منادمة المتخيَّل الشّعري.. قراءة في “رشقة سماء تنادم قلب العابر”

شارك هذا المقال:

لجين نبهان

  • استهلال

كما هو وارد في العنوان، فقد حاولت من خلال مما سيأتي في الصفحات القادمة، إنجاز قراءة انطباعية جمالية عن (المتخيَّل الشعري في مجموعة “رشقة سماء تنادم قلب العابر” لخالد حسين) اعتمدتُ في مقاربتي على ذائقتي الخاصة، كمتلقية ومتبنّية ومنحازة وكاتبة لهذا الجنس الأدبي (القديم الحديث)، الشعر النثري، أو الحرّ خارج إطاري الوزن والقافية، الشعر الحديث، رغم أن البعض يعود بأصوله إلى النفري وكتاباته، وكذلك فيما يخص شكل النص والتكثيف، واستخدام أساليب التورية، محتفياً باللغة عبر اشتقاقات وتشظيات لا تنتهي، والتوقف عند العلامات الشعرية، والدلالات التي يتكئ عليها المتلقي في عملية التأويل للوصول إلى المراد أو ما يملسه في هذا النص(النصوص)، الذي يحتفي بالتلميح مبتعداً عن التصريح والمباشرة، ومن هنا احتفاء هذا النوع الأدبي بالقارئ الذكي، اليقظ المثابر في اقتناص المعنى وهذا ما سنلمسه جلياً عبر رحلة القراءة هذه. للتأكيد أقول إن ما نحن مقبلون على الخوض فيه ليس دراسة نقدية ولا تتّبع مناهج النقد الأدبي وإنما هي قراءة تنبع من الذائقة الشخصية للمتخيّل الشعري، الذي أقصد به العالم التخيلي الذي ترسمه نصوص المجموعة.

  • العنوان والغلاف

المجموعة بعنوانها، كما ذكرت، “رشقة سماء تنادم قلب العابر”، من إصدارات 2024 دار نوس هاوس Nûs House للشاعر خالد حسين، تنطوي نصوصاً بهندسةٍ خاصةٍ توزّعت بين النص القصير والطويل نسبياً على مدى 124 صفحة. أما لوحة الغلاف فهي من تصميم الفنان التشكيلي محمد غانم أوروا.

اللوحة التي سنعلن منها انطلاق رحلة القراءة بوصف الغلاف العتبة (أو المحطة) الأولى، والرحم الذي سيحتضن النصوص قبل أن تولد بين إيدينا. وبالدخول في التفاصيل، نجد أن الغلاف جاء متناغماً متماهياً مع الحالة الشعرية، بل أشبه بنص يحمل كل مقومات الشعر حيث تظهر أنثى بشكل جانبي تقريباً، بخلفية سوداء، وجه تظهر منه عين وأنف، الفم ابتلعه الظلام، بينما النهد يصر على البروز معلنا ضجيج أنوثة سجينة داخل سور الجسد، يدلّلنا عليه (السلك أو حبل رفيع) الذي رسم لنا حدود هذه الأنثى، وكل أنثى ربما. هكذا جاءت اللوحة على الغلاف مفعمة بالتورية، نصف حضور، منبثق من ليل، غموض، حضور ضبابيّ، أو ربما هو الانتظار، انتظار المنبثق من الداخل، أو انتظار الحبيب، الخلاص.. إنه الانتظار.. وأخيراً فسحة حزن نشعر بها على الرغم من عدم وضوح الملامح، حزن محفوف بالانتظار ربما، أو الاستحالة. لكنه الحزن بلا شك. إنها التورية والعلامات، والغموض ما يجيز للغلاف قراءة شعرية يؤكد شرعيتها العنوان الذي جاء مائلاً مستلقياً أو ربما واقفاً يسند تلك الأنثى، وتتكئ عليه. إن العنوان “رشقة سماء تنادم قلب العابر” والعتبة الثانية، والمحطة التالية التي تزيد فضول القارئ لخوض غمار الرحلة ودخول عوالم الشاعر حين لا تستطيع الفكاك من الشعور بأنك معنيٌّ بشكل أو بآخر بهذا (العابر(وأحواله حتى يكون وحيداً إلى هذا الحد متشبثاً وعابراً في آن، حين تكون رشقة من سماء هي نديمه، نديم قلبه، وحين لا نملك إلا أن نكون فضوليين لمعرفة ما يؤرّق قلب هذا العابر؟، وهل هو العابر في الجغرافيا، أم العابر في الحياة، أم كلاهما معاً؟

  • غرابة الفهرس

ثم يأتي الفهرس الذي لا يشبه ما اعتدنا عليه، وقد اختاره الشاعر على هيئة نصوص قصيرة معنونة (فسحة) مرقمة بأرقام رومانية كمفاتيح للنصوص، وقد جاءت أشبه بطُعم ستبتلعه ممتناً، مأخوذاً بالرغبة في الإيغال أكثر، حين يزيدنا المذاق فضولاً ويدفعنا للمضي قدماً مأخوذين برغبة الاكتشاف مع وعدٍ بقضاء وقت ليس بالعادي، بصحبة نصوص المجموعة، بقلم شاعر لا تغيب عنه عين الناقد التي سنلمحها في هندسة النص، علاوة على حضور التشظي والاشتقاقات والانزياحات التي لن تنفك تباغت استرسال القارئ، فلا تترك له مجالاً لتوقّع ما سيأتي، جاءت الفسح على التوالي:

فسحة I

 جمالك العميق كذاك الليل ..!

المساء في رهافته، الرغبة في ضبابها الكثيف

غبطة السماء، مدارج اللهفة وكستناء للشتاء

كإبهام يتألق على حافة المساء

فسحة II

 كنجمة ترعى الليل في أنينه الأخير

زهرة اللوتس أو رنين الحب في ممرات الليل

رشقة سماء تنادم قلب العابر

مفتونا بالرخام في ندائه

فسحة III

 يدك غنيمة الغامض في مجد الصمت

يا لهول السحر في رموشك

كغيمة بصعد الحنين…!

ليل نبيذ في خديعة النجوم!

فسحة IV

في أن يكون الحب شأن صباحها…!

كما لو كنت مدناً تضيء عزلة المسافر في هذه القصيدة!

سنمضي إلى هذا المجهول عميقاً…!

نافذة أخيرة على أنقاض الليل

وهكذا وعلى مساحة هذه الفسحات، يفرد لنا الشاعر مخيلته وتجربته اللغوية والشعرية لنجد أنفسنا شركاء مستسلمين إلى نداء الشعر والشاعر عبر رحلة محفوفة بالجماليات من تراكيب وصور شعرية واشتقاقات مباغتة يثبت من خلالها الشاعر بصمته معلناً عن لغته الخاصة وروحه التي ستسم مجموعته، بل شعره، تطالعك منذ النص الأول المعنون بـ (جمالك العميق كذاك الليل..!) يقول الشاعر وعبر متوالية:

من أثلام الجبل القريب

يلفق النسيم قططاً صغيرة تعابث الستائر البيضاء

المجروحة بخيوط من ذهب. (….)

يا كثافة الرغبة في عويلها، يا مواسم الحنطة، أيتها المصنوعة من إغراءات الظلال للنبع، يا شغف العشب بفتنة النهار الأولى…!

وهكذا نمضي مع الشاعر الذي لا يتأخر في رفع صوت النداء الملفّع بالحنين عساه يصل إلى مسامع حبيبته التي صارت بعيدة لسبب ما، مذكراً إياها بنفسه هو الغريب العابر المسكون بأرض الجزيرة السورية (مسقط رأسه) ببراريها ورائحة العشب هناك، لياليها المطعمّة بالنجوم، وأحلام شعرائها كأنما يستحلفها بعشهما، أن تبقيه في قلبها، الذي لم يفارقه، إذ نقرأ هنا مقطوعة أشبه بسيمفونية اغتراب وعشق وحنين يعتصر قلب العابر:

(…) ثمة رجل غريب

العابر الذي حدثك يوماً عن رائحة العشب البري حيث

تتعطر التخوم في المساءات، عن طفولته وأعشاش طيور

القطا البسيطة التكوين، في تلك البراري المنبسطة من أرض الجزيرة

عن الليالي المطعونة بنداء النجوم، عن أحلام الشعراء بمدن من أقحوان..

تذكري أيتها العاشقة حيث تفوح من نهديك روائح اللوز

ومن شفتيك يقطر عسل التين الجبلي، تذكري: هذا المسافر الذي أغدق حنينه على ضفاف جسدك (….)

يصغي وحيداً، وحيداً إلى وشيش المطر، وحكايات

 الشتاء وألغاز وردة الحب في قلبك

 وفي النص الثاني من الفسحة الأولى يمضي الشاعر بنا في رحلة الدهشة الأنيقة  إنْ صح التعبير، من خلال الصور المباغتة المحمولة على استخدام غير مألوف للغة، يرسم من خلالها مشهدية حية نابضة تراها وتقبض عليها بحواسك، أو ربما أنها من يقبض عليك بداخلها، رغم ذلك الشعور الغامض الذي يشوب تصديقك المطلق للحالة، بأن الشاعر يبتكر حبيبته من خياله، يهرب إليها يستأنس بها في غربته العميقة، بعيداً مبعداً عن وطنه المتجذّر في داخله:

” جمالك عميق كهذا الليل، فيما الشمعة التي تنتصف المسافة بيننا

على حافة الطاولة تذوب كعاشقة في صرخة عميقة لعاشق مسحور، أناقة العدم”.

وفي صورة بديعة من نص آخر يقول:

كما لو كنا وحيدين في مدينة باغتتها العزلة!

يحتشد البيت بعاشقين،

رخام في تناسق تام، امرأة أنيقة، يحتشد قلبها بالنجوم

مساحات من العشب تمتد شساعة وأنت تقرئين قصيدتك

بإتقان، تقرئين القصيدة، وترمينني بالعشق منك

(…)

” ثمة أقمار تضيء بحيرة قلبك أيتها العاشقة”

وينهي الـشاعر النص بسريالية آسرة حين يقول:

” يقود الممر عاشقين إلى سرير الأفق، خطوات تمضي بالممر

إلى فضاء يتسع لشهقتين فحسب، تصرخ إوزة في اشتداد

العاصفة، أرياش تتبعثر ويطفو جذع رجل في السيل

الذي يخترق عزلة المدينة

طائرا حمام ينهاران في هديل صاخب..

ولا تتوانى هذه السريالية أن تطالعنا في مواضع كثيرة حيث يدلف بنا الشاعر إلى داخل الإطار، نقتفي أثر العناصر، نفكك العلاقة بين اللّامتشابهين بمتعة المستكشف. في هذا السياق أسوق هذا النص الذي جاء تحت عنوان “هضبة”:

يدحرج الصبي أحلامه

وهو يخطف غبطة السماء من زرقتها..

إن هي إلا بحار ضوء تحاصر جذع الطية،

أخيلة مدن تتدفق كجياد برية صوب مشارف البعيد

أية مكابدة تجشمتها الأرض لتقتنص هذا النهد في صرخة متخثرة؟!

تركن الأمداء بأثداء خائرة، يا لهذا السّراب الذي يندفع في

شبق هائج!

من رمى بهذه المرايا في غفلة من الإله ودعاني هناك على

حافة الصرخة!

  • رائحة الهايكو، الاحتفاء بالطبيعة

القارئ لنصوص المجموعة سيشم رائحة الهايكو الياباني من حيث شكل النص وبناؤه، حيث جاءت بعض النصوص قصيرة، مكثفة مقتضبه، تطالعنا الدهشة في السطر الأخير (القفلة) تاركة النص يتردد في أعماق القارئ:

لا أفق

سندني هذا المساء

ثمة شجرة أقرأ فيها غربتي

أقرأ فيها صور أصدقائي

وحيث أقرأ هشاشتي طيوراً تهجرها

أناديك..

**

غرفة

وردة حمراء مركونة إلى الأفق

عاشقان يندلعان في صرخة مارقة…!

**

في أنينه

عازف الناي يجمع أوصالك

يحد العالم برمته….

ثم يرمي بالروح في مجهول الأبد…

وما سيلمسه القارئ في المجموعة هو تأثرها بالشعر الصيني، أو شعر شعراء أميركا اللاتينية في في تجربة الاحتفاء بالطبيعة، إذ لا يكاد يخلو نص من مفردات مثل (الكستناء، البراري، الغزالة، الأقحوان، الريح، النهر، زهر عباد الشمس، الطيور، الذئاب، البحيرة، الغابة….) مع فارق التوظيف والاستخدام الذي يمنح التجربة بصمتها الخاصة بالشاعر:

تلك الأنهار العظيمة

تلك “الأنهار –السراب”

لما ولما نادتني

طويت قيظ الظهيرة تحت قدميّ الحافيتين ولم أصل

لم أصل أبداً…!

**

يا لهذا البهاء!

حيث تتجلى، في العالم، قصيدة

الكينونة في مأواها.

وأخيراً وفي هذا السياق، النص التالي الذي لا يمكن إلا أن ينخطف له قلب القارئ لرهافته وبساطته:

كنتِ

حقل قمح شاسع

وكنتُ

كطفل يحتار

في ضم السنبل..

إنَّ القارئ لنصوص المجموعة سيلاحظ متعة الشاعر في ممارسته للعبة الانزياح، ومشاكسة اللغة والمتلقي على حدّ سواء، إذ نقرأ عبر رشقات فضاءاته الشعرية الكثير من هذه الانزياحات أذكر بعضها هنا:

ــ مدارج اللهفة

ــ لن ينجو اللا مرئي

ــ رغم جمال العالم، ثمة فراغ هو لكَ

ــ يلّفق النسيم قططاً صغيرة تعابث الستائر السوداء

ـــ الحمرة الفائقة للجوري تكاد تسند السماء من زرقتها المهيبة…!

ـــ جسدك يبتكر ضفة للبحيرة الصغيرة

ـــ أنّى تمكثي يغطّ الحمام في هديل عميق..

ــ يتخثر دويّ الشقراق كشظية في جسد الليل غسقاً

ـــ أفتح الروح على جنائن الورد في اسمك..

ـــ الكدمة التي تباغت اللة في انعطافها صوب النجوم

ــ الكينونة في مأواها

ـــ في أسفل الصرخة يومض نيزكان في رشقة رماد..

  • المكان شعرياً:

وإذا إردنا اقتفاء أثر المكان في النصوص سنلمس العلاقة المعقدة والمتعددة للشاعر مع المكان، تكاد تكون سريالية ينقلك الشاعر من خلالها عبر الأمكنة المسكون بها. والتي سكنها فاستقرت في وجدانه وصنعت ذاكرته ومخيلته، ونستطيع بجلاء رصد ثلاثاً من تلك الأمكنة:

ــ المكان الأول هو سهوب الجزيرة السورية، ويمتد هذا المكان ليشمل الجزيرة السورية برمتها. إنه مسقط رأس الشاعر وحنينه الأبدي، حيث السريالية الفاتنة التي ترسمها الطبيعة الصحراوية لتلك المناطق وترسمها الجغرافيا، وهنا لا بد من الوقوف على النص التالي، الذي جاء متمايزاً عن باقي النصوص من حيث إيقاعه الذي يحيلك إلى قصيدة كتبت في العصر الجاهلي، من حيث الإيقاع وجزالة المفردات، بتكثيف وسريالية لا تخطئها الحداثة حين يصف الشاعر الطبيعة في صباح ربيعي هارب من أيام الطفولة والذكريات، حين كانت النسوة يدلفن في غباشة الفجر إلى البحيرة المتجمدة حاملين أكوام من العهن (الصوف) كي يغسلنه، ذكريات تشد الشاعر إلى ذلك الزمن والمكان عبر حبل سرّي لا ينقطع فيبقيه جنيناً في رحم تلك الأرض:

تنتفض الغيوم بأثقالها

يا لهذه المرآة بأمواهها وضفافها

ما سرّ الكائن في الغبش، ما سرّه يفترع جليدها غائصاً في زمهريرها!

يا لهذه المرآة، إذ تمشط امرأة كآبة الشتاء من أيامها

ضفاف، ونساء، أكوام من العهن، وشجيرات خرنوب تمدّ من ظلالها.

وللذكريات عبث الضوء بنهدي العقيقة في إشراقها

يطير الصبيّ في الهواء فيغوص من المرآة في أوحالها

فاتكٌ حصار الشمس لجهاتها

فتنجلي قيعانها قيظاً

فإذا الصقيل النبيل يبين من صلصالها.

  • وأما المكان الثاني فهو دمشق التي درس في جامعتها، ودرّس فيها، وشهدت تفتّح أفكاره وتبلور وعيه، فكانت عشقه الأبدي، لا يفتأ يتغنى به وبها، مقوضّاً تلك المقولة الفجة من حيث إن المواطن الكردي المبتعد الغائر في قوميته راغب في الانفصال! فكيف ذلك والشاعر يعتز بدمشق اعتزازه بأصله الكردي، يحن إليها حنينه إلى مسقط رأسه:

” دمشق

مثل أول امرأة تشتبك معك، فيبقى عسل شفتيها مشتعلاً أبداً

نغادر دمشق، فننسى أجسادنا فيها.. لا نتذكر من دمشق إلا دمشق…!

وها هو ينادم ذكرياته فيها كما لو كانت حبيبة في نص آخر مذيل باسمها 2000 إذ يبثها حنينه  من حيث هو في البعيد يكابد الوحشة بعيداً:

موحش هذا الليل

موحش صمت القصيدة

موحشة هذه الأدراج العالية

أدق الصوت بالصدى

علّ أغنية تضيء حقل الروح

لا شيء سوى نجمة يسكنها البعيد

موحشٌ هذا الليل في ليله.

ــ ويبقى المكان الأخير الذي لم يختره الشاعر لنفسه بقدر ما اختاره له القدر، والمأساة السورية، أقصد مكان غربته وعزلته الذي يكتب منه، شبّهه (بجرف ناء) تأكيداً على عمق اغترابه فيه، ينطلق منه، من نافذته، من الستائر، ومن رائحة القهوة، لتشتعل مخيلة الشاعر وذاكرته فيشرد بعيداً حيث الحبيبة، أو لعله حنينه إلى الحب، حيث الأمكنة النائية والأمنيات:

أتكئ إلى غيابك

وأقرأ خيبة السماء

ثم أرثي المدينة البعيدة التي هجرتني.

وفي نص آخر معنون بـ بورتريه:

الستائر تغتاظ عتمةً

بينما ضوء خافت يتمزق على أفاريز النافذة

ابتسامتك شآبيب نور تحتفي بها الظلال

حقل قمح محاصر بغيوم داكنة، تنازع الليل والنهار

هنيهة أبد:

إنها رشقة برونز تجتاح ملامحك حيث الجمال الفائق

بلا ضفاف.

  • الأنثى بين الواقع والمتخيّل

اللافت في الغالبية العظمى من النصوص حالة الحب، بل العشق التي يشاركنا الشاعر إياها، ويجعل القارئ بطريقة ما جزءاً منها، منغمساً في مشاعر الشاعر، عاشقاً مثله، يتأمّل من خلالها هذه المحبوبة التي يكاد يشعر بأنفاسها، أو يراها لشدة حقيقيتها وشدة الإيغال في التأكيد على صفاتها ذات الأثر البالغ في وجدان الشاعر، يصفها كي يستحضرها بذات القوة التي يفتقدها بها، يحاول استحضارها لغة، لكي يلمسها، يضمها يمسك بحضورها الأشبه بسراب: مرةً أولى تشعر بأنها الحبيبة المنبثقة من خيال الشاعر، من تعطشه لذلك الدفء الذي يفتقده في جرفه البارد النائي، وتشعر مرةً ثانيةً بأنها العاشقة المعشوقة المنبثقة من ذاكرة الشاعر، وقد ابتلعها البعيد، كما ابتلعت المسافة كلَّ شيء حميمي في حياته، مرة ثالثة تشعر بأنها عاشقة معشوقة، من لحم ودم يعيشها، ينتظرها وتأتي، يتحدّث إليها وعنها. وربما تكون أنثى الشاعر هي مزيج من تلك النساء اللواتي ذكرت!! هكذا يعبث بنا الشاعر هذا العبث الجميل، معابثاً اللغة بذات المتعة والإمتاع. وفي هذا السياق أقتبس هذه الباقة من النصوص المضرجة بالحب:

من سيصمد إزاء هذه الغواية في شفتيك؟

يترامى الكلام غيمات حرير على أصابع الأميرة، جمالك

الغريب أيتها الأميرة، جمالك العميق كهذا الليبل، نظرتك

التي تنقذني من شرودي الأزلي (….)

**

كما لو كنا وحيدين في مدينة باغتتها العزلة!

يحتشد البيت بعاشقين،

رخام في تناسق تام، امرأة أنيقةـ يحتشد قلبها بالنجوم(…)

**

أيها الحب!

أيها العراء المكتنف بالزرقة!

النجوم تومض بين أصابع العاشقة..

من فضة أصيلة هذه القلادة المسكونة بقلب وفراشة!…

**

الأمطار تضني أجنحة الليل بثقل جنونها وشفتاك مساء

مذبوح في سطوع القبلة، ثمة صرخة هائلة تستعر

تحت جلدك الآن…

**

ألا أن امرأة في كثافة بهائك،

 في جمال أصابعك وهي تلمس

فنجان القهوة، في الابتسامة التي تأتلق في فوضى

خصلات شعرك، توقد الأبد في العابر

أيتها العاشقة

المنهمرة من لنافذة تلتبس فجأة بافترارة حزينة

على شفتيك.

**

لأناملها الطويلة، تنهض القصيدة امتداحاً

على الضفة الأخرى من الغامض

يتبصر في ألغاز هذه التخوم، حيث الألفة بخديعتها!

يروي الشاعر لندمائه عن مغانم الرقة في لغتها.. عن اليمام

الذي يؤم غيابها.

في منعطف القصيدة يذوب كحلاً في عينيها

أيها الشاعر لا تنس أن تروي في أماسيك التائهة عن

الليالي المعطرة برنين خلخالها الفضيّ، عن أسراب

الفراشات التي تكلل عتبة أحلانها.

هكذا، ومن خلال هذه الرحلة، في أرخبيل عشق/شعر الشاعر نلمس مدى انغماسه في حالة الحب ليس كشعور عابر بقدر ما أنه حياة وحاجة وجوهر، ونرى كيف ينتقل بنا على ضفاف بحيرة الحب تلك، تاركاً الباب مواربا لنا حيناً كي نختلس السمع إلى أحاديث الحب بينه وبين حبيبته، وحينا آخر يجلس إلينا يخبرنا عنها.. في الحالتين تراه مبللاً بمياه تلك البحيرة.  وطالما أننا نتحدث عن العاشق والعشق والحبيبة لابد أن تقتفي أثر المحسوس ومدى اقتراب لغة الشاعر من (الآيروتيك) وكيف قدّم لنا الحالة الحسية والاشتهاء والتماهي في كيان المحبوبة. وفي هذا المقام ومن خلال قراءتي للمجموعة يمكنني القول إن الشاعر لم يكتب نصوصاً آيروتيكية بالمعنى والمعروف، وإن لاحت لنا بعض النصوص التي اتسمت بالحسيّة، لكنها رغم ذلك جاءت أنيقة، بعيدة عن الابتذال أو الاستهلاك، في لغةٍ بقدر ما هي شفافة، قدر ما تملك القدرة على التأثير وإطلاق عنان الخيال، لكنها لم تغادر أرض المجاز، ولم تتخل عن الاشتغال على الصورة الجمالية وحتى التكثيف:

في ضلال الرغبة يورق الليل

في ضلال الليل يرنّ قلبها في النداء كثافةً:

أشردْ إليّ أيها الطائر، لأكن لك ظلاً.

أشردْ إليّ لأميل عليك..فتسقط حبتا كرز في فمك..

أشرد إليّ لأهبك حقلاً وتمنحني ماء قلبك!

نلاحظ كيف يغلف الشاعر صوت الرغبة بالمجاز لنتشارك عذوبة الحالة وتتناهى إلى وجداننا رائحة العشق أوكسير حياة:

ها هي البحيرة ترتمي تحت سماء شبقة

على الصخرة، صخرة نيتشة، أقرأ صفاء الزرقة إلهاً وسيماً

وأنت

تغوصين بجسدك الضارب إلى الجنون بهدوء طريّ في

ظلال يدي.

**

في نداوة هذا الخريف

حيث ألتقي بك في انغمار الأشجار بماء الذهب

في خديعة الكلام إذ تتورد رغبة هوجاء في نظراتنا

تومض على شفتيك آثار قبلتي الجائرة

**

ما أخالني أنه شُبه لي:

امرأة تنحدر من أساطير الميديين

تنزفها الأمداء في تلك السهوب التي تستيقظ في جسدها

حقول حنطة وطرقات بمساءات غامضة، مزيج من صفاء

الندى وعطر الورد ونضارة الأقحوان!

يا لهول الجمال في رموشك حيث تسرع المتاهة بكتابة

نشيدها، يا لهول الجمال في أثر ابتسامة طائشة تكاد تشي

بأسرار ما يتألق من رام على شفتيك!

يخطفني تناسق التكوين في قوامك حيث يحتفل المام

أسراباً فأسراباً على منحدراتك الغرانيت

(..)

**

إنها مآثر المباغتة

أهو عنقك الرخام المردود خلفاً صقيلاً يستدرج العالم

إلى ليل الغواية؟

بصفائك العميق كغفوة إله يفتتح المكان مفاتن صباحه،

كما لو أن الأساطير تؤرج النهار بالطلاسم، تخاتل الأشجار، على

غير شأنها، مرايا النبع!

هنا يهجع العالم بين يديك: الليل، النجوم، ويكان رموشك

تصون الأرض، وأنا تجتاحني المسافات لأحتفي بهذا النبيذ

الإلهي برمته.

  • لعبة اللغة

يجيد الشاعر لعبة اللغة، يمارسها بمتعة، مرةً من خلال الاستخدامات المفاجئة للمفردات:

منذ عينيك في تلك اللحظة الجائرة،

 لا تفتأ القصيدة تتوسل ظل الإله الحاضن لسفوح الضوء

نرى كيف جعل الشاعر عيني محبوبته زمناً، بدلالة منذ التي استخدمها بطريقة لم نعتد عليها، توكيداً منه على الحدث الفارق حين وقع نظر الشاعر على تلك العينين  أو من خلال التركيب وتراتبية المفردات في الصورة أو العبارة، حيث يجد القارئ نفسه مضطراً للتمعن قليلاً وإعادة القراءة، قبل أن يمضي مبتسماً فرحاً باكتشافه لعبة الشاعر:

خذني إليك وأيقظ القلب من رمل الصحراء..

خذني إليك.. ليتنا غيم، تقول الغزالة

 ليتنا حتى نلتقي كلما غفا حقل الزنابق في قلبي

وهكذا بعد هذه الرحلة في رحاب النصوص ومقاربة بعض جمالياتها التي تستحق قراءات والكثير من الكلام والتحليل لغةً وبناءً وفلسفةً لمقاربة التجربة الشعرية ذات البصمة الخاصة بكل ما فيها للشاعر والناقد د. خالد حسين نصل إلى النص الأخير الذي وكأنما أفشى الشاعر فيه شيئاً من سرّه، كأنما أراد أن يقول لنا: يا من مررتم على نصوصي، هذه كانت حكايتي قد رويتها لكم.. تلك كانت حياتي، لن أطارد ظلي بعد اليوم، ها أنا ذا قلبت أمامكم صفحات ذكرياتي، مؤلمة فكرة النهايات، موحش نهر اللاعودة.

 وهكذا يحسم الجدل حول احتمالات التأويل في عنوان المجموعة بعد أن عرفنا ما الذي آلم قلب هذا العابر، وما الذي ألمّ به، حين نقرأ عنوان النص الأخير:“نافذة أخيرة على أنقاض هذا الليل” وكأن دائرة اكتملت مع البداية “رشقة سماء تنادم قلب العابر” فالمشهد النهائي -قبل أن يسدل الستار، وتعلن الرحلة الشعرية نهايتها- يصور لنا العابر وقد وقف ملتفتاً إلى الخلف بقلبه المزدحم بالذكريات، مستعرضاً شريط حياته التي وكأنما صارت وراءه، وقد خرج منها وحيداً لا رفيق له إلا فسحة من سماء تنادم قلبه الحزين وكأنما أراد أن يقول لنا في ثنايا النص: كلنا عابرين:

من عتبات هذا البعيد

سألتفت إلى الخلف كما يسلك الناس الأمر ذاته 

فأجدني

أطارد ظلي

أشعل سيگارة

وأتفرس في نهر الذكريات الذي يجري

بألم…!

  • مقارنة

وفي الختام، وبعد اكتمال قراءتي لهذه المجموعة، وجدت من المهم في سياق سبر مسار التجربة الشعرية للشاعر إجراء مقارنة ومقاربات ولو بسيطة مع مجموعته الأولى التي كان لي الحظ بقراءتها “نداء يتعثر كحجر” وأتوقف عند بعض النقاط التي أجدها مهمة حيث تتغير استراتيجيته الكتابة بين المجموعة الأولى (نداء يتعثر كحجر) والراهنة (رشقة سماء…)، فنجد الشاعر في المجموعة الأولى  اتبع استرتيجة الكتابة الأفقية معطياً السرد مساحة لا بأس بها، حيث النص يحتوي على حكاية مترابطة عبر الفئات النحوية (فعل وفاعل وأحرف عطف و…) مع حرصه على التكثيف والشعرية، متكئاً في أماكن كثيرة على الأسطورة التي (تتعثر بها) في ردهات النصوص وطرقاتها، بينما نجد أن السرد انحسر في نصوص المجموعة التي بين أيدينا، ونلمس التغير في الاستراتيجية الأولى، حيث اعتمد الشاعر أسلوب التجاور في النص الواحد، ينقلنا بشكل عمودي بين حالات وصور، وأماكن متعددة ضمن النص الواحد لنجد أنفسنا أمام نص متشظٍ غني بالصور الشعرية كثيف، دون فواصل ولا مقدمات، دون أحرف عطف تقريباً

 إنه التجاور والتكثيف، الذي لا يمنح القارئ استرسالاً بقدر ما يحمله على استنفار حواسه، كي يعيش تجربة المتعة المتصاعدة، شاعراً بنفسه شريكاً في النصوص أو بعداً وعمقاً يترددان بداخله صدى النصوص ما بعد نهاياتها، كما نلحظ غياب الظهور الصريح للأسطورة، رغم معرفتنا شعورياً

بأنها مقيمة في ثنايا النص، كما هي مقيمة في ثنايا روح الشاعر.

وهكذا وبهذه المقاربة الأخيرة، أنهي هذه الرحلة الجمالية مباركة للشاعر منجزه الذي أرجو أن أكون قد وفقت في ملامسة بعض جوانبه.

شارك هذا المقال: