حوار مع د. محمد عزيز زازا

شارك هذا المقال:

حاوره: حسين حج (ممو سيدا)

المحاور وموقع “مدارات كرد” لا يتحملان أي مسؤولية عن أي تشابه قد يرد في المعلومات أو الأجوبة الواردة في هذا الحوار مع محتويات حوارات أخرى منشورة على مواقع أو منصات أخرى مع الدكتور زازا. كما نود التنويه إلى أنه قد تمّ نشر جزء من هذا الحوار مسبقاً في مجلة كوردستان كرونيكل باللغة الإنكليزية.

البداية كانت كأيِّ طفل اكتشف في نفسه حب الموسيقى. عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي تقريبًا في بداية خمسينيات القرن الماضي، ابتدأت أصنع بنفسي آلات موسيقية بدائية جدًا، كأن أربط أسلاكًا معدنية على علب خشبية ما، أو صفائح توتياء، وأنقر عليها. اكتشفتُ الموسيقى عن طريق زيادة شدّ هذه الأسلاك أو إرخائها، أو فلنسميها مجازًا بالأوتار، وكذلك بالتحكم في العفق عليها باليد اليسرى على زند خشبي بدائي الصنع كما يفعل عازفو الطنبور الشعبيون. في إحدى المرات خلال يومٍ صيفي، كنت في بستان (“كريفنا” محمد ظاظا) شاهدت عازف طنبور شعبي يستريح في ظل الحاكورة عند “الكريف” محمد، ثم بدأ يعزف على الطنبور ويُغني. كانت مرحلة فاصلة بالنسبة لي عندما طلبت منه أن أُجرّب العزف، فقد حاولت تقليده. كادت الدموع تطفر من عيني لسماعي ما أعزف من مجرد نغمات لا غير. لم يكن ما عزفته يُسمّى عزفًا بقدر ما كان استخراجًا لأصوات موسيقية محددة. لا بدَّ أن أشير إلى أنني كنت أطرب جدًا لسماع الأغاني والموسيقى الصادرة من الراديوهات. كانت تلك فترة بداية انتشار الراديوهات في القامشلي.

ولمعلومات عني بعدة لغات، يمكن النظر إلى الرابط التالي:Kurdish Composers

بالنسبة لتطوير ملكاتي الموسيقية في البداية، وكذلك الآلات الموسيقية التي عزفت عليها:

عندما نلتُ الشهادة الابتدائية (السرتفيكا)، ودخلتُ أول متوسطة تمّ إنشاؤها في القامشلي، كان يوجد في المدرسة آلة (أكورديون) تُستخدم لتدريس مادة (النشيد والموسيقى). سمح لي مدرس المادة بأن أستعير الأكورديون خلال استراحات ما بين الدروس، وسريعًا ما بدأتُ بعزف الموسيقى الدارجة آنذاك. كان عزفًا سماعيًا بدون إرشاد، وحازَ عزفي على إعجاب الأصدقاء وأساتذة المدرسة.

بخصوص قراري في المضي في الماجستير والدكتوراه، وعلى ماذا اعتمدت أثناء اختيار الماجستير والدكتوراه في العلوم الموسيقية، وماذا كانت أطروحتي:

كان قراراً نابعاً بالدرجة الأولى من حرصي الاستفادة من الفرصة المتوفرة لي لإكمال تعليمي الموسيقي كي يصل إلى مستوى لائق، إذ شعرت بأن الدبلوم لوحده غير كاف، وهذا ما أثبتته حياتي العملية والعلمية اللاحقة، واعتمادي أثناء اختياري للماجستير والدكتوراه كان نابعاً من إحساسي بتمكني من الإتمام. أما أُطروحاتي فقد كانت في الكونسرفاتوار، القسم العملي: رسالة وعزف برنامج متكامل توضحه الصورة التالية مع الدرجة أو المستوى لكل فقرة مطلوبة:

أعلاه: شهادة التخرج من كونسرفاتوار الدولة في براغ

أعلاه: القسم العملي من برنامج التخرج كان (رقصات كوردية Lê lê Nûrê  )

ولمجرد الاطلاع… فيما يلي عمل لي عن “لونغا يورغو” أعدت صياغته الآلية والهارمونية لآلة الغيتار الكلاسيكية، وتعزفه الأمريكية: سوزان ماكدونالد

(Susan McDonald plays Kurdish music arranged by Dr. Mohammad Zaza)

ويُمكن مشاهدته على الرابط التالي:https://youtu.be/fu7WUJM_TKA

Title: Video titled: Longa Yorgo

لنتحدث بعد الأربعين سنة ما بين (1983-2023)، أي ما بين التخرج من جامعة تشارلز (براغ – تشيكوسلوفاكيا) بالحصول على درجة الدكتوراه في علم الموسيقى، مروراً بالجزائر، ثم ليبيا، ثم سوريا إلى كوردستان العراق:

  • أطروحتك للدكتوراه: قبل حوالي 25 سنة سمعت بأن مشروع تخرجكم كان عن توليف وتوزيع أغنية ” Lê Nûrê ” الكوردية الشعبية والمشهورة بصوت محمد عارف جزيري بحيث تلائم آلة الغيتار. ما مدى صحة هذا الأمر؟ إن لم يكن صحيحاً، هلا صححتم ما هو متداول؟ وإن كان صحيحاً هلا اختصرتم لنا ما قمتم به لتنفيذ هذه التوليفة، لا سيما أن الأغنية هي من مقام البيات الشرقي الذي يتضمن ربع العلامة التي تفتقر إليها الموسيقى الغربية وآلة الغيتار؟
  • لم تكن ” Lê lê Nûrê ” موضوع أطروحتي في الدكتوراه كما بيَّنتُ في الفقرة السابقة. بل كانت الجانب العملي من مشروع تخرجي من كونسرفاتوار الدولة في براغ عام 1976، إذ حصلتُ على دبلوم كونسرفاتوار الدولة أولاً، ثم على الماجســـــتير، فالدكتوراه في العلوم الموســــيقية ( Ph.Dr. in Musicology) من جامعة تشارلز في براغ عام 1983. أما أن الأغنية هي من مقام البيات فهذا صحيح، وضرورات الهارموني تفرض الاستغناء عن أبعاد الربع والثلاثة أرباع، شريطة المحافظة على الجو الشرقي لأغنية ” Lê lê Nûrê ” من ناحية الإيقاع. ومن المعروف بأن الإيقاع يلعب دوراً حاسماً في تحديد هوية الموسيقى، شرقية كانت أم غربية، وهذا واضح في الموسيقى والأغاني اليونانية والخليجية والفارسية والكوردية على سبيل المثال لا الحصر. ويمكن سماع “آي لى نورى لى نوري” تعزفها الأوركسترا الغربية من توزيع الصديق الفنان (نجات أمين) على الرابط التالي، والهارمونية من كتابتي والتوزيع الأوركسترالي للصديق (نجات أمين):

” Lê lê Nûrê ” استوحيتها وكتبتها لآلة الغيتار الكلاسيكية تحت عنوان: “رقصات كردية”، وعزفتها الأوركسترا السيمفونية في بغداد والسليمانية، والتسجيل التالي هو لأدائها في السليمانية، وقاد الأوركسترا الألماني (ماك آليندن) والعازفون أغلبهم طلبتي من الذين درسوا في قسم الموسيقى بكلية الفنون الجميلة بأربيل (هولير) بالإضافة إلى عازفين ألمان. وفيما يلي (رقصات كردية) للأوركسترا في السليمانية، صوّرتها زوجتي ضمن الحفل بكاميرا فيديو يدوية عادية، فمع الأسف لم تتوفر آنذاك إمكانية التسجيل الاحترافي ضمن القاعة، أو أن القاعة لم تكن مهيأة لذلك. ويمكن مشاهدة (رقصات كوردية) على الرابط التالي في اليوتيوب:https://youtu.be/ekIrNlN92Zw

Title: Video titled: رقصات كردية  لـ د. محمد عزيز زازا  -  Kurdish Dance

محمد عزيز زازا يعزف على الجمبش مع الفنان الكردي الراحل قادر ديلان في براغ، 1971 قادر ديلان: مؤلف موسيقي معروف من السليمانية، وله ألحان معروفة جداً موجودة على اليوتيوب.

د. محمد عزيز زازا يعزف على الجمبش مع فرقة جمعية الطلبة الأكراد في أوروبا- فرع تشيكوسوفاكيا خلال مهرجان الموسيقى الشعبية بمدينة نيترا- بتشيكوسلوفاكيا، 1972

  •  لماذا لم تعمل في سوريا بعد إنهاء دراستك نهائياُ في براغ؟

– عندما تخرجت خريف عام 1983 رجعت إلى بلدي (قامشلو). لم أحصل على أي عمل خلال ستة أشهرمن وجودي في سوريا، فمن يعمل في مجال التدريس الجامعي يجب أن يكون بعثياً أولاً كما هو معروف، إضافة إلى عدم وجود كلية أو قسم جامعي للموسيقى في الجامعات السورية، ناهيك عن مستوى الرواتب المتواضع في حال تدريسي في معهد كمعهد صلحي الوادي للأطفال في دمشق، فالراتب لا يسدّ تكاليف المعيشة والإيجار، وصلحي الوادي كان يحارب الأجيال الأكاديمية المتخرجة من موسكو أو براغ حتى ولو كانوا موفدين من قبل الدولة “بالرغم من أنه قدَّم خدمات كبيرة للمؤسسات الموسيقية”، فهاجر هؤلاء الموفدون إلى ألمانيا أو الإمارات (كـ:  غزوان الزركلي عازف البيانو القدير المحترف المتخرج من موسكو، والذي دَرّس في فايمار و أوسنابروك (ألمانيا) وفي القاهرة، وأقام ورشات عمل في الجزائر ولبنان والإمارات العربية المتحدة. وكذلك نزار حمصي الذي درس في براغ وهاجر إلى الإمارات. وهذا على سبيل المثال لا الحصر. 

  • كيف انتقلت إلى الجزائر التي عملتَ فيها لمدة سبع سنوات، وكيف كانت السنوات التي عملت فيها هناك؟ وماذا قدمت لك؟

– عن طريق الأصدقاء حصلتُ على عقد عمل في الجزائر في المدرسة العليا للأساتذة بالعاصمة الجزائرية، وتمَّ تكليفي برئاسة القسم فور وصولي، وكان القسم في بدايات تأسيسه، إذ كان به  مدرّسان جزائريان  فقط من حملة البكالوريوس في الموسيقى تخرجا من القاهرة، وكانا يُدرِّسان بنظام الساعات الإضافية. فاستكملتُ تأسيسه (كاستجلاب مدرسين ، وشراء آلات موسيقية ومختبر صوتي، ومساكن لمدرسين  قدموا من الخارج بناء على طلبي) ولم نكد نصل لنهاية العام الدراسي حتى كان لدينا 17 أستاذ وأستاذة. وخلال سبعة أعوام تخرجت أعداد كثيرة من حملة البكالوريوس من القسم، بالإضافة إلى تقديمي لمشروع افتتاح قسم للماجستير وتمّت الموافقة عليه. وكان المشرفون على إدارة المدرسة العليا، والمسؤولون في وزارة التعليم العالي، مرتاحين للغاية ومتعاونين معي……الخ، وكان عملاً إدارياَ بالدرجة الأولى بالإضافة إلى تدريسي لمواد موسيقية عملية ونظرية من اختصاصي، بالإضافة إلى وجوب حضوري لاجتماعات دورية تجمع رؤساء جميع الأقسام مع مدير وأعضاء الإدارة في المدرسة العليا للأساتذة.

وقد كانت السنوات السبع التي قضيتها في العاصمة الجزائرية ثرية جداً بالنسبة لي، وللطلبة وللكادر التدريسي عموماً، إل أن حَلَّتْ مصيبة التيارات الإسلاموية في الجزائر، والتي قويت شوكتها مع عودة (الأفغان العرب) من أفغانستان وتمّ رفع شعار (الإسلام هو الحل) في كل مكان، وهكذا تحولت المدرسة العليا للأساتذة، وجميع كليات وجامعات الجزائر، إلى بؤر لنشاطات الجماعات الإسلاموية الإرهابية، وأقواها كانت (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وكان يترأسها آنذاك الشيخ (عباسي مدني) وينوب عنه (علي بلحاج)، واعترفت الحكومة الجزائرية رسمياً بها في 6 سبتمبر 1989، وهذا الأخير، أي علي بلحاج، اتخذ من مسجد المدرسة العليا للأساتذة كمقرٍّ له في تلك الفترة، وتعرض القسم الموسيقي إلى مضايقات شديدة من قِبل أعضاء (الجبهة الإسلامية للإنقاذ). كانوا يقفون أمام باب القسم يهددون ويتوعدون كلما أقمنا سميناراً أو نشاطاً موسيقياً في قاعة القسم. كانت النهاية مشؤومة مع اندلاع مواجهات مسلحة مع الأمن الجزائري، وتعرضتُ أنا شخصياً إلى التهديد من قِبَلِهم، وساءت الأحوال في الجزائر اجتماعياً واقتصادياً. ومن ثم اضطررتُ إلى مغادرة الجزائر عام 1991 وتوجهت إلى ليبيا حيث تعاقدت مع كلية الفنون والإعلام في طرابلس كأستاذ محاضر في قسم الموسيقى.

  • لماذا فضلتم البيداغوجيا والمجال التعليمي والأكاديمي والبحثي على التأليف والأداء والظهور العام والشهرة، أسوة بجميع المنخرطين المباشرين وغير المباشرين بالموسيقى، حتى الكثير من الأكاديميين ضمناً؟ هل برأيكم الموسيقى الشرقية عموماً والكردية خصوصاً بحاجة إلى معلمين ومرشدين وموجهين أكثر من حاجتها إلى ممارسين ومؤدين من عازفين ومغنين؟

   تساؤلك عما إذا كانت الموسيقى الشرقية عموماً والكردية خصوصاً بحاجة إلى معلمين ومرشدين وموجهين أكثر من حاجتها إلى ممارسين ومؤدين من عازفين ومغنين هو تساؤل في محله، وسأبدأ بنوع من التفصيل الحديث عن ذلك.

عندما وصلت إلى إقليم كوردستان وجدت نفسي في العمل الإداري من جديد.  فبعد أن تمَّ تبني مشروعي لتأسيس كلية الفنون الجميلة، كان للشهيد (مهدي خوشناو) الفضل الأول في دعم وتأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة صلاح الدين عندما دعاني لزيارة أربيل للتباحث في إمكانية تأسيس كلية للفنون الجميلة في جامعة صلاح الدين عام 2002. كانت تلك هي زيارتي الأولى لأربيل (هَولير)، وأسفِرِتْ عن تقديمي لمشروع تأسيس (كلية الفنون الجميلة) إلى رئاسة مجلس الوزراء عبر مستشار وزارة التعليم العالي الصديق د. شيرزاد نجار، وتمَّت الموافقة على تأسيس الكلية عام 2003 استناداً إلى المشروع الذي قدمتُه آنذاك. حلم كبير تحقق: كلية فنون جميلة “كُردية” لأول مرة في جميع أجزاء كُردستان الأربع، وشَكَّلَ تأسيس الكلية دفعة كبيرة للاهتمام بالفنون والثقافة الكُردية ونشرها: (موسيقى، فنون تشكيلية، مسرح، سينما). فهذه الفنون هي ضمير الأمة ووجدانها. وبدأت الدراسة الفعلية في الكلية عام 2004. وتولَّيتُ مسؤولية رئاسة قسم الموسيقى في الكلية، وذلك لغاية وصولي إلى سن التقاعد عام 2014، وخلال تلك الفترة تَخَرَّجَتْ، بإشرافي، عدة دفعات من حملة البكالوريوس والماجستير. وها هي الدفعة الأولى من حملة شهادة الدكتوراه في الموسيقى قد تخرجت أيضاً.

 بالإضافة إلى استلامي لمهام رئاسة قسم الموسيقى أصبحت مسؤولاً في الكلية عن لجنة الترقيات أعواماً طويلة، إضافة إلى تولّي مسؤوليات عديدة تمَّ تكليفي بها على مستوى القسم والكلية والجامعة ووزارة التعليم العالي كتعادل الشهادات وأمور أخرى. وهذا كله عمل إداري يؤدّي بمجمله إلى التحضير وتحقيق إعداد أجيال جديدة من حملة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الموسيقى…وهذا ما تحقق. وكل هذا كان، ولايزال، ضرورياُ دوماً، ولكن هذه المسؤوليات لم تمنعني من الانتاج الموسيقي (الأكاديمي) والبحوث والمؤتمرات العلمية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: عندما تمَّ اختياري خلال العام الدراسي 2009/2010 من قبل جامعة ميشيل دو مونتان في مدينة بوردو – فرنسا Université Michel de Montaigne – Bordeaux 3 لأكون مقرراً (زائراً) لأطروحة الدكتوراه المُعنونة: (مشــــكلة الهارموني في الموسيـــقى العربية والشــــــــرقية:  Le problème de l’harmonisation dans la musique arabo-orientale)  ودُعيتُ للمشاركة  باسم جامعة صلاح الدين في مناقشة رسالة الدكتوراه المذكورة التي تمَّت بتاريخ 20/1/2010 في بوردو. ونفس الأمر كذلك بالنسبة للبحوث والمحاضرات والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية الخاصة بالموسيقى والنقد الموسيقي التي دُعيتُ إليها.

 أوركسترا قسم الموسيقى في هولير التي تحققت بتوجيهي وإشرافي المباشر

وعن الحياة الموسيقية في قسم الموسيقى ووضع الطلبة والتدريس فهذا ما يُظهره الرابط التالي:
 https://youtu.be/-RaWu_ZvyIE

  وللمهتمين فيما يلي رابطين لتحميل كتابين من تأليفي: الغيتار – تقنيات عزف السلالم والائتلافات – د محمد عزيز زازا.pdf كتاب الكونتربوانت.pdf
  • تقريباً كل من سمع عنكم من الموسيقيين الناطقين بالعربية يعزو سبب معرفته بكم إلى كتابي “علم الهارمونية الدياتونية و الكروماتية”، و”علم الكونتربوانت”. ما مدى أهمية هذين الكتابين في المكتبة الموسيقية للناطقين بالعربية؟

هذه مواد مهمة جداً ليس فقط للناطقين بالعربية، بل والكوردية أيضاً بالرغم من أنهما صدرا باللغة العربية. فقد كان للحاجة المُلحّة، والنقصان الفادح في المصادر الموسيقية العلمية، اللذان لمستهما من خلال عملي في قسم الموسيقى بالمدرسة العليا للأساتذة بالجزائر العاصمة، كانتا دافعاً لي إلى تحقيق هذا الكتاب. وبقي وضع المصادر والمراجع العربية سيئاً لغاية صدور الطبعة الأولى من كتابي عام 1993 عن دار الحصاد للنشر والتوزيع بدمشق – سوريا. واختلف الوضع الآن نوعاً ما مع صدور عدد من الكتب المختصرة أو المُبسترة التي لم تخرج عموماً عن إطار مبادئ الهارمونية الدياتونية بخلاف كتابي الشامل للهارمونية الدياتونية والكروماتية، مع إلقائي الضوء في كتابي على النظم الهارمونية الحديثة، وهو حال أغلب المعاهد وأقسام الموسيقى في دول منطقة الشرق الأوسط ذات الثقافة الموسيقية الشرقية عموماً، إذٌ يصعب العثور على أي كتاب جامعي في مادة علم الهارمونية، سواء كان موضوعاً أو مترجماً، مع أن علم الهارمونية أصبح من أهم العلوم الموسيقية الأساسية التي تُشَكِّلُ العمود الفقري للبرنامج الدراسي لجميع المعاهد وأقسام الموسيقى في الجامعات، ليس فقط في الدول الأوربية والأمريكية، بل حتى في دول الشرق الأوسط ذات الثقافة المُغايرة للثقافة الموسيقية الأوربية. ولكن كل كتب الهارمونية الموضوعة باللغات الأوربية، من خلال منهجها وتسلسل فقرات مواضيعها، تُخاطب طلبة ينتمون إلى ثقافة موسيقية عوَّدَتْ آذانهم على “سماع” الموسيقى ذات البناء العمودي (أي الهارموني) منذ قرون طويلة، وباتَ من الطبيعي أن تتِمَّ دراستها في أوربا ضمن تسلسل منهجي يسمح بتطبيق الآكوردات (الإئتلافات) السباعية والتساعية، “ذات التنافر المُميَّز الثقيلة على الأذن الشرقية العادية” فقط بعد عدّة دروس من البدء في الدراسة الهارمونية لديهم كلَّما تطلبت قاعدة ما، أو حالة وصل ما ذلك. فكل أنواع وأشكال الآكوردات (الإئتلافات) سواء كانت منتمية إلى النظام الدياتوني أو إلى النظام الكروماتي، أصبحت عبر التاريخ مألوفة للأذن “ذات الثقافة الموسيقية الأوربية”. ويختلف الأمر كليّاً لدى الشعوب ذات الثقافة الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبلدان أخرى، فالموسيقى الشرقية لدينا ماتزال زاخرة بالميلوديات الأفقية، وثرية بإيقاعاتها المتنوِّعة، ولا يزال مفهوم التوافق والتنافر: (Consonat, Dissonant) وفق مقاييس الهارمونية الأوربية، تبدو غريبة على أذن كل دارس تقريبا للهارمونية في بلادنا، إلا إذا كان قد تمكن من تكوين وعي جمالي موسيقي (ذاتي) يُمَكِّنُهُ من استيعاب وتذوق الموسيقى ذات البناء الأفقي والعمودي معاً. ولا شك بأنَّ انتشار وسائل الإعلام والاتصال (كالسينما، الراديو، التلفزيون، أجهزة التسجيل…) خلال العقود الأخيرة، قد ساهم بشكلٍ مباشر وغير مباشر، في تكوين خلفية عفوية كبيرة لوعي جمالي موسيقي قد يُساعد على تقبّل أكثر مفاهيم التوافق والتنافر، إلّا أن هذا الوعي لن يصل بالتأكيد إلى الدرجة التي تُمكِّنُ دارس الهارمونية من الركون إليها كثيراً، فوسائل الإعلام والاتصال تُشَكِّلُ وعياً جمالياً “لا واعياً” في أغلب الحالات، ويكاد يكون مرادفاً لما اصطُلِحَ على تسميته بـ (الغزو الثقافي). إذ مازال الوعي الجمالي للغالبية من الناس لدينا يستمدّ خصوصياته وخصائصه بالدرجة الأولى من خصائص الموسيقى القومية المحلية نفسها، وانطلاقاً من كل ذلك  فقد ارتأيتُ بأنَّه سيكون من الأوفق لنا دراسة قوانين الهارمونية ليس وفق تسلسل المنهج الأوربي، بل من خلال التَدَرُّج في تطبيق استخدام الآكوردات (الإئتلافات) من الأبسط إلى الأعقد، وكأننا “نكتشفها” للمرّة الأولى واحدة بعد الأخرى: الآكوردات (الإئتلافات) الخماسية الماجورية أولاً، ثمّ الخماسية المينورية، يلي ذلك انقلابات هذه الآكوردات (الإئتلافات) وصولاً إلى السباعية، فالتساعية … بحيث يتكوّن في الذاكرة السمعية لدارس الهارمونية رصيداً ومُلكة هارمونية، متسلسلة ومتينة، تؤَهِّله لمتطلبات السماع والكتابة العمودية الهارمونية بشكل لائق، وتطلَّبَ منّي لتحقيق ذلك البحث خارج المصادر التقليدية للهارمونية في كثير من الحالات بغية حصر المعلومات الخاصّة بذلك من سلالم، ومسافات، وآكوردات (إئتلافات)، وإعادة ترتيب كثير من القواعد والحالات الهارمونية، والعمل على تطويعها من أجل تحقيق الهدف المطلوب.

إنَّ علم الهارمونية (وكذلك الكونتربوانت، وعلم الصيغ الموسيقية، ومناهج التحليل الموسيقي، وعلم الجمال الموسيقي..) هي من العلوم التي يتوجَّب علينا دراستها وتدريسها بلا تردّد أو تهيّب، فهي تتعلَّق بالنواحي الحِرَفيّة، والأكاديمية، وهي وسائط لا غنى عنها لفهم الثقافات الموسيقية للشعوب الأخرى، وبالإمكان “إعادة غرسها” و “تأصيلها” ومن ثمَّ توظيفها ضمن علوم الثقافة الموسيقية الوطنية، فالفرق كبير بين الإعجاب اللّاواعي بأدوات الثقافة العالمية، وبين الدراسة الواعية، والمنهجية لها. وخير مثال على ذلك هو استيعاب الثقافة الوطنية لعلوم وفنون السينما والمسرح والرواية والمسرحية، وغيرها من الفنون في بلادنا. ولا يتحقق ذلك إلّا بإيلاء الاهتمام الكافي لهذه العلوم في برامج المعاهد، وأقسام الموسيقى في جامعاتنا الكوردية.

  • إذاً يمكننا اعتبار كتابيكم المذكورين المرجعين الوحيدين عن هذين العِلمَين في اللغة العربية، وهذا يقودنا إلى اعتبار شخصكم سباقاً في اكتشاف النقص الموجود في المكتبة الموسيقية الشرقية العربية.

    لم أكن سباقاً في اكتشاف النقص الموجود في المكتبة الموسيقية الشرقية العربية، فمصر، ذات التقاليد العريقة في المؤسسات التعليمية الموسيقية كانت سباقة في اكتشاف هذا النقص بالتأكيد، ولكن ما فعلوه هو تدريس المناهج الموسيقية الأوربية “كما هي” أما أنا فقد حرصت عندما وضعت منهاج المواد التي تمَّ تدريسها في قسم الموسيقى بالمدرسة العليا للأساتذة بالجزائر، (وفيما بعد في منهاج قسم الموسيقى بكلية الفنون الجميلة بجامعة صلاح الدين في هولير)، على أن يضم المنهاج التدريسي على مادة الصولفيج الشرقي إلى جانب الصولفيج الغربي، وكذلك يفرض المنهاج على من يدرس من الطلاب آلة البيانو كآلة رئيسية عليه أن يدرس آلة شرقية كآلة العود أو القانون كآلة ثانية، وبالعكس كذلك: فمن يدرس آلة العود كآلة رئيسية يجب عليه أن يدرس آلة هارمونية الطابع كالغيتار أو البيانو كآلة ثانية، وهكذا.. بحيث يتشكل جيل ذو ثقافة موسيقية وطنية وعالمية معاً.

  • هنا نسألكم: هل الموسيقى الكوردية أيضاً تتجه نحو الانحدار شأنها شأن موسيقى الشعوب المجاورة، على حد قول موسيقييهم وباحثيهم؟ وبعبارة أخرى: احساسكم بما تحتاجه المكتبة الموسيقية يجعلكم الشخص المناسب في تشخيص مواضع الخلل والعلل في الموسيقى، وكذلك تسمية الأدوات التي من شأنها أن تساعد الموسيقى في أن تتطور وتزدهر.
  •    بالنسبة لمسألة أن “الموسيقى الكوردية تتجه نحو الانحدار شأنها شأن موسيقى الشعوب المجاورة” فأنا لستُ مع هذا الطرح. يمكننا أن نقول بأنها بحاجة إلى تطوير وإشاعة التعليم في المدارس والمعاهد المتخصصة منذ الطفولة، وقد ابتدأ هذا النوع من التعليم ينتشر في دول الشرق الأوسط، فيمكن لأولياء تلاميذ المدارس الابتدائية توجيه أطفالهم كي يدرسوا حصتين في الاسبوع في مدرسة موسيقية متخصصة، ومن يتفوق ويرغب منهم في التخصص الموسيقي بإمكانه أن يتوجه إلى معهد موسيقي متوسط للتخصص، على غرار: (Institute of Fine Arts / Hawler – پەیمانگای هونەرە جوانەکان). وفي هولير ساهمتُ في تأسيس معهد التراث الكوردستاني في هولير، وتوليت، لعدة سنوات مسؤولية اللجنة العلمية فيه، وجمعنا الكثير من الموسيقى والأغاني الفولكلورية في جولات ميدانية على مدى أكثر من عام كامل، وسجلناها بالصوت والصورة وبالنوتة الموسيقية، بحيث أصبح لدينا في المعهد التراث الكوردستاني أرشيفاُ ثرياً يمكن العودة إليه من قبل الباحثين والدارسين وأساتذة وطلبة الموسيقي في المعاهد وكليات الموسيقى في كوردستان العراق. ويمكن العودة إلى الرابط التالي لأخذ فكرة وافية عن معهد التراث الكوردستاني في هولير:https://youtu.be/-RaWu_ZvyIE
  • أحدثتم ثورة موسيقية في قامشلو مع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة. في كل مرة كنت أزور فيها قامشلو كنت أرى الشباب والشابات حاملين مختلف أنواع الآلات الموسيقية، وعلى غير العادة، يذهبون ويجيئون إلى معهدكم الموسيقي. وكان ثمة إقبال هائل. ما سره؟

عندما رجعت إلى قامشلو بعد سنوات عملي في الجزائر وليبيا، حرصت على أن أقدم خدمة لمدينتي “بجميع قومياتها وأحزابها ومكوناتها الاجتماعية” من خلال تأسيس مركز الفنون الموسيقية بالقامشلي. وكنت قد بدأت بتعليم الطلبة قبل دراستي الجامعية، حيث افتتحتُ مركزاً لتعليم الموسيقى عام 1967، وقدَّم لي المرحوم مجيد حاجو مجاناً القبو الذي يملكه في بنايته. كان القبو يقع أسفل مقهى عبدي عَزَم. ويمكن أن أقول بأن الشغف كان دافعي لذلك أولاً، بالإضافة إلى الحاجة المادية، فقد كنتُ وعائلتي من الذين شملهم الإحصاء المشؤوم وسُحبت منا الجنسية السورية. لم يكن بالإمكان، نتيجة لذلك، الحصول على أية وظيفة حكومية (كمعلم وكيل على سبيل المثال). بعد ذلك بعام واحد، ولأن حسين ديرسمي (وهو ابن أخ لـ “د. نوري ديرسمي” صديق والدي) كان يعمل في الأحوال المدنية بالقامشلي، فقد أعطاني على مسؤوليته الشخصية إخراج قيد “رسمي” استخدمته للعمل كمعلم وكيل. الخلاصة، استمر مركزي لتعليم الموسيقى شهران فقط، فمن انتَسَبَ إليه آنذاك لم يكن باستطاعته دفع الليرات المعدودة لمتابعة الدورة الموسيقية، وكانوا كباراً في السن، ويعملون لإعالة عوائلهم، ولم يكن لديهم وقت للتدريب أو الالتزام بمواعيد الدورة، وهكذا انتقلتُ، كما أسلفتُ، للعمل كمعلم وكيل. أما مركز الفنون الموسيقية الذي أسسته عام 1996 بعد سنوات عملي في الجزائر وليبيا، كما ذكرت، فقد استمر لغاية انتقالي إلى كوردستان العراق، وهذا ما سأتحدث عنه لاحقا، أما بالنسبة لمركز الفنون الموسيقية في القامشلي فقد حرصت على أن لا يكون الاشتراك في الدورة يزيد عن تكاليف من التدخين بالنسبة للمشترك، وخصصت خمسة مقاعد مجانية لأعضاء الفرق الموسيقية التابعة للأحزاب الكوردية بمختلف أيديولوجياتها وتوجهاتها السياسية بدون أي تمييز. ومن كان يأتي من خارج القامشلي (من عامودا والحسكة وديريك) كنت أحسم مبلغ اشتراكه تكاليف ذهابه وإيابه، وكانت دروس الدورة مرتين في الأسبوع: مرة للصولفيج بشكل جماعي، ومرة للآلة الموسيقية بشكل فردي. وكانت الدروس مسائية كي لا تتعارض مع عمل المشترك في الدورة، أو دراسته إذا كان طالبا.

 كان لمركز الفنون الموسيقية دوراً موسيقياً واجتماعيا في نفس الوقت، سابقاً لم يكن طبيعياً على أي شاب أو فتاة من الكورد أن يحمل آلة موسيقية في الشارع، بخلاف الإخوة المسيحيين الذين كانت لهم فرقهم الموسيقية واستعراضاتهم الموسيقية في شوارع قامشلو في المناسبات الدينية والوطنية. وبمرور الوقت ساهم مركز الفنون الموسيقية في ترسيخ وقبول ظاهرة حمل الشبان للآلة الموسيقية والتوجه بها إلى المركز.

صور من مركز الفنون الموسيقية بالقامشلي

  • إذا قرأنا في كتب التاريخ والأدب الكوردية أو المكتوبة عن الكورد وبلادهم وإماراتهم لوجدنا الموسيقى الكوردية أكثر تنوعاً وازدهاراً مما هي عليه الآن. من الأمثلة التي يمكننا إعطاءها: “شرفنامه” (1597) شرف خان بدليسي (1543-1603)، حيث يصور لنا شذرات من هنا وهناك عن فرق موسيقية في اجتماع الأمراء وأنواع وأساليب من الموسيقى إلى جانب أسماء بعض الآلات الموسيقية المستخدمة. وكذلك “سياحتنامه” (1650-1656) أوليا جلبي (1611-1682)، في ما كتبه عن أمير بدليس عبدال خان وموهبته الموسيقية والآلات التي يقتنيها وأساليب الغناء التي كان يؤديها. حتى “مم وزين” أحمدى خاني، يعتبر كتاباً حافلاً بالمقامات والأساليب والآلات الموسيقية.
      من خلال ما ذكرتُ أعلاه كتمهيد، لدي التساؤلات التالية:
  • هل ازدهار الموسيقى مرتبط بوجود دولة ترعاها وتمولها وتنميها؟ هل هو بحاجة إلى استقرار مادي ومعيشي؟ إلى أي مدى ساهمت حكومة إقليم كردستان العراق بإنجاح هذا الأمر؟ أم أن الحكومة الفدرالية لوحدها لا تكفي؟

– التمويل والرعاية ضروريان لازدهار الموسيقى، والاستقرار المادي والمعيشي للوطن وللفرد ضروري جداَ أيضاً، وقد ساهمت حكومة الإقليم كثيراً في ذلك، والحكومة الفيدرالية ليس فقط لا تكفي، ولكنها تحارب الكورد وتقطع عن المواطنين الكورد رواتبهم كما هو معروف تحت حجج عديدة، ودافعها قبل كل شيء هو النظرة الشوفينية من قبل الحكومات المركزية قبل وبعد سقوط نظام صدام حسين الغاشم.

  •  عطفاً على ما ورد آنفاً عن أساليب ومقامات الموسيقى والغناء عند الكورد في الفترة العثمانية، هل لا يزال الكورد عندهم موسيقى كلاسيكية أسوة بجيرانهم العرب والترك والفرس؟

– بطبيعة الحال يوجد لدى الكورد موسيقى كلاسيكية أسوة بشعوب الجوار وجميع الأشكال والصيغ الغنائية والموسيقية والرقصات والدبكات الدنيوية وكذلك الدينية موجودة لدى الشعب الكوردي، وسأذكر باختصار بعضها كـ: (لاوك وحيران وئەڵلاوەیسي و خورشيدی و سياچەمانه) وهي صيغ غنائية ارتجالية موجودة في إقليم كوردستان، وتؤدَّى في المجالس ودواوين الطرب، والـ (لاوك) موجود باللهجة الكرمانجية السائدة في منطقة بهدينان… ومن ثم انتقل لاوك شيئا فشيئا الى منطقه سوران أيضا بواسطة بعض مغني لاوك المشهورين الذين انتقلوا من منطقة بهدينان وسكنوا منطقة سوران، و(اللاوك) يبدأ عادة بموسيقى مستوحاة من الأداء الارتجالي للمغني اي من أحدى الآلات الموسيقية المصاحبة للمغني وعادة يكون الالة المصاحبة له هي آلة الساز او التنبور او احدى الآلات الاخرى من الآلات الموسيقية التقليدية. يتكون اللاوك من عدة مقاطع شعرية ملحمية أو غنائية عاطفية عدة والأغلب منها هي ثلاثة مقاطع معبرة، يبدأ بالاسترسال والتمهيد ومن ثم يدخل في ذروة الموضوع، وهنا يكون الأداء شجياً ويتجاوز الأداء الفني التتراكورد (أي جنس يتكون من أربعة أصوات متسلسلة) وعادة يكون الغناء غناءً تعبيرياً، والمقام الشائع والأنسب لأداء اللاوك هو مقام (البيات) و يستخدم بكثرة لدى مؤديي هذا النوع من الغناء الارتجالي الكوردي ومن ثم يلي بعد البيات مقام (الحجاز)، وهنالك ترنيمات غنائية مصاحبة لبدء وانتهاء الاسترسال الغنائي منها : هەی لۆ لۆ لۆ، لۆيلۆ ، دەلۆيلۆ، وهي ترنيمات غنائية ضرورية لاكتمال الغناء الملحمي، والعاطفي وأكثر المواضيع التي تناولها قالب اللاوك هي قصص الثورات المتعاقبة للكورد، والمقاومة البطولية ضد الاحتلال القسري ويتغنى مغني اللاوك فيها بالبطولات، والصولات، و وقادة تلك الملاحم بالمدح، الفخر، الاعتزاز، وهي بالطبع تعكس الجانب البطولي للحياة الاجتماعية الكوردية.

بالإضافة الى هذا هناك مواضيع اخرى يتناولها اللاوك منها الصراعات الطبقية في المجتمع الكردي والمواضيع الاخرى تتعلق بالمدح، أو الذم أو وصفا للطبيعة الخلابة لمناطق كوردستان.

ان اهمية اللاوك الكردي تكمن في انه يعلمنا اشياء حول عموم الشعر الشعبي الكردي بصورة أكثر شمولية، يلخص اللاوك الشعر في إطار عرض صور آنية وملاحظات شاعرية سريعة، وقصيرة تتضمن عصارة فلكلور هذا الشعب وجوهره. وتغنى الأشعار الفلكلورية بلحن يبدو وكأنه على وتيرة واحدة الى حد كبير، وفي الاشعار الطويلة النصوص يتلفظ المُغني بالكلمات المنفصلة عن بعضها بأداء سريع الواحدة تلو الأخرى، اما في الاشعار القصيرة فيطيلها الى حد غير قليل إطالة فنية جدا  ليهيئ نفسه منذ البداية للتوقف على الكلمة الواقعة قبل كلمة القافية الاخيرة، وفي خواتيم المقاطع التي تبدو دائماً في صورة كلمة طويلة ومن ثم يخرج حرف الوزن الاخير مع لحن منغم وموسيقي. وبالنسبة لغناء الـ:(حيران) فإنه يؤدَّى من قبل مغنين يتمتعون بنقاء الصوت، وغالبيتهم ليس لديهم أي فكرة أكاديمية عن الغناء، فهم يغنون لكي تُسمع حكاياتهم، وهي حكايات تنبع من الحكمة وتمنح معنىً لوجود  الكوردي، ويتألف الحيران من حيث الشكل من ثلاثة مقاطع وهي (سربند، ناوبەند، دوابەند)، وأشير باختصار إلى أن الموسيقى والأغاني الشعبية الكردية قديمة قدم التاريخ، ولاتزال موجودة بصيغها ومقاماتها، وايقاعاتها، بل وربما بمواضيعها، والآباء الحقيقيون لهذا النوع من الموسيقا الكردية هم المغنون الجوالون، وهم مجموعة من المغنيين والقوالين والحكواتية وعازفي الآلات، كانوا يعيشون بين القرى والعشائر، ويترددون على وجهاء المناطق الريفية والمدنية ، في مواسم معينة، ومناسبات اجتماعية مختلفة. وللألحان الكردية وميلودياتها ومقاماتها خصوصيات واضحة تُجسد تفرد الموسيقا الكردية، وتميزها عن موسيقى الشعوب الاخرى.

لكن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قد قضت تقريباً على وجود المُغنين الجوالين.

  •  إذا أردنا أن نصنف أنماط وأساليب الموسيقى والغناء الكوردي حسب ثقافة الـ “جانرا” أو “النوع” الغربية، كيف يمكننا ذلك؟ اعتماداً على ماذا؟ وما هي تقسيماتها؟ أم هل الأجدر بنا أن نعامل موسيقى كل شعب حسب ثقافة الشعب وخصوصية هذه الثقافة بمعزل عن المقاربات والمقارنات؟
  • أنماط وأساليب الموسيقى الغناء الكوردي (الكلاسيكي) لها خصوصياتها الخاصة بها، والأجدر فعلاً هو أن تُعامل موسيقى كل شعب حسب ثقافة الشعب، وخصوصيته، وإلا سَنَنْجرُّ إلى ما يُسمى بالغزو الثقافي.  ولا داعي لأية مقاربات أو مقارنات من هذا النوع .
  • الكثير من الباحثين والموسيقيين الكورد يذهبون إلى قول، بما معناه: “الموسيقى صديقة الكوردي تذهب معه أينما حل. وما يميز الشعب الكوردي عن الآخرين حبه وولعه بالموسيقى” أ ليست جميع الشعوب هكذا؟ هل هناك شعب لا يعيش ويتعايش مع وبالموسيقى؟ ما هي مكانة الموسيقى لدى الكورد بالضبط؟ ما المميز في هذه العلاقة؟
  • لا يوجد شعب لا يعيش ويتعايش بالموسيقى مع الموسيقى كما تفضَّلتَ، والشعب الكوردي مولع بالموسيقى جداً، إذ من المعروف بأنه لا يوجد بيت في كوردستان لا توجد به آلة موسيقية  كالطمبور:، أو ساز، أو البلور: كالناي…الخ. توجد عوامل مؤسفة حالياً أصبحت تُشكل خطراً ليس فقط على الموسيقى والغناء، بل حتى على الوجود القومي للشعب الكوردي نفسه، ألا وهو الغزو الديني الإسلاموي المتطرف الذي يتم تغذيته من الخارج، وتلعب دول مثل السعودية وإيران دوراً كبيراً في ذلك. وعلى الحزبين الرئيسين ((البارتي واليكيتي) التنبه إلى هذا ومحاربته إلى جانب محاربتهما للفساد المالي والإداري.

مشاريعي الحالية هي إعداد المزيد من المقطوعات لآلة الغيتار الكلاسيكية، وإعادة طباعة ثانية لكتبي الموسيقية، والاستمرار في متابعة طلبة الدكتوراه والماجستير من الذين أُشرفت عليهم (أونلاين من كندا حيث أسكن الآن)، وهذا يأخذ وقتاً مني في إعداد المصادر الضرورية ودراسة المدونات الموسيقية التي يستفسرون عنها، وكذلك أتمنى أن أمارس عزفي الشخصي بين فترة وأخرى على الآلات التي أجيد العزف عليها حفاظاً على اللياقة اليدوية للعزف على الأقل.

بالنسبة لسماعي للموسيقى، هو الاستماع الهادف المشابه لأي متابع دائم الاستماع لها. فالموسيقى تُسمع لذاتها، وقوانينها الداخلية وجمالياتها ليست عصيّة على المتابع غير الموسيقي، وليس من الضروري أن تكون موسيقياً لتسمع الموسيقى كما يجب، بالضبط كمن يستمتع بقراءة الكتب والروايات الممتازة، أو يشاهد السينما والمسرح ويزور المعارض التشكيلية، إذ ليس من الضروري أن يكون المتذوق لهذه الفنون كاتباً أو سينمائياً أو رساماً. استمعتُ كثيراً، ومازلت أسمع، لبيتهوفن وموزارت وبعض أعمال فاغنر من الموسيقى العالمية، وأسمع لمغنين كرد كلاسيكيين مثل كاويس آغا ومحمد عارف جزراوي.. وآخرين، وفيما بعد استمعت لـ (شـﭬـان ﭘَروَر: Şivan Perwer) الذي أخذ من الفولكلور الكردي بما يخدم تطلعاته الفكرية والإيديولوجية قبل كل شيء، ولي ملاحظات كثيرة على هذا سبق وأن قلتها له مباشرة، وكان جوابه: (أنا كالمدفع، ولكن ليس لدي طلقات لذا أعتبر الفولكلور مصدري!). ولا أنفي هنا موهبة شـﭬـان الكبيرة وذكاءه الحاد، فقد قدّم حقيقة أشياء جميلة، ولعب دوراً كبيراً في توعية الجماهير الكردستانية في كل مكان، وعنه قال صدام حسين بما معناه (..هسه راح يغني أبو اللحية على حلبجة وكركوك ويخرب علينا كل شي..)، بل وصل الأمر إلى أن ضَبْطَ كرديٍ يقتني كاسيتاً لـشـﭬـان ﭘَروَر في بيته يمكن أن يعرّضه لخطر الإعدام. وأقدم فيما يلي مثالاُ لكيفية تعامل (شـﭬـان) مع الكثير من ألحان الفولكلور الكُردي وكيف يؤلف لها الكلمات:

ترنيمة المهد الكردية (Lorî lorî) المعروفة بلحنها الجميل وكلماتها البديعة، تُغنيها جميع الأمهات الكُرديات لمساعدة الأطفال على النوم . أخذ شـﭬـان ﭘَروَر اللحن ووضع له الكلمات التالية: (Bavê te kuştin, dayik bi gorî).. أي بما معناه: قتلوا أباك وقَبَروا أمك..! فهل تناسب هذه الكلمات ترنيمة مهد لطفل على وشك أن ينام؟ وفي النصف الثاني من الأغنية يلجأ إلى تسريع الإيقاع ليشبه نوعاً من إيقاع نشيد ثوري! وهذا مثال كما ذكرتُ عن كيفية تحويل ألحان فولكلورية إلى أناشيد ثورية، وأنا أقف ضد هذا النوع من التعامل على طول الخط، فالأغاني الفولكلورية يجب أن نحافظ عليها كما هي، فهي ذاكرة الشعب، ولا يجوز أن يتم التعامل معها كيفما كان. يجب أن تؤرشف كما فعلنا في معهد التراث الكرُدي، وأن تُقدّم في المهرجانات، وتُدرَّس في المعاهد والمدارس. لتكون في النهاية مصدراً للدراسة الجادة بغية استلهام الفنانين منها لتقديم “الجديد” بإبداع كما فعل الموسيقيون الروس والأرمن والتشيك والفنلديين والهنغاريين، وغيرهم من موسيقيي الشعوب.

أعجبتُ بأعمال بعض المجددين الجدد، كخوشناف تيللو الذي له أعمال متميِّزة وروح جديدة. وتعجبني كذلك الإبداعات المستمرة والثرية لـ (كامكاران) و(رستاك – الحلّاج) ومن الملحنين العرب أعجبت جداً بمحمد عبد الوهاب والرحابنة وفيروز.

تأثرت بيتهوفن كثيراً. كنتُ، ومازلتُ، أعتبره مثلاً أعلى على صعيدي الفني والفكري. أما من موسيقيي القرن العشرين، فقد أعجبتني أعمال المجددين التشيك لموسيقاهم القومية كـ (ياناجك، نوفاك، سوك) وعلى رأس هؤلاء (فريدريك سميتانا)، وكذلك أنا معجب بالروسي (إيغور سترافينسكي) مجدد الكلاسيكية الحديثة في القرن العشرين، وكذلك بالخمسة الكبار من الموسيقيين الروس. على أية حال من الصعب حصر عدد الموسيقيين الكبار من الكلاسيكيين والباروك والرومانسيين والمُحدثين الذين أعجبت بأعمالهم.

اسمح لي في الختام أن أشير إلى أناس تركوا الأثر الكبير في حياتي، ولم يكونوا موسيقيين: والدي الذي كان يقف ضدي عندما كنت أعزف وأهمل الدراسة الإعدادية والثانوية، وحطَّم لي أكثر من آلة موسيقية، ولكن عندما سافرت إلى الخارج ووصلت إلى اللحظة التي كان عليّ أن أختار فيها اختصاصي الدراسي في براغ أرسلتُ له رسالة أقول له فيها بأنه بإمكاني أن أدرس أي فرع أختاره “فقد كانت درجاتي في الشهادة الثانوية (الفرع العلمي) عالية وتسمح لي بدراسة أي اختصاص أريده” فأجابني: ادرس الموسيقى يا ولدي، فأنت تحبها جداً وستُفلح فيها.

ولولاه لما كنت موسيقياً مطلقاً. عليه الرحمة ولروحه السكينة. كان مثقفاً جداً، ومحباً للموسيقى أيضاً.   

  • وكذلك تأثرتُ بصديق طفولتي وشبابي وكهولتي وشيخوختي: هوشنك صبري ابن الشخصية الوطنية المعروفة (عثمان صبري). الذي ساعدني ووقف إلى جانبي على أكثر من صعيد.
شارك هذا المقال: