كيڤورك خاتون وانيس
ما تزال النتائج المخيبة للآمال والبعيدة جداً عن الغاية الأساسية وهي الحرية ( الديمقراطية بالمصطلح السياسي) التي آلت إليها الحراك الشعبي في العديد من دول المنطقة، سؤالأ يطرح نفسه ويتطلب البحث عن أسباب هذا الفشل أو التراجع أو الانتكاسة بعد أن شكلت بارقة أمل وانفراجاً واسعاً يبشر بحياة ومستقبل أفضل للأجيال القادمة.
يُجمع الكثير من المراقبين والمحللين المعاصرين على أن سبب هذا الفشل هو ركوب الأحزاب والتنظيمات الدينية أو ما يسمى بالإسلام السياسي لموجة الحراك والانقضاض على السلطة والاستفراد بها، ما يعني تحويل الدولة إلى أقسى أنواع الدولة الشمولية.
تتوافق هذه الرؤية أو التحليل بشكل غير مقصود مع نظرية أو مقولة المفكر الألماني كارل ماركس بأن الدين أفيون الشعوب في تفسير سيطرة المسيحية السياسية على أوروبا في القرن التاسع عشر
كما يتماشى التفسير المعاصر لدور الدين السياسي مع نتائج البحث الذي قام به المؤرخ البريطاني ادوارد غيبون صاحب كتاب “تاريخ أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية ” الذي صدر في القرن الثامن عشر، حيث توصل إلى استنتاج بأن أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية قد بدأ مع اتخاذ المسيحية ديناً رسمياً للدولة؛ أي بعبارة أدق تسييس الدولة!
لكن إلى أي مدى يمكن الركون إلى هذه التحليلات المعاصرة وتلك النظريات التاريخية حول اعتبار تسييس الدين هو المعوق الوحيد في مسيرة التحول الديمقراطي؟
لو دققنا قليلاً في الحالة التي تناولها غيبون في بحثه لوجدناها تعود إلى قرون خلت (القرن الرابع )، حيث لم تكن عقيدة أخرى مسيطرة غير الدين.
وهذا ينطبق على مقولة ماركس أيضأ ، إذ إن نظرية الدين أفيون الشعوب كانت وليدة زمن كان فيها الدين هو العقيدة الرئيسية المسيطرة في المجتمع ، وعليه لو قدر لماركس أن يعيش في القرن العشرين ورأى ما ارتكبته الأيديولوجيا القومية التي تمثلت في الفاشية والنازية، والأيديولوجية الأممية التي تمثلت بالأنظمة الشيوعية، من انتهاكات إنسانية هائلة هذا عدا تدمير أوروبا بشكل غير مسبوق، لا أعتقد أنه كان سيتردد في استبدال كلمة الدين بـ الأيديولوجيا. ففي ظل حكم هذه الأيديولوجيات كانت الحريات السياسية (الديمقراطية) معدومة بشكل مطلق.
وبنفس المنطق يمكن اعتبار التحليلات المعاصرة حول نتائج ما جرى في منطقتنا والتي تعتبر الأحزاب الدينية المسؤولة الوحيدة عن تعثر المسار نحو الديمقراطية، صحيحة لكنها غير شاملة، بمعنى أنها غفلت أو نسيت بأن معظم الأنظمة العربية التي سقطت لم تكن دينية، بل قومية بامتياز، فهل كان هناك ادنى شكل من أشكال الحريات السياسية (الديمقراطية) طوال فترة حكمها الذي امتد لعشرات السنين أم أنها كانت ممالك صمت بكل ما للكلمة من معنى؟
وهنا أجدني مضطراً لتجنب سوء الفهم بأن المقصود هنا هو ليس تفضيل شمولية على آخرى بل تعريتها ورفضها جميعاً؛ إذ من غير المقبول وضع الإنسان أمام خيارين أحدهما أقسى من الآخر، أو كما يقال بين السرطان والطاعون!
لكن هل الأيديولوجيا هي المعوق الوحيد في مسار تحقيق الحلم الديمقراطي ، أما أن الحلم بحد ذاته يحتاج إلى إعادة قراءة لتحديد مدى انطلاقه من الواقع أما أنه يتعالى الواقع ويشكله وفق قوالبه الجاهزة؟
وهنا يبرز سؤال هام، هل يمكن الوصول إلى حالة الديمقراطية على مستوى الدولة عبر مجتمع لا تتوافر فيه أدنى مبادئ وقيم الديمقراطية، وعبر نخب لا تملك أكثر من الإعجاب بها؟
بعبارات أبسط، هل تصلح لبنات المجتمع (الأسرة ، العشيرة، القرية……الخ) غير الديمقراطية في تركيبتها، أن تكون أساساً لدولة ديمقراطية، وهي في حد ذاتها لا تقبل رأياً نقدياً أو موقفاً لاي فرد من أفرادها لا يتوافق مع رأي الجماعة؟
وهل تستطيع تجمعات النخب من أحزاب وهيئات أن تشكل معاً تحالفاً ديمقراطيأ (حكومة) وهي بحد ذاتها كيانات لا تقبل في داخلها صوتاً يغرد خارج سربها الخاص هذا فضلاً عن عقلية التمجيد والتقديس لسكرتير الحزب أو المرشد أو الزعيم ا؟
الإعجاب بالديمقراطية والاستمتاع بمزاياها شيء، وممارسة الديمقراطية بكل ما تتضمنه من حقوق وواجبات شيء آخر تماماً.
لا شك بأنه هناك أفكار وجهود لوضع المجتمع والدولة على عتبة التحول الديمقراطي وهي مشكورة ومقدّرة بغض النظر عن حجمها وتأثيرها.
لكن ثمة حقيقة مرة، وهي أن الزمن هو عامل أساسي في حل هذه المسألة التي تصل حد المعضلة، فالديمقراطية لا يمكن أن تنمو في بيئة أيديولوجية، فأحدهما ينفي وجود الآخر!