يعتبر فن الدراما التلفزيونية أحد أهم الفنون التي حافظت على قدرتها على التأثير في الساحة الثقافية والاجتماعية عموما، خاصة بعد تراجع الوسائل الأخرى من سينما ومسرح، وانخفاض جمهور القراء في مجتمعاتنا، نتيجة ضغوط الحياة، ولهاث الناس خلف لقمة العيش ليلا نهارا .
وقد شهدت الدراما السورية تطورا غير مسبوق منذ أواخر القرن الماضي، وصولا إلى العشرية الأولى من القرن الحالي، سواء من حيث الكم أو من حيث الجودة والانتشار على الساحة العربية، وليس أدلّ على ذلك من الشريحة الاجتماعية الواسعة التي باتت الدراما مصدرا لرزقها ومعيشتها؛ إذ فاقت العشرين ألف شخص في مختلف الاختصاصات، بحيث أصبح العمل الدرامي أحد مصادر الدخل الوطني.
وقد استطاعت الدراما السورية تحقيق هذه النجاحات نتيجة توافر عوامل عدة في مقدمتها :
1- الجذور العميقة والتجربة الطويلة للفن الدرامي في سورية، منذ المسلسلات الإذاعية التي كان ينتجها الرواد الأوائل في هذا الفن كـ(حكمت محسن وتيسير السعدي) في خمسينيات القرن الماضي، وعلاقتها بتجربة الحكواتي في المقهى الدمشقي، الأمر الذي أفضى إلى وجود تربة خصبة لنمو هذه الظاهرة وازدهارها في البيئة الشامية.
2- توافر عدد كبير من الكوادر الفنية المبدعة سواء فيما يتعلق بالإخراج، أو بالتمثيل، أو بالكتابة الدرامية، أو بباقي الاختصاصات غير المرئية والمهمة في نجاح العمل الدرامي، كالموسيقا التصويرية، والديكور، وغيرها.
3- تدفق الرساميل باتجاه تمويل الإنتاج الدرامي باعتباره مضمون الأرباح، خاصة بعد النجاحات الأولية التي تحققت في حقبة الثمانينيات، وقدرة الدراما السورية على منافسة الدراما المصرية على الساحة العربية بجدارة واقتدار، مما أفضى إلى زيادة الإقبال على المسلسلات السورية من قبل المحطات التلفزيونية العربية بشكل عام.
4- قدرة الدراما السورية في التعبير عن هموم المواطن البسيط، ومعالجة مختلف المشاكل المرتبطة بالمجتمع السوري والمجتمع العربي عموما، على الرغم من وجود الرقيب؛ وذلك من خلال المواربة والمخاتلة والترميز من جهة، أو من خلال الهروب إلى الماضي من جهة ثانية.
وقد اتسعت مساحة الأعمال الدرامية في العقد الأول من القرن الحالي، أي قبل انطلاق الثورة السورية في الخامس عشر من شهر آذار /مارس 2011؛ بحيث لايتسع المجال لاستعراضها جميعا في هذه العجالة، لذلك سوف أختار ثلاثة نماذج تعبر عن اتجاهاتها عموما من ناحية المضمون، أو الهدف المرتجى الذي تريد هذه المسلسلات إيصاله إلى المشاهد من جهة، مع كشف علاقتها بالثورة السورية من جهة ثانية، وهي :
1-مسلسل (يوميات مدير عام )، وقد تم إنتاج الجزء الأول منه في عام/1995/، أما الجزء الثاني فقد تأخر إنتاجه إلى عام /2011/، وهومن تأليف زياد الريس، وإخراج هشام شربتجي، وبطولة الفنان أيمن زيدان والفنانة دارين، مع نخبة من نجوم الدراما السورية، كزهير عبدالكريم والمرحوم خالد تاجا، وبسام لطفي وآخرين.
يتناول هذا المسلسل موضوع الفساد المستشري في مختلف الدوائر الحكومية، والفكرة الجوهرية التي يحاول تسويقها بقالب كوميدي، هي أن الفساد حالة متأصلة في المجتمع السوري، فالشعب مفطور على الفساد، وتحاول الحكومة ممثلة بالمدير العام (أدى دوره أيمن زيدان)، ومن خلفه الوزير، أن تحارب الفساد المستشري فيها من خلال هذا المدير النظيف الذي يحاول أن يتقمص عدة شخصيات من أجل إخفاء شخصيته الحقيقية، فمرة يتقمص شخصية مراجع، وأخرى شخصية مستخدم، ويساعده في ذلك صديقه حسان (زهير عبد الكريم) وحاجبه أبوصالح (سعد الدين بقدونس)، إلا أن جميع محاولاته قد باءت بالفشل، فالفساد المتأصل في المجتمع حال بينه وبين تحقيق هدفه، وتأتي أغنية الشارة لتؤكد هذه الحقيقة : (عوجة والطابق مكشوف) و(تيتي تيتي… رحتي متل ماجيتي). وهكذا يقوم المسلسل بتبرئة ساحة الحكومة والسلطة من موضوع الفساد، ويحملها للناس، كما يقوم بالتعمية على دور السلطة في نشر ثقافة الفساد، وجعلها مهيمنة على الساحة الاجتماعية من خلال مكافأة الفاسدين بترقيتهم واستبعاد كل من لم تتلطخ أيديهم بالفساد عن مواقع المسؤولية.
إن إعادة إنتاج الجزء الثاني في /2011/، وكانت بوادر الأزمة قد بدأت تلوح في الأفق مع إرهاصات الثورة القادمة لهو دليل على وعي الجهة المنتجة والمسوقة بأهمية الدراما التلفزيونية، ودورها في تشويه وعي الناس بواقعهم الاجتماعي من جهة، وإدراكها لنجاح المسلسل بشكل خاص في تنفيس حالة الاحتقان في الشارع، من خلال الطابع الكوميدي لحلقاته، علما أن الجزء الأول قد تم عرضه أكثر من مرة.
2- المسلسلات التاريخية عموما، التي عكف على إخراجها المخرج الشهير بسام الملا، بدءاً من مسلسل (أيام شامية) /1992/ مروراً بمسلسل ( الخوالي) /،2000 ومسلسل (ليالي الصالحية) /2004، وانتهاء بمسلسل (باب الحارة)، الذي أنجز منه خمسة أجزاء امتدت من /2006/ وحتى / 2010 / على التوالي، ولن أتحدث عن الأجزاء التالية للجزء الخامس؛ لأن هذا المقال يتناول الدراما السورية قبل عام / 2011/.
تدور أحداث هذه المسلسلات في الحارات الدمشقية القديمة، وفي فترة الاحتلال العثماني بشكل عام، وفترة الاحتلال الفرنسي في بعض الحالات، وتصور أوضاع الناس في تلك الفترة، وأشكال المقاومة التي كانوا يبدونها ضد الوجود الأجنبي في بلدهم، من خلال التحايل أحيانا والتضامن الأهلي أحيانا أخرى، والمواجهة المباشرة مع هذا المحتل أحيانا ثالثة، ولأن هذه المسلسلات كانت تعالج مرحلة تقع خارج زمن السلطة الحالية لذلك لم تكن تشكل أي حرج لها، لا بل إنها شجعتها طالما أنها تعتقد بأن ذلك يندرج في إطارمفهوم الوطنية وفق تعريفها لها كـ(مقاومة للأجنبي) حصراً، وبما يخدم ايديولوجية المقاومة والممانعة التي لطالما استمدت شرعيتها منها. إلا أن للمسألة وجهاً آخر أكثر عمقا وأصالة من الوجه الظاهري الذي ذكرناه، فهذه المسلسلات استطاعت أن تحقق أهدافاً أخرى من خلال:
أ– إعادة الاعتبار للذات الفردية للإنسان السوري عموما والدمشقي بشكل خاص، هذه الذات التي عمل الاستبداد على سحقها وقتلها عبر خمسين عاماً من التدجين والإذلال، وهدر الكرامات، وإلغاء التاريخ السابق على هذا النظام، إذ أتيح للمشاهدين أن يروا كيف كان آباؤهم وأجدادهم رجالا، وسادةً لمصيرهم، ولم يرتضوا حالة الاستعباد التي أريد فرضها عليهم من قبل المستمعر الأجنبي.
ب– إعادة إحياء مفهوم البطولة، الذي حاولت وسائل الإعلام التعمية عليه، ومحوه من ذاكرة الناس، من خلال تزييف تاريخ سوريا الحديث، وجعله يبدأ مع الاستبداد وسلطته، واحتكار رأس النظام لدور البطولة من جهة ثانية، والزعم بأنه هو البطل الوحيد، والثائر الوحيد، والمقاوم الوحيد.
إن مشاهد رجال الغوطة وهم قادمون لنجدة دمشق وناسها من ضيم أو عسف، على خيولهم الضامرة وصيحاتهم (يلا يا رجال) ليبعث النشوة والفخار في كل حر شريف، وينفض طبقات من الذل والهوان والجبن عن كاهله التي تراكمت بفعل السنوات التي عاشها الإنسان السوري في ظل الاستبداد، وقد تركت هذه المشاهد أثرها في شخصية أبناء دمشق وريفها والشباب المنتفض في كل الساحات، فقدم شباب الثورة صوراً من الصمود والبسالة قل نظيرها، في مواجهة العنف والقتل المنفلت من أي عقال، ولم يزدهم هذا العنف إلا إصرارا على مطالبهم وتمسكا بشعارهم الخالد: (الموت ولا المذلة).
ج– إعادة الاعتبار للمجتمع الأهلي بشخصياته التاريخية المعروفة كـ ( العقيد) و( الكبّارية) و(العضوات)، وبقيمه الأخلاقية المهيمنة كـ (النخوة) و (الكرامة) و(التضامن) و(التشاور) و(الحوار) و( الاستعداد للتضحية في سبيل المجتمع)، هذا المجتمع الذي وإن كان دون مستوى المجتمع المدني الحديث، إلا أنه أفضل بما لايقاس من مجتمع الخوف وانعدام الكرامة الذي خلقه الاستبداد المديد، وعمل على تسييده.
وقد كان من حسن حظ المشتغلين بالدراما التلفزيونية أن عين الرقيب غفلت عما يمكن أن تشكله هذه المسلسلات من تحريض وتعبئة ضد الأوضاع السائدة، لأنه لم يكن يرى أبعد من القشرة والظاهر، ممّا سهّل مرور هذه المسلسلات وأشباهها، فبالنسبة إليه طالما أنها لاتعالج المشاكل الراهنة بشكل مباشر فهي مقبولة ولا مانع من عرضها، لنتذكر كيف أوقف مسلسل (حمام القيشاني) للراحل هاني الروماني عندما حاول الاقتراب من مرحلة الاستبداد.
ولاشك في أن بعض المسلسلات التاريخية عملت على تشويه صورة المجتمع الدمشقي والمرأة الدمشقية من خلال الإغراق في المحافظة والرجعية، وتصوير المرأة بوصفها(حرمة) وعضواً قاصراً في المجتمع، وخاصة في الحلقات الأخيرة من (باب الحارة) التي أعقبت /2011/، وقد استغل بعضهم هذا النوع من المسلسلات لتشويه صورة الحارة الدمشقية كمسلسل (وردة شامية)/ 2017/ الذي يصور سكان الحارة بصفتهم مجرمين وقتلة ناسخاً تجربة (ريا وسكينة) المصرية، والتي تبدو بعيدة كل البعد عن الحارة الدمشقية الأصلية وقيمها.
3- مسلسل( ضيعة ضايعة) من تأليف الدكتور ممدوح حمادة، وإخراج الليث حجو، وإنتاج (سامة) للإنتاج الفني، والذي أنتج الجزء الأول منه في عام /2008/
وألحق به الجزء الثاني في عام /2010/، نظرا للنجاح الذي حظي به الجزء الأول، وهو في تقديري عبارة عن كوميديا سوداء، وتدور أحداثه في قرية صغيرة منقطعة عن العالم، لم تصل إليها الثورة الرقمية بعد، وتلك مفارقة سوداء بحد ذاتها، لكن الأهم من ذلك في تقديري هو أن جميع الشخصيات في هذه القرية، التي هي صورة مصغرة عن البلد المعزول بدوره عن العالم، أقول: إن الأهم هو أن جميع الشخصيات في هذه القرية تبدو متخلفة عقليا، أو فاقدة لحالة الرشد، بحيث يتفاجأ المشاهد بردود أفعالها وتصرفاتها التي تفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية، وهذا مايجعل المسلسل الكوميدي مضحكاً مبكياً في آن معاً، ولايفوت كاتب المسلسل أن يمثل كل فئات المجتمع في مجتمع القرية المصغر، بدءاً بالمنتجين البسطاء (اسعد وجودي) وزوجتيهما (بديعة وديبة)، إلى السلطة وممثليها رئيس المخفر(أبو نادر) الذي لاهم له إلا إشباع معدته التي لاتشبع، إلى (المختار) رمز السلطة الأهلية، الذي لم يبق له إلا الاسم، إلى الدكنجي (صالح)، ثم إلى المثقف الغارق في همومه الذاتية (سلينغو) والذي لم ينل من الثقافة إلا قشورها، إلى المسؤولين القادمين من مركزالمحافظة، الذين لم يروا من القرية إلا موقعها وجمالها، فآثروا استغلال موقعها في بناء فيللا جميلة، ولم ينظروا في قضايا الناس وهمومهم، ولعل من اللافت غياب الطفولة والأطفال وهم رمز المستقبل، ولا ندري إن كان ذلك مجرد مصادفة أم هي مقصودة من كاتب المسلسل تعبيرا عن غياب المستقبل وانسداد الآفاق أمام هذا المجتمع، ومن خلال سلسلة من الحلقات والمواقف يكشف الكاتب هذا الكم الهائل من العبث واللامعقول الذي تعيشه هذه القرية، والحالة المزرية التي وصل إليها المجتمع السوري عموماً بفعل الاستبداد المديد الذي خضع له، ولعل الحلقة المعنونة بـ (تملق) مثال فاقع عن ذلك، وتبين الحلقة المذكورة أن الحكومة تقرر منع التملق في الوطن كله، وتسمح بالتعبير عن الرأي بكل شفافية، وتتوقع أن يلقى هذا القرار ترحيبا من المواطنين في القرية، لكن قرارها يحدث حالة من البلبلة والارتباك في مجتمع القرية الصغير، فالناس الذين تعودوا على التملق عقوداً من الزمان، واستمرؤوا هذه الحالة لا يعرفون ما هي حقوقهم، ولا يعرفون كيفية التعبير عن آرائهم، لكي يطالبوا بها، والذي يحكم تصرفاتهم هو الخوف من غضب الحكومة، وبما أن التملق كان وسيلتهم في درء هذا الغضب، لذلك قرروا العمل به اتقاء لإغضاب الحكومة، ثم تبين لهم أن هذا القرار كان فخا للإيقاع بهم، وكشف سريرتهم، ولذلك آثروا أن يعودوا إلى تملق الحكومة من جديد اتقاء لغضبها، وفضلوا أن يوضعوا جميعاً في السجن عقاباً لهم؛ لأنهم لم يستطيعوا التعبير عن رأيهم.
وفي ظني أن الكاتب قد وضع يديه، في هذه الحلقة بالذات، على جوهر ما يعانيه المجتمع السوري من أزمة، وأكد حاجة هذا المجتمع للتعبير عن رأيه، وعيش حياة كريمة تليق بالبشر، وهو ما برهنت على صدقه التظاهرات التي انطلقت في 15 آذار /2011/.
لقد أراد الكاتب أن يعبر عن الحالة الطفولية، وعدم النضج التي كانت سائدة في المجتمع، والذي أوصله إليها الاستبداد المعمم والمديد، والذي لايمكن أن يفضي إلا إلى الخراب الذي وصلنا إليه، ولعل الموسيقا التصويرية التي وضعها الفنان طاهر ماملي في مقدمة المسلسل ونهايته ترشح بهذا، إذ صورت حالة الحزن المترافقة مع صورة أهالي القرية المنتجين، وهم يحملون معاولهم وعصيهم للتعبير عن المرارة التي يشعرون بها، منبهين إلى أن ذلك لا يمكن أن يستمر، إذ لم يعودوا قادرين على تحمل شظف الحياة وما فيها من مآس، ولا سيما أنهم يملكون ما يرشح بإمكانية تحسينها، فقريتهم مفعمة بالمناظر الخلابة، وتنضوي على خير كثير، وهناك تناقض صارخ بين الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها، وبين نمط الحياة المزري الذي تعيشه، وإذا كان سكانها عاجزين عن استثمار ما تختزنه من إمكانات هائلة فذلك لا يعود إليها، وإنما يعود إلى السلطة التي لم تتخذ أي إجراء لتحسين حالها، وتطويرحياة سكانها إلى نمط أرقى وأفضل، وهو تلميح أكد فيه كاتب المسلسل أن السلطة عاجزة عن بناء وطن سليم عزيز ومعافى يتيح للإنسان أن يرتقي بإنسانيته إلى أفضل مستوى ممكن.
في الختام نستطيع القول: إن الدراما السورية قد لعبت دوراً مهماً في التأثير في الوعي الاجتماعي للمجتمع السوري سلباً أم إيجاباً، وهي ليست مطالبة بصناعة الثورة، ولكنها ساهمت بالتوازي مع نضج واختمار الشروط الموضوعية في المجتمع في امتلاك رؤية موضوعية للواقع، وتحفيز الناس للمطالبة بتغيير ظروف حياتهم نحو الأفضل، ولعله من المفيد الإشارة إلى أن غياب النقد الدرامي كان عاملاً كابحاً ومثبطاً في إيصال موضوعات الدراما وأفكارها إلى عموم الناس، وقلل بالتالي من قدرتها على التأثير في حياتهم ونشاطهم.