قـــراءة أولــى فـي “رشقــةُ سمــاء تُنــادِم قلــبَ العابــر” لــ “خالــد حسيــن”

شارك هذا المقال:

أحمـد عزيـز الحسين [1]

يشكِّل عنوانُ المجموعة عتبةً لمّاحةً ومفتاحاً للقراءة والتأويل، ويرشح بالقلق والتوتُّر والغربة، ويدلّ عنوانُ “فُسَح”، الذي أطلقه الشاعر على نصّه الأول، على رغبته العارمة في الإفضاء بما تختزنه ذاته من مشاعر وانفعالات، ويعمد في اللوحات الأربع التي تنضوي تحت هذا العنوان إلى فتح كوى جديدة لتأمُّل المكان من حوله، والإفضاء بما يختزنه صدرُه من انفعالات ومشاعر جيّاشة.

ويتعامل الشاعرُ مع المكان بوصفه حيّزاً مؤقتاً يرشح بالأسى والتشاؤم، ورغم أن مفردة ” السماء” تدلّ على “الرحابة والاتساع” في المعجم اللغويّ إلا أنها تدلّ، في العنوان الذي تناسجت معه، على الضيّق والمحدودية، وترشح بالقهر والغربة وتشظّي الذّات. 

وتتفاوت نصوصُ المجموعة في الطول والقصر، إذ يتكوّن بعضها من جمل شعرية قصيرة متتالية تتضافر مع بعضها في تكوين لوحة وصفية طويلة، ويتكون بعضها الآخر من جملة قصيرة واحدة، تبدو واخزة ونفّاذة كطلقة مسدس.

كما تكثر في الديوان النصوصُ القصيرة اللمّاحة التي تنوء تحت ثقل رغبات محتدمة، وحنين كاوٍ إلى الوطن، وإلى لحظات حبّ رهيفة لايمكن استعادتها، وترشح بغربة موجعة في حيّزها الجديد، وتحنّ إلى حبيبة مأمولة لايمكن اللقاءُ بها، بعد أن باعدت الغربةُ الموجعة بينه وبينها، وأمسى الحبيبُ على شفا جرف متهالك لا إمكانيةَ فيه لاستعادة ذاتٍ متشظّية إلا من خلال استعادة الحيّز الحميم الذي كانت تلوذ به.

ويلحظ المتابعُ لنصوص المجموعة أنّ هناك نوعاً من المفارقة بين صور الطبيعة الراشحة بالخضرة والخصب والنّماء وبين الكآبة والخيبة الطافحتين في الصدور، إذ يغتال الحزنُ النّداوةَ التي ترشح من الصور الكثيرة التي تغصّ بها نصوصُ المجموعة، ويحيلها إلى عاملٍ مولّدٍ لانتشار الأسى والكآبة والقنوط.

ويعمد الكاتبُ في تشكيل بنية نصه الشعريّ إلى خلخلة العلاقات بين مفردات جمله الشعرية من خلال إحلال علاقات إسناد غير معهودة بين المفردات التي تكوّن هذه الجمل، ويمنح هذه المفردات دلالاتٍ جديدةٍ مغايرة لدلالتها المألوفة في المعجم اللغوي الذي استُمِدَّتْ منه.

كما أنّه يعمد إلى ضخّ الحياةَ في الجماد، ومنحه صفاتٍ إنسانيةً ترتقي به إلى مستوى الإنسان الذي يحسّ، فضلا عن أنّه يقوّض بنيتي الإسناد والمجاورة في الجملة الشعرية التي يصوغها، وينفحها بدلالة جديدة في ديوانه، بدءاً من العنوان، مروراً بمتون القصائد؛ ووصولا إلى خواتيمها؛ فالرشقةُ، التي تُسنَد في العادة إلى ما يمكن بعثرتُه وتشظّيه، تتخلى عن حمولتها الإسنادية المألوفة من خلال اشتباكها مع نسق تركيبيّ آخر يجعلها تحمل دلالة جديدة مغايرة لدلالتها المعهودة.

كما أنّ الشاعر يفلح في تقويض قوانين البلاغة والتشفير الدلالي، وإحلال قوانين جديدة مكانها، ويدفع بالمتلقي إلى التعامل مع نصوصه على أنها بنى لغوية جديدة، وهكذا يُخرِج المتلقي من حياديته، ويجعله يغادر حالة الكسل والخمول التي تعوّد عليها من خلال مواجهته لنصوص جديدة تتطلب منه تغيير آلية تذوّقه وتأويله للنّصوص؛ وترغمه على الاستجابة لها.


   [1] ــ ناقد سوريّ

شارك هذا المقال: