التحكم بالتكنولوجيا (1)

شارك هذا المقال:

فصل من كتاب :

Power and Progress: Our Thousand-Year Struggle Over Technology and Prosperity

تأليف

Daron Acemoglu and Simon Johnson

الترجمة عن الإنكليزية : مسلم طالاس

(ينشر على حلقات)

كما ورد في سفر التكوين، عندما هبط الانسان على الارض, عانى من فقدان البراءة وضعف قدرته على الابداع. يمكن تعويض هاتين الخسارتين إلى حد ما، حتى في هذه الحياة ـ الأولى بالدين والإيمان، والثانية بالفنون والعلوم.

Francis Bacon, Novun Organum, 1620.

لقد رأيت بدلاً من ذلك أرستقراطية حقيقية مسلحة بعلم متطور وتعمل على تحقيق نتيجة منطقية هي النظام الصناعي الحالي. ولم يكن انتصارها على الطبيعة مجرد انتصار على الطبيعة، بل كان انتصاراً على الطبيعة وعلى الإنسان.

H. G. Wells, The Time

منذ إصدارها لأول مرة في عام 1927، كانت تختار مجلة تايم رجل العام سنويا, وكان بشكل دائم تقريبًا شخصًا واحدًا، وعادة ما يكون زعيمًا سياسيًا ذا أهمية عالمية أو صناعيًا أمريكيًا مهما. في عام 1960، اختارت المجلة بدلاً من ذلك مجموعة من الأشخاص اللامعين من العلماء الأمريكيين ،  تم اختيار خمسة عشر رجلاً (لسوء الحظ، لم يكن هناك نساء) لإنجازاتهم الرائعة في مجموعة من المجالات. وفقًا لمجلة تايم، في حينه, انتصر العلم والتكنولوجيا أخيرًا.

كلمة التكنولوجيا مشتقة من الكلمة اليونانية tekhne (حرفة ماهرة) وlogia (التحدث أو الإخبار)، مما يعني الدراسة المنهجية لتقنية ما. والتكنولوجيا ليست مجرد تطبيق أساليب جديدة لإنتاج السلع المادية. بل إنها على نطاق أوسع بكثير تتعلق بكل ما نقوم به لتشكيل محيطنا وتنظيم الإنتاج. والتكنولوجيا هي الطريقة التي تُستخدم بها المعرفة البشرية الجماعية لتحسين التغذية والراحة والصحة, ولكن غالبًا لأغراض أخرى أيضًا، مثل المراقبة أو الحرب أو حتى الإبادة الجماعية.

لقد كرمت مجلة “تايم” العلماء في عام 1960 لأن التقدم غير المسبوق في المعرفة، من خلال التطبيقات العملية الجديدة، قد غير كل شيء يتعلق بالوجود البشري. لقد بدت إمكانية تحقيق المزيد من التقدم غير محدودة.

كان هذا بمثابة جولة نصر للفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون. ففي كتابه “أورجانوم الجديد Novum Organum ” الذي نُشر عام 1620، زعم بيكون أن المعرفة العلمية لن تمكًن من تحقيق شيء أقل من سيطرة الإنسان على الطبيعة. وعلى مدى قرون، بدت كتابات بيكون مجرد طموحات في حين كان العالم يكافح الكوارث الطبيعية والأوبئة والفقر المنتشر. ولكن بحلول عام 1960، لم تعد رؤيته خيالية. فقد كتب محرر مجلة تايم: “لقد شهدت الأعوام الـ 340 التي مرت منذ صدور  Novum Organum تغيراً علمياً أكبر بكثير من كل الأعوام الخمسة آلاف السابقة”.

في عام 1963، قال الرئيس كينيدي أمام الأكاديمية الوطنية للعلوم: “لا أستطيع أن أتخيل أي فترة في تاريخ العالم الطويل كان فيها الوضع أكثر إثارة وجدوى وانتاجية من المجال العلمي اليوم. أدرك أنه مع كل باب نفتحه ربما نرى عشرة أبواب لم نحلم بوجودها قط، وبالتالي يتعين علينا أن نواصل العمل إلى الأمام”. لقد أصبحت الوفرة الآن جزءًا من نسيج حياة العديد من الناس في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، مع توقعات كبيرة لما سيأتي بعد ذلك سواء بالنسبة لتلك البلدان أو بقية العالم.

لقد استند هذا التقييم المتفائل إلى إنجازات حقيقية. فقد ارتفعت الإنتاجية في البلدان الصناعية بشكل كبير خلال العقود السابقة حتى أن العمال الأميركيين والألمان واليابانيين أصبحوا ينتجون في حينه في المتوسط ​​أكثر كثيراً مما كانوا ينتجونه قبل عشرين عاماً فقط.

لقد أصبحت السلع الاستهلاكية الجديدة، بما في ذلك السيارات والثلاجات وأجهزة التلفاز والهواتف، في متناول الجميع على نحو متزايد. كما نجحت المضادات الحيوية في ترويض الأمراض القاتلة، مثل السل والالتهاب الرئوي والتيفوس. كما نجح الأميركيون في بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية وكانوا يستعدون للذهاب إلى القمر. وكل هذا بفضل الاختراقات التكنولوجية.

لقد أدرك كثيرون أن مثل هذه التطورات قد تجلب العلل كما تجلب الرفاهية. فقد كانت الآلات التي تنقض على البشر من المواد الأساسية في الخيال العلمي منذ رواية “فرانكشتاين” لماري شيلي على الأقل. وعلى نحو أكثر عملية، ولكن ليس أقل شؤما، كان التلوث وتدمير البيئة الناجمين عن الإنتاج الصناعي لافتين للنظر بشكل متزايد، وكذلك كان التهديد بالحرب النووية ــ نتيجة للتطورات المذهلة في الفيزياء التطبيقية. ومع ذلك، لم يُنظَر إلى أعباء المعرفة باعتبارها مشكلة مستعصية على الحل من قِبَل جيل أصبح واثقا من أن التكنولوجيا قادرة على حل جميع المشاكل. وكانت البشرية حكيمة بما يكفي للسيطرة على استخدام معرفتها، وإذا كانت هناك تكاليف اجتماعية لكون المرء مبتكرا إلى هذا الحد، فإن الحل يكمن في اختراع أشياء أكثر نفعا.

كانت هناك مخاوف مستمرة بشأن “بطالة التكنولوجيا”، وهو المصطلح الذي صاغه الاقتصادي جون ماينارد كينز في عام 1930 لوصف احتمال أن تؤدي أساليب الإنتاج الجديدة إلى الحد من الحاجة إلى العمالة البشرية والمساهمة في البطالة الجماعية. كان كينز يدرك أن التقنيات الصناعية سوف تستمر في التحسن بسرعة، لكنه زعم أيضاً أن “هذا يعني أن البطالة هي بسبب اكتشافنا لوسائل الاقتصاد في استخدام العمالة تتجاوز السرعة التي يمكننا بها إيجاد استخدام جديد للعمالة”.

ولم يكن كينز أول من عبر عن مثل هذه المخاوف. فقد كان ديفيد ريكاردو، وهو أحد مؤسسي الاقتصاد الحديث، متفائلاً في البداية بشأن التكنولوجيا، مؤكداً أنها سوف تزيد بشكل مطرد من مستويات معيشة العمال، وفي عام 1819 قال لمجلس العموم إن “الآلات لم تقلل الطلب على العمالة”. ولكن في الطبعة الثالثة من كتابه الرائد “مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب” في عام 1821، أضاف ريكاردو فصلاً جديداً بعنوان “حول الآلات”، حيث كتب: “من الواجب علي أن أعلن رأيي في هذه المسألة، لأنها، بعد مزيد من التأمل، خضعت لتغيير كبير”. وكما أوضح في رسالة خاصة في ذلك العام، “إذا كانت الآلات قادرة على القيام بكل العمل الذي يقوم به العمال الآن، فلن يكون هناك طلب على العمالة”.

ولكن مخاوف ريكاردو وكينز لم يكن لها تأثير كبير على الرأي العام السائد. وإذا كان هناك أي شيء فهو تكثف التفاؤل بعد أن بدأت أجهزة الكمبيوتر الشخصية والأدوات الرقمية في الانتشار بسرعة في أواخر الثمانينيات. وبحلول أواخر التسعينيات، بدت احتمالات التقدم الاقتصادي والاجتماعي بلا حدود. وكان بيل جيتس يتحدث بلسان العديد من العاملين في صناعة التكنولوجيا في ذلك الوقت عندما قال: “إن التقنيات الرقمية المعنية هنا هي في الواقع مجموعة تضم(وتتجاوز) كل تكنولوجيا الاتصالات التي ظهرت في الماضي، على سبيل المثال، الراديو والصحف. وسوف يتم استبدال كل هذه الأشياء بشيء أكثر جاذبية”.

قد لا تسير الأمور على ما يرام في كل الأوقات، لكن ستيف جوبز، المؤسس المشارك لشركة أبل، نجح في تجسيد روح العصر بشكل مثالي في مؤتمر عقد في عام 2007 بعبارة شهيرة: “دعونا نبتكر غدًا بدلًا من القلق بشأن الأمس”.

في ستينيات القرن العشرين، كان نحو 6% فقط من الرجال الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عامًا خارج سوق العمل، وهو ما يعني أنهم كانوا عاطلين عن العمل لفترة طويلة أو لا يبحثون عن عمل. واليوم يبلغ هذا الرقم نحو 12%، ويرجع هذا في المقام الأول إلى أن الرجال الذين لا يحملون شهادة جامعية يجدون صعوبة متزايدة في الحصول على وظائف بأجر جيد.

كان العمال الأميركيون، سواء من الحاصلين على تعليم جامعي أو من غير الحاصلين عليه، يتمتعون بالقدرة على الحصول على “وظائف جيدة”، والتي كانت توفر لهم، بالإضافة إلى الأجور اللائقة، الأمن الوظيفي وفرص بناء حياتهم المهنية. ولكن مثل هذه الوظائف اختفت إلى حد كبير بالنسبة للعمال الذين لا يحملون شهادة جامعية. وقد أدت هذه التغييرات إلى تعطيل وإلحاق الضرر بالآفاق الاقتصادية لملايين الأميركيين.

إن التغيير الأكبر الذي طرأ على سوق العمل في الولايات المتحدة على مدى نصف القرن الماضي يتعلق ببنية الأجور. فخلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كان النمو الاقتصادي سريعا وتوزعت منافعه على نطاق واسع، حيث شهد العمال من جميع الخلفيات والمهارات نموا سريعا في الدخول الحقيقية (المعدلة وفقا للتضخم). ولكن الحال لم يعد كذلك. فقد انتشرت التقنيات الرقمية الجديدة في كل مكان وحققت ثروات هائلة لرجال الأعمال والمديرين التنفيذيين وبعض المستثمرين، ومع ذلك فإن الأجور الحقيقية لمعظم العمال لم ترتفع إلا قليلا. فقد شهد الأشخاص الذين لا يحملون تعليما جامعيا انخفاضا في دخولهم الحقيقية، في المتوسط، منذ عام 1980، وحتى العمال الذين يحملون درجة جامعية ولكن ليس لديهم تعليم بعد التخرج لم يحققوا سوى مكاسب محدودة.

إن الآثار المترتبة على عدم المساواة الناجمة عن التقنيات الجديدة تتجاوز هذه الأرقام إلى حد كبير. مع زوال الوظائف الجيدة المتاحة لمعظم العمال والنمو السريع في دخول جزء صغير من السكان المدربين كعلماء كمبيوتر ومهندسين وممولين، فإننا في طريقنا إلى مجتمع من طبقتين حقًا، حيث يعيش العمال وأولئك الذين يسيطرون على الوسائل الاقتصادية والاعتراف الاجتماعي بشكل منفصل، وينمو هذا الانفصال يوميًا. هذا ما توقعه الكاتب الإنجليزي هـ. ج. ويلز في “آلة الزمن”، مع ديستوبيا مستقبلية حيث تعمل التكنولوجيا على فصل الناس إلى حد أنهم يتطورون إلى نوعين منفصلين.

ولكن هذه ليست مشكلة الولايات المتحدة وحدها. فبفضل الحماية الأفضل للعمال ذوي الأجور المنخفضة، والمفاوضات الجماعية، والحد الادني اللائق للأجور ، لم يعان العمال من ذوي المستويات التعليمية المنخفضة نسبيا في الدول الاسكندنافية، أو فرنسا، أو كندا، من انخفاض الأجور مثل نظرائهم الأميركيين. ورغم ذلك، فقد ارتفعت مستويات التفاوت، وأصبحت الوظائف الجيدة للأشخاص الذين لا يحملون شهادات جامعية نادرة في هذه البلدان أيضا.

ومن الواضح الآن أن المخاوف التي أثارها ريكاردو وكينز لا يمكن تجاهلها. صحيح أنه لم تحدث بطالة تكنولوجية كارثية، وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين استفاد العمال من نمو الإنتاجية بقدر ما استفاد منه رواد الأعمال وأصحاب الأعمال. ولكننا اليوم نشهد صورة مختلفة تماما، حيث تتصاعد مستويات التفاوت بشكل صاروخي ويتخلف العاملون بأجر إلى حد كبير عن الركب مع تراكم التطورات الجديدة.

والواقع أن آلاف السنين من التاريخ والأدلة المعاصرة تؤكد على أمر واحد واضح تماما: لا يوجد شيء تلقائي في التكنولوجيات الجديدة يجلب الرخاء على نطاق واسع. وسواء كانت تجلب الرخاء أم لا، فإن هذا خيار اقتصادي واجتماعي وسياسي.

يستكشف هذا الكتاب طبيعة هذا الاختيار، والأدلة التاريخية والمعاصرة على العلاقة بين التكنولوجيا والأجور وعدم المساواة وما يمكننا القيام به من أجل توجيه الابتكار للعمل في خدمة الرخاء المشترك. ولإرساء الأساس لموضوعنا، يتناول هذا الفصل ثلاثة أسئلة أساسية:

– ما الذي يحدد متى تزيد الآلات وتقنيات الإنتاج الجديدة الأجور؟

– ما هو المطلوب لإعادة توجيه التكنولوجيا نحو بناء مستقبل أفضل؟

– لماذا يدفع نمط التفكير الحالي بين رواد الأعمال وأصحاب الرؤى في مجال التكنولوجيا في اتجاه مختلف وأكثر إثارة للقلق، خاصة مع الحماس الجديد حول الذكاء الاصطناعي؟

عربة التقدم

إن التفاؤل بشأن تقاسم المنافع المترتبة على التقدم التكنولوجي يرتكز على فكرة بسيطة وقوية: “عربة الإنتاجية”. وتؤكد هذه الفكرة أن الآلات الجديدة وأساليب الإنتاج التي تزيد الإنتاجية سوف تنتج أيضاً أجوراً أعلى. مع تقدم التكنولوجيا، سوف تسحب العربة الجميع معها، وليس فقط رواد الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال.

لقد أدرك خبراء الاقتصاد منذ فترة طويلة أن الطلب على جميع المهام، وبالتالي على أنواع مختلفة من العمال، لا ينمو بالضرورة بنفس المعدل، وبالتالي فإن التفاوت قد يزداد بسبب الابتكار. ومع ذلك، يُنظَر إلى تحسين التكنولوجيا عمومًا باعتباره المد الذي يرفع جميع القوارب لأن الجميع من المتوقع أن يستفيدوا بشكل أو بأخر. لا يُفترض أن يتخلف أحد عن الركب بسبب التكنولوجيا، ناهيك عن إفقاره بسببها. ووفقًا للحكمة التقليدية، لتصحيح ارتفاع التفاوت وبناء أسس أكثر صلابة للازدهار المشترك، يتعين على العمال إيجاد طريقة لاكتساب المزيد من المهارات التي يحتاجون إليها للعمل جنبًا إلى جنب مع التكنولوجيات الجديدة. وكما لخص إريك برينجولفسون، أحد أبرز الخبراء في مجال التكنولوجيا، ” ماذا يمكننا أن نفعل لخلق الرخاء المشترك؟ الجواب ليس إبطاء التكنولوجيا. بدلاً من السباق ضد الآلة، نحتاج إلى السباق مع الآلة. هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا”.

إن النظرية التي تكمن في اساس عربة الإنتاجية واضحة: فعندما تصبح الشركات أكثر إنتاجية، فإنها تريد توسيع إنتاجها. ولهذا، فإنها تحتاج إلى المزيد من العمال، لذا تهتم بعملية استخدام عمالية جديدة. وعندما تحاول العديد من الشركات القيام بذلك في نفس الوقت، فإنها ترفع الأجور بشكل جماعي.

هذا ما يحدث في الواقع تماما، ولكن ليس دائما بل أحيانا فقط. على سبيل المثال، في النصف الأول من القرن العشرين، كان أحد أكثر القطاعات ديناميكية في الاقتصاد الأمريكي هو تصنيع السيارات. مع طرح شركة فورد موتورز ثم جنرال موتورز (GM) للآلات الكهربائية الجديدة، وبناء مصانع أكثر كفاءة، وإطلاق نماذج أفضل، ارتفعت إنتاجيتهم، وكذلك استخدامهم للعمال. من بضعة آلاف من العمال في عام 1899، وإنتاج 2500 سيارة فقط سنويا، ارتفعت العمالة المستخدمة في الصناعة إلى أكثر من 400000 بحلول عشرينيات القرن العشرين. وبحلول عام 1929، كانت فورد وجنرال موتورز تبيعان حوالي 1.5 مليون سيارة كل عام. أدى هذا التوسع غير المسبوق في إنتاج السيارات إلى رفع الأجور في جميع أنحاء الاقتصاد، بما في ذلك العمال الذين لا يتمتعون بقدر كبير من التعليم الرسمي.

على مدار القسم الأعظم من القرن العشرين، ارتفعت الإنتاجية بسرعة في قطاعات أخرى أيضاً. كما حدث مع الأجور الحقيقية. واللافت للنظر أن أجور خريجي الجامعات في الولايات المتحدة نمت في الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى منتصف سبعينيات القرن العشرين بنفس المعدل تقريباً الذي نمت به أجور العمال الذين لم يحصلوا إلا على تعليم ثانوي.

ولكن من المؤسف أن ما حدث بعد ذلك لا يتفق مع فكرة وجود أي نوع من العربات التي  لا يمكن إيقافها. ذلك أن كيفية تقاسم منافع الإنتاجية يعتمد على الكيفية التي تتغير بها التكنولوجيا بالضبط وعلى القواعد والمعايير والتوقعات التي تحكم كيفية تعامل الإدارة مع العمال. ولكي نفهم هذا، دعونا نستعرض الخطوتين اللتين تربطان بين نمو الإنتاجية وارتفاع الأجور. أولاً، يعمل نمو الإنتاجية على زيادة الطلب على العمال مع محاولة الشركات تعزيز الأرباح من خلال توسيع الناتج وتوظيف المزيد من الناس. وثانياً، يعمل الطلب على المزيد من العمال على زيادة الأجور التي يتعين تقديمها لجذبهم والاحتفاظ بهم. من المؤسف أن أياً من الخطوتين غير مضمون، كما سنشرح في القسمين التاليين.

الاغنية الحزينة للاتمتة

على عكس الاعتقاد السائد، لا يترجم نمو الانتاجية بالضرورة إلى زيادة للطلب على العمال. التعريف القياسي للإنتاجية هو متوسط ​​الناتج لكل عامل – الناتج الإجمالي مقسومًا على إجمالي العمالة. ومن الواضح أن الأمل هو أنه مع نمو الناتج لكل عامل، سيزداد أيضًا استعداد الشركات لتوظيف الناس.

ولكن أصحاب العمل ليس لديهم حوافز لزيادة التوظيف على أساس متوسط ​​الناتج لكل عامل. بل إن ما يهم الشركات هو الإنتاجية الهامشية أو الحدية – المساهمة الإضافية التي يجلبها عامل إضافي من خلال زيادة الإنتاج أو خدمة المزيد من العملاء. يختلف مفهوم الإنتاجية الهامشية عن الناتج أو الإيرادات لكل عامل(متوسط الناتج): فقد يزيد الناتج لكل عامل بينما تظل الإنتاجية الهامشية ثابتة أو حتى تنخفض.

ولتوضيح التمييز بين الناتج لكل عامل(الناتج المتوسط) والإنتاجية الهامشية، فلنتأمل هذه النبؤة المتكررة كثيراً: “سوف يضم مصنع المستقبل اثنين من الموظفين فقط، رجل وكلب. وسوف يكون الرجل هناك لإطعام الكلب. وسوف يكون الكلب هو الذي يمنع الرجل من لمس المعدات”. وهذا المصنع المتخيل قادر على إنتاج قدر كبير من الناتج، وبالتالي فإن متوسط ​​الإنتاجية ــ الناتج مقسوماً على الموظف (البشري) الواحد ــ مرتفع للغاية. ولكن الإنتاجية الهامشية للعمال ضئيلة للغاية؛ فالموظف الوحيد هناك لإطعام الكلب، والنتيجة المترتبة على ذلك هي أنه يمكن الاستغناء عن الكلب والموظف دون خفض كبير في الناتج. وربما تعمل الآلات الأفضل على زيادة الناتج المتوسط، ولكن من المنطقي أن نتوقع أن هذا المصنع لن يسارع إلى توظيف المزيد من العمال وكلابهم، أو زيادة أجور موظفه الوحيد.

إن هذا المثال متطرف، ولكنه يمثل عنصراً مهماً من عناصر الواقع. فعندما تقدم شركة سيارات طرازاً أفضل من المركبات، كما فعلت فورد وجنرال موتورز في النصف الأول من القرن العشرين، فإن هذا يميل إلى زيادة الطلب على سيارات الشركة، ويرتفع كل من العائدات لكل عامل والإنتاجية الهامشية. في نهاية المطاف، تحتاج الشركة إلى المزيد من العمال، مثل اللحامين والرسامين، لتلبية الطلب الإضافي، وسوف تدفع لهم المزيد، إذا لزم الأمر. وعلى النقيض من ذلك، فكر في ما يحدث عندما تقوم نفس شركة صناعة السيارات باستخدام الروبوتات الصناعية. يمكن للروبوتات أداء معظم مهام اللحام والطلاء، ويمكنها القيام بذلك بتكلفة أقل من طرق الإنتاج التي توظف عدداً أكبر من العمال. ونتيجة لهذا، تزداد إنتاجية الشركة المتوسطة بشكل كبير، ولكنها تحتاج أقل إلى اللحامين والرسامين البشر.

هذه مشكلة عامة. فالعديد من التقنيات الجديدة، مثل الروبوتات الصناعية، تعمل على توسيع مجموعة المهام التي تؤديها الآلات والخوارزميات، فتحل محل العمال الذين اعتادوا العمل في هذه المهام. والواقع أن الأتمتة ترفع الإنتاجية المتوسطة ولكنها لا تزيد، بل قد تقلل، من الإنتاجية الهامشية للعمال.

الأتمتة هي التي أثارت قلق كينز، ولم تكن ظاهرة جديدة عندما كان يكتب في أوائل القرن العشرين. وكان العديد من الابتكارات المهمة التي شهدتها الثورة الصناعية البريطانية في مجال المنسوجات تدور كلها حول احلال آلات الغزل والنسيج الجديدة محل الحرفيين المهرة.

إن ما ينطبق على الأتمتة ينطبق أيضاً على العديد من جوانب العولمة. فقد شكلت الاختراقات الكبرى في أدوات الاتصال والخدمات اللوجستية للشحن موجة هائلة من نقل التصنيع إلى الخارج على مدى العقود العديدة الماضية، مع نقل مهام الإنتاج مثل التجميع أو خدمة العملاء إلى بلدان حيث العمالة أرخص. وقد أدى نقل التصنيع إلى الخارج إلى خفض التكاليف وتعزيز أرباح الشركات مثل آبل، التي تصنع منتجاتها من أجزاء يتم إنتاجها في العديد من البلدان ويتم تجميعها بالكامل تقريباً في آسيا. ولكن في الدول الصناعية، أدى هذا أيضاً إلى تشريد العمال الذين اعتادوا على أداء هذه المهام محلياً ولم يتم توليد عربة قوية تجر الجميع معها.

لقد نجحت الأتمتة ونقل الأعمال إلى الخارج في زيادة الإنتاجية ومضاعفة أرباح الشركات، ولكنها لم تجلب أي شيء يشبه الرخاء المشترك للولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة. إن استبدال العمال بالآلات ونقل العمل إلى بلدان ذات أجور أقل ليس الخيار الوحيد لتحسين الكفاءة الاقتصادية. هناك طرق متعددة لزيادة الإنتاج لكل عامل – وكان هذا صحيحا على مر التاريخ، كما نوضح في الفصل الخامس إلى التاسع. تعزز بعض الابتكارات مقدار مساهمة الأفراد في الإنتاج، بدلا من الأتمتة أو العمل في الخارج. على سبيل المثال، تعمل الأدوات البرمجية الجديدة, التي تساعد في أداء مهام ميكانيكا السيارات وتمكًن العمل بدقة أكبر, على زيادة إنتاجية العمال الهامشية. وهذا يختلف تمامًا عن تثبيت الروبوتات بهدف الاحلال محل الأشخاص.

والأكثر من ذلك بالنسبة لرفع الإنتاجية الهامشية للعمال هو خلق مهام جديدة. كان هناك الكثير من الأتمتة في صناعة السيارات خلال عملية إعادة التنظيم الهامة للصناعة بقيادة هنري فورد والتي بدأت في العقد الأول من القرن العشرين. لكن أساليب الإنتاج الضخم وخطوط التجميع قدمت في الوقت نفسه مجموعة من التصميمات الجديدة، والمهام الفنية، وتشغيل الآلات، والمهام الكتابية، مما أدى إلى تعزيز طلب الصناعة على العمال (كما سنفصل في الفصل السابع). عندما تخلق الآلات استخدامات جديدة للعمل البشري، فإن هذا يؤدي إلى توسيع الطرق التي يمكن للعمال من خلالها المساهمة في الإنتاج وزيادة إنتاجيتهم الهامشية.

كانت المهام الجديدة تشكل أهمية بالغة، ليس فقط في الايام الاولي لصناعة السيارات في الولايات المتحدة، بل وأيضاً في نمو تشغيل العمالة والأجور على مدى القرنين الماضيين. العديد من المهن الأسرع نموًا في العقود القليلة الماضية -أخصائيي الأشعة بالرنين المغناطيسي، ومهندسي الشبكات، ومشغلي الآلات بمساعدة الكمبيوتر، ومبرمجي البرمجيات، وموظفي أمن تكنولوجيا المعلومات، ومحللي البيانات- لم تكن موجودة قبل ثمانين عامًا. حتى الأشخاص الذين يعملون في المهن التي كانت موجودة منذ فترة طويلة، مثل الصرافين في البنوك، أو الأساتذة الجامعيين، أو المحاسبين، يعملون الآن على مجموعة من المهام التي لم تكن موجودة قبل الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك جميع تلك التي تنطوي على استخدام أجهزة الكمبيوتر والأدوات الحديثة وأجهزة الاتصالات. وفي جميع هذه الحالات تقريباً، تم إدخال مهام جديدة نتيجة للتقدم التكنولوجي وكانت بمثابة محرك رئيسي لنمو العمالة. وكانت هذه المهام الجديدة أيضاً جزءاً لا يتجزأ من نمو الإنتاجية، لأنها ساعدت في إطلاق منتجات جديدة وإعادة تنظيم عملية الإنتاج بشكل أكثر كفاءة.

السبب وراء عدم تحقق أسوأ مخاوف ريكاردو وكينز بشأن البطالة التكنولوجية يرتبط ارتباطا وثيقا بالمهام الجديدة. فقد كانت الأتمتة سريعة طوال القرن العشرين ولكنها لم تقلل الطلب على العمال لأنها كانت مصحوبة بتحسينات أخرى وإعادة تنظيم أنتجت أنشطة ومهام جديدة للعمال.

إن الأتمتة في صناعة ما قد تدفع أيضًا إلى زيادة فرص العمل – في ذلك القطاع أو في الاقتصاد ككل – إذا أدت إلى خفض التكاليف أو زيادة الإنتاجية بدرجة كافية. قد تأتي الوظائف الجديدة في هذه الحالة إما من مهام غير آلية في نفس الصناعة أو من توسع الأنشطة في الصناعات ذات الصلة. في النصف الأول من القرن العشرين، أدى الارتفاع السريع في تصنيع السيارات إلى زيادة الطلب على مجموعة من الوظائف الفنية والكتابية غير الآلية. وعلى نفس القدر من الأهمية، كان نمو الإنتاجية في مصانع السيارات خلال هذه العقود محركًا رئيسيًا لتوسع صناعات النفط والصلب والمواد الكيميائية (فكر في البنزين وهياكل السيارات والإطارات). كما أحدث تصنيع السيارات على نطاق واسع ثورة في إمكانيات النقل، مما مكن من ظهور أنشطة جديدة في مجال التجزئة والترفيه والخدمات، خاصة مع تحول جغرافية المدن.

ولكن لن يتم خلق سوى عدد قليل من الوظائف الجديدة عندما تكون مكاسب الإنتاجية من الأتمتة صغيرة ــ وهو ما نسميه “الأتمتة المتوسطة So-so automation” في الفصل التاسع. على سبيل المثال، تجلب أكشاك الدفع الذاتي في متاجر البقالة فوائد إنتاجية محدودة لأنها تحول عمل مسح المواد المشتراة من الموظفين إلى العملاء. وعندما يتم استخدام أكشاك الدفع الذاتي، يتم توظيف عدد أقل من أمناء الصندوق، ولكن لا يحدث تقدم كبير للإنتاجية لتحفيز خلق وظائف جديدة في أماكن أخرى. ولا تصبح البقالة أرخص كثيرا، ولا يحدث توسع في إنتاج الغذاء، ولا يعيش المتسوقون حياة مختلفة.

يكون الوضع اليما بنفس القدر بالنسبة للعمال عندما تركز التكنولوجيا الجديدة على المراقبة، كما قصد جيريمي بينثام من نظام المراقبة الشاملة. وقد تؤدي المراقبة الأفضل للعمال إلى بعض التحسينات الطفيفة في الإنتاجية، ولكن وظيفتها الرئيسية هي استخلاص المزيد من الجهد من العمال وفي بعض الأحيان خفض أجورهم، كما سنرى في الفصلين التاسع والعاشر.

لا يوجد أي زيادة في الإنتاجية من خلال الأتمتة المتوسطة ومراقبة العمال. كما أن العربة ضعيفة حتى من التقنيات الجديدة التي تولد مكاسب إنتاجية ملموسة، عندما تركز هذه المهام بشكل أساسي على الأتمتة وتهمل العمال. إن الروبوتات الصناعية، التي أحدثت ثورة في التصنيع الحديث بالفعل، لا تولد سوى القليل من المكاسب للعمال عندما لا تكون مصحوبة بتقنيات أخرى تخلق مهام وفرصًا جديدة للعمالة البشرية. وفي بعض الحالات، مثل القلب الصناعي للاقتصاد الأمريكي في الغرب الأوسط، ساهم التبني السريع للروبوتات في تسريح العمال بشكل جماعي وإطالة أمد الانحدار الإقليمي.

كل هذا يقودنا إلى أهم ما يتعلق بالتكنولوجيا: الاختيار. فغالبا ما توجد طرق لا حصر لها لاستخدام المعرفة الجماعية لتحسين الإنتاج، بل وحتى طرق أكثر لتوجيه الابتكارات. فهل نستخدم الأدوات الرقمية للمراقبة؟ أم لتمكين العمال من خلال خلق مهام إنتاجية جديدة لهم؟ وأين سنوجه جهودنا نحو التقدم في المستقبل؟

عندما تكون عربة الإنتاجية ضعيفة ولا توجد آليات تصحيح ذاتية التصرف تضمن المشاركة في المنافع، تصبح هذه الخيارات أكثر أهمية – ويصبح أولئك الذين يتخذونها أكثر أهمية، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا.

باختصار، تعتمد الخطوة الأولى في سلسلة السببية وراء عربة الإنتاجية على خيارات محددة: استخدام التقنيات الحالية وتطوير تقنيات جديدة لزيادة الإنتاجية الهامشية للعمال – وليس مجرد أتمتة العمل، أو جعل العمال أقل لزوما، أو تكثيف المراقبة.

شارك هذا المقال: