عائشة أوزغه كوجاك هيمات
ترجمة: مصطفى إسماعيل
مستلهمة كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد (1978)، تجمعُ زينب جيليك Zeynep Çelik في كتابها “أوروبا لا تعرف شيئاً عن الشرق” الأصوات العثمانية التي ارتفعت ضد الخطاب الاستشراقي الأوروبي وتحدّته من سبعينيات القرن التاسع عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين. الحصيلةُ انطولوجيا مُقنِعة في نطاقها ومضمونها. يدعونا ذلك بدوره إلى التعمق في سياقاتٍ “شرقية” أخرى من أجل معرفة ما “يزيد تعقيد تاريخ الهيمنة الثقافية والمساعدة في تقديم عالم انتقلت فيه الأفكار، وتحولت، وانخرطت في نقاشات، بل وتحولت أيضاً إلى ساحات قتال”. يُحرّضُ كتابُ جيليك الذي صدر في توقيتٍ مناسبٍ القرّاء على استكشاف ردود أفعال ما يسمى بـ “الشرقيين” على مستنطقيهم المعاصرين من خلال الحالة البارزة للإمبراطورية العثمانية.
امتدت الإمبراطورية العثمانية في أوج قوتها على ثلاث قارات. كانت إمبراطورية أوروبية بقدر ما كانت عالماً “شرقياً” حتى قبل فتح القسطنطينية عام 1453. وفي حين كانت معظم أراضيها تقع في أوروبا، اعتبر العثمانيون أنفسهم أيضاً ورثة الإمبراطورية الرومانية (الشرقية). كانت المطامح الإمبراطورية العثمانية تتحدى القوى الأوروبية على الدوام، وقد أزعجت حدود الإمبراطورية المتنامية مراراً تلك القوى حتى حصار فيينا عام 1683، والذي يمثل بداية انهيار العثمانيين، أي اللحظة التي بدأت فيها الإمبراطورية تصبح “رجل أوروبا المريض”.
تطوَّرَ ضعف الإمبراطورية بالتزامن مع ما يُقال غالباً على أنه تاريخ منفصل: الصعود المُطَّرِد لأوروبا كقوة استعمارية منذ القرن الخامس عشر، الأمر الذي أجبر الشعوب المُسْتَعمَرَة على تعريف نفسها في مواجهة أوروبا. كان على المُسْتَعمَر، الذي أُفترضَ أنه الآخر “غير المتحضر”، أن يؤكد على هويته بتعبيراتٍ مُستعارة من الخطابات الأوروبية. في هذه العملية جُسّدَ المُسْتَعمَرونَ أكثر فأكثر كموضوع، لأن هذه الخطابات عاملتهم كموضوعاتٍ يجب تحليلها واستكشافها، وبالتالي تدجينها. كان الآخر المُسْتَعمَر موضوع المنظور الأوروبي، في العلم والفلسفة والفن، عبارة عن: ساحر وبدائي، متعصب واستبدادي، وكان مجال فضولٍ مفقود في الزمن.
في حين أن الإمبراطورية العثمانية كانت استثناءاً من الاستعمار الأوروبي، إلا أن خسائرها الإقليمية والسياسية أجبرتها على تعريف نفسها على نحو مماثل للعالم المُسْتَعمَر. متخلفةً عن ركب التقدم التكنولوجي والتطور الصناعي والنمو الاقتصادي لأوروبا، اضطر العثمانيون للدفاع عن ما تبقى من إمبراطوريتهم الشاسعة التي كانت تمتد ذات يوم على عدة قارات. رغم ذلك لم يتخل العثمانيون عن مطامعهم الإمبريالية أبداً، بل تحولوا بدلاً من ذلك إلى إنتاج فهم لأنفسهم كحكام “خيّرين”، بخلاف الإمبراطوريات الاستعمارية الصاعدة في أوروبا. تُظهرُ النصوص الموجودة في كتاب جيليكْ المقاومةَ العثمانية لتجسيد المستشرقين لهم كمجرد موضوع، بينما تُبرزُ بناء الهوية العثمانية من زاوية الرغبة الإمبريالية في الحفاظ على وضعها الراهن.
مقدمة جيليك للكتاب الزاخرة بالمعلومات “خطاب نقدي من الشرق (1872-1932)” تقدم إطاراً تفصيلياً للانتقادات العثمانية للاستشراق الأوروبي، والتي اختلفت عن بعضها البعض من حيث تسلسلها الزمني، والإيديولوجي، والرسمي، والأسلوبي. تحيك مقدمة جيليك سرديةً لا تتناول فقط الطموحات الإمبراطورية العثمانية (ولاحقاً التطلعات القومية التركية)، لكنها تبرز أيضاً السياق المعقد الذي نمت فيه تلك الطموحات إلى خطاب سعى إلى بناء الإمبراطورية على قدم المساواة مع الأوروبيين، إن لم تكن متفوقة عليهم، رغم افتقارها إلى التصنيع والتنمية الاقتصادية. تُفاقمُ هذه السردية أيضاً من حدة استمرارية الخطاب المعادي للاستشراق عبر هذين الحقبتين المختلفتين من التاريخ التركي.
تجمع جيليك نصوصاً من أجناس مختلفة، من الروايات والقصائد إلى المقالات الصحفية والأطروحات الأكاديمية التي كتبها مثقفون في أواخر العهد العثماني وبدايات العهد الجمهوري التركي. تمت ترجمة المصادر الرئيسية، بدءاً من أعمال الكُتَّاب البارزين أمثال نامق كمال Namık Kemal، وأحمد هاشم Ahmet Haşim، وخالد ضياء أوشاكليجيل Halid Ziya Uşaklıgil، وخالدة أديب أديفار Halide Edip Adıvar، إلى أعمال شخصيات أقل شهرة مثل الصحفيين أبو ضياء Ebüzziya وأرجومنت أكرم Ercüment Ekrem، إلى اللغة الإنجليزية من قبل آرون آجي Aron Aji وغريغوري كي Gregory Key. تزعم جليك أن هذه المواد المتنوعة “أدت بشكل طبيعي إلى تصنيفها في خمس فئات: المعارك الكبرى، والفن كمقياس للحضارة، والمرأة “الشرقية ” والحياة المنزلية، والحالة الفريدة لبيير لوتي Pierre Loti، والسخرية كانتقام”. يوفر هذا التنظيم الثيمي مدخلاً مثالياً لفهم كيف استقبل المثقفون العثمانيون والأتراك المواقف الاستشراقية للباحثين والكتاب والرحالة الأوروبيين وقاموا بالرد عليها. وفيما كانوا يحاولون إيجادَ طرقٍ لتصحيح الجهل الأوروبي عن الثقافة والحياة العثمانية، سعوا كذلك إلى معالجة أوجه القصور الخاصة بهم فيما يتعلق بالحفاظ على أرشيفهم الثقافي وتوسيع البحث في الفن والعمارة العثمانيين. ساخرين من سُخْفِ/ عدم كفاءة المستشرقين الأوروبيين، كافحَ هؤلاء المثقفون (العثمانيون والأتراك) لفهم أصول ثقتهم الغريبة في مفاهيمهم الرومانسية عن هوية ونمط حياة الشعوب “الشرقية”.
الاختيار الأول في فصل “المعارك الكبرى” هو أيضاً عنوان كتاب جليك: “أوروبا لا تعرف شيئاً عن الشرق” الذي هو في الأصل لنامق كمال، والذي كانت أفكاره تكوينية في بناء الهوية القومية التركية. وفي حين أن المقال قصير، إلا أنه يعبر عن موضوعات مشتركة بين العديد من النصوص. وفقاً لـ كمال، هناك عدد من الأسباب جعلتْ الأوروبيين، المتقدمين جداً في العلوم والمعرفة، يفشلون في إدراك “شخصيتنا الحقيقية”، والتي هي قريبة جداً إليهم”. أولاً، من الممكن أنهم لا يستطيعون الوصول إلى مصادر وافية حول العثمانيين، أو أن مزوديهم المحليين بالمعلومات، الأقليات الإثنية للإمبراطورية الذين يعملون كمترجمين لهم، يضللونهم. ثانياً، لقد انخدعوا بالحكايا الخيالية عن الإمبراطورية العثمانية، مثل الفانتازيات الرائجة للروائي الفرنسي من القرن التاسع عشر بيير لوتي Pierre Loti (موضوع قسم كامل في هذا الكتاب). ثالثاً، نشر بعض الباحثين، مثل إرنست رينان Ernest Renan، عن وعي أفكاراً مضللة، انتشرت على نطاق واسع، عن الإسلام والإمبراطورية العثمانية. وأخيراً، فإن درجة إتقان العلماء الأوروبيين للغات ذات الصلة- التركية والفارسية والعربية- بشكل عام هو لأمر مضحك رغم تفاخرهم بذلك، ما يجعل من المتعذر عليهم فهم موضوعهم.
عبَّرَ مثقفون عثمانيون مثل أحمد مدحت Ahmet Mithat عن صدمتهم من أن الأوروبيين “المعروفين بإجراء بحوثٍ جادة” لم يَتَحَرَّوا الشرق على النحو العلمي ذاته. بالنسبة لـ كمال، فإن المشكلة تكمن في أن المستشرقين “يقاربونَ الإسلام كما لو أنه هواية ممتعة، كما يفعلون مع نظم المعتقدات لدى بعض القبائل المتوحشة”. الحل لهذه المشكلة، وفقاً لمعظم النصوص التي تم جمعها في الكتاب، هو إما أن يتقن الأوروبيون لغات الشعوب التي يدرسونها أو أن يقوم العثمانيون الذين يعرفون اللغات الأوروبية بتنوير محاوريهم الأوروبيين. بالنسبة لباحثين آخرين مثل شوكت ثريا Şevket Süreyya وجلال إسعاد Celal Esad وإسماعيل حقي Ismayıl Hakkı فإن البحث الأعمق والإنتاج البحثي حول التاريخ والفن العثماني والتركي لن يصحح فقط الأخطاء التي تم ارتكابها من قبل الباحثين الأوروبيين، بل سيمكن أيضاً من اتباع مقاربة لامركزية أوروبية من تاريخ الإمبراطورية العثمانية.
لكن هكذا دراسات أعادت أحياناً إنتاج تراتبيات هرمية استعمارية من خلال التباهي بالحضارة العثمانية والتركية وتفوقها على حضارات العرب والفرس والأفارقة، كما هو الحال مع التراتبية الهرمية للفنون لجلال إسعاد، والذي يضع فن العمارة العثمانية في مرتبة أعلى من العمارة الفارسية والعربية. وفقاً لـ نامق كمال، فإنه وبمجرد إجراء المزيد من الأبحاث وإتاحتها للأوروبيين، فإن العالم سوف يرى “رفعة العثمانيين البطولية وجمال أخلاقهم”، وهو ما يعني إحسان الدولة العثمانية كإمبراطورية فريدة من نوعها، إذ تسمح لرعاياها بممارسة طقوس دياناتهم والتحدث بلغاتهم، مع التعهد بتأمينهم من أي اعتداء على أساس العرق أو الدين أو الإثنية. ما يمكن تسميته بـ “الاستثنائية العثمانية” هي في الأساس خطابٌ إمبريالي يحتل مكاناً بارزاً في النقاشات حول وضع المرأة، وأيضاً وضع الرق المنزلي في الإمبراطورية العثمانية. تتضمن مختارات من كتاب فاطمة عليه Fatma Aliye “نساء الإسلام” (1896)، على سبيل المثال، إدّعاء المؤلفة بأن النساء في الإمبراطورية العثمانية يتمتعن بمكانة اجتماعية أعلى من نظيراتهن الأوروبيات، بالإضافة إلى تبرير المؤلفة للاستعباد المنزلي للنساء الشركسيات.
نقطة الجدال الأخرى لدى المثقفين العثمانيين هي إصرار المستشرقين على أن الشرقيين لا يستطيعون تعلّم أفكار جديدة أو حتى فهم ثقافتهم الخاصة. يصرح نامق كمال في هذا السياق: “لأننا مسلمون على ما يبدو، فإن لدينا حلقة حديدية مثبتة بإحكام حول رؤوسنا، وهذه الحلقة تبقي عقولنا مغلقة أمام جميع أشكال المعرفة، وجميع أشكال التعلم، وجميع أشكال الأفكار الجديدة، وما زلنا لا نعرف ذلك حتى! “. ساخراً من هذا الموقف، كتب عمر سيف الدين Ömer Seyfettin في عام 1919 قصة رحالة فرنسي يرغب في التعرف على أوجه الحياة خلف الأبواب المغلقة للمنازل العثمانية، ويحظى أخيراً بفرصة قضاء ليلة في منزل مُرضعة الراوي. بينما يستكشف الرحالةُ المنزلَ ليلاً، يعثرُ على غرفة هي في الواقع عبارة عن مرحاض وغرفة غسيل في آن، لكن الرحالة الفرنسي يُصِرُّ رغم ذلك على أنها ملجأ سري ويدَّعي أن: “حتى غرف الأمتعة لديك فيها شيء غامض، شيء مبهم، جو مقدس”. ويقول الرحالة الفرنسي للراوي الساخر: “أنت أعمى عنها […]. من الواضح أنك لا تستطيع الرؤية”.
بتعبيرٍ آخر، فإن الشرق بالنسبة للمستشرق هو، أو يجب أن يكون، أرضاً مقدسة وغامضة يسكنها شعب ليس لديه أي فكرة عن تاريخه، ولا توجد لديه وسيلة للتعرف على نمط حياته. وكما قال أحمد هاشم في كتابه “مأوى اللقالق”، فإن “ذهول المستشرقين حيال أعمالنا الفنية” يُظْهِرُ استخفافاً مثيراً بالذكاء المحلي- بالنسبة للمستشرق “إنه لأمر مدهش أننا صنعنا شيئاً جميلاً”. يرد غريغوار بايل Gregoire Baille، مالكُ “مأوى لقالق” في مدينة بورصة، على هذا الرأي بأكثر الطرق تحيزاً ورومانسية من خلال الادعاء بأن التكنولوجيا التي أدت إلى افتتاح قناة بنما هي أقل جدارة بإثارة حماسه من صناعة يدوية شرقية! بينما يستدعي بايل التقدم التكنولوجي الأوروبي كأمر طبيعي، فإن رده يقلل من شأن الموضوعات الشرقية إلى درجة بدائية- كما لو أنه لم يتم إحراز أي تقدم منذ أيام البابليين، وكما لو أن الشرق نفسه عبارة عن قطعة أثرية قديمة حية وتتنفس.
تشهد النصوص المختارة بعناية والمُترجمة بقدرٍ من الكفاءة في هذا الكتاب على ظهور وترسيخ الاستشراق الأوروبي من منظور موضوعاته. يدعو كتاب جيليك القرّاء إلى التفكر ملياً في تورط الشرق نفسه في إنتاج خطابٍ استشراقي- على سبيل المثال، في طرح الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية ذاتهما كهيئات حاكمة استثنائية، كانت في حاجة دائمة أحياناً إلى إقرار من أقرانهم الأوروبيين بذلك، بينما في أحيان أخرى كانت الدولة العثمانية/ الجمهورية التركية تتوافق مع الشعوب المُسْتَعْمرَة التي تكافح ضد الاستعمار الأوروبي.
الكتاب “أوروبا لا تعرف شيئاً عن الشرق” هو في نهاية المطاف دعوة للبدء في التحقيق في الاستشراق من الضفة الأخرى، من منظور “الشرقيين”، مع كل ما يترافق مع ذلك من تعقيدات وتناقضات.
*عائشة أوزغه كوجاك هيمات A. Ozge Kocak Hemmat: حاصلة على درجة الدكتوراة من جامعة Northwestern University، باحثة مستقلة وإدارية جامعية من شيكاغو، ومؤلفة كتاب “الرواية التركية والبحث عن العقلانية”.