حوار مع الكردولوجية الأستاذة جوانا بوخنسكا

شارك هذا المقال:

أجرى الحوار الروائي و الباحث جان دوست

1- من أجل الكرد الذين لا يعرفون جوانا بوخنسكا هلا تعرفونهم بنفسك؟

 

حسن، جواز سفري بولوني لكنكم تعلمون أن الجواز لا يعبر بالضرورة عن هوية المرء. و جواز سفري كذلك لا يعبر بدقة عن هويتي. فأبي كان بولونيا، أما أمي فكانت تترية. في الحقيقة، لقد عاش التتار منذ أكثر من ٦٠٠ سنة على أرض بولونيا و ليتوانيا و روسيا البيضاء. لقد أتوا من الشرق بطلب من أمراء و ملوك ليتوانيا و بولونيا و عملوا كجنود لديهم. و بفضلهم استرجعوا أراضيهم. و  بلغ تعداد التتار في بولونيا ١١ ألف نسمة بين عامي (١٩١٨ – ١٩٣٩) حينما ظهرت كدولة مستقلة على خارطة العالم، بعد ٢٠٠ عام من الغياب. لكن بعد تغييرات الحدود سنة ١٩٤٥ بقي في بولونيا حوالي ٥ آلاف تتري فقط. بالنسبة لوالدتي فقد ولدت في روسيا البيضاء، التي كانت عضوا في الدولة السوفيتية. لكن جدي لم يرد العيش في بلد السوفييت، فهاجر إلى بولونيا ( التي ظلت تحت التأثير السوفيتي حتى سنة ١٩٨٩ لكن ليس كعضو في الاتحاد السوفيتي بل كعضو في المعسكر الاشتراكي ). و هذا يعني أننا نشكل الآن أقلية قومية صغيرة جداً في بولونيا، لكننا مستمرون في العيش. فيما يتعلق بلغتنا أقول إنها ضاعت، لكن بقي الإسلام فقط و هو ما يميزنا عن البولونيين و الروس. لكن إسلامنا هذا له خصائص معينة، فلسنا مسلمين بالمعنى التقليدي، إذ لا نطبق كثيراً من أحكام شريعتنا. في الواقع نحن لا نريد العيش بهدف الالتزام الكامل، لكن فقط بهدف محبة الإنسان، بموجب معنى قوله (تعالى): “بسم الله الرحمن الرحيم”. فلهذا السبب لم نترك هذه العقيدة مدة ٦٠٠ سنة. بالنسبة لي فإن هذا الإيمان ينبع من وحي عيني أمي التي خسرتها و أنا طفلة. فبفضل عينيها اللتين قدمتا لي الحب و الإيمان أستطيع الآن القول “أنا مسلمة” لكن هناك دينان و  تقليدان قد شكلا حياتي و إنني أحيا بينهما كل يوم. بالإضافة إلى هذا فقد أصبحت بدراستي ابنة لغات وآداب متنوعة: بولونية و روسية و انجليزية و تركية و  كردية ( كرمانجية إلى الآن و قليلا من السورانية ). كنتيجة لهذه التجربة كنت كل يوم بصدد اجتياز حدود متباينة متنوعة و في أحد الأيام دخلت حدود كردستان. و الآن أنا منشغلة بهذا بكل جوارحي و بكل حب.

عدا هذا أريد أن أذكركم بشيء ما. و هو أننا إذا رجعنا إلى سنوات ولادة القوميات المختلفة في عصر الامبراطورية العثمانية، فسنجد أن بعض آباء القومية التركية – التي أصبحت سببا للظلم، الذي لا مثيل له، الواقع على الأرمن و  الكرد و الأقوام الأخرى- ملفتون للنظر. على سبيل المثال: بولوني يدعى “كونستانتي بوجنتسكي” أي “مصطفى جلال الدين باشا” (١٨٢٦-١٨٧٦، و هو جد ناظم حكمت ) الذي ألف “الترك القدماء و المعاصرون”، و تتريان من روسيا هما “إسماعيل غاسبراله” (١٨٥١-١٩١٤) و  “يوسف آكجورا” (١٨٧٦-١٩٣٥) الذي ألف “السياسة ذات الأنماط الثلاثة”، و أيضا “ضياء غوك الب” (١٨٧٦-١٩٢٤). لن أتحدث هنا عن ضياء غوك الب، لأنه ليس من “عائلتي”. لكنني سأتحدث قليلا عن “أجدادي” الثلاثة أولئك و عن سبب خوضهم في أمر بتلك الخصوصية؟ كما تعلمون، لم تكن بولونيا موجودة بسبب سياسة كل من ألمانيا و النمسا و روسيا، و كانت سياسة روسيا سيئة جدا نحو التتار. كان “بوجنسكي” عضوا في الثورة في بلده و بعد أن فشلت، فر منها إلى اسطنبول. أما آكجورا و  غاسبراله فقد كانا يشعران طوال حياتهما بعداوة روسيا للتتار و الإسلام.

قصارى القول أن كل هؤلاء الناس قد وصلوا إلى اسطنبول تملؤهم الخشية و القلق. لم يكن ذاك خوفا على خسارة حياتهم بل خوفا على خسارة قومهم و أوطانهم. لهذا اعتبرت اسطنبول محجة لآمالهم. أرادوا أن تكون الامبراطورية العثمانية و الأفكار الجديدة المميزة ترياقا لكل ما عانوه. و أن يشكلوا خطرا و سلاحا يهدد روسيا التي كانت تفترس اهلهم. لم يبصروا أي شيء غير خوفهم هذا. لذلك لم يستشفوا من الاناضول موزاييكها و ثراءها. انصب جل تفكيرهم على هواجسهم و مخاوفهم فقط. إن هذا الذي أقوله الآن مثالي بدون شك، لأن حياتهم لم تكن بتلك السهولة و الاحادية. لكنني أريد القول بأنني أنتمي اليهم و أطلب منكم الصفح و السماح. كنا على خطأ. لأن ثمة خوف كبير قد اعمى أبصارنا و قلوبنا. إن الذنب ذنبنا. سامحونا.

على أية حال فإن هذا الذنب الآن يشكل دافعا لرغبتي و عملي و نشاطي. و بحسب قول محمد أوزون و بعض المفكرين البولونيين أيضا، يعتبر الماضي ميراثا و مصدرا للمسؤولية. و أنا أريد اليوم أن أنظر إلى ذاك الماضي المثقل كونه عملا شريرا.

٢. قصتكم أنتم و الكرد! كيف تعرفتم على الكرد؟ و من كان أول كردي شاهدتموه أو تعرفتم عليه؟ 

لقد عرفت الأكراد في موسكو، منذ سنة ٢٠٠٠، عندما كنت أدرس الأدب الروسي حيث درست لاحقا في أكاديمية السينما (VGIK). شاهدت أول وجه كردي في صورة كان قد التقطها طبيب عيون تركي في مخيم للاجئي كرد العراق. كان قد خدم لفترة في ذاك المخيم و أتم دراسته في موسكو. في تلك الصورة كان ثمة فتاة شقراء، قال لي طبيب العيون حينها أن في عينيها تساؤلا حزينا. و قد انتبهت إلى هذا التساؤل المهم فاجتذب كل جوارحي. و بسبب هذه الحادثة عرفت كثيرا من الكرد في موسكو. و عندما رجعت إلى كراكوف تبين لي أن الكرد موجودون هنا أيضا بالإضافة إلى بروفيسورين مهمين كانا قد كرّسا جزء من حياتهما للقضية الكردية. الأول كان  الإثنوغرافي البولوني “د. لشك جنغييل” الذي أجرى أبحاثاً في كردستان العراق في السبعينيات. حيث صدر له كتاب “المسألة الكردية” سنة ١٩٩٢ و هو أول كتاب باللغة البولونية عن الكرد. و الثاني  هو البروفيسور  “آنجى بيسوفيج” الذي لا يزال مستمرا في عمله. لقد عمل كلا الأستاذين في جامعة “ياغيلونسكي” (تأسست سنة ١٣٦٤) التي أتابع فيها نشاطاتي الآن. يعد الأستاذ “آنجى” عالما لغويا قديرا، متخصصا باللغات الإيرانية و الأرمنية. و لقد قدم أول دروس له عن اللغة الكردية (الكرمانجية) و قواعدها في بداية الألفية الثالثة. لم يكن يتحدث الكرمانجية، لكننا اعتبرنا دروسه اللغوية حدثا على قدر كبير من الأهمية. بعد ذلك و تحت رعاية مبعوث بولونيا، السيد “زياد رؤوفي” (و هو في كراكوف)  عند حكومة إقليم كردستان العراق، قدِم أستاذ اللغة الكردية، ” فرهنك محمد”  من جامعة صلاح الدين في هولير و باشر في إعطائنا دروسا في السورانية. لقد تعلم الأستاذ “بيسوفيج” السورانية بشكل جيد جدا و هو الآن بصدد إصدار كتاب لتعلم السورانية بالبولونية شاركه في تأليفه كل من فرهنك محمد و “آنجى بارتجاكي”. بالنسبة لي فقد عملت على كتابة رسالة الدكتوراه منذ سنة ٢٠٠٤ و التي بحثت في الهوية الكردية و الأدب الكردي، لأكراد تركيا على وجه الخصوص. لذلك، و ككل مرة، كنت أتأرجح بين حدود لهجتين اثنتين. لهجتي الكرمانجية أفضل من السورانية، لكنني آمل أن أوصلها إلى المرتبة الأولى. لدينا هنا عدد من الباحثين الشباب و لقد بدأنا معا مشروعنا من أجل التقدم بالأبحاث المتعلقة بالكرد في بولونيا، تحت عنوان:How to make a voice audible? Continuity and change of Kurdish culture and of social reality in postcolonial perspectives.  أي ‎”‏ كيف نجعل الصوت مسموعا؟ الاستمرارية و التغير قي الثقافة الكردية و في الواقع الاجتماعي من منظور ما بعد الاستعمار” (1). نأمل و بمساعدتكم أن نكون قادرين  معا على انجاز شيء مهم و جميل.‎

٣‏ – الكردولوجيا موجودة منذ القرن 18م، و يقال أن غارزوني هو أبو الكردولوجيا. و ثمة كردولوجي مشهور جدا من الشعب البولوني ألا و هو ألكسندر زابا! ترى هل توقف نهج الكردولوجيا عند زابا أم أنه مستمر في بولونيا؟        

 

كان ألكسندر زابا أو جابا ‎(‏ زابا تعني ضفدع ‎)‏ ‏‎‏‎حقا كردولوجياً بولونيا.  فقط في بلدي الذي استقل آخر الأمر فإن استذكار  أشخاص كهؤلاء لا يعد شيئا محبذاً. إن المستشرقين على علم بهذا، لكن هذا ليس ملفتا لانتباه أحد غيرهم. في فترة الاستعمار الروسي كان جابا قد أصبح موظفا و دبلوماسيا روسيا. فقبل كل شيء كان يقوم بوظيفة معينة مبتعدا عن وطنه و مشاكله. كان أشخاص كهؤلاء يدعَون بـ “الخونة” و لم يكن أحد يرغب في إحياء ذكراهم. لكنني أرغب في ذلك، لأنه لا يمكن أبداً أن يكون لحياة المرء جانب أحادي. فلربما تُظهر لنا أحداث و حياة جابا بالإضافة إلى أبحاثه، جانبا آخر من شخصية هذا الإنسان. يمكن أن يكون اهتمامه بالكرد نابعاً من أوضاع وطنه و قومه؟ من يعلم؟ إن هذا أمر جِدُّ ملفت للانتباه و قد نتمكن اليوم معاً من رؤية حياته من منظور آخر. إنني أتأسف فقط على عدم تمكني من قراءة نصوصه لأني لا أجيد الفرنسية و ليست هناك كتابات له بالبولونية أو بالكردية…

4. إنكم تعملون في مجال اللغة و الأدب الكرديين، فما هي أبحاثكم بصدد هذا الموضوع؟  

في الآونة الأخيرة أعمل على تقديم العون للاجئين الكرد ذاك العون الذي لا تقدمه لهم بلادي الحرة. إنني لا أوافق حكومتي على قراراتها و أقول كمختصة رسمية في الشأن الكردي أن علينا مساندتهم و ألا ننسى قيام كثير من الشعوب بمساندتنا. و أحيانا أكتب تحليلات في سياسة و موقف تركيا و العراق من الكرد.

لكن ينبغي أن تعلموا أن بولونيا ليست بلدا غنيا، فمجرد تأمين التمويل من أجل أبحاثي عن الأدب و الثقافة الكردية، التي أكن لها معزة خاصة، كان يعد مشكلة كبيرة (أي تلك الأموال التي تمكن المرء من قراءة الكتب دون القلق بشأن قوت عياله اليومي). مؤخرا لقي مشروعي قبولا من مؤسسة حكومية فاستطعت العمل بفضلها و بشكل لا بأس به. . . لا داعي للشكوى.

لكنني لا أيأس، و لم أتخلَّ عن عملي في أي وقت من الأوقات. الشكوى فقط هي من ضعف نتائج ما أقوم به. لقد أنهيت رسالة الدكتوراه سنة ‏٢٠٠٩  و في سنة ٢٠١١ أصبحت هذه الرسالة كتابا بعنوان: “بين الظلمة و النور، عن الهوية و الأدب الكرديين”. في كتابي، المبني على النظريات المختلفة للهوية و الهوية القومية، تناولت بالبحث اللهجات و الأدب الكلاسيكي و المعاصر، بشكل عام و بالتفصيل. كنت أرغب في أن يتمكن الدارس البولوني من رؤية الصيرورة التاريخية لتطور الأدب الكردي بالإضافة إلى إطلاعه على بعض الأسماء و النتاجات عن كثب. فمن الأدب الكلاسيكي اخترت للتحليل ملحمة “مم و زين” لأحمدى خاني، و من الأدب المعاصر بعض الأسماء المميزة من كردستان تركيا: محمد أوزون و حسنى متى اللذان كتبا باللغة الكردية و سعيد آلب و روشن آرسلان اللذان كتبا باللغة التركية. عدا هذا تطرقت للحديث عن يشار كمال أيضا، لكنني قمت بتحليل نتاجه بالاستعانة بكتاب “روهات (آلاكوم)” الرائع ( Yaşar Kemalın Yapıtlarında Kürt Gerçeği) (2). و لقد تركزت تحليلاتي على أن تقييم الكتاب من حيث هوية المؤلف لا ينبغي أن  يتم فقط على أساس اللغة بل على أسس من الزمان و المكان و هدف و فن الكاتب. و بتعبير آخر فإن الهدف من تأليف الكتاب يكمن في سؤال خاص جدا : بأي مكان و زمان ترتبط كل من اللغة و الأرض و الناس؟ و لأي أناس أبدعها مؤلفها؟ و قد دعوت ذلك بموضوع تحديد الهوية. و في رأيي أن يشار كمال يضع أبطاله و نتاجه في منطقة الأناضول. لكن أولئك الكتاب الأربعة فيختارون كردستان بطرق متباينة. إن اللغة لشيء ضروري و هي تشكل مستقبلا لأدبكم. لكن من الضروري أن نأخذ في الاعتبار ظروف اختيار اللغة و حالة و إمكانيات المؤلف. و بحسب آراء البروفيسور هاشم أحمد زاده و نظريات باختين التي استخدمها من أجل أعمال بختيار علي (3) فإنني  أقول أن الكاتب يعتبر أيضا “بطلاً كرونوتوبياً” و ينبغي تقييم نتاجه و حياته وفقا لهذه الكرونوتوبيا. و إذا لم يلق الدارس و الناقد بالا لهذا الأمر فمن السهل عليه وضع الكاتب بحجة “اللغة الممنوعة” في سجون النسيان. لذلك أعتبر أن سعيد آلب كان كاتبا كرديا عظيما. فقد ولد على حدود كردستان و لهذا السبب لا يمكن نسيانه، و من الضروري أن تحيوا ذكراه في كل مرة. إنني أجهل اللغة التترية لكنني أشكل هوية نصف بولونية و نصف تترية وفقا لعواطفي. ‏ فليتفضل شخص آخر و يأتي ثم يقرر فيخبرني من أنا.  لكن هذا لا يمت إلى رغبتي و اختياري اللذان يعدان أهم شيئين في هذه المسألة.

عدا كتابي هذا هناك الكثير من النصوص الأخرى عن الكرد و كردستان و ثقافتهم. لا يمكنني الآن أن أتحدث عنها كلها هنا. إن أغلب تلك النصوص باللغة البولونية. لكني دونت نصوصا بالروسية و الانكليزية أيضا. دأبت مؤخرا على دراسة القيم الأخلاقية للثقافة و الأدب الكرديين و دراسة محتوى و معاني أفلام بهمن قبادي أيضا.

٥. شيء في الكرد قد لفت انتباهكم كشخص غربي؟ و ما هي الخصائص التي تميز الكرد عن بقية الشعوب؟

لست شخصا غربيا فقط، فأحيانا آتي إلى كردستان مع الجيوش التترية (المغولية) الجرارة. في رأيي، ينبغي على الكرد أن يبحثوا بأنفسهم عما يميزهم عن بقية الشعوب. لا أن يأتي أصحاب جنكيز أو تيمورلنك و يجيبوا الكرد عن هذا السؤال. لكنني أرى أيضا أن خصائص كل إنسان و كل قوم لا نهاية لها، ينبغي على الإنسان فقط أن يفتح ذهنه و قلبه لهذا.

٦. يبلغ تعداد الكرد الملايين لكنهم حتى الآن لم يتمكنوا من ترك علامة بارزة عظيمة في تاريخهم و يؤسسوا دولتهم الخاصة بهم، ما هو السبب في رأيكم، هل من تفسير؟ 

 

سأرد على سؤالك بأسئلة أيضا. ما هي العلامة البارزة العظيمة؟ هل تدري؟ و من قال أن الكرد لم يتركوا علامة بارزة في تاريخهم؟ ترى هل العلامة البارزة هي إحدى أهم أهداف حياة الإنسان؟ (إنني أعرف أهدافا أكثر جاذبية!) نستطيع هنا أن نقتبس جملة من كتاب حسنى متى فنقول “أن هذا الغرور ما هو إلا مرض ورثناه من الأزمنة الغابرة. . . ” (4)

و الدولة؟ ربما لا تكون الرغبة في بناء دولة ما سببا وجيها لتأسيسها؟ هل بإمكان اللذين يهدفان للزواج فقط أن يخلقا الحب في حياتهما؟ ألم يكن أمير آغا في كتابك “مژاباد” ينظر إلى النهر و يقول أن الدولة لا تبنى من دون بحر؟ فتعالوا الآن ننظر إلى ذاك البحر سوية.

مفكرونا البولونيون من أفضل المفكرين. و كانت نتاجاتهم تمدنا بالقوة و الأمل في فترة الحرب مع النظام الشيوعي حتى سنة ١٩٨٩ و ما بعدها. فكان هؤلاء الأشخاص يقتلون أو يعتقلون أحيانا لهذا السبب. و وفقا للبعض منهم فإن الحرية يمكن أن تكون إما “من شيء” أو “لأجل شيء”. فالتحرر من شيء ما ليس إلا بداية الاستقلال و هو في الواقع لا يحقق السعادة. ينبغي على المرء أن يبصر هدف الرغبة في تحرره؛ ماذا يريد أن ينشىء باسم الحرية و بأي قيم سيربطها؟ و اليوم أستطيع القول أن وطني حر، لكنني أشاهد كثيرا من الناس العبيد الذين لا يعلمون لأجل ماذا كان استقلال البلاد و ما هو هدفهم من الحياة فيقبعون في سجون أفكارهم المتباينة، و هي أسوأ السجون. للأسف فإن الناس اليوم، في زمن الحرية، لا يصغون جيدا إلى أصوات مفكرينا. لذلك فإنني أرى أن الاستقلال لا يعني كل شيء. فبدون القيم الأخرى كالمسؤولية لا تنشأ الحرية الحقة (5) .

لكنني لم أقصد بكلامي أنه لا يحق لكم بناء دولة مستقلة! بل يحق لكم ذلك كل الحق!

٧. تقولون أنكم مع نشوء دولة للكرد، حسن، ترى كيف تنظرون إلى الحرب من أجل استقلال الأوطان؟

إن الحرب ليست حلا جيدا على الإطلاق، لكنني أتفهم حينما لا يسمع طرف صوت طرف آخر  أحيانا فيقتل . . و لا يوجد حل آخر. فرفع الصوت يصبح ضرورة هنا. و ينبغي أن ننظر إلى كل ثورة بحسب الزمان و المكان. . فالثورة أيضا تنشأ من غياب الحوار، لكنني آمل أن نتعلم طرق الحوار الصحيحة. في بلدي الآن ثمة كثيرون ممن ينتقدون ثوراتنا. أحيانا يقولون أنها “كانت ضرورية” و أحيانا أخرى يقولون “كلا، لم تكن كذلك”. أعتقد لو أنها كانت ضرورية فينبغي أن نوافق على ذلك، لكن تقييم الماضي و نقده أمر مهم و ينبغي على المرء (المؤرخ) الخوض فيه.

٨. إن ما قصدته من “العلامة البارزة” أن الكرد لم ينشئوا حضارة عظيمة مثل الأقوام الأخرى كالفرس و اليونان و الآشوريين. يقول البعض بأن أغلبية الكرد كانوا بدوا لذلك لم يقتربوا من المدن و المدنية. و إذا كان لهم دور في التاريخ فسيكون دور صلاح الدين الأيوبي؟! 

 

لماذا تصرون على مسألة العظمة و لا تتركونها؟ من الذي يقول أن حياة البدو لا قيمة لها؟ إذا بقينا نتعامل مع المجريات هكذا فسنظل في سجننا سجن الغرور.

لو كان تأثيركم بذلك الضعف فلماذا تبعث موسيقاكم وأدبكم و أفلامكم، و الكثير من الأمور الأخرى، الحياة في نفوس الناس (في نفسي مثلا و في نفوس آخرين أعرفهم)؟ إن السؤال ليس في محله، إنه سؤال مرتبط بفترة الاستعمار لكنكم لا تلبسونه ذلك الثوب. علينا فقط أن نرفع درجة صوت ثقافتكم أكثر قليلا. صحيح أن الناس لا يؤمنون بها في أوروبا، لكن هذه ليست مشكلة، فهي بحاجة فحسب إلى أن نعمل عليها و بحاجة إلى الوقت و الجهد و التعاون. و ليس حلا عندما يقول بعض الكرد، “ثقافتنا عظيمة جدا، أعظم من شكسبير حتى!” أحيانا يتناهى إلى سمعي أقوال كهذه. و هذا بحد ذاته نفس المرض.

إن العمل و التعاون و الإيمان و . . لأمور كافية كي ننظر بعيون أخرى إلى هذه الحضارة، و صلاح الدين ليس ضروريا كي نفعل هذا. كلا، ربما هو ضروري أيضا لكنه لا يعني كل شيء.

9. بما أنكم مطلعون على الأدب الكردي أيضا، كيف تصنفون هذا الأدب؟ أين يقف الأدب الكردي من الأدب العالمي؟

 

أرى الأدب الكردي قريبا من أدب أوروبا الشرقية، و بالأخص الأدب الروسي و ربما البولوني أيضا (مع الأسف لا أعرف أدب بلدي حق المعرفة). لكنني لا أقصد أن الأدب الكردي قد وصل إلى مستوى الأدب الروسي في بداياته! هناك فقط إمكانية كبيرة في أدبكم بقدر إمكانية الأدب الروسي في القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. و مما لا شك فيه أن أساسه هو تجارب الناس التي تنبع من الهموم و من التحرر منها. و إحدى طرق التحرر هذه هي الكوميديا (الهزل و المفارقة و السخرية). و الآخر هو العنف بحد ذاته، و الثالث هو تقاليد الديانات المتنوعة و إرثها المتجانس الذي يختبئ تحت كلمة “الإيمان”. هل تعلمون أن دوستويفسكي قد قرأ القرآن و أحبه؟ و أن ميخائيل بولغاكوف قد اطلع على حكايات الديانات الشرق أوسطية المختلفة من أجل كتابه “السيد و مرغريتا” ألا يشبه شيطانه الذي يدعى “فولاند” طاووس ملك و شخصية بكر عند أحمدى خاني، إلى حد ما، إذ يأتي مع اصحابه إلى موسكو في عشرينيات القرن العشرين كي يسخر و يلحق الأذى بأولئك الذين ينشغلون بآثامهم الصغيرة، لكنها كبيرة في نفس الوقت؟!

ألا يمكن توظيف حكايات الديانتين الإيزيدية و الإسلامية بالإضافة إلى أدبكم الكلاسيكي و الحديث التي تعتبر الشر و الشيطان (الملاك الذي لم يتخل عن إيمانه بالإله) ممثلا للإله، أقول ألا يمكن توظيفها لفهم مشاكل عالمنا الكبرى؟  ترى ألا يعتبر كل أولئك “المجانين” الذين ينتحرون من أجل أشخاص آخرين “شياطين الإله”؟

لماذا يستطيعون بإسم الشر أن ينظموا أنفسهم و يستمروا بالنجاح في أمورهم بسم الله الرحمن الرحيم؟ في حين أننا، نحن مثقفو و متنورو  البلدان المتنوعة المشارب، لا نستطيع ذلك؟ هل أن أساس نجاحهم هو الشر فقط؟  ربما لا -نستطيع هنا أن نطرح سؤالا ثوريا – ربما ليس الشر هو أساس نشاطاتهم؟ ربما لا تخلوا قلوبهم من المحبة و الإيمان؟ و نحن؟ المثقفون و المتنورون بكل مشاربهم، تائهون و مغيبون و مشتتون؟ كيف هو إيماننا بالإحسان و المحبة؟ أليس من العار اليوم أن نقبل، بكل سهولة، بموت أولادنا على رؤوس الجبال و بين الطائرات و الدبابات؟ إذا قلنا كل يوم لأنفسنا “لا نستطيع فعل شيء!” “إننا تائهون و مشتتون و مغيبون!” “نحن نموت!” “ما من أحد يسمع نداءاتنا”؟ لا أعلم ما هو رأيكم، لكن برأيي أن هذا عار و أيما عار! عارٌ علينا و بالأخص عار على المثقفين و المتنورين! ما السبب في كوننا ضعفاء و مسلوبي الإرادة و عديمي المبادرة؟ سأورد، مرة أخرى، أفكار الأستاذ السيد هاشم أحمد زاده التي لا تخص الأدب فحسب، و أقول أن علة ضعفنا هو انعدام الاصغاء إلى أصوات الأبطال المختلفين، أي غياب الحوار. برأيي أن هذه حقيقة لكن ثمة مساوئ أخرى. ترى هل الأمر في غياب الثقة و الرأي الآخر أيضا. . . ؟

 

١٠. ثمة مشروع من أجل اللغة الكردية أو المعلومات عن الكرد أو الكردولوجيا لديكم. و السؤال هو، كيف بدأ و لماذا أصبحت بايزيد مركزا للثقافة بالنسبة لكم؟ ترى ما الذي يميز بايزيد؟   

إن بايزيد ليس مكانا مميزا بالنسبة للكرد فقط بل بالنسبة لي أيضا. إنه إحدى أولى البقاع التي شاهدتها و أحببتها في كردستان. فثمة اليوم الكثير من الأشخاص و الأمكنة التي أشتاق إليها و التي علي زيارتها كل سنة. لا يمكنني العيش دون بايزيد. تلك المدينة المنفتحة على الدنيا حيث يتواجد مختلف الناس كبارا و صغارا يلتقون يوميا في الشوارع المغبرة، إلى جانب العديد من السياح الأجانب الذين يرتادونها لوقوعها على الحدود و بفضل جبل آغري و قلعة  بهلول و الحفرة النيزكية و الينابيع الحارة في ديادين و الكثير من الأماكن التي تتميز بروعة الطبيعة فيها. فمثلا يعتبر ضريح أحمدى خاني في أعلى قلعة بهلول إحدى الأماكن ذات الخصوصية، فيوميا يأتي الناس و يهمسون بأمانيهم في أذن “خاني بابا”.  و أشهد في بايزيد كل سنة كيف يصنع الناس المعجزات بأيديهم من التراب و الغبار المحيط بهم و يبذلون لأجل ذلك أنفسهم و أموالهم اليسيرة. فبفضلهم يمكنني أن أعود  إلى بلدي و أن أحارب (في الفراغ و في متاهات النسيان). فأنا أعتبر بايزيد رمزا لكردستان بجمالها و طيبتها و تواضعها. لكن كلا، ليس فقط لكردستان إنها رمز للمكان الذي ينبغي علينا جميعا أن نرجع إليه كي نستمع إلى أنفسنا و نفهمها.  و إنني آمل كما ولداي أن تتحول الثكنة العسكرية، التي تشغل حيزا أخضر و جميلا وسط المدينة، يوما من الأيام، إلى منتزه للصغار و الكبار!

١١. كثيرا ما تتداخل الكردولوجيا و المعلومات المجموعة عن الكرد مع سياسات الدول، ترى هل توجد أي كردولوجيا بعيدة عن السياسة؟

كلا، لا توجد. و إن وجدت فهي فارغة من مضمونها و لا تمت إلى الواقع و الخير و الجمال بصلة. من الضروري التفكير، دائما،  في هدف السياسة. فإذا أمكننا إيجاد معنى مناسب فنحن نسير في الطريق الصحيح. أرد و أسألكم ثانية، ما الذي ينبغي علي قوله حينما يطلب الناس العون من أجل لاجئ فار من الأوضاع السيئة؟ هل من المعقول أن أقول، ليس لي علم بشؤون اللاجئين، و إنما أعمل في مجال الأدب الكردي فقط و لا يمكنني فعل شيء؟ أم هل ينبغي علي الاهتمام بسياسة بلدي ضد اللاجئين؟ و ما الذي يجب قوله لأولئك الجنود العاملين على الحدود عندما يريدون معرفة ثقافة الكرد (و الشرق) و أوضاعهم بشكل أفضل كي يتخذوا قراراتهم تجاه حياة الناس بروية و تعقل؟ و ماذا سأقول . . عندما تطلب مني مؤسسة ما بيانات تحليلية عن وضع الكرد، و أنا أعلم أن السياسيين و مسؤولي الدولة سوف يطلعون عليها؟ هل أرد قائلة، كلا، اقصدوا شخصا آخر (شخصا لم ير الكرد و كردستان طوال حياته) فليكتب هو؟  خلاصة القول أنه لو كان الأدب و العمل البحثي و السياسة بعيدة عن الإنسان و همومه و مشاكله فستبتعد بذلك عن معانيها أيضا و تكون ضعيفة و مزيفة.

لقد اشتركت في هذا الحوار باسم أمراء الحرب المحتلين. و أرى أن في عيونهم تساؤلا حزينا يشبه تساؤلات ضحاياهم. لقد خطر هذا على بالي ذات مرة فكتبت قصيدة في خريف عام ٢٠٠٢ في المسرح الذي على دوبروفكا في موسكو.

في العيون الشاخصة لججين المقتولة، أنا الذي قتلتها كي لا يتسنى لها أن تقتلنا. لكن لماذا لم نبصر مأساتها من قبل؟ أم أننا أبصرنا و لم نقل أو نفعل شيئا؟ و الآن أخبروني أي شر أشد من الآخر؟

جان دوست: في نهاية هذا الحوار سأتذكر محتلة معاصرة، كي أنادي الآن و من عمق البحر بعيوني الخاوية الرانية إلى السماء التي تطل منها، أنادي و أقول، تعالوا فلنؤسس “القاعدة” الجديدة. كي لا تنبني على الخوف و الإرهاب. سنتخلى عن همومنا و نتأمل هموم الإنسان الآخر. و لأجل هذا لن نخسر و سنحيا إلى الأبد. فلنطلق إسماً آخر على أسس القاعدة الجديدة. إسماً تردده حكايات و أقوال الإيزيدية و أحمدى خاني من بداية مم و زين حتى نهايتها. إسما لا يقال بصوت عال، لكن بهمس أمام النار.

أسرعوا بالمجيء فحسب! فلقد نفد الوقت!

1- يمكنكم الاطلاع على هذا المشروع باللغة الكردية في هذا الرابط: http://beroj.com/projeya-poloni-ji-bo-pesxistina-zanisten-li-ser-kurdan-2/

2- Fırat Yayınları, Stenbol, 1992

3- Haşem Ahmedzade, Roman û Diyalog,  http://files.chawdernews.com/411/r5.pdf, 2013

4- Hesenê Metê, Gotinên gunehkar, Apec förlag AB, Stokholm 2008, r. 147

5- ثمة تحليلات لهكذا مسائل في كتاب الفيلسوف البولوني “جاجك فيلكي” مثلاً.: Filozofia jako etyka, Wydawnictwo Znak, Kraków 2001

 الترجمة عن الكردية: غياث حسين

شارك هذا المقال: