير الباحث عبد الناصر حسو في بحثه المتميز “ملحمة دوريش عفدي المغناة والشفهية الكردية” أن خيال المغنين المتدفق وصوتهم الرخيم أضفيا على الملحمة أشكالاً جمالية متنوعة، فقد رووها بعدة سيناريوهات مختلفة وأسبغوا عليها ألواناً غنائية فاتنة، بصياغات بلاغية عالية المستوى إلى أن أصبحت جديرة بالخلود. وهذه النقطة بالذات جديرة أن تمنح المغنين الكرد لقب حراس التراث والثقافة الكردية في ظل الغياب الذي طال الكتابة والأدب الكرديين.

اعتمدت بفكرة المقال على سردية الروائي واللغوي الكردي شاهين سوركلي الذي بدوره كان قد نقل الملحمة من شفاه المغني الراحل باقي خدو وسجلها في كتاب مطبوع باللغة الكردية نشرت مؤخراً بحلة جديدة في دار آفا…

حينما تيقن تمر باشا زعيم المليين من وقوع ابنته عدولة في حب فارس الشرقيين دوريش وأصبحت قصتهما علكة تلوكها أفواه العشائر أقسم أنه سيجعل دماء الشرقيين بعددهم الذي يتجاوز ٥٠ ألفاً تغطي الأرض وهو المعروف بجشعه وجبروته. أدرك عفدي ملحم أن مكيدة تطبخ لهم في الخفاء فقرر أن ينصب خيم عشيرته بعيداً عن مضارب المليين بنصيحة من جيلو إيزولي صديق ابنه دوريش، في تلك الفترة كانت عشيرتا الغيس بزعيمها عفر الغيسي أو الجيسي، وعشيرة الترك بقائدها جيل ابرام بكدلي قد تعهدتا على ضرب قبيلة المليين الذين أهانوا نسائهم وطردوهنّ من ضفاف الآبار والسواقي. هنا يعمل الشيطان في عقل تمر باشا ويفكر في استغلال حماسة وشجاعة دوريش عفدي، ينتهي به المكر أن يقوم برفع فنجان الدم بين القبائل، ويصرح أن من يحمل الفنجان ويواجه قبيلتي الغيس والترك سيحصل على ابنته عدولة ذات الجدائل البنية، ولتسير خطته بإحكام أمر الجميع شرّاً أن يتخاذلوا عن عمد، وألّا يظهروا أي رغبة للتباري لعلّ ذلك يدفع بدوريش على رفع الفنجان ويعلن الرغبة في القتال لأجل عدولة، وبالفعل تتحقق رغبته ويعلن دوريش التحدي ويقرر أن يواجهه لوحده ٣٧٠٠ من جنود الغيس والترك رفقة شقيقه سعدون وعشرة آخرون منهم جيلو إيزولي وعيسو بن علي ابن عم عدولة.

تقول الحكاية أن عفدي ملحم والد دوريش حاول مراراً تثنية ابنه عن الإقدام وحذره من غدر تمر باشا الملي وكذبه، فتاريخه حافل بالوعود المزيفة، وهناك معرفة قديمة ومواقف حرجة جمعتهما معاً، تخاذل تمر باشا معه كثيراً منها حنثه بوعده تزويج أخته خاتون التي توفيت بعد ثلاث أيام من زواجها عسفاً من أحد رؤساء قبائل مدينة أورفا التركية، كما أن عدولة نفسها تدرك سوء نية والدها وتحاول لعدة مرات أن تثير غيرة فرسان المليين لعلهم يفكروا برفع فنجان الدم بدلاً من دوريش الذي لا يستجيب لنداءاتها ورجاءها. في النهاية يقرر الفرسان الاثنا عشر خوض النزال بمفردهم ضد ٣٧٠٠ من قبائل الغيس والترك في ميدان تل عطشانة.  هناك تستمر المعركة لساعات طوال يسقط الفرسان الواحد تلو الآخر ويبقى دوريش وحيداً يجابههم، وفي النهاية بخديعة جيل ابرام بكدلي الذي يسحبه إلى أرض الفئران، تنغرس حوافر حصانه الملقب بالهدبان بإحدى الثقوب ويتهاوى دوريش على الأرض ويصبح فريسة حراب الجنود سنة 1791م في تل عطشانة. تنتهي الملحمة بمصرع دوريش الذي يستنشق آخر أنفاسه بين يدي عدولة ووالده رفقة رجال القبيلة الذين التحقوا بساحة المعركة باهتداء من “عيسو” المثخن بالجراح، الناجي الوحيد من بينهم، والذي تقول إحدى حبكات الملحمة أنه تزوج من عدولة بنت عمه تمر باشا الملي.

شارك هذا المقال: