العدالة الاجتماعية والحرية “من اليوتوبيا إلى الديستوبيا”

شارك هذا المقال:

كانت وما زالت فكرة العدالة الاجتماعية (أو الاشتراكية بحسب القاموس السياسي الحديث)، واحدة من أهم المواضيع التي انشغل بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع على مر العصور بحثاً عن آليات من شأنها تحقيق هذه الفكرة.

وفي الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، ظهرت اتجاهات فلسفية عديدة حول مفهوم هذه الفكرة ابتداءً من المفكر الفرنسي جان جاك روسو وكتابه الشهير “العقد الاجتماعي” وصولاً إلى المفكر الألماني كارل ماركس ونظرية الصراع الطبقي التي سعى إلى إدراجها ضمن النظريات العلمية، فقد تواصل ماركس حينها مع عالم الأحياء المعروف داروين لنيل الاعتراف بها كنظرية علمية حالها حال أي نظرية فيزيائية أو كيميائية تصلح لكل زمان ومكان، لكن الأخير لم يقتنع بذلك.

مع ذلك استهوت هذه النظرية الكثير من النخب المهتمة بالشأن العام في مختلف أصقاع الدنيا، فاتخذتها سبيلاً وحيداً ونهجاً متكاملاً للوصول إلى حالة العدالة الاجتماعية.

وساعدت التغيرات الدولية في القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص) وصول أنصار هذه النظرية إلى سدة الحكم في أكبر دولة أوروبية، لتتوسع وتشمل دول أوروبا الشرقية وغيرها من دول ما عرف بالمعسكر الاشتراكي (بعد الحرب العالمية الثانية)، فسنحت لهم بذلك الفرصة لتطبيق هذه النظرية، لكن النتائج كانت مأساوية وكارثية على الشعب ونكوصه إلى مرحلة ما قبل تطبيق النظرية! أما مقولة: النظرية صحيحة لكن الخطأ يكمن في التطبيق (التي دأب أنصار أي نظرية أو عقيدة على تردديها)، فهي لا تحتاج أكثر من مجرد سؤال واحد كي نتأكد من صحتها: لماذا لم نقرأ أو نسمع بأي تصريح أو بيان (منذ اعتماد الكثير من الدول لهذه النظرية وحتى تاريخ انهيار جدار برلين) من أصحاب هذه المقولة ،أحزابا و مناصرين مستقلين، يدين أنظمة تلك الدول وممارستها، وبأنها ليست دول اشتراكية بل شمولية بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من قمع ومحسوبيات وغياب حقوق الانسان واحتكار السلطة وغياب سلطة القانون وحرية تشكيل الأحزاب وانعدام حرية الرأي …..الخ؟

لكن حتى لو قبلنا بصلاحية هذه النظرية وصحتها المطلقة (وهذا أمر ينافي منطق التطور البشري)، فهل كل النظريات قابلة للتطبيق؟ إذا كانت النظريات العلمية التي تتعامل مع المواد لها شروط فكيف بالنظريات الفلسفية الاجتماعية التي تتناول حياة البشر؟ ألم يرسم أفلاطون على لسان معلمه سقراط في كتابه جمهورية أفلاطون المدينة الفاضلة العادلة ؟ فهل كان هذا يعني بأنها نظرية صحيحة في المطلق يتوجب تجربتها على البشر حتى وأن جلبت المآسي عليهم؟

بعد سقوط جدار برلين، الذي أصبح رمزاً لانتهاء كابوس فرض نظرية العدالة الاجتماعية بالقوة في شرق أوروبا، أخلت فكرة الاشتراكية (العدالة الاجتماعية) مكانها لفكرة قديمة – جديدة ألا وهي الديمقراطية (الحرية السياسية) التي كانت قد رُكنت جانباً من قبل الكثير من المفكرين والدول تحت ذرائع مختلفة!

وكما وصلت رياح نظرية العدالة الاجتماعية الآنفة إلى الشرق الأوسط في القرن العشرين ودفعت نخب كثيرة أثماناً باهظة من أجلها، كذلك وصلت أصداء فكرة الديمقراطية إليها وتجسدت صرختها في الانتقاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة العربية مع بداية العقد الثاني من هذا القرن!

وكما تحولت يوتوبيا العدالة الاجتماعية في شرق أوروبا إلى ديستوبيا على مدى نصف قرن من الزمن، كذلك تحول حلم
الديمقراطية في العالم العربي أيضاً إلى كابوس، فرغم التضحيات الكبيرة وتغيير الأنظمة الاستبدادية إلا أنها لم تستطع إنتاج أنظمة أفضل من تلك التي تخلصت منها!

إذا كانت هذه هي نتائج ومآلات تجربتي الوصول إلى العدالة الاجتماعية (الاشتراكية) والحصول على الحرية السياسية
(الديمقراطية)، إذن أين يكمن الخلل؟

كلنا يعلم بأن تطبيق أي نظرية من الأعلى إلى الأسفل وبالقوة أو ما يسمى “بالعنف الثوري” له نتائج كارثية وعكسية، وكلنا يعلم أيضاً بأن الديمقراطية هي تجسيد وانعكاس لحياة المجتمع وثقافته وهي عملية تراكمية تدخل حالة التطبيق بشكل تدريجي سلس!

فإذا كانت الحرية (الديمقراطية) شبه معدومة ابتداءً من الأسرة الصغيرة التي هي اللبنة الاجتماعية، وإذا كانت معدومة ضمن الأحزاب الحاكمة أو المعارضة والتي هي اللبنة السياسية، فهل يصح أن نتوقع أو نتأمل تحقق الديمقراطية بمجرد تغيير طاقم السلطة؟

لكن ثمة سؤال مهم يطرح نفسه في هذا السياق، هل التراكم شرط لازم؟

ألم يعش المجتمع السوري حالة ديمقراطية سياسية معقولة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين؟ فهل كان المجتمع السوري قبل قرن من الزمن أكثر حرية وثقافة من الآن؟

ألم يعش المجتمع المصري ديمقراطية سياسية ولو نسبية حتى منتصف القرن الماضي؟ فهل كان المجتمع المصري حينها أكثر قدرة على تكوين دولة تمثله إلى حد ما؟

في الواقع، الإجابة على هذين السؤالين تتضمن حقيقة مؤلمة وهي أن التجربتين لم تكونا من انتاجنا نحن كشعوب بل من صنع الانتدابين الفرنسي والإنكليزي والدليل على ذلك بأنه مع رحيلهما فشل هذان الشعبان في حكم ذاته (أي تطبيق الديمقراطية) لا بل تراجعا إلى حالة الدولة الشمولية في أقسى صورها وهي حكم الزعيم الأوحد!

وهنا لا بد من التأكيد على ثلاث نقاط: هذا الطرح لا يعني مطلقاً بأننا شعوب لا نستحق الديمقراطية، وأن الشعوب التي انتجت دولاً ديمقراطية قد مرت بحالة شبيهة بحالتنا، وأن الزمن هو الشرط اللازم والضروري للوصول إلى ما وصلت إليه تلك الشعوب!

جدير بالذكر هنا بأن دولاً عديدة استطاعت تحقيق العدالة الاجتماعية لشعوبها رغم أنها لم تتبع هذه النظرية أو غيرها من النظريات الطوباوية التي تحول الحلم الوردي (اليوتوبيا) إلى كابوس طويل (ديستوبيا)!

ألم تحقق دولة السويد، على سبيل المثال لا الحصر، العدالة الاجتماعية والحرية معاً لشعبها؟ أليس توفير الضمان الصحي لجميع الأفراد وبأعلى مستوياته، وتعويض البطالة المالي في حال التوقف عن العمل لأي سبب كان، وتقديم أفضل الخدمات في مجال رعاية المسننين وأصحاب الاحتياجات الخاصة وغيرها من الخدمات الإنسانية، هي جوهر مفهوم العدالة الاجتماعية؟! والأهم من هذا وذاك ألا تفند هذه الحالة فكرة أن العدالة الاجتماعية تتناقض مع الحرية الفردية التي تبنتها الكثير من النخب؟ فعلى سبيل المثال كان اختلاف سارتر وكامو حول هذه النقطة السبب الرئيسي في افتراق هذا الثنائي الفلسفي الذي لعب دوراً طليعياً في الحياة السياسية في فرنسا !

أخيراً وليس آخراً، ثمة استنتاجان غاية في الأهمية في رحلة البحث عن مخرج من هذه المعضلة:

إن أي دعوة لقسر تطور الشعوب (أو ما يسمى بحرق المراحل) من خلال الثورات أو الانقلابات ستكو ن لها نتائج عكسية وكارثية على جميع الأصعدة، فليس التاريخ وحده مليء بالكثير من هذه التجارب البائسة بل الحاضر أيضاً!

الاستفادة من التجارب الناجحة وذلك بدراسة مسيرة التطور الاجتماعي والاقتصادي للشعوب و مساهمات النخب التي ساعدت في تمكّن الغرب من حل كلتا المعادلتين (العدالة الاجتماعية والحرية) دون الاعتماد على أي نظرية!

شارك هذا المقال: