قراءة في نصوص “نداءٌ يتعثّر كحجر”.. اشتباكات سرديّة في إهاب الشِّعر لـ”خالد حسين”

شارك هذا المقال:

سناء هلال

“طرقةٌ خفيفةٌ على أبواب القلب وقطفةُ نعناعٍ من صَنيع الجنّة”

في الإنصات إلى نصوص (نداءٌ يتعثّر كحجر) لـ(خالد حسين) (دار رامينا – لندن 2023) صعودٌ روحيٌّ لا عودة منه؛ وملاقاةٌ لبهاءٍ منثورٍ في جسد النّصّ؛ وعزفٌ لغوايات الوجود على نوتة الجسد وسلّم الطبيعة.

بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ للنّصوص كيمياءها المتفرّدة؛ حتّى ليخَيّلَ إلى القارئ أنّه في لحظة الهيولى وبرهة الخلق، وسُدم المعاني لأقمارٍ لغويّةٍ مؤنسَنةٍ خرجت عن مدارها المؤقّت والمجّانيّ؛ وتسامت في فضاءات علويّةٍ بشريّةٍ؛ بعد أن تمثّلت بالطبيعة الفيزيائيّة للموجودات. أوليست الطّبيعة بمظاهرها الفيزيائيّة وتضاريسها البكر كالخامة الشّعريّة والفطرة البشريّة اللّتين جذرهما عارٍ عريَ الحقائق الأولى والدّهشة الأولى؟ ولعلّ هذه الأنوثة الشّاسعة في النّصوص ليست سوى كناية عن الأزل، قبل أن ينزلق آدم وحوّاء في ممرّات الحياة؛ وتزلّ أقدامهما من الهيولى والزمن العائم إلى النّسق.

نصوصٌ كغزالات كلامٍ شردت في فَلوات الرّؤيا، وتنزّلتْ على مِحفّةٍ ملائكيّةٍ بين الجبال والوديان والغابات والأجساد اللّاهبة، و”خالد حسين”عبرالضّبابيّة الشّفيفة والغرائبيّة المحبّبة استطاع أن يُقرئ قارئَه الرّعشة البتول على أصابع الزّهر، وهي تحوف خصر الأرض المُندّاة، أو يسمعه ارتطام ندائِهِ كحجرٍ تعثّر في ليلٍ يهذي؛ وكاد يصرخ لولا عجمةٌ في التّكوين بدّدتْ شمل الطّبيعة والأنوثة،وما بينهما من وفاقٍ أزليٍّ وأقفلتِ الأسئلة :

نشيد الأزل)  )

يا ليتني

كنتُ حجَرَاً مَلْمُوْمَاً على صَمْتِي؛

يَعْبرُني الرُّعاة،ُ ويبكيني العُشَّاقُ، تعبرُني الرِّياحُ، والعواصفُ تجتاحُني

 وأبقى، كما أنا، حجراً أُلقّنُ الأبديةَ نشيدَ الأزلْ.

يا ليتني كنتُ حجَرَاً؛ ليعبرَني الحبُّ كمسافرٍ دونَ أثرٍ، لتعبرَني الغزالةُ، ولا تطعن قلبي بالنَّوى! 

ياليتني كُنتُ هُنَاك، ويَسكنُني حَجَر…!

قد تحتاج إلى تأمُّلٍ بين النّصّ ووليده المعنى، وربما تحتاج إلى إغماضةٍ أيضاً لكي تعيش غبطتَك، وتعانقَ معناه ومعناك؛ وتتصعّدان في براح النّصّ وكفى، إذ إنّ صاحب “نظريّة العنوان” يسهرعلى نصّه الثّمل كما تسهر الخليقة على مخاضاتها البكر، كما تحفظ الجبال صدى صرخات العشق، وتحفظ الأجساد لحظات الغمر ونوبات النّشوة.

في يدي “خالد حسين” دلوٌ يتدلّى عميقاً في شعاب نفسٍ أمّارةٍ بالعشق، وعرائشُ صبابةٍ لا رادّ لها، وشعلةُ عشقٍ أبديٍّ لا تنطفئ مع كل قراءةٍ، هناك موعدٌ مع اختزان لحظاتٍ طفوليّةٍ؛ بما تسرُّ نصوصُه من شغبٍ؛ بشقاوة الاكتشافات الأولى، وحماقات اللّذاذات الصّغيرة، ونداءات الطّبيعة الملهِمة، والعودة إلى اللّحظة البدئيّة في الخَلق؛ بما يعتري نصوصه من الغُلمة والألفة؛ قِدران يكفيان لتبديد وحشة العالم وقوانينه الوضعيّةِ في الخارج:

يا سادنَ الرّيح…! *

يا لأُوار الرَّغبة المندلع كفجرٍ في أَسرّةِ الأرض..

شجرتا سرو، نخلتان، طيرا حجل، والّليلُ يبتكرُ موجةً على ضفاف الجسدين…

***

يا لهذا الأَبد المضرّج بدماءِ الصَّمْت…!

يا لهذا الحبِّ الملطّخ بشهقةِ الموت…!

في يدي “خالد حسين” دلوٌ يتدلّى عميقاً في شعاب نفسٍ أمّارةٍ بالعشق، وعرائشُ صبابةٍ لا رادّ لها، وشعلةُ عشقٍ أبديٍّ لا تنطفئ ما دامت حوّاء هي حوّاء، وهو يطوف بالأنوثة في اشتغالات الطّبيعة، بتوحّدٍ وتماهٍ وتخييلٍ لطقسٍ سماويٍّ يعيد لنُسك الجسد عباداته الخضراء؛ أسوة بالجبال والوِهاد والغابات والبحيرات والأنهار، التي لا صانعَ فيها إلا يدٌ كيَدِ الله.

في النّصوص لا قداسة تُرتجَى، ولا دونيّة تُفتعَل؛ هي الطّبيعة، الجسد، الرّغبة، الفطرة، الأشياء كما هي، في جهجهةِ فجرِها الوليد، في نثارِها الفوضويِّ الجميل، في اختلاجاتها العشقيّة الأخّاذةِ، وموسيقاها الكونيّة المُصغِية.

لاطائل، لو حاولت أن تضع يدك على الغبطة في معقلِها؛ فهي كغزالةٍ جامحةٍ تتفلّت كلّما حاولتَ الإمساك بها، حتى لو ساقك التّأويلُ إلى غابة المعنى؛ فلا يقينَ يُنتظَرُ في لحظات الوجد الهاربة، ولا نجاةَ لعاشقَين من العشق المُنجِي. فهنا واحةٌ للحريَّة الطّليقةِ يتبنّاها” خالد حسين” خلف شعريّتِهِ،  ووقفةٌ للتّأمّل بين الكينونة المأمولةِ والوجود اللّامحقق، بين سذاجة الشّعر في غمرة الاكتشاف اللّاواعي وجدليّة الفنّ الواعية. كما أنّ نصوصه ليست في الآن، وليست في أيِّ آنٍ، وريثما تقبض على اللّحظة الأثيريّة، وتحوف ضفاف النّصّ ومعانيه المترامية؛ يكون الزّمن قد تلاشى، والمكان أصبح ظلالاً مؤثّثةً بالسّراب، في كونشيرتو أثيريّةٍ بديعةٍ باعثةٍ على القلق تارةً، والذهول تارةً أخرى، والاحتدامِ بكتابةٍ تكاد تقول كلّ شيء، دون أن تقول شيئاً؛ الطّبيعة تتكلّم، الجسدُ خارطة طريقٍ، والحواريّة بين خفّةٍ روحيّةٍ آدميّةٍ وغابات فتنةٍ أنثويّةٍ، تتماهى في لطائفِ خيالٍ برزخيٍّ من العشق المتبول:

زبدٌ يَلْهُو بالبَعِيْدِ، 

زرقةٌ تقتحمُ يديَّ بأصابعكِ ــ الناياتْ، ينبوعانِ من كحلٍ!

حوريةُ البحر إذ تغوي الإلهَ ــ الوَسيمَ على مرأى من شبقِ حجرٍ   

أي أسراب طيور هائجة تستوطنُ هذه السّفوح اليمنى لجسدك ــ القمح؟

أيُّ موجةٍ تزيحُ الياقة عن أرض الرّمان…؟ 

إنْ هي إلا زرقةُ القميص إذ تختفي في كحل البحر لأختفي في لهاثك…!

في نصوصه لا قداسة تُرتجى، ولا دونيّة تُفتعل؛ هي الطّبيعة، الجسد، الرّغبة، الفطرة، الأشياء كما هي، في جَهجهةِ فجرِها الوليد، في نثارِها الفوضويِّ، في اختلاجاتها العشقيّة الأخّاذةِ، وموسيقاها الكونيّة المُصغية، في القدرة على الإضمار، واستفزاز الإيحاءات في وحدانيّةِ الذّات وصلاتِها القدسيّة، وتعالقاتِها الوجوديّةِ، وكرنفالات الطّبيعة المحتفيةِ بالعشق خلاصاً والأنوثةِ خالقةً. ولا تغيب الأم في النّصّ؛ بالتّوحّد بها في رحم الكينونة الخالد؛ في امتثالات الخلق والمآلِ والنّجوى، وبين الأمّ والحبيبة نداءاتٌ وتيّارات جسدٍ يُخلَق ويتخلَّق بين برزخين، أحدهما في الخلقِ والآخر في العشق؛ وما بينهما طبيعةٌ واحدةٌ وصرخةٌ واحدةٌ، إحداهما في ذُرى الرحم والأخرى في ذُرى النّشوة.

الاحتدامِ بكتابةٍ تكاد تقول كلّ شيءٍ، دون أن تقول شيئاً؛ الطّبيعة تتكلّم، الجسدُ خارطة طريقٍ، والحواريّة بين خفّةٍ روحيّةٍ آدميّةٍ وغابات فتنةٍ أنثويّةٍ، تتماهى في لطائفِ خيالٍ برزخيٍّ من العشق فلا بدّ للقارئِ من نهوضٍ واستعدادٍ روحيٍّ لملاقاة تلك النّصوص؛ لا سيّما مع ذلك الابتسار بالوصف الحسيِّ والحكائيِّ لصالح الانشغال الكليِّ والانشداه العميم بالمشهد، الذي يبدو سينمائيّاً للحظةٍ، فليس بين الكلمة والكلمة مادّةٌ أوقِوامٌ، قد تلمح سماءً، نهراً،غابةً، جرفاً، هاويةً، بحراً، ولكنّكَ غريقٌ يستطيب الغرق؛ وما على الغريق من حَرج الفهم؛ ما دام سيذوب في الغبطة الروحيّة العارمة في ملاقاة الماء؛ حيث لا تَراجم تُدرَكُ سوى رجفةٍ علويّةٍ في مدارجِ القلب، وانهمارٍ باذخٍ على تخومِ الرّوح، أو بعثرةٍ في الحواس تسعى إلى تأويلٍ لحظيٍّ بعاطفةٍ قد تكون ساجيةً، مثلها مثل غيمةٍ ذابت في اللّحظة السّماويَّةِ قبل أن تستطيع شرح أصل المطر، مثلها مثل حجرٍ من فرطِ النّشوة كان لينطقَ؛ لو لم يتعثّر في النّداء، ويغدو صنماً:

*سماءٌ

مَفْتُوْحَةٌ على غموضِ الحجر…!

وأنا أَصوغُكِ لُغْزاً للمياهِ العَمِيْقَةِ،

 أكتبُكِ أُنْثى تنبثقينَ من ضلعِ شجرةٍ

توقظُ ذكورةَ الفَراغ من الفراغ…! ربما هي صُدْفَةٌ حين هَوَى القَلبُ كَحَجرٍ في ماءِ يديكِ؛

 فَطَارَ بكِ فَرَاشَةً…!

ذات لقاءٍ مع “نداءٍ يتعثّر كحجر“؛ سيكون على الدّهشة أن تتجمهرَ للقاء لغةٍ نشطاؤُها العشق، ولَكَناتُها حَمحماتُ الجسد، ونوتتُها سلمٌ يرتقي إلى الوجد الكامل اللّامتناهي، وبين هذه الخفقاتِ لن تمسك بالرّيش؛ لكن سينبت لك من الزّغب المنثور على رخام النّصّ جناحان للتّحليق. في نصوصه معانٍ تحبل باللّيل، وتلد في العتمة، وإلى أن ترتاح في التـّأويلِ عليك أن تطفئَ هاجسَ الوعي؛ وتمضي في رحلة الكشف والصّعود في مختبر النّفس والذّائقة؛ وستسعد بالرّحلة في انخطافٍ نحو اللّذّةِ، بسيّالةٍ شعوريَّةٍ لها طبائع الماء الدافئ، وفيها الاستعادات المضيئة والمضنية أحياناً، لأقمارٍ بدئيَّةٍ أنجزت السّطوع، ثم غابت وانسربت إلى فضاءاتها البكر.

 هنا تأويلٌ لحظيٌّ بعاطفةٍ قد تكون ساجيةً، مثلها مثل غيمةٍ ذابت في اللّحظة السّماويَّةِ قبل أن تستطيع شرح أصل المطر، مثلها مثل حجرٍ من فرطِ النّشوة كان لينطقَ؛ لو لم يتعثر في النّداء، ويغدو صنماً فهو يحرّر الكائنات من جموديّتها وفيزيائيّتها؛ لتغدو البحيرة مثلاً شأناً روحيّاً خالصاً بوجودها المعنويّ المُضمَر، وينفي عن الحجارة صمَمَها وانغلاقَها اللذين أفقداها مضامين الاعتراف بوجودها المؤنسَن، سواء أجاءت في سياقاتها هياماً بالجبال وشمَمِها ورمزيّتِها، أم دفئاً مادّته البيوت الحجريّة، أم حتى تماثيل حجريّة مؤبِّدةً لإشراقات الجسد، والعَناء البشريّ عبر الحضارة، وكلّ هذا ليس في المجاز؛ بل ليصبح المجازُ هو الأصل وهو المعنى المغفَل.

يطوف “حسين” بالأنوثةِ في اشتغالات الطّبيعة، بتوحّدٍ وتماهٍ وتخييلٍ لطقسٍ سماويٍّ يعيد لنُسك الجسد عباداته الخضراء؛ أُسوة بالجبال والوِهاد والغابات والبّحيرات والأنهار، التي لا صانعَ فيها إلا يدٌ كيَدِ الله.

للنّصوص لغةٌ لا تحتاج كثيراً لتعديلِ جلستها، يكفيها أن تتمايل على كتف مجازٍ، أو تستيقظ على سريرٍ شغوفٍ، أو تتمرأى في مرآة وئامٍ أبديٍّ؛ حتى تسألَ أيّ سلامٍ هذا؟ وأيّ غبطةٍ تلك في مروج الجسد؟ وأيّ تماهٍ بين عاشقين رسما حدود الوجود في لحظتهما؟ في برهةٍ تكاد تكون كل شيءٍ، وتكون لا شيء؛ فلا بدايةَ من حيث انتهينا؛ فكل نصٍّ هو البدء:

أيُّها العشبُ المكتنَف بالنَّدى، أَيُّها َالعاشقانِ المتخثّرانِ في نشيد الّليل، *

ما من شيءٍ قطُّ، أيُّتها السَّمواتُ الوحيدةُ في ضَجَرِهَا، سوى هذا الافتتانِ!

فَاتنٌ هذا المشهدُ المنحوتُ في سفوح الصَّمتِ، فاتنةٌ هذه الأشجارُ التي تَسْتَسْلمُ للإغواءِ، فاتنٌ هذا الماءُ الرَّاكنُ بين ردفي البحيرةِ…!

يبتكر (خالد حسين) صياغات تصدّع بنية الزّمان والمكان، ويصوغ أبديّة اللّحظة في حيّز وجوده الطّفليّ المتجدّد؛  بوصفها احتجاجاً على حتميّة الموت والبقاء المرهون باهتراء آلة الجسد التي تتهالك من ضخّ الدماء، ووجبات الحبّ المعلّبة، وفرائض الحياة اليوميّة المُعادة. لا الكلمةُ استجارت في نفق الفعل، ولا اللّغةُ آمنةً بين المفردة وانشغالات الخيال، كما أنّه لا زجر، لا بلاغة، لا وعورة، لكنّها لغةٌ باهرةٌ، تهمس، تتمايل، تتنهّد، تتحرّش، لم تلمز، لم تغبن بين السّطور، لم تتثاقل؛ ذهبت بكامل خاماتها، مخاملها، مواردها، شغفها، ونهضت إلى حيث تتصعّد الجبال، وتترقرق الوديان وتمور الخلجان؛ ويُستطاب المقام، في طبيعةٍ بكرٍ وتنهيدةِ بئرٍ ومواسمَ تفور بالرّغبة:

أيُّها الغافلونَ عن الحكايةِ؛  *

أيُّ سردٍ هذا؛ أيُّ سردٍ لَهُ من المروءةِ، 

 من بَسَالةِ القول لِأَصِفَ حلميَ ملحمةً، نشيداً لا ينتهي…

أيَّتـُها الأعشابُ الحوشيّةُ، أّيتها الوعولُ، أيّتها القممُ، يا مضاربَ الكوجر العالية هَاكموها سنابلَ الحكاية: 

أميرٌ تتقدّمُهُ كباشٌ بقرونٍ مفتولةٍ تخبُّ الأرض الحجريّة خبّاً صوب ظلالي، أنا حورية الكهف. هنيهةٌ، رميةُ اشتياقٍ وتمتزج الكباشُ بطيفكَ أيها الأمير، أمير ــ كبشٌ، كبشٌ ــ أميرٌ، يلتبسُ الطّيفُ عليَّ، أَحْتضنكَ، فتلفُّ شعري الأُفعوانيّ على قرونِكَ الهائلةِ مواسمَ رغبةٍ تفورُ، أحتضنكَ فتجتاحُ نهديّ دون رحمةٍ.

لعلّ في هذا الطّوفان الجارف للجسد ينتفض الشّعرُ من مساماته، إلّا أنّه من المجّانيّة ما يبدّد أحد الطّرفين كذرّةِ غبارٍ في الآخر، ومن التّمثّل الفنيِّ واستشراف أنوثةٍ هي الأصل ما يحيلُ الرّغبةَ إلى تعريفٍ جديدٍ لملامح آدم وحوّاء الحقيقيّة، عبر نصوصٍ مؤتمَنةٍ على العاطفة تقول: لا أمانَ إلّا في قلبٍ حجّتُه الحبّ، وبرهانُه الحريق تِلو الحريق، ولا حدودَ لجسدٍ ذرّيّتهُ السرمدُ، وأمّهُ الطبيعةُ، لا سيّما في تضافرِها وانتقالاتِها إلى “فهرس الكتاب” الذي وسمَهُ صاحب”سيميائيّات الكون السّرديّ” بمفردة “تضاريس“؛ بعد أن ضاقت تخومُ اللغة بمرامي الوجد والتّعبير:

البُحيرة *

زمنٌ خريفٌ؛

إذ تَنْعَطِفُ أَطْرافُ النّهار على أسرار البحيرة. 

وهذه الجبالُ لا تتقنُ سوى الطَّعن! 

الغيومُ ــ إناثٌ يَمِلْنَ تحتَ وطأةِ الشّغفِ، إناثٌ يتساقطْنَ قطناً، البُحَيْرةُ ـ غمّازةُ الأرض، تومضُ بنداءاتٍ للآلهة أنِ اهبطي…حيثُ كانت يوماً أعشاباً حوشيّةً أو أحجاراً تُوْدِعُهَا الكينونةُ ألغازَها… 

خريفٌ ذهبيٌّ، وعلى ضفّة العشب غزالتان تمتحنان النّسيمَ في رغبته

 وتَدَعَانِ الآلهةَ في صَخَبِ الصَّمت…! 

حسين” الفالت من نصّه، ومن تلك التّراجيديا السّوداء لمأساة الضعف البشريّ، من شدّة قسوة الموت؛ يبتكر له صياغات تصدّع بنية الزّمان والمكان، ويصوغ أبديّة اللّحظة في حيّز وجوده الطّفليّ المتجدّد؛ بوصفه احتجاجاً على حتميّة الموت والبقاء المرهون باهتراء آلة الجسد التي تتهالك من ضخّ الدّماء، ووجبات الحبّ المعلَّبة، وفرائض الحياة اليوميّة المُعادة؛ لتعلنَ استقالتها من مهمّة اللّهاث والسّريان.

 تتضافر الطّبيعة في انتقالاتِها إلى “فهرس الكتاب” الذي وسمَهُ “حسين” بمفردة “تضاريس”؛ بعد أن ضاقت تخومُ اللّغة بمرامي الوجد والتّعبير. وهنا فسحةٌ للسموِّ والرّوح المتعالية لتقول مادّتها في نصٍّ أو نصوصٍ؛ وقد شهدت تحوّلاتها المضنية. فالإصرار على الطفولة لدى صاحب “جماليّات المكان” مراهنةٌ على الخلود؛ وكأنّها تتحدّى الكهولةَ الموعودة بتركين الوجع الوجوديّ نحو تحقّقٍ ناجزٍ، لا شكلانيٍّ مهزومٍ، لا نتعرّف عليه علانيّةً في النّصوص؛ بل بما تُعرَف الأشياء من نفي تضاداتها، في وجودٍ نحن منه وفيهِ، وليس للعائلة البشريّة منه إلًا حيّزٍ متناهِ الصّغر، تغادره إلى المطلق على أنّه زمنُها وآنها ومستقبلها ومَقِيلُها، الجبال والبحار جيرانها، والطّبيعة بيتها الدائم، وهذا ما كان له في اختراق الجمادات والتكلّسات الوضعيّة، بالبحث عن الفلزّات البشريّة المكوِّنة للطّين الإنسانيّ المتّسق مع جبلة العاطفة والفطرة والنّموّ الروحيّ العارم؛ وتحقّق الأنا في فتنةِ الجمال المطلق:

أنا العَاكِفُ،

المثابرُ، الدَّائبُ، أنا المواظبُ على زنبقةِ الحبِّ، أَمتدحُ تلكَ الغمّازةَ التي تتألقُ كنيزكٍ شاردٍ على مماسِ وجهكٍ، يا لثراءِ الجمال، يا لرفاهتِهِ الفَريدةِ، يا لهذهِ الومضةِ المُباغتةِ التي تتوهّجُ على سَفْحِ الزَّمن، الغمّازةُ التي تنتهكُ موجة السَّأم اليوميّ في اجْتياحِهَا لتضاريس هذه المدينةِ الغريبةِ عن ظِلالي.

كأنّني أُطاردُ إيجازاً أشدَّ كثافةً:

حينما تأتلقُ الغمّازة تتفتّحُ وردةٌ شاردةٌ عن إشراقةِ الصَّباح!

فيا للغيم الذي يسبح في بياض الرؤيا!

يا للصّياغات الهيام وسكبة النّدّ والقفطانِ المقصّب!

يا لطلاقة الرّمل في الأجساد التّرابيّة!

يا للعشّاق والمجانين والمفؤودين والمتبولين!

حين يضيعون في فردوسهم، ونضيع في السّرد !

افرحن أيّتها الكلمات…أيّتها الغيمات…يا كليمات الله:

أنتنّ في بُرهة الخلق بين يدي شاعر، وطَرقة خفيفة على أبواب القلب وقطفة نعناعٍ من صنيع الجنّة.

*جَسدانِ في حقلٍ من الّنعناع يُناكِفانِ العدم؛ 

 ثمّة قصيدةٌ تنمو كزنبقةٍ على الضَّفاف…!

شارك هذا المقال: