الحل الذي فات أوانه!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

عند البحث عن تاريخ أو لحظة إصابة الحياة السياسية بالشلل في الجمهوريات العربية التي حُكمت بأنظمة ديكتاتورية نجد أنها تتوافق جميعها مع لحظة سقوط الملكيات في هذه الدول أو رحيل الأجنبي كما في الحالة السورية والحالة الجزائرية،  وهي مفارقة تثير الاستغراب وتستحق التأمل والدراسة.

لكن هذا لا يعني بالطبع أن الحريات السياسية في الملكيات العربية الحالية منتعشة أو مصانة. فهي معدومة تماماً في الملكيات الخليجية الاسُرية (الحكومة أيضاً مشكلة بأكملها من العائلة أو تضم بعض الوزراء منها) ما عدا الكويت والبحرين، حيث يتوفر فيهما هامش من الحرية السياسية المتمثلة بوجود أحزاب خارج منظومة السلطة وانتخابات وبرلمان. وهذا ينطبق أيضاً على الملكيات غير الأسُرية (العائلة المالكة غير ممثلة في الحكومة) كالمغرب والأردن حيث يوجد برلمان شعبي و انتخابات محلية  وأحزاب سياسية بالإضافة إلى حرية نسبية على صعيد الصحافة، بعبارة أخرى، الحريات السياسية في هذه الدول مقيدة إلى حد كبير لكنها غير مقموعة بشكل مطلق مقارنة بالجمهوريات العربية الثورية!

إن انعدام الحريات السياسية أو تقييدها في ظل الأنظمة الملكية يجب أن لا يثير الاستغراب، فنظام الحكم الملكي بطبيعته وتركيبته يمنح أفراد الأسرة الحاكمة بشكل تلقائي حق التصرف المطلق بمقدرات الدولة ومؤسساتها ورعايا مملكتها، لكن ما يدعو إلى الاستغراب حقاً  هو انعدامها لا بل وتعرضها للقمع العنيف في ظل الأنظمة الجمهورية العربية، رغم وجود برلمانات ومجالس شعبية “منتخبة “!

إنها مفارقة تستدعي دراسة الحياة السياسية  لهذه الدول قبل زوال أنظمتها الملكية وتحولها إلى جمهوريات، والبحث عن  الأسباب التي قادت إلى انعدام الحريات، والذي أدى بدوره إلى تحول الجمهوريات إلى ممالك رعب أو دول فاشلة.

يذكر التاريخ بأن كل أساليب تغيير  نظام الحكم التي حدثت في هذه الجمهوريات كانت، بشكل أو بآخر، صراعاً على السلطة بما  في ذلك اسقاط الملكية، وإنها جميعاً رفعت شعارات وطنية وأدّعت الدفاع عن مصالح الشعب بعد انقلابها أو خلال ثورتها.

وهنا يستوقفنا التاريخ عند ظاهرة مهمة ألا وهي تقديس الثورة  ليقدم لنا نماذج كثيرة يود من خلالها أن يوضح بأن الانقلاب والثورة لم  يختلفا حتى الآن عن بعضهما البعض من حيث  النتيجة، لا بل إن الثورة مكلفة أكثر بكثير من الانقلاب مادياً وبشرياً.

 فهل يجوز تمجيد الثورة وهي أبغض الحلال، أو كما وصفت فيروز “غربة” ثورتها : ’ الأرض ملك الكل، لكن ما بتساع الظلم والناس، لما بيوقع الظلم بتضييق الأرض‘  في مسرحية جبال الصوان للأخوين الرحباني!

بالعودة إلى النتائج التي تمخضت عنها الانقلابات والثورات نجد بأننا حيال دوامة من صراعٍ على السلطة بأسلوبين مختلفين تقودان إلى نتيجتين إحداهما أسوأ من الأخرى : ديكتاتورية جديدة أو دولة ممزقة !

عند مقارنة حال الجمهوريات العربية المأساوي بشقيقاتها الملكيات نرى بان البلاد المحكومة من قبل الثانية مستقرة سياسياً ومنتعشة اقتصادياً ومتقدمة تكنولوجياً رغم افتقارها للحياة السياسية المتمثلة بالأحزاب والانتخابات والصحافة الحرة! وهو أمر يدعو إلى التساؤل: أليس نظام الحكم الملكي هو الأنسب لدول المنطقة باعتبارها بلدان فتية وأن الملكية مرحلة حتمية في تطور الأنظمة السياسية للشعوب التي لم تعرف شكل الدولة ولم تكن سوى عشائر وقبائل وملل متناثرة وأن تجميعها في دولة عصرية تم وفق إرادة ومشيئة خارجية لم يكن لأبنائها رأي فيه بتاتاً؟

ألا تقطع الملكية الطريق على أي محاولة للدخول في دوامة الصراع على السلطة، وبالتالي تسخير الجهود على التنمية الاقتصادية والبشرية؟!

في سياق الحديث عن أشكال النظام السياسي ثمة مغالطة أو حكم دغمائي في تناولها. إذ يتم تصنيف الملكية على أنها نظام رجعي لا يناسب العصر ولا تتوفر فيه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأن النظام الجمهوري هو الحل الوحيد لكل هذه المسائل وأنه الأنسب لروح العصر.

أعتقد أن هذه الفكرة إطلاقيه وغير مستندة على الواقع ، فالديمقراطية الغربية العريقة تضم 8 ملكيات (السويد، النرويج، الدنمارك، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ، اسبانيا، بريطانيا) وهي من أفضل الدول في تطبيق العدالة الاجتماعية وممارسة الديمقراطية، صحيح أنها ملكية دستورية لكنها كانت ملكية حاكمة ومع الزمن أدى تطور شعوبها إلى تحويلها إلى ملكية دستورية ( تملك ولا تحكم).

وهذا يذكرنا بالثورة الروسية الأولي  شباط / فبراير 1917 التي  نجحت في تحويل الملكية الحاكمة إلى دستورية، مما سمح بازدهار الحياة السياسية، لكن بعد عدة أشهر، أسقطها البلاشفة في تشرين الأول/ أكتوبر واستفردوا بالسلطة وقمعوا الحريات السياسية وأدخلوا البلاد في نفق مظلم.

أعتقد بأن سير روسيا باتجاه الديمقراطية كان سينجح لو توقفت عند نتائج الثورة الأولى، التي أدت إلى الانتقال من الملكية الحاكمة ( السلطة المطلقة بيد آل رومانوف)  إلى الملكية الدستورية (الدولة تُدار من قبل حكومة منتخبة) عوضاً عن نظرية حرق المراحل التي يؤمن بها كل منظري الحركات الثورية!

لا يمكن حرق أي مرحلة تطور في حياة الشعوب أو تجاوزها، فهي حتمية تاريخية، وكل خطوة في هذا الاتجاه تُكلف  كثيراً، هذا فضلاً عن عودة المرحلة التي تم حرقها لكن بشكل أقسى وبنتائج أكثر مأساوية مما لو تُركت تمر في حينها دون  قسر !

شارك هذا المقال: