الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط

شارك هذا المقال:

حوارات شرق- أوسطية
الأقليّات المسيحيّة في الشرق الأوسط
ترجمة: عمر رسول

جورج هينتليان • تأملات حول المسيحيين في القدس
بالسلام وحده يستطيع المسيحيون هنا أن ينهضوا وينبعثوا من جديد في بيئتهم الطبيعية في الشرق الأوسط الكبير.

سعد الدين إبراهيم • ثقافة الإنكار عند العرب
يبدو أن وضع المسيحيين في سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين أفضل من وضعهم في مصر.

حبيب مالك • محنة المسيحيين العرب ومستقبلهم
يُعرَف مسيحيو الشرق الأوسط بحكايتين تاريخيتين متميزتين هما: حكاية الخضوع، وحكاية الحرية.

رنا صبّاح كركور • مسلمو الأردن ومسيحيوه يواجهون نفس التحديات

إنّ المسيحيين في الأردن محشورون بين صخرة “الحرب على الإرهاب” التي تقودها الولايات المتحدة، ومتطلبات واقعهم القاسي التي تفرض عليهم أن يذكّروا مواطني بلدهم بأن الغرب ينظر إليهم كعرب في المقام الأول والأخير.

________________________________________
تأملات حول المسيحيين في القدس
جورج هينتليان

امتازت الأقلية المسيحية في فلسطين دائماً بوضع متميز، حيث نصت جميع المراسيم التي صدرت بدءاً من حكم الإمبراطور قسطنطين وانتهاءً بحكم السلاطين العثمانيين مروراً بعهد الخليفة عمر، على احترام حقوق الكنائس المختلفة، وبطاركتها، واحترام حقوق التجمعات المسيحية المحلية.
بالمقابل، وبالاعتماد على الحكام والظروف السياسية، كانت الكنائس نفسها قادرة أن تلعب أدوارها السياسية الخاصة، وتمارس نفوذها إمّا بشكل علني أو سرّي.
و في القرن الأخير شهدت التجمعات المسيحية هنا بعض التغييرات الأكثر عمقاً حتى بمعايير تاريخها العاصف جداً.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شهدت فلسطين عموماً وكل من القدس ويافا خصوصاً ازدهاراً استثنائياً. لقد ظهرت الأنماط الحضرية الحديثة فضلاً عن الزيادة الحادة في السكان. وكانت هناك أيضاً زيادة في عدد المؤسسات المسيحية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد أدى الوصول المتزايد إلى الثقافة الغربية الموجهة إلى السكان المسيحيين المحليين إلى تغييرات سكانية متصاعدة، كالازدياد في الثروة، وهجرة المسيحيين الأغنياء من البلدان المجاورة إلى فلسطين (بشكل رئيسي من الناصرة وعكا ويافا).
وشهد الرخاء الاقتصادي زخماً أثناء الانتداب البريطاني، ولكن جاءت حرب عام 1948 لتضع حداً له. إنّ نزوح الآلاف من الفلسطينيين في تلك الحرب أثرّ على الجميع، وقد تراجع مع هذا النزوح، الحضور المسيحي في كل من يافا وحيفا بشكل مثير. كما أصبح العديد من المسيحيين الأغنياء لاجئين، وفقدوا بيوتهم وأعمالهم بين ليلة وضحاها.
لم يتعافى مسيحيو فلسطين (كمّاً ونوعاً) من هذا النزوح الجماعي. لقد توقّف نموّهم السكاني، ولم يستعيدوا نشاطهم الثقافي البتة. وبينما شهدت سنوات الخمسينيات برامج واسعة لإعادة التأهيل، واصل الكثير الهجرة إلى المناطق الغربية من أجل المراعي الأكثر خضرة.
وجاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس عام 1967 ليشكّل فاتحة لمرحلة جديدة. وربما كان التقدير المغالي لنفوذ الكنائس وتأثيرها على الصعيد العالمي، هو الذي جعل من إسرائيل أن تتبنى سياسة محسوبة بشكل جيد تعطي الانطباع إلى العالم بأن المسيحيين الموجودين في الأراضي المحتلة يعاملون بإنصاف. وتعهدت إسرائيل بموجب إعلان رسمي في الكنيست عام 1967 أن تنظر إلى الوضع الراهن للتجمعات المسيحية كما كانت الحكومات والحكام السابقين ينظرون إليها. وعلى مدار أربعة عقود من الاحتلال لم تتدخل إسرائيل في الشؤون المتعلقة بالأماكن المسيحية المقدسة، بل أنها تركت الخيار للتجمعات المعنية أن تحل مشاكلها وخلافاتها.
في الحقيقة، بذلت السلطات الإسرائيلية في العقدين الأولين من احتلالها كل ما في وسعها لمدّ يد العون إلى الكنائس المسيحية. وتم تأسيس مكاتب الاتصال بين الكنائس وسلطات الاحتلال للتعامل الفوري مع المسائل العملية التي خلقتها ظروف الاحتلال. وضمنت هذه الخطوة بقاء خطوط الاتصال مفتوحة بين السلطات والقيادة الإكليركية.
وهكذا، شجعت السلطات قيادة الكنيسة على لعب دور الوسيط في هذه الفترة الانتقالية، حينما كانت الحياة اليومية تعجّ بالإجراءات البيروقراطية. فأصبحت التجمعات تعتمد أكثر فأكثر على قيادة كنيستها لحلّ مشاكلها اليومية. وبدورها أقامت الكنائس علاقات وثيقة بالدولة للحصول على الامتيازات لتجمعاتها.
وغيرت الانتفاضة الأولى الصورة مرة أخرى. فأصبحت الكنائس والتجمعات المسيحية العادية أكثر نشاطاً في السياسة اليومية. وشارك العديد من المسيحيين بنشاط في الانتفاضة، وأصدرت الكنائس البيانات والمواقف العلنية ضد الاحتلال وضد الإجراءات الإسرائيلية لمحاربة تلك الانتفاضة.
ومنذ ذلك الحين بدأت العلاقات بين الكنائس ودولة إسرائيل تشهد انحطاطاً مستمراً. حيث قمعت بعض مكاتب الاتصال أو فقدت زخمها، وهناك الكثير من القضايا المعلّقة تنتظر الحلّ. فعلى سبيل المثال، لم تحاول إسرائيل تنظيم أو إنهاء الإعفاءات الضريبية التي لا تتجزأ عن العمل اليومي للمؤسسات المسيحية (كمنظمات غير ربحية)، وحتى هذا التاريخ لم تعطِ إسرائيل أي وعد رسمي إلى الفاتيكان بتحقيق ذلك.
بلا شك، تسيّست الكنائس وصارت تتابع التطورات السياسية بشكل مباشر. وبسبب هذا التدخل المتزايد في السياسة، بدأت التوترات تزداد أكثر من ذي قبل مع السلطات الإسرائيلية.
للتجمعات المسيحية مصلحة شخصية واضحة في المحادثات المتعلقة بالوضع النهائي لمدينة القدس. لقد عارضت الكنائس بوضوح مقترحات كامب ديفيد بخصوص تقسيم المدينة القديمة على أساس الأحياء، وأصرّت بدلاً من ذلك على وحدة المدينة القديمة لضمان حرية التنقل والوصول إلى الأماكن المقدسة.
في الواقع، تشابكت مصائر الكنائس هنا على نحو معقد ببقاء التجمعات المسيحية المحلية. إن العدد الإجمالي للمسيحيين في تناقص الأمر الذي يحمل معه الكثير من القلق. لذا فالكنائس تحاول معالجة الأمور وتعبئة المصادر لتقديم شروط حياتية معقولة لاستئصال النزوح الجماعي. لكن حلاً سلمياً للنزاع الدائر من شأنه أن يحرر الكنائس من الانخراط في العمل السياسي الذي تورطت فيه، ويهيئ لها الفرصة أن تكرّس مصادرها للقضايا المتعلقة بالأمور الإكليركية وبأمور تجمعاتها المسيحية.
وطالما أن هذه الحالة قائمة، فأن الكنائس والتجمعات المسيحية تواجه أكثر التهديدات خطورة على وجودها. وبالسلام وحده يستطيع المسيحيون هنا أن ينهضوا وينبعثوا من جديد في بيئتهم الطبيعية وينضموا إلى أخوتهم في الشرق الأوسط الكبير.

جورج هينتليان هو مؤرّخ القدس، ومؤلف ثمانية كتب، من ضمنها كتاب: “التراث المسيحي في الأرض المقدسة”.

________________________________________

ثقافة الإنكار عند العرب
سعد الدين إبراهيم

نظّم مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية في مقره في القاهرة قبل عشر سنوات مؤتمراً حول “الأقليات في العالم العربي”. وما أن صدرت الدعوات إلى المؤتمر حتى اندلعت عاصفة من الاحتجاجات. وكان في قيادة الهجوم على مركز ابن خلدون الصحفي المصري البارز محمد حسنين هيكل، رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام العربية اليومية التي تعتبر من كبريات الصحف وأقدمها في الوطن العربي، والمقرّب جداً من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. طُرِد هيكل من عمله من قبل أنور السادات في شباط 1974، وبذلك حُرِم القرّاء النهمون من افتتاحيته الأسبوعية “بصريح العبارة” ذات الصفحة الواحدة التي كانت تصدر في كل يوم جمعة بشكل مستمر على مدار السنوات الـ20 السابقة.
ولكن سمح لهيكل أن يعود لينشر هجومه على مركز ابن خلدون ومؤتمر الأقليات. لم تكن العلاقات بين هيكل والدولة المصرية جيدة منذ أن طرد من عمله، ولكنهما اتفقا فجأة في الرأي على قضية الأقليات بشكل عام وقضية أقباط مصر المسيحيين بشكل خاص.
إن حجة هيكل هي أنه لا توجد قضية للأقليات في الوطن العربي. وكل من يقول ما عدا ذلك، طبقا لرأيه، ينفّذ أجندة غربية، وبشكل أساسي أمريكية، لتمزيق الوطن العربي إلى طوائف لإضعاف الأمة وتمكين إسرائيل من الهيمنة إلى الأبد. وقد اتهم هيكل في نفس المقالة بأن الولايات المتحدة خصصت 100 مليون دولار أمريكي سنوياً لمراكز البحوث الخاصة مثل مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية لتنفيذ المؤامرة الشريرة.
ومع أنه لم يتم تقديم أي دليل يثبت مزاعم هيكل، رفض حوالي ثلث المدعوين تلبية دعوة المؤتمر. وكتبت أكثر من 120 مقالة حول نفس الموضوع، وكلها تنكر أن تكون هناك مشكلة أقليات، وهاجمت المؤتمر وشككت بوطنية منظميه. ومن جهته أعلمَ مكتبُ أمن الدولة في مصر مركزَ ابن خلدون بأنه لن يؤمّن الحماية للمشاركين. ثم طلب عمر موسى، وزير الخارجية المصري، من المركز أن يلغي أو يؤجل المؤتمر لإنقاذ السلطات المصرية من ضغوطات “الدول العربية الشقيقة”.
وعقد المؤتمر، لكن ليس في القاهرة كما كان مخططاً له، بل في ليماسول في قبرص. إن هذه المقدمة الطويلة إلى حد ما كانت ضرورية لإظهار حساسية القضية من جهة، وخراقة المسؤولين والمثقفين العرب الذين وقفوا في وجه المؤتمر من جهة أخرى. لقد وصفت هذه المجموعة في مكان آخر بأنها عَرَض من أعراض ثقافة الخزي والنكران.
والآن إلى الأقليات المسيحية في الوطن العربي. إنهم يمثلون بين 7 إلى 10 بالمائة من إجمالي السكان، أي بين 21-30 مليون نسمة. إنّ هذه الأرقام هي موضع أخذ ورد بين الحكومات التي تقلّلها والناطقين الرسميين للأقليات الذين يزيدونها. إنّ الانطلاق من الأرقام التي أوردتها الإدارة الاستعمارية قبل قرن من الزمن، ومن ثم حساب الرقم النهائي وفقاً لنسبة النمو السكاني الطبيعي الخاص بكلّ بلدٍ يمكننا أن نصل إلى الرقم الأقرب إلى التقديرات، باستثناء حقيقة أن (1) المسيحيين يميلون بنسبة أعلى إلى الهجرة إلى أوروبا، والأمريكيتين، واستراليا، و (2) كونهم أكثر ثراءً وتعليماً، فإن نسبة النّمو الطبيعي عندهم أخفض قليلاً.
يعكس هذان التحذيران أيضاً الكثير من المشاكل التي غالباً ما يهمس المسيحيون بها في الوطن بينما يقولونها بصوت عالٍ في دول الشتات. إنهم على درجة تعليميّة أفضل، ويحتلون مواقع مهنية أكثر تخصّصية في قوة العمل، وأنهم مرتبطون أكثر ببلدانهم الأم، ويمتلكون دخول اقتصادية أعلى من دخول الأغلبية. ورغم هذه الحقيقة، لا يمتلك المسيحيون في معظم البلدان العربية سهماً متعادلاً من السلطة السياسية لأنّهم أقليّة.
إضافة إلى ذلك، ففي بلد مثل مصر حيث توجد فيه أكبر جالية مسيحية، يشتكي المسيحيون منذ أكثر من نصف قرن من التمييّز الرسميّ في بناء الكنائس الجديدة أو إصلاح القديمة منها، حيث لا يمكن القيام بأيّ من العملين إلاّ بمرسومٍ رئاسيّ مسبق، بينما يستطيع أي مسلم أن يبني أي مسجد في أي مكان حتى بدون الحصول على رخصة بذلك من البلدية. وبينما تخصص أجهزة الأعلام الرسمية الكثير من الوقت للطقوس والمراسيم الدينية الإسلامية، نجد أن طقوس نظرائهم المسيحيين تُهمل. وبنفس الطريقة، تتجاهل الكتب المدرسية 600 سنة من تاريخ مصر القبطية، فضلاً عن المساهمات المسيحية في فنّها، وثقافتها، وهندستها المعمارية.
لم يكتف المسيحيون في جنوب السودان بالهمس والكلام في قول شكواهم، بل لجؤوا إلى الكفاح المسلح من أجل المساواة مع الأغلبية المسلمة في الشمال. فمن أصل 50 سنة من تاريخ السودان المستقلة، شهدت 40 سنة منها حروباً، كلفت البلاد مليون قتيل، وثلاثة ملايين مجتثين من جذورهم ومرحّلون. لدى الجنوبيين قائمة طويلة من الشكاوى، تبدأ من التمييز العنصري العربي إلى توزيع الطاقة الكهربائية غير المتكافئة مروراً بالإهمال الاقتصادي والاجتماعي. وقد ساءت الظروف أكثر منذ الانقلاب الإسلامي في 1989، الذي حاول أن يفرض قوانين الشريعة الإسلامية على الجنوبيين غير المسلمين.
وفي الطرف الشرقي من العالم العربي، بالكاد يسمع بالمسيحيين العراقيين، سلباً أو إيجاباً، طوال العقود الأربعة من حكم حزب البعث. بالرغم من حقيقة أن مسيحياً عراقياً بارزاً مثل طارق عزيز وضع بين النخبة العليا حتى سقوط نظام صدام حسين في نيسان عام 2003. افتخر حزب البعث بنفسه على أنه حزب علماني وقومي، دون إقامة أي اعتبار للانتساب الديني للعراقيين. ولو كان هذا النوع من التربية السياسية صحيحاً وناجحاً، لما كنّا شهدنا نهضة شعبية لرجال الدين الشيعة بعد صدام، أو التفجيرات التي تستهدف الكنائس المسيحية، حيث أفادت التقارير بنزوح عدد قليل منهم بعد تلك التفجيرات. من الواضح، كان هناك استياء وسخط طائفيين يغليان ببطئ تحت السطح.
ويبدو أن وضع المسيحيين في سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين أفضل. ففي لبنان تمتع المسيحيون عموماً والطائفة المارونية خصوصاً بموقع متميز إلى حد كبير. وكان العامل الرئيسي وراء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) هو شكوى الطوائف الأخرى التي كانت تعاني من التمييز منذ فترة طويلة. ولكن وقفت اتفاقية الطائف على بعض، إن لم يكن، كلّ الشكاوى الطائفية. وتشير الأوضاع أن المسيحيين في سوريا ليس لديهم أية شكاوى جدية. ويبدو أنهم شركاء مخلصون مع الأقلية العلوية الحاكمة. وينبغي أن نلاحظ أنه أثناء المرحلة الليبرالية من التاريخ السوري (1923-1958)، وخصوصاً المرحلة التي تلت الاستقلال مباشرة في الأربعينيات، حينما أصبح فارس الخوري رئيساً للوزراء، لم يتدخل أحد ليعترض عليه. لقد بقيت تلك السابقة استثناءً رائعاً.
وتبدو أن المملكة الهاشمية هي أكثر البلدان تسامحاً مع أقليتها المسيحية، كما مع كل الأقليات الأخرى. ففي البداية كانت تخصص للأقليات عدداً من المقاعد في المجلس التنفيذي وفي المجلس التشريعي أكثر بقليل من نسبتهم من السكان. لقد جعل هذا الموقف الشّهم أن تقدر كل الأقليات الأغلبية، من دون سماع أية أنباء تتعلق باستياء الأقليات من تلك الأغلبية. إنّ الحالة الأردنية مؤشر على السهولة التي يمكن أن تندمج الأقليات بشكل أفضل في الاتجاه السياسي والاجتماعي العام.
أما حالة المسيحيين في فلسطين فقد تعقدت بسبب تعرضها لحركتين تاريخيتين تعملان في اتجاه مختلف. لقد عبأ الاغتصاب الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والحق السياسي منذ 1948، المسلمينَ والمسيحيين في كفاح تحرّري وطني مشترك من أجل تقرير المصير. لقد بلغت تلك المرحلة من الكفاح ذروتها في الانتفاضة الأولى (1987-1993). ولكن بعدما صار كلّ من الحماس والجهاد الإسلامي يسيّران الأمور أكثر فأكثر بدأ المسيحيون ينسحبون بصمت شيئاً فشيئاً من ميدان الكفاح العام. لقد انخفض دورهم إلى حد كبير في الانتفاضة الثانية (2000-2004). لقد تسارعت نسبة الهجرة الخارجية بين الفلسطينيين المسيحيين مثل نظرائهم في كل من مصر والعراق، بتشجيع ضمني في أغلب الأحيان من سلطات الاحتلال الإسرائيلية، وخصوصاً بين سكان منطقة القدس.
لا زال المسيحيون العرب الكبار في السن يتذكرون بكثير من الحنين الأيام الماضية عندما كانوا يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة على الأقل مع الأغلبية الإسلامية. يسمّي بعض هؤلاء المسنين المسيحيين تلك المرحلة بالعصر العربي الليبرالي. وكانت هذه المرحلة هي العقود الأربعة التي تلت الحرب العالمية الأولى. لقد عاش المسيحيون قبل هذه الفترة في ظلّ الحكم العثماني لمدة قرون، حيث كانوا يتمتعون باستقلال ذاتي في تجمعاتهم، لكن بحقوق مواطنية ناقصة.
لقد انتهى العصر الليبرالي العربي بسلسلة من الانقلابات العسكرية التي حدثت بعد كارثة 1948 في فلسطين، المعروفة بالنكبة. وجاءت مرحلة جديدة من الاستبداد السياسي لتبلع سوريا، ومصر، والعراق، والسودان، واليمن، وليبيا، والجزائر. رغم أن هذه الأنظمة تنادي بالثورية والتحررية والعدالة، فقد عانت الأقليات وبوجه خاص الأقلية المسيحية الكثير في القرن الأخير. إن دمقرطة العالم العربي توعد بفكّ حالة الاغتراب، وإعادة حقوق المواطنة الكاملة المتأخرة إلى المسيحيين.

سعد الدين إبراهيم، ناشط مناصر للديمقراطية، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ورئيس مركز ابن خلون للدراسات الإنمائية

——————————————————–

محنة المسيحيين العرب ومستقبلهم
حبيب مالك

تشهد المجتمعات المسيحية الأصلية في الشرق الأوسط أزمنة عاصفة. ففي مصر، حيث يشكل الأقباط أكبر تجمع مسيحي عربي في المنطقة، يجد هذا المجتمع نفسه وقد وقع بين نيران الحكومة الاستبدادية والمجموعات الإسلامية الراديكالية. إنّ الأقباط، وبالرغم من مشاعرهم القومية المصرية القويّة مع الأغلبية المسلمة، نرى أن كلاً من السلطات والمتعصبين يهاجمونهم لأنهم كبش فداء سهل المنال. وفي جنوب السودان، يكتوي المسيحيون بنار الحرب الأهلية المندلعة منذ أكثر من 20 عام، الحرب التي فرضتها عليهم الحكومة الإسلامية في الخرطوم، لأنها مصمّمة أن تفرض الشريعة الإسلامية عليهم بالقوة.
أما المسيحيون في العراق فأنهم باتوا يهربون يومياً بأعداد متزايدة من الفوضى حيث تفجر كنائسهم وتهدد حياتهم على يد المقاتلين الإسلاميين الذين يقودون التمرّد المسلح ضد الولايات المتحدة وقوات التحالف. وفي الأماكن التي تتواجد فيها المجتمعات المسيحية منذ القديم مثل القدس، وبيت لحم، والناصرة، انكمش الحضور المسيحي فيها إلى حدٍّ كبيرٍ بسبب الهجرة الناتجة عن تهمشهم في النزاع الدائر بين اليهود والمسلمين. وفي لبنان بعد 15 عام من الحرب الأهلية التي أدّت إلى هيمنة سورية غير محدودة، وجد المسيحيون، الذين يصل نسبتهم إلى 40 بالمائة من السكان، بأن حرياتهم في تآكل مستمر، وأعدادهم تتضاءل، وينكمش دورهم السياسي.
يُعرَف مسيحيو الشرق الأوسط بحكايتين تاريخيتين متميزتين هما: حكاية الخضوع، وحكاية الحرية. فمن جهة تقع الأغلبية الواسعة من المسيحيين العرب –أكثر من 90 بالمائة- في سياقاتها الإقليمية والثقافية الخاصة. ولكن منذ نهوض وانتشار الإسلام تحوّلت هذه المجتمعات باستمرار إلى مجتمعات من الدرجة الثانية في أوطانها الخاصة. ويمكن تصنيف المسيحيين في مصر، والسودان، والعراق، وسوريا، والأراضي المقدسة بهذه الفئة المقهورة.
وعلى الجانب الآخر يأتي مسيحيو لبنان، حيث أنهم أقليّة في العدد، ولكنهم عاشوا تجربة تاريخية فريدة من الحرية التي دافعوا عنها عبر العصور رغم التضحيات الجسيمة في الأرواح والممتلكات. لقد تزعّم المارونيون المتحصنون هنا، والذين يتبعون روما منذ عام 1180، مجموعات أقل عدداً من الطوائف الأخرى التي رميت في مناطقهم ليشكّلوا معاً مجتمعاً مسيحياً راسخاً يقاوم بشدة كل المظاهر التي تؤدي إلى المرتبة الثانية في المجتمع. ولكن الخسائر في الأعوام الأخيرة، والاحتلال الأجنبي، والتدهور الاقتصادي، والهجرة المتواصلة، جمعيها أثّرت بشدّة على مسيحي لبنان، جاعلة منهم وللمرة الأولى منذ القرن التاسع عشر، أن يخسروا حرياتهم التي كانوا يمارسونها منذ فترة طويلة.
هناك طريقة واحدة يمكن أن نقيّم بها الاختلاف النوعي في التفكير ووجهات النظر بين المسيحيين في المرتبة الثانية (أهل الذّمة) والمسيحيين الأحرار في الشرق الأوسط، وهو أن ننظر إلى مواقف المسيحيين على جانبي الحدود السورية اللبنانية. ففي سوريا حيث عاش المسيحيون لقرون كمجتمع من الدرجة الثانية، ولم تُعرف حالتهم أي تحسّنٍ عامٍ إلاّ في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، حيث اعتبر المسيحيون ذاك التحسن بمثابة إنجاز كبير وقفزة هائلة إلى الأمام، لكن هذا كان مقابل ولائهم التام للنظام. فالمجتمع الذي كان خاضعاً بشكل جوهري ولم يعرف الحرية، كان مستعداً أن يصب سيلاً من الامتنان حتى على أصغر مساحة تجعله يتنفس بحرية.
وإذا عبرنا الحدود إلى لبنان المجاورة سنرى التراجع المفجع للحريات الشخصية والعامة في المجتمع المسيحي في الربع الأخير من هذا القرن. إن الناس الذين ذاقوا ثمار الحرية الحقيقية، والذين ضحوا بالكثير في سبيل الحفاظ عليها، فأن أدنى نقص في هذه السلعة الثمينة يلقي بآثارها على حياة الناس من أوسع الأبواب.
إن مستقبل المسيحيين العرب اليوم معلّق في الميزان. فالأغلبية التي قدمت لها في البداية المرتبة الاجتماعية بدلاً من الحرية، تعيش الآن في عدم الآمان في كافة أنحاء العالم العربي. أما أولئك الذين خاطروا بكل شيء في سبيل الحرية يواجهون في أحسن الأحوال مرحلة مجهولة في الوقت الذي تزداد الضغوط عليهم لحرمانهم مما تبقى من حرياتهم المكتسبة بمشقة. إن وصمة العار “وكلاء الغرب” أو “الصليبيين السرّيين” ترتفع دائماً في وجههم كلما هاجت العواطف الدينية بالخروج عن السيطرة. سيبقى المستقبل مظلماً للمسيحيين العرب إذا ما استمر إهمال محنتهم من قبل بقية العالم؛ وإذا ما تعثر ما يسمى الحرب على الإرهاب، وإذا ما تفوقت القوى المتعصبة على القوى المعتدلة في العالم الإسلامي؛ وإذا لم يترسخ شكل من الأشكال الديمقراطية في عراق هادئ ومستقر، وإذا لم يتوقف تآكل الحريات في لبنان حيث ازدهرت فيها الحرية بشكل استثنائي، مقارنة مع الآخرين الذين يتضورون جوعاً لها، رغم كل النزاعات.
هذه هي حالة أحفاد الحواريين الروحيين بعد 2000 سنة في الأراضي التي تحيط بالبقعة المقدسة حيث اختار ملك الملوك أن يظهر فيها كنجارٍ متواضع.

حبيب مالك أستاذ للتاريخ والدراسات الثقافية في الجامعة الأمريكية اللبنانية في (الحرم الجامعي بيبلوس) في لبنان.

________________________________________

مسلمو الأردن ومسيحيوها يواجهون نفس التحديات
رنا صبّاح كركور
إن معنويات الأقلية المسيحية العربية الأصيلة في الأردن ليست على ما يرام في هذه الأيام. فالغموض السياسي في كل من العراق وفلسطين المجاورتين، والإحساس الشعبي المتزايد بالحملة الصليبية العالمية الجديدة التي تشن ضد الإسلام والثقافة العربية باسم “الحرب على الإرهاب” يعكّر مزاجهم.
وكنتيجة لذلك، يواجه العديد من أفراد المجتمع المسيحي هذه المعضلة، حيث يقدر عددهم الآن بحوالي 3 بالمائة من إجمالي سكان المملكة البالغ عددهم 5.2 مليون نسمة مقارن بنسبة أكثر من 6 بالمائة قبل قرن. إنّ المسيحيين في الأردن محشورون بين صخرة “الحرب على الإرهاب” التي تقودها الولايات المتحدة، ومتطلبات واقعهم القاسي التي تفرض عليهم أن يذكّروا مواطني بلدهم بأن الغرب ينظر إليهم كعرب في المقام الأول والأخير.
في الواقع، يجد المسلمون والمسيحيون في الأردن – من النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة، إلى الرجل العادي في الشارع- أنفسهم في نفس المأزق على الصعيد الداخلي والخارجي.
فعلى الجبهة الخارجية، يواجه كلا الفريقين الضغوطات الآتية من المحافظين الجدد والمسيحيين المتشددين الذين يقودون سياسة واشنطن الخارجية هذه الأيام. وينتقد كلا الفريقين بوضوح الأعمال الوحشية المستمرة التي تقوم بها إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويرغبان بإقامة دولة فلسطينية في جوارهم. ويريدان أيضاً نهاية للاحتلال الأمريكي للعراق، وعودة النظام والقانون حيث يعتبر غيابهما من العوامل الأساسية التي تشجّع العديد من المسيحيين العراقيين بالهجرة إلى الغرب.
وعلى الصعيد المحلي، يواجه الفريقان في مجتمعيهما المحافظ تحديات مماثلة، وسط نمو للتطرف الإسلامي في المنطقة حيث الأنظمة الاستبدادية، كرد فعل على العولمة السريعة، والبطالة، والفقر، والافتقار إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن خطابات الجوامع النارية الدائمة التي تدعو إلى نصر إسلامي على “اليهود” وحلفائهم جميعاً – ويقصد بهذا التعبير الملطّف الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، والدول العربية المختلفة- لا تشكّل مصدر قلق للمسيحيين، رغم أنهم لا يودّون سماع مثل هذه الخطابات.
يمتاز المسيحيون في الأردن بالمكاسب الكثيرة. حيث لم يتعرّض بقائهم إلى أي تهديد من قبل الدولة. وعلى خلاف الكثير من المسيحيين العرب في البلدان الإسلامية المجاورة، أنهم لم يتعرضوا إلى الاضطهاد الديني، أو كانوا ضحايا للقمع السياسي. وإن نفوذهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير متكافئ على الإطلاق مع حجمهم الفعلي في المجتمع إلى حدٍّ لا يريد الكثير التحدث عن هذه النقطة حتى لا يثار حسد المسلمين والأقليات الأخرى.
ويرى المسيحيون الأردنيون أن السلالة الهاشمية هي التي تضمن التنوع العرقي والديني في الأردن، بما في ذلك المسيحيين العرب الذي يعود بهم التاريخ إلى 2000 عام تقريباً. اثنتان من الزوجات الأربعة للملك حسين الراحل، الذي حكم الأردن 46 سنة، كانتا من المسيحيات الغربيات اللتان دخلتا الدين الإسلامي عند الزواج. وإن الأميرة منى بريطانية المولد هي والدة عبدالله الملك الحالي للأردن.
في الواقع، أن الأغلبية في دوائر أصدقاء الملك المقرّبين هم من القبائل المسيحية العربية الكبيرة. وجرياً على خطوات أبيه، يكنّ الملك، البالغ من العمر 42 عاماً، احتراماً للمسيحيين والمسلمين في خطاباته التي يركّز فيها على التسامح والاعتدال. ويحضر أعضاء العائلة المالكة في أغلب الأحيان مراسيم عيد الفصح وعيد الميلاد في الكنائس المختلفة المنتشرة في المملكة الصحراوية.
إنّ الدين الرسمي في الأردن هو الإسلام، ولكن يمكن للمسيحيين أن يمارسوا طقوسهم الدينية بسلام. لم يسبق لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول حقوق الإنسان في الأردن أن وضعت أية إشارة استفهام حول المسيحيين، ومن جهتها تمدح الفاتيكان كثيراً التعامل الأردني مع المسيحيين كمثال على التعايش الديني المرغوب فيه.
ولأول مرّة، قدّمت الأردن الشهر الماضي نائباً مسيحياً لرئيس الوزراء وهو مروان المعشر. وهو المسؤول عن إصلاح القطاع العام، في سياق خطوة الملك الجازمة للتحديث، للقضاء على ظاهرة محاباة الأقارب الواسعة الانتشار في التعيينات السياسية بين الفئات العشائرية والدينية في الحكومة، وذلك من أجل ضمان بقاء سلالته في الحكم على المدى الطويل.
هناك سفيران مسيحيان من نفس القبيلة يعملان في واشنطن وباريس. وفي الجيش يمكن للمسيحي أن يصل إلى أعلى المراتب العسكرية باستثناء رتبة القائد العام للجيش. ويحتل المسيحيون 6 مقاعد من أصل 55 معقداً في مجلس الشيوخ المعيّن، ويشغلون بشكل تقليدي منصبين وزاريين، على الأقل، بالإضافة إلى المناصب الوزارية الأخرى الهامة في الحكومة. وهناك رجال أعمال وسياسيين بارزين من المسيحيين، ويسيطر العديد منهم على أكثر من 40 بالمائة من القوة الاقتصادية الخاصة من خلال شركات قيادية جماعية عملاقة. يعد كل من عيد الميلاد وعيد رأس السنة الجديدة يومي عطلة لكل الموظفين الحكوميين وغير الحكوميين.
وبالرغم من أن الكثير من الأردنيين لا يحبّذون هذا الاهتمام بالمسيحيين في الأردن والأراضي المقدسة، حيث انتشرت فيها المسيحية في أيامها الأولى وكانوا يشكّلون الأغلبية حتى العهد العثماني عام 1516، لا يمكن لأحد أن يقلب هذه المكاسب.
وكباقي المناطق، تشكّل هجرة المسيحيين العرب لأسباب اقتصادية ولم الشمل المصدر الرئيسي للقلق. بدأ الانخفاض في نسبة المسيحيين في القرن التاسع عشر، ولكن شهد هذا الانخفاض تسارعاً مع التغييرات السياسية والاجتماعية في هذا القرن. وينتاب الخوف الكثيرين من إمكانية أن تنقرض أخيراً مجتمعاتهم المسيحية في الشرق الأوسط.

رنا صبّاح كركور مستشارة التحرير ومعلّقة صحفية في صحيفة الغد، وهي صحيفة أردنية يومية مستقلة أنشئت مؤخراً. وهي مراسلة لصحيفة التايمز اللندنية في الأردن، وكانت رئيسة التحرير السابقة لصحيفة التايمز الأردنية.
———————————————

عن موقع: ( BitterLemons- International)

شارك هذا المقال: