لم يبقَ لنا سوى الكتابة، سأبدأ بكتابة صمتي…!

شارك هذا المقال:

خالد حسين

أجرت الحوار: مثال سليمان

تقديم:

 “الكتابة هي لغة الصمت بما هي

اللاتحديد والمعنى الذي لا يني

يتسرب من بين أصابع القارئ”

في الحوار الطويل الجاري هنا الذي أجريته مؤخراً معه (في نهايات الشهر السادس وبدايات الشهر الراهن)؛ يحدّثنا د. خالد عن الكتابة، الشّعر، الأدب، علاقة النقد بالفلسفة ومحاور عدّة عنها باستفاضة وإسهاب؛ ليتيح لنا فرصة التعرُّف على تجربته النقدية والأدبية مشكوراً.

خالد حسين: كاتب وناقد كردي سوري مقيم في سويسرا، حائز على شهادة الدكتوراه في الآداب/قسم اللغة العربية عام (2005) عمل مدرّساً للأدب العربي الحديث سرداً وشعراً، وكذلك الاتجاهات النقدية الغربية في جامعة دمشق-السويداء.. ودرّس المواد ذاتها في جامعة زاخو، إقليم كردستان ــ العراق (2013ــ 2014).

صدر له من الأعمال: شعرية المكان في الرواية الجديدة، الرياض 2000)، في نظرية العنوان، دمشق 2007)، شؤون العلامات، دمشق 2008) نزار قباني: قنديل أخضر على باب دمشق ، دمشق 2009)، اقترافات التأويل، دار جميرة للنشر والتوزيع، العين 20015) وقريباً قيد النشر ترجمات بعنوان ( الحقيقة التي تجرح عن دار التكوين بدمشق).. كما أنه أنجز عدداً من المخطوطات قيد التنسيق والإعداد للطباعة.

                                                                                   م. سليمان

هوية/ هويات النص

م. سليمان: (يتعلم المرء الانكسار بلغةٍ غريبة أسرع من لغته الأم)؟

في إشكالية الكتابة بلغةٍ غير لغة الأم، كان لكم رأي على الدوام وهو: النظر في هُويّة النص لا اللغة التي كُتبت به. هل تحدّثنا عن مفهوم ” هوية النص”؟ سمات هوية النص؟ من يحدد هوية النص الأدبي وماذا عن البنية التي تتم عليه؟ الأسباب والدوافع التي تؤدي للأدب أنّ يُكتب بلغة غير لغة الأم؟ ماذا عن تداخل الهويات وهندستها؟ مدى انفتاح النص على العالم إن كُتب بلغة الآخر؟

خ. حسين: دعيني في البداية أن أدع العبارة، في حوزة التّنصيص إلى نهاية المضاف من حدود الإجابة على الأسئلة المتراكمة في سؤالك. إلى ذلك: فـ”هويـ(ــة)ـات النص”، “سماتها وتداخلها في النص”، مَنْ المحدد لهوية النص الأدبي، الأسباب التي تمضي بالمرء إلى لغة أخرى للتعبير؟ النص والعالم…لنقل ثمة أبعاد عديدة تهيكلُ هويـ(ــة)ـات النّص، إذا كان المقصود بذلك، الانتماء إلى ثقافةٍ محدّدة، هل يمكن التعويل على لغة الكتابة، ومن ثم لغة النص في تسوير هذا “الانتماء”؟ في واقع الحال نحن إزاء معضلة في هذا السياق حينما تدفع ظروف قاهرة إلى الكتابة باللغة المهيمنة في سياق تغييب اللغة ــ الأم من محفل المشهد العام. والمثال الأشد بروزاً هنا يتمثّل بالكتّاب الكرد، الذين، وبفعل وطأة محاصرة لغتهم ــ الأم أو محاولة إبادتها، تحرّكوا للإقامة في اللغات المهيمنة أي التركية والفارسية والعربية لجعلها تتكلّم بلسانهم. هذا التورُّط، أو بمجرّد التورط في استعمال هذه اللغة أو تلك، تتلوّث هوية النص الأحادية المزعومة وتنفتح على التعدّد وينتقل النصُّ من الهوية إلى الهويات. ولكنّ حتى ضمن النص المكتوب باللغة ــ الأم؛ فالتشطي والتعدّد الهوياتي والفيض يعصف بالنص ذاته، هنا أشير إلى الصعيد الأجناسي للنص، فكلُّ نص يمتصُّ عوالمّ وموادَّ كثيرة تجعل من الهوية الواحدة: قصيدة، رواية، قصة، فيلم…. ضرباً من الاستحالة. من هنا أقول إن الهوية الواحدة تغدو في حالة استعصاء.  لنتقدّم إلى الضفة الأخرى ونوضّح أكثر؛ كيف يمكن تحديد هوية أعمال سليم بركات أو الكتّاب والشعراء الكرد الآخرين. وأعتقد أنك تومئين إلى ذلك بشكل غير مباشر في سؤالك؟ لا شك بأننا إذا اتكأنا على معيار “اللغة”، اللغة التي يكتب بها بركات أعماله، فهذه الأعمال تنتمي إلى الأدب العربي لكننا سنجد هنا أن “العربية” لها وضعية مختلفة عن كتّاب عرب آخرين، فالعوالم الكردية تتوغّل فيها إلى درجة أن هذه اللغة تتكلم بلغةٍ أخرى، تتكلم الكردية أو أن الكردية تُهَسْهسُ من خلالها بمسكوتها، تحضر، تجلبُ عوالمها إلى “العربية”، لتغدو كينونةً مغايرة في مرمى قارىء العربية ذاته، فالقوى الفاعلة، والمكان والزمن والحلم والتناصات مع النصوص التراثية…إلخ، كلها هناك تتنفس الكردية، فما الجدوى من إبقاءِ هذه الأعمال في نطاق الهوية الواحدة؟ أليس من الأصوب أن نزحزحها إلى هوية ثنائية، أن تنتمي إلى الأدبين العربي والكردي في الوقت ذاته؟              

من جهة أخرى ما مدى انفتاح النص على العالم إن كُتب لغة أخرى؟ مهما كانت اللغة المستثمرة في الصّوغ؛ فهي تلعب مع العالم لعبتها في اختلاقه وإبداعه، اللغة لا تعكس وإنما تختلق “العالم” من مواد وأغبرة متنوعة. لكن يمكن الحديث عن انتشار أشدّ شساعة من لغةٍ إلى أُخرى فيما يُكتب بالانكليزية يمتد أكثر وهذا يرتبط بأبعاد الهيمنة والاقتصاد واجتياح هذه اللغة للعالم. 

يمكننا القهقرى، الآن، نحو البداية، نحو العبارة المنصّصة أعلاه، التي تبعثرَ منها سؤالك: (يتعلم المرء الانكسار بلغة غريبة أسرع من لغته الأم)، من دون ريب يستمد الكائن القوة من اللغة ــ الأم، اللغة التي تجعل “العالم” قاب قوسين أو أدنى من الاحتياز، من التملك وإن كان امتلاكاً مزيفاً، الإقامة في اللغة ــ الأم حدثت وتحدُث من دون وعي، أنّى يمضي الكائن يأخذ عوالمه معه؛ ولذلك فثمة أرضية صلبة، قاسية في الإحاطة بالعالم، لا خوف من المساجلة والجدال طالما الوسيط يتمثّل باللغة الأم، التي تمدّ الكائن بالقوة. وبخلاف ذلك يحدث الانكسار: كم تعذبّنا إلى أن أتقنّا “العربية” وكم انكسرنا فيها وكم تلعثمنا حين خاننا التعبير بشكل سليم وفق تصاريف العربية. والأمر ذاته مع الألمانية راهناً…ولاشك تخفُّ وطأة الانكسار مع محاصرة اللغة وانتهاكها والكشف عن أسرارها تعلُّماً ومعاشرةً…  

م. سليمان: ما العلاقة التي تربط نظريات النقد الثقافي الأدبي بالفلسفات المعاصرة والتيارات العلمية (الوجودية، الماركسية، فلسفات الاختلاف..) أو بمعنى، علاقة الأدب والنَّقد الأدبي بالتيارات الفكرية/الصناعية /الفلسفية…؟

سبق لكم أن ذكرتم في أكثر من مناسبة، أسباب الكسل النقدي في سوريا عموماً والأدب الكردي على وجه الخصوص، لكن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على عمر الأزمة السُّورية التي دفعت بالكثير من الأدباء والنقاد إلى الهجرة خارج البلاد، كيف لعبت الهجرة في تنشيط حركتي الأدب والنقد ولاسيما النظريات البنيوية والتفكيكية منابعها بالأصل من الغرب؟

خ. حسين: لو أزحنا جانباً الممارسات الانطباعية والصحفية المسماة تجاوزاً بـ”النقد” وتأملنا الحقل النقدي في شساعة تضاريسه تنوعاً وإجراءً واختلافاً ومناهج واستراتيجياتٍ فثمة علاقة متينة بين الفلسفة والنقد؛ إذ تشكّل الفلسفة البنية التحتية (باستعارة المصطلح الماركسي) للفكر النقدي. ومن هنا؛ فالفلسفة، باستمرار وعبر تاريخ الفكر، تمدُّ النقد الأدبي بتياراته المختلفة بالنسغ والرؤية والمفاهيم التي تأتلف في العملية النقدية للتموضع في النُّصوص للاشتباك واللعب التأويلي معها. وبإلقاء نظرة خاطفة على التأثير العاصف لفلسفات الاختلاف والتأويليات والفكر الماركسي…إلخ يمكننا أن ندرك المديونية التي يتحمّلها النقد الأدبي إزاء الفكر الفلسفي. لكن هذا لا يعني أن الفعل النقدي يسلّم بالأمر ويخضع للفكر الفلسفي لتُسلب منه خصوصيته في الاقتراب والنهج والإحاطة بالنصوص المستهدفة بالقراءة. فالنقد كذلك يلجأ إلى التقليم والتعديل والإضافة وإضفاء الفرادة على الإجراء النقدي وهو يهمّ بهتك النّص، فالنقاد الأمريكيون الذين استثمروا المقولات التقويضية لجاك دريدا ومفهوماته وعملوا على تبييئها في الثقافة الأمريكية أعلنوا بوضوح أنّ: التقويضية هي شأنٌ أمريكيٌ…! يمكن أن أُضيف إلى ما تقدَّم بأنّ العلاقة بين الفلسفة والنقد، وهذا أمر مهم، تمنح الناقد القدرة على التحرُّك والإمساك بالبعد الأنطولوجي للعمل الأدبي وإحداث تحولات على صعيد (القارىء، النص، التناص، المؤلف على سبيل التمثيل) في مفاهيم القراءة وتعدّد المعنى… وما إلى ذلك. فلولا الانعطافات المذهلة في الفكر الفلسفي لظلّ النقد أشبه بمحاولاتٍ كسيحةٍ على الممرات الخارجية للعمل الأدبي.    

وبالالتفات إلى الجزء الثاني من السُّؤال المتمحور حول أسباب الكسل النقدي وأثر “الهجرة” في تفعيل حركتي الأدب والنقد ولاسيما في تجلياته الحديثة. سبق أن أشرت إلى أن النقاد الكبار ندرة، قلة، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ المبدعين من الفلاسفة والشعراء والروائيين والفيزيائيين..إلخ. والندرة أصل في الإبداع والخلق لكن نموّ الفعل النقدي مرهون بالفضاء السوسيو ــ ثقافي الديمقراطي، الذي يتيح وحده حرية التعبير والمعتقد والمواطنة وفصل الدولة عن الدين، فالفضاءُ الديمقراطيُّ شرطٌ لفعلٍ مثل الفعل النقدي ذي الصلة بالمجتمع والثقافة والسياسات ونقد السُّلطة والدين…إلخ، فكلُّ ما أُشيرَ إليه تفتقده سوريا الغارقة في مستنقع الدكتاتورية في أبشع تجلياتها، وراهناً، الحركات الراديكالية في أقبح ممارساتها اللاثورية ـ الإجرامية، فكيف يمكن للفعل النقدي برؤى متغايرة أن ينبثق ومن ثمَّ يظهر النقاد الكبار الذين يمكن أن يُحدثوا انعطافات في نظريات القراءة والإجراء النقدي وفي رؤى الأدباء أنفسهم لنصوصهم ومن ثم تطويرها…فطبيعة السّلطة ومحاصرة الفكر الديني للمجتمع تقتل أي إمكانيةٍ للإبداع النقدي ليس في سوريا وإنما في عموم العالم العربي. من جهة أخرى لايزال الوقت مبكراً للحديث عن تأثير “الهجرة” على الأدب والنقد. نعم ربما تحرّر الجسد بعض الشيء ومن ثم الفكر إلى حد ما من الرُّعب والخوف المحدقين وسيتسع بالنسبة إلى الأجيال الصغيرة مستقبلاً. وثمة منجزات أدبية كثيرة تُنشر الآن لكن على الصعيد النقدي فالأمر يحتاج إلى جيل أو جيلين، فنحن لانزال نعتمد على مصادرنا ومراجعنا في التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة…إنّ الفعل النقدي يحتاج إلى الكثير للإسهام في حركة النقد العالمي…    

 م. سليمان: من خلال قراءة كتاب النظريات النقدية المعاصرة ل “لويس تايسون”؛ بدا جلياً تأثر النقد بالنظريات (الماركسية، نظرية التحليل النفسي، النسوية….) كل هذه النظريات أحدثت انعطافات في المجتمعات التي انبثقت منها حتى أنّها تجاوزت حدود إقامتها.. السؤال: هل للناقد الحق مثل الفيلسوف في إحداث التغيير على صعدٍ أخرى غير الأدب؟ على سبيل المثال تشومسكي ورؤاه حول التدخل الأميركي في سوريا وعلاقة الأميركان مع الكورد.. سلاڤوي وموقفه من بوتين في أوكرائينا.

 خ. حسين: الكتب المؤلّفة عن النظريات النقدية ومجالاتها وأمدائها وتأثيراتها كثيرة في الواقع وربما من الصعوبة بمكان السيطرة عليها…ومنها هذا الكتاب ــ الدليل الذي أشرتِ إليه فقد صدر بترجمتين إلى العربية. وحتّى نكون بمحاذاة الواقع الفعلي لهذه النّظريات فهي قد أحدثت تغييرات عنيفة وجلية في طرائق الرؤية والقراءة على صعيد الممارسات ـــ الخطابية أما على صعيد البنى الكلية، أي المجتمعات فلا أتجرأ الخوضَ في ذلك…من جهة أخرى وقد أشرتُ إلى أن “الناقد” منغمر بالمجال أو الفضاء العام الذي تحدّث عنه يورغن هبرماس، أي هو على تماسٍ مع قضايا الأدب والمجتمع، متورّط فيها شاء ذلك أم أبى (ويمكن نقدّم هنا اسمي تيري إيغلتون، إدوارد سعيد وغيرهما على سبيل التمثيل). أما إشارتك إلى تشومسكي وجيجك المتورطين في السياسة حتى أذنيهما فهما مفكّران وليس بناقدين في الأدب، الأول لساني ومفكر سياسي بات يقدّم تحليلاتٍ سياسية رثة في كهولته والثاني فيلسوف يقدّم خطابات طريفة (لستُ مطلعاً على مجمل ما جرى من ترجمةٍ لأعماله إلى العربية…لكن أعجبتني مناهضته الشديدة للضبع الروسي الذي يحاول ابتلاع أوكرايينا، فبوتين صورة مرعبة للشر تحدق بالبشرية). بالطبع إذا استعملنا مفهوم “المفكر” وهو الأكثر دلالة، فلا مفكّر بعيدٌ عن المجال العام.   

الضيف الغريب: “الشّعر Helbest “…!

م. سليمان: كيف تنظر للشّعر؟ أ صحيح لم يعد هناك شعراء؟  وهل حقاً فقد الشعر هويته بعد أن استوطن الرواية والقصة القصيرة، مما أدى لظهور مفهوم “فوبيا التجنيس الأدبي”؟   مدى افتقاد الدهشة في الكتابة الشعرية الحديثة وربط ذلك بالواقع وتسارع الحياة؟ أين تكمن أهمية القصيدة؟ هل حقاً فقدت شاعريتها؟

 خ. حسين: لنخطو في متاهة هذه الأسئلة:

النَّظر إلى الشّعر يستعيد، هنا، تاريخ الاشتباك مع الشّعر، تاريخ كلّ المحاولات الفاشلة في اعتقال الشّعر ضمن تخوم فسحةٍ تعريفية. مع ذلك كان ولايزال الشّعر يلتفُّ على تلك العقول الفلسفية والنقدية ويضع مقارباتها تحت وطأة “الفشل”، الشِّعر كائن منيعٌ، يتقن التملُّص ويدرك تماماً متى يفرُّ من الفخاخ والتسييجات: “كيف تنظر للشّعر؟” ــ السؤال، أي سؤالك، أي ما الشّعر؟ شخصياً لا أتمتّع بأيّ جسارةٍ للاشتراع إحاطةً بهذا السّؤال الذي لايزال يربكُ ترسيمات المفكرين الذين انشغلوا والمشغولين بمواجهة “الكلمة الشّعرية”، وهي مواجهة خاسرة طالما أنّ الشّعر يعيش بروح “الغريب”، “الطّريد”، “الفكر الرحّال، الذي يستقرُّ في الحركة، السفر والانتقال، الليل والنّهار في تعاقبهما الأبدي، كائن لا يعرف الهمود والسّكون، “كائن ــ قنفذ”، يحاكي الليل والنهار…أفكّر جدياً، أيضاً، أن أسأل الآخرين: ما الشّعر؟ ترى كيف تنظرون إلى الشّعر؟ … وكوني لم أتلقَ، سابقاً والآن ــ هنا، سوى إيماءةٍ سلبيةٍ من أكتافهم. سأختصر إجابتي بدَوْري في هذه “الشظية”: “الشّعر Helbest  “!

طالما ثمة شعر، ثمة قصيدة، فثمة شعراء، الشُّعراء هم بمنزلة ــ الممر الذي يعبره الشّعر إلى العالم، القصيدة عمياء في كنفها، لذلك الشّعراء/ الشّواعر ممراتٌ ــ ضرورةٌ للقصيدة لتصل ضفاف العالم…في هذه اللحظة، في حدث الوصول تبدأ القصيدة بالكلام وتودّع مَنْ أوصلها…!

حتى لو استوطن الشّعر الرواية أو القصة أو المسرح، بل حتى لو اقتحم الخطاب النقدي على سبيل المشاكسة بمواجهة العقل الأكاديمي فلا ذوبان، ليس شرطاً أن يقتصر الشعر على القصيدة، هذا الفضاء ــ المتعارف عليه كمأوى للشعر. في الحقيقة الشعر لديه طاقة هائلة على الانتشار والتخفي في شقوق الخطابات وتضاريسها…سمة الشعر أنه هنا، هناك، حضوره ــ مرتقب مع حضور اللغة.

ينبغي أن ننتبه، وهذا من جهةٍ أخرى، أن سؤالك يمسّ قضية “النوع الأدبي”، فعلى الرغم من انفتاح الأنواع على بعضها بعضاً، فإنّ حدود النوع تفرض سلطتها على الضيف الغريب ــ القادم، فمهما جرى تطعيم الرّواية بالشِّعر والكلمة الشِّعرية، فإن الهيمنة والسّيادة هي للسّرد الذي بات يتوغّل بطريقة امبريالية في الممارسات الخطابية كافة ــ لا يمكن الحديث عن الرواية بوصفها قصيدة. سوف نتحدث عن هذه “الرواية” بأنها رواية فحسب أو أنها رواية شعرية. وبخلاف ذلك يتدخّل “السّرد” في “العمل الشعري” لكن الشّعر يحافظ على هويته/ هوياته في انفتاحها…فالضيافة هنا تُغني، ترثي، تفيض دون إلحاق الانهيار بالمستضيف..لكن هذا لايعني البتة أن “النوع الأدبي” صنف من الميتافيزيقا، ثابت عبر التاريخ. وفي الواقع فالأنواع تنهض، تتعثر، تتلاشى وهي تتساوق مع ما يعتمل في السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية…ولادة “النوع”، هنا والآن تحتاج إلى كثير من المطاردة والإحاطة، ربما سنتحدث عن ذلك في سياق آخر.  

لا يمكن للشّعر أن يصل إلى ضفاف الآلهة، ضفاف العالم إلا من خلال ما يميّزه، وما يميّزه هو صدعٌ من الدهشة والغرابة، الشعر شعر بغرابته، بالغريب الذي يولّد فيه أوراق الافتجاء والانتباه وأمداء شاسعة تحت قوة الطاقة المتخيلة للعقل الشعري… والحديث عن افتقاد الدهشة يعدّ افتقاداً للشعر ذاته، ولذلك أظنّ أن الشعر يتنكب غرابته أنىّ ظهر. بيد أن ما نشاهده هو الكثرة غير الحميدة لجحافل من البشر ينشرون في وسائل الميديا ما يحمل اسم الشعر الذي لا صلة له بالشعر، “كتابات” من دون كتابةٍ، من دون شعر بالطبع.

 م. سليمان: ورد لكم في أكثر من مقبوس مصطلح “الكلمة الشعرية” هل تعني بها المفردة الشعرية المستقلة أم النص الشعري؟

خ. حسين ــ لاشكّ أنني أستخدم الكناية أو المجاز المرسل في ضرب من الاختزال للإشارة إلى كلية الشعر، الشّعري في اللغة، الشعري بوصفه شعراً، الذي يتخلّق لدى الشّاعر على أنه تلبية للنداء، نداء ــ العالم، النداء الذي ينهمر إليه من قطائع العالم: الأشجار، الغيوم، الأنهارـ الكائنات…إلخ…كما لو أنَّ القصيدة تنبثقُ من اللغة جَرّاء هذه الوطأةِ السّاحقة لنداء الكينونة بوصفها العالم….   

م. سليمان: (لم يبق لنا سوى الكتابة، سأبدأ بكتابة صمتي).

الصّمت لسان الغياب

ماذا تعني لكم الكتابة؟ وهل كتابة الصَّمت غير الصَّمت واللاــ شيء؟

(حقل الكلندور ــ سيرة سردية) هل سيكشف لنا كاتبها عوالم د. خالد طفولته/صباه؟ أم ستكون سيرة متخيلة؟ متى سيرى النور؟

خ. حسين: لا أدري على وجه التّحديد أين قلتُ أو كتبتُ هذا القول المقتبس هنا، والمرمي على حافّة هذا السؤال بقصدية واضحة، وفي أيّ سياق؟! في الحقيقة الكائن الإنساني، في الختام، مشروعٌ منذورٌ للصَّمت، الصّمتُ بوصفه لسانَ الغياب المطلق، لسان حال الموت. الموت حدثٌ يحدثُ، ولكن يُمتحن من خلال أمرين: موت “الآخر”، ومن اللغة التي يتقنها بطريقةٍ متقنةٍ، أي من الصّمت الذي يبوح به. الصَّمتُ هنا لغةٌ بكامل أسرارها يُشهرها الموتُ، بعد أن يَحْدُثَ بالمهابة التي ندركها، يُشهرها للتواصل مع الكائن في وضعيةِ إنذارٍ وتحذيرٍ وتهديدٍ له؛ ليكون من ضمن ممتلكاته…! فالصّمت ليس باللا ــ شيء وإنما هو لغة مكتنفةٌ بالدلالة، بل برواسب منها، متخم بالمعنى، فالصّمتُ مطعونٌ بالثقافةِ التي تجري فيه تحويلاً مريعاً بنقله من دلالته الفيزيائية إلى دلالته الثقافية، لينفتحَ الصَّمتُ على حقلٍ ثريٍّ من المعنى: الرفض، اللاتحديد، الإنذار، انفساح المعنى، المعنى الهارب والمتوارى في خرائط النَّص…إلخ.

لاشكّ بأن “الكتابةَ” هي ما تبّقى لنا، لنا نحن ــ الصامتين ــ في مهبّ هذا الجنون الذي يعصف بالعالم والجغرافيا التي تحيط بنا. لم تبق لنا سوى “الكتابة”، هذه الكتابة، كفسحةٍ للحرية والجسد والفكر والمفكَّر واللاــ مفكر به، هي الفسحة المتاحة لكي نكتب خسارتنا ورعبنا وهذا الذي يتعالى على القبض أي الصّمت الذي يقول ما لا يمكن قوله أو أنه غير قابل للتعبير عنه باللغة التداولية.  ضمن هذا السياق أنظر إلى سؤالكِ: “ماذا تعني لك الكتابة؟” الكتابة بوصفها هذا التوغل الجسور في الذات والعالم للإمساك باللامرئي، بالصَّمت، لغة اللامرئي الذي يحدثُ ولا يُرى، غير القابل للاصطياد بالكلام التداولي/الكتابة القائمة. الكتابة هي هذه العلامة الخطيرة: المأوى الذي يتيح للامرئي أو الصّمت أن يمتلك لساناً ليتكلم. الكتابة هي لغة الصّمت بما هي اللاتحديد والمعنى الذي لايني يتسرّب من بين أصابع القارىء…في الكتابة أُحاولُ الاقترابَ من مهابةِ الصّمت لكنني لا أستطيع طويلاً التحديق في مساحته الهائلة والمريعة، لا سبيل سوى اصطياد القليل من رغوته المتاحة.   

حول “شجيرات الكلندور أو سحر البعيد”، أي السّيرة المرتقبة فهي مشروعُ كتابةٍ قائمة، كتابة تلك الأشياء والأحداث التي جرت يوماً وأودعتْ نفسها في كنف الصّمت، السيرة سوف تكون ابتكاراً أو إعادة اختراعٍ لهذه الفسحة بزمنها وأمكنتها وكائناتها، سيرة لمّا تنته بعدُ! 

طيف دريدا، تجربة القراءة

م. سليمان: عند القراءة، يبدو طيف جاك دريدا يجول في أعمالكم النقدية لا سيما “نظرية العنوان” وبعض المفاهيم التي تعمقتم فيها وتقديمها بأسلوبٍ جديدٍ مثل مفهوميْ الاختلاف الزمكاني والأثر؛ إنه نقد الميتافيزيقا في الأدب؟

خ.  حسين: أعتقد أنّ القارىء، وتحديداً القارىء ــ النقدي، هو الأقدر على القيام بهذه المهمة لمطاردة أطياف جاك دريدا في كتاباتي الضئيلة والمتواضعة. ومن دون ريب أشعر بمديونية تجاه فلسفة جاك دريدا ومفاهيمه المبدعة، ذات الطابع الإجرائي والملائمة لطبيعة العلامة الأدبية. منذ فترة باكرة من انتسابي (لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق). وجدتُ النقد الأدبي الأكاديمي الذي اطّلعتُ عليه سقيماً لغةً واستراتيجياتٍ ومفاهيمَ، بل حتى على مستوى ترسيمات القراءة وخرائطها ولذلك كان لابدّ من أرضية مختلفة، مرجعية مفارقة تحرّر الفكر من الافتراضات المسبقة والقراءات المتكلسة، لتشكّل الأفق الذي يمكنني من النظر برؤية مغايرة إلى الأعمال الأدبية. ومن هنا كان الانخراط في قراءة دريدا وفوكو ودولوز وبارت وكرستيفا و…و… وتبييء أفكارهم في الكتابة النقدية. وهنا ل لا مندوحة من الاعتراف بالتأثير القوي للتقويض أو التفكيك في تحريك القراءة النقدية في “نظرية العنوان” من خلال استثمار مفاهيم دريدا عن اللاحسم والأثر والنصية ومفهوم الاخـ(تـــ)ـلاف [الرسم الأخير بصياغة كاظم جهاد]. إنّ قوة التقويض تكمن بالدرجة الأولى في أنه ليس منهجاً، مسطرةً، خطواتٍ يمكن حفظها وإنما استراتيجية قراءة، قائمة على السَّلب، يمكن التحرّك بها في تضاريس النصوص والأخذ بالحسبان التغييرات الطارئة التي تواجه المسافر في ليل النّص. وفي واقع الحال فإنّ التقويض يتيح للقارىء بمفاهيمه الاشتغال بصورة مزدوجة: توصيف العمل الأدبي وتبيان مدى قدرته من عدمها على توليد الدلالة بصورة متكثّرة وعشوائية واللعب مع التاريخ من خلال مفهوم الأثر والتناص من جهة أولى، ثمّ التعامل الذكي مع العمل الأدبي بوصفه بنيةً ممتصة للإطار السوسيو ــ ثقافي ومن ثم فهو عرضة لمخاتلات الأنساق الثقافية المضمرة والظاهرة من جهة ثانية. في الواقع؛ الأمر متروك للقارىء للحكم على نجاحي أو فشلي في استثماري لمقولات التقويض من أجل تغذية القراءة النقدية وإثرائها. وأودّ أن أشير في ختام هذه الإجابة أن أهمية فكر دريدا تتزايد ولاسيما في مرحلته الأخيرة حيث الاهتمام بموضوعات سياسية وأخلاقية، الأمر الذي كان كفيلاً بإخراج التقويض من عالم النص إلى عالم العالم ذاته والانخراط في مشكلاته وانسداداته. 

م. سليمان: سؤال جانبي لو سمحتم بما يخص هذا السُّؤال.. د. خالد، كناقد، هل يفرض موضوع /فكرة الرواية على اهتمامه، أم العمل مجملاً يدفعه للقيام بالعمل النقدي؟ وكذلك المقالات التي تترجم نها، هل لها حيز خاص من اهتمامكم بالموضوع أم كاتبها؟

خ. حسين: حتى الدّراسات أو المقالات التي أًكلّف بكتابتها أتركها للحظة المفارقة، اللحظة ــ الحدث، اللحظة ــ الأفق التي ستحضن “الجملة الأولى”، إذ أُعدها الحدَّ بين النص النقدي واللاــ نص. ومتى ارتضيت عن “الجملة الأولى:” فإنني أمضي ــ وإن كان بخوف ــ في جسد البياض. من دون ريبٍ أضع الترسيمات والخطط لكنها وتحت ضغوط اللغة النقدية وبخاصة تحت وطأة طابعها الاستعاري والأفكار الجانبية التي تندلع على خطوط التماس مع النص قيد القراءة تتعدّل، تتغيّر، تغيب وتحضر. لكن الفكرة تتسع وتنتهك الفراغ وترسم تضاريسها بشراسة. من جهةٍ أخرى ثمة “نداء” في العمل الأدبي: رواية، سيرة ذاتية، قصيدة، مجموعة شعرية…إلخ. نداءٌ ينادي، قد ينطلقُ من العنوان أو من الخاتمة أو الجسد…العمل المختلف والمغاير يترك دمغته، باستمرار، في جسدِ قارئِهِ، الدّمغة ــ النَّداء هي التي تفرضُ إعادة ابتكار النَّص قيد ــ القراءة واختراعه من جديد: النص المندفع في اللغة بنعمةِ “الاختلاف” بالمعنى التقويضي هو نَداءٌ في انتظار الاستجابة النقدية. كلُّ نداءٍ مختلف هو مشروع قراءة في طريق الارتسام. وبخصوص جملة المقالات التي حاولت ترجمتها، والأصوب تحويلها، من الإنكليزية إلى العربية، فكما تلاحظين فهي تمسُّ الوضعية الأدبية ــ النقدية التي تشغل تفكيري وتتمحور حول اقترابات ــ بعض الفلاسفة: بلانشو، دريدا، زونتاگ وقريباً فوكو وكذلك بعض شرّاح الفكر المعاصر في الفكر الأوروبي والأمريكي، بمعنى أن التحويل هنا يتّجه نحو ما يهمّني، أي ما يمكن أن يُسهم في تطوير إدراكي شخصياً للفعل الأدبي وآليات تفسيره وتأويله. وفي الحقيقة؛ فإنّ صعوبة هذه المقالات هي التي تدفعني إلى الترجمة لمحاصرتها ضمن لغةٍ قيد ــ المتناول بقصد الفهم أولاً وقبل كلِّ شيء. 

م. سليمان: كيف تقيم تجربتك مع القراء؟ حين تبدأ بخوض مغامرة الكتابة هل تفكّر بقارئٍ حقيقي أم افتراضي؟ أم تهتم بالنص أكثر؟

خ. حسين: أيُّ محاولةٍ في الكتابة ترتقي أن تكونَ في مدارج المغامرة وممراتها ودهاليزها، لا أبحث عن السُّهولة والمجانية، لا أسعى إلى كتابةٍ تُرمى بعد قراءتها، في الكتابة النقدية، بقدر ما آخذ القارىء في حسباني على القارىء كذلك أن يأخذ بحسبانه النّص النقدي الذي أقدّمه له، فهو ليس بتقرير صحفيّ أو عرض لعمل أدبي ما. إن نصيَّ النقدي، وهذا زعمٌ فحسب، يحافظ بعمقٍ على الخطوات المنهجية دون الإفراط بالعمق بأيّ شكل كان، مع تحرير اللغة النقدية من جفاف الكتابة الأكاديمية والرّهان على التأويل ومضاعفة التأويل وفق التقاليد الهرمينوطيقية والتقويضية بما يلتزم مع السّياق النَّصي للعمل الأدبي. إن وجود وسائل الميديا تسمح للقارىء ــ النقدي بتفحُّص ردود أفعال القراء إزاء الفعل النقدي بتدرُّجها بين الإعجاب والسّخط أو الجهل بالمرجعية النقدية التي أنطلق منها في اقتراباتي النقدية. لذلك من الصعوبة بمكان الخروج بنتيجة عامة أو محددة لتقبُّلات القراء لاسيما أن النقد لم يتجذّر بعدُ في مشهديات القراءة خارج المشهد الأكاديمي. وفي يقيني لايزال يُنظر إلى الفعل النقدي بنظرةٍ بسيطة أو بدائية أو بارتياب ولايزال فعل الاستقبال النقدي رهين الثنائية التقاطبية: معي أو ضدّي في علاقته بمنتج النص. من جهةٍ أُخرى فأطراف الفعل النقدي: القارىء ــ النقدي، القارىء ــ المستقبل (والآن القارىء الافتراضي ضرورةً) ثم النص قيد القراءة تفعل فعلها في تحديد أبعاد الفعل النقدي لكن دعيني أقول إنّ كينونة الفعل النقدي، تنظيراً وممارسةً بما يتضمن من منهجية ومفاهيم نقدية وخطوات لإدارة فعل القراءة في صياغة أسلوبية محددة تأتي لديّ في الدرجة الأولى.    

سليم بركات: اللا ــ مألوفية في تضاعف

م.سليمان: عن أدب سليم بركاتــ  الذي يتميز بطريقة خروجه عن المألوف، وخياله الفذ؛ ليطال الوصف قصائده على أنها جملٌ مجزأة تُقدم على نحوٍ غير مألوف تشع بتوترٍ عصبي
برأيكم؛ ما التقنية التي اتبعها بركات في فرادته وقدرته المذهلة على الإدهاش؟ حيال أدبه المغلف بلغة معجمية لا تحتمل الوضوح؛ أنا كقارئة علي أن أعود للقاموس مراراً حتى أتمكن من فهم وعيش التجربة الإنسانية في أي عملٍ له.. د. خالد كناقد كيف يفسر أدب بركات؟ وهل من مناهج خاصة يتبعها في مقاربة نصوص بركات؟ 

خ. حسين: أدبُ الشَّاعر والروائي الكبير سليم بركات (على الأقل من وجهة نظري) لا يخرج في هذا التوصيف عن المسار (أو الفعل) الأدبيبصورة عامة، فالأدب من حيث هو خطاب مغاير أو يسعى إلى الاخـ[تـ]ـلاف [بدمغة كاظم جهاد]، حدثٌ غريبٌ وغير مألوفٌ، سوف ينتهي الأدب حينمايسعى الأديب إلى المألوف والاعتيادي من الخطاب المنسوج حول العالم. بناءً على هذه الفكرة البسيطة فاللا ــ ألفة والغرابة والالتباس والإبهام وغير المحسوم، أقصد تلك العتمة الدلالية التي ترافق الخطاب الأدبي عادةً، كلُّ ذلك أصلٌ فيه، محايث له وليس بالأمر الطارئ…لكن ما يميّز الخطاب الأدبي لدى بركات هو اللاــ مألوفية المضاعفة فيه، الاشتداد المريع للعتمة التي ترافقه، اللعب، فضاء من اللغة يعبث فيه الخيال بنظام وبترتيبٍ مشرق وقلق… بركات متمكن من لعبة الخيال ويدرك تماماً كيف يؤسّس البِنَى الأدبية وكيف تنمو بمهارةٍ وحذاقة لكنه لا ينسى العالم، لا ينسى الأواصر التي تربط الأدب مع هذا العالم. أدب بركات يقيم في أرض اللا ــ مألوف، حيث العسر والاعتياص، لكنه يدفع القارىء أن يغيّر علاقته مع اللغة في ارتباطاتها مع العالم والنوع الأدبي، إنّه الأدب (وقد أكون مخطئاً في توصيفي)الذي يفتح شهية التأويل في تضاعفات غريبة ومتكثرة، هذا من جهة.  ومن جهة أخرى وفيما يتعلق بالتقنية التي يتبعها بركات في التأسيس للغرابة الأدبية يمكنني القول…بداية ليس هناك من أقوال مجزّأة في أدب بركات…وقد ذكرت آنفاً أن بركات على وعيٍ بالبنى الأدبية ونصه يكشف عن الكثير من الانسجام والتماسك اللذين يمنحان القارىء والقارىء ــ النقدي الكثير من السهولة في الإحاطة بنصوصه التي تحتاج إلى مهارة التلقي والتحرّر من الافتراضاتالمسبقة للأدب والتلقي. أعتقد أن لعبةَ الكتابةِ لدى بركات تكشف عن أمر هام يتمحور حول تحرير اللغة وذلك بزجّ العلامات اللغوية في سياقاتٍ من الانحراف والانزياح تكاد أحياناً تخون إرثها الدلالي مما يقود النص تماماً إلى عوالم الصمت، الصمت المخيف، لغةٌ ــ صمتٌ أو لغةٌ من الصمت بشكل أصوب، كما لو أن العلامة الأدبية تفقد قدرتها وكفاءتها على الكلام والتدلال…وهذا ليس بشكل دائم وإنما في النُّصوص الشّعرية أو بعضها على الأرجح (عجرفة المتجانس، شعر) لكن الحدث سوف يختلف في النصوص الروائية والصعوبات تتدرج من رواية إلى أخرى. لكنّ هذا الصّمت الذي يحفُّ بالنُّصوص أيضاً يدع للقارىء فسحةً من الحرية التأويلية في ملء فجوات الصمت النصي. أي أن نصَّ بركات، وهذا أراه صحيحاً، يُخرج القارىء من وضعية البلادة الذّهنية إلى فضاءٍ مشتعلٍ بالتأويل والاحتمال واللعب في الكتابة ذاتها، نصٌّ لايكفُّ عن توليد المعنى المحتمل والممكن.أما ثالثُ الأنحاء هنا، وهو صعوبة اللغة وتوصيفها بالطابع المعجمي فلا أرى في ذلك من رؤيةٍ واقعيةٍ لمواجهة نصوص بركات، فلا علامة لغوية تلج فضاء النص الأدبي وتبقى على إرثها الدلالي الثابت، فالسمة الخاصة بالمعجم هو تثبيت الدلالة (أو تدرُّج الدلالة) للكلمة في استعمالاتها في مرحلة تاريخية معينة وهذا بخلاف العلامة اللغوية في وضعيتها السّياقية في النص الأدبي حيث أفق المعنى مفتوح وغير متناهٍ. وينبغي ألا ننسى أن الشّعر يحُيي اللغة، من خلال إيقاظ اللغة الراقدة في بطون الكتب، وظيفة الشّعر أن يعود بنا إلى تاريخ اللغة، هذه العودة تمدّ اللغة ذاتها بأسباب الحياة والجمال المرتقب في لعبة الأدب. بخصوص التساؤل الأخير حول تقنيات التفسير لديّ كقارىء ــ نقدي (أو هكذا يمكن أن أفترض)في فهم أعمال الشاعر والروائي سليم بركات، فإنني في الواقع وجدت باكراً الطابع “التقويضي” لكتابة بركات من حيث تمتُّع العلامة الأدبية بالانفتاح على المحتمل من الدلالة و(المعنى)، وهروبها من القطع الدلالي أي أنها تعتاش على “اللاــ حسم” ومفارقات التناص والكفاءة على بَنْيَنَةِ النصية المغايرة …إلخ، ولذلك ففي القليل جداً الذي كتبته عنه استثمرت مفاهيم الفيلسوف الفرنسي/ الجزائري جاك دريدا. في واقع الحال ليس ثمة من وصفة جاهزة لتطبيق الإجراء النقدي على أعمال الكاتب… وأحاول أن أجتهد مثل الآخرين ــ في الكشف عن شعرية نصوص بركات بأدوات نقدية مستمدة من الثقافة النقدية المعاصرة لعلها تضيء تلك العتمة ــ اللذيذة التي تحيط بنصوص الكاتب. ولذلك لا أظنّ أن المحاولات الانطباعية أو النقدية المستهلكةـ بالطبع لها الحق الكامل في الوجود، يمكن أن تأتي بجديدٍ فيما يتعلق بالمردود الجمالي لهذه الأعمال كونها تتعامل مع نصوص مختلفة من موقع المألوف من المعرفة النقدية، وهنا المفارقة حينما يتفوق النص في بنائه وأسراره ولغته وإشكالياته الإحالية على الأدوات النقدية المستثمرة في المعالجة. 

م. سليمان: حديثاً، في قصيدة النثر أو النص النثري كثيراً ما نجد الشاعر يلجأ للغموض واستخدام مفردات لا تخدم الدلالة الشّعرية في أحايين كثيرة.. كيف يمارس الفعل النقدي على تلك النصوص؟ هل هي حقاً كما يُشاع نصوصٌ مكتوبة لقارئ المستقبل؟ هل يمكن أن يتعاضد هذا المفهوم بما يجري راهناَ في العالم من خراب وتدمير شامل لمعظم المنظومات على كافة الصعد؟

خ. حسين: من البداية أقول إن “الغموض” هو سرُّ الشعر وقدره، لا شعر من دون غموض، من حيث إن الغموض هو الآلية التي تبتكر هذه العتمة اللذيذة التي تختبىء فيها “الكلمة الشعرية” وتحفظ ذاتها من الاستهلاك، ولذلك فالوضوح بذاته هو الأمر العارض والطارىء، أشبه بفيروس خبيث، الذي يتسلّل إلى ضفاف الشّعر للإيقاع به وتعريضه للفقر، والقفر، الدلالي. وعن طريق هذه الآلية ــ أي الغموض ــ يُحيي الشّعر اللغة من مواتها بإزاحة ما هو في طور الموت والاستهلاك من المجازات وإحلال المتألق من الكلام المعتم محلها، أو العتمة المتألقة التي تهب اللغة فسحةً جديدة من الاستمرار ومواكبة العالم والكينونة. أما القول بإنه في “قصيدة ــ النثر” (كثيراً ما نجد الشاعر يلجأ للغموض واستخدام مفردات لا تخدم الدلالة الشعرية في أحايين كثيرة)، فهذا ضربٌ من التوصيف الفاشل والهابط للفعل الشعري في قصيدة النثر المفتوحة على أشكال متنوعة من الكتابة. ثم إن الدلالة الشّعرية ليست بالكائن المستقل أو المتعالي على فعالية الحدث الشِّعري وإنما هي تتمخّض عن التفاعل بين القصيدة والقارىء، وقصيدة النثر بأشكالها العديدة (ولاسيما على مستوى هندسة الكتابة وتقنيات السرد المستثمرة) على عكس ما سبقها من أصناف شعرية، أقول قصيدة النثر تقتضي “فهوماً” جديدة تخصُّ النوع واللغة وكيفية تشكيل الدلالة، علاوة على أدواتٍ نقدية مغايرة وأساليب مبتكرة من المقاربات النقدية.  من جهةٍ أُخرى علاقة الشعر بالمستقبل أراها قيمة محايثة/ ملازمة للشّعر ولا تنفصل عنه، الشّعر بما يمتلكه من سرٍّ هو الذي يمنح الطاقة الهائلة للعلامة الشعرية لاختراق زمنها إلى زمن مرتقب، وهذا لا يتناقض البتة مع الوسم التاريخي للكلمة الشعرية وإن لم يكن الأمر كذلك؛ فما الذي يجعل الإلياذة والأوديسة والمعلقات وكذلك  شعر أبي تمام وأدب شكسبير وسعدي وحافظ وخاني والجزري ..إلخ، أن يحضر في العصور اللاحقة بكل هذا الألق والبعد الحداثي..؟ إن “المستقبل”، بوصفه زمناً مرتقباً، يكمن في القصيدة ذاتها، كما لو أن القصيدة، القصيدة حقاً، تُكتب ليس في لحظتها الراهنة لها وإنما في المستقبل ذاته.

من جهة ثالثة الربّط بين “قصيدة النثر” بعوالمها الغامضة والخراب الذي يعمُّ العالم لهو ربط ميكانيكي يفتقد للتأمل والرؤية الكثيفة…لا شكَّ بأنّ الأشكال الأدبية ومن بينها الأصناف الشِّعرية تعكس التحولات والمنعطفات التي تصيب الثقافات العالمية بطرائق غير مباشرة ولكنها أيضاً تتمثّل تلك التغيرات التي تصيبُ الرؤيةَ الفلسفية للغة والمعنى في علاقتهما بالعالم، وتوازياً مع تقويض مفاهيم الهوية والذات المطلقة في الفلسفة والمفاهيم التي شاعت مع الفيزياء الكلاسيكية وصولاً إلى فلسفات “الاختلاف” وقبلها فيزياء النسبية ومفاهيم الاحتمال لدى هايزنبيرغ (على ما أعتقد)…إلخ. إن “قصيدة النثر” تمارس تقويضاً مذهلاً للأشكال التي سبقتها بنسف أشكال الإيقاع المتوارثة والصّورة الشّعرية والشكل الهندسي للكتابة الشعرية …إنها النوع الأكثر انفتاحاً على الاحتمال الدلالي والتشكّل….  

الشعر والفلسفة

م. سليمان: من وحي أطروحتكم (لماذا يجنح الفلاسفة إلى الشعري؟) سأشيّد سؤالاً: علاقة الشعر بالفلسفة؟ ماذا كان أولاً الشعر أم الفلسفة؟ أيُّهما يسعى للقبض على ماهية الكينونة؟ أيهما يسعى لفهم سر الوجود؟

خ. حسين: بدايةً، (وأنا أشكركِ على هذه المتابعة الدقيقة لكتاباتي المتواضعة) ينبغي أن أشيرَ إلى أنّ هذه “الأطروحة” [(لماذا يجنح الفلاسفة إلى الشّعري؟)] تشكّل تعديلاً على عنوان المؤلّف الفرنسي كريستيان دوميه (جنوح الفلاسفة الشعري، 2016، الترجمة العربية)، والكتاب بمجمله يرصد هذه العلاقة، العلاقة بين الفلاسفة والشِّعر. كيف يستميت الفلاسفة على تقديم خطابٍ نقيّ، خالٍّ من التلوّث، وتحديداً من المجاز، لكن الأمر لا يتجاوز أن يكون زعماً، مجرد إدعاء، سحابة صيفٍ قائظٍ، فالشّعر لا يفارق اللغة، يتغلغل في أوصالها، كما لو أنه [في البدء كان الشّعر]، إذ يكتشف الفلاسفة أنّ ممارساتهم الخطابية مطعونة بالمجاز ومدموغة به، لا خطاب بشري بمنأى عن أثر العلامة الشّعرية ومن ثمّ فالخطاب يتشكّل تحت ضغوط المجاز بما يعكس الرّغبات والصّراعات والأهواء والجسد…هذه العلاقة تقتضي في الواقع الكثير من الإحاطة، فربما يصعب عليّ هنا أن أؤديّ حقّها الكامل.  ولكنْ لنتذكر أن منظومات الفلاسفة ماقبل سقراط، ولاسيما قصيدُ بارمينيدس(540 ق.م – 480 ق.م) منسوج شعراً بل إنه يغوص في عتمات الشعر ولذاته، ولذلك سيعود مارتن هايدغر بحسّه الفلسفيّ العميق [على الرغم من انزلاقاته النازية يوماً ما] إلى هذه الفترة ليبلغ نقطةً خطيرةً وهو أن الشعر هو الفلسفة الحقّة. وعلى الرغم من هذه المبالغة في قولة هايدغر فإنّ الشّعر بخاصةٍ والفن بعامةٍ يضرب بجذوره في تضاريس الخبرة البشرية في علاقتها بالعالم بكلّ أسراره وظواهره: نعم؛ الكلمة الشّعر ضرورة كونها تسكن اللغة ذاتها، لا مأوى للشّعر سوى اللغة ذاتها. لنقل تكثيفاُ: الشِّعر هو تلبيةٌ لنداء “العَالم”، [أستعمل العالم، هنا بدلاً من مقولة (الكينونة) لدى هايدغر التي تعاني من مأزق الميتافيزيقا بصورة حادة)]. ثمة نداءٌ يأتينا من الحجر والشُّجر والكائن والعمران لنكون هنا في هذا العَالم، في هذه الأرض النبيلة، الكلمة الشّعرية تضيء الممر إلى العالم.

م. سليمان: هل تمكن الأدب” أدب الأزمات” من رصد المأساة السورية كما توجب؟ كيف تقرأ النتاج الأدبي من هذا النوع؟ وهل تتأمل المزيد أم سيبقى في ذات الدائرة بالفكرة ذاتها؟

مدى تأثر الفكر الأدبي بـ(الهجرة/الاغتراب/المهجر/المنفى)؟ وهو الذي عانى من الاستبداد لعقودٍ طويلة؟

خ. حسين: سؤالٌ يتشظّى عن أسئلة عدة وأعتقد أنه يحتاج إلى الكثير لمقاربته واستيفائه فالمأساة السّورية التي غدت رهين تقوب سوداء هي بمنأى عن المفهمة، كما أنني لا أستطيع الزعم بأنني أسير بتوازٍ مع النتاج الأدبي. ومثل كل أزمة ضاريةٍ وضاربةٍ في الانسحاق وانسداد الآفاق قد أنتجت الكثير من الممارسات الخطابية، أحطتُ نقدياً بالقليل منها لكن ثمة الكثير والكثير يتدفق إلينا ولا أظن أن قارئاً ــ نقدياً وحده بقادر على محاصرة هذا النتاج ولذلك ليس بإمكاني إعطاء أي حكم نقديّ على عمومية هذه الممارسات الأدبية إلا في حدود النصوص التي قاربتها وهي قراءات منشورة في مواقع إلكترونية عدة. في العموم الأعمال العظيمة والمتألقة لا تُنتج في غضون الأزمات العاصفة، علينا أن ننتظر بعض الوقت…من ناحية أخرى أشرتُ أن الفكر الأدبي، ودعيني أركّز على “الفعل النقدي”، يرتبط بالفضاء الذي يتهيكلُ فيه، فهذا الفعل الذي كان رهين فضاءٍ مغلقٍ ومحاصرٍ بثقافةٍ استبدايةٍ، شموليةٍ وجد في المكان ــ الآخر، المكان ــ المختلف، أوروبا في صيغتها الديمقراطية وليس أوروبا “بوتين”، وعلى الرغم من قسوة المهجر والاغتراب والمنفى فقد وجد هذا الفعل في فضاء الحرية القدرة على القول، القدرة على ممارسة الفعل ذاته. لكن الفعل النقدي بحاجةٍ أعمق لإنتاج المنعطفات النصية إلى بعض الزمن والاطلاع على الممارسات النقدية هنا وهضمها، وذلك مرهون بإتقان اللغات الأساسية: الإنكليزية والفرنسية والألمانية…سأنتظر مثلك ومثل أيّ قارىء مهتم بالعمل الأدبي ذلك الفعل النقدي الجديد والمغاير من نقّاد المستقبل أو نقّاد في طور القدوم…. 

 م. سليمان: مرّت على العالم ثوراتٌ عديدة وآخرها ثورة التكنولوجيا والمعرفة والتي أدت إلى تنامي الوعي العام/الجمعي، بأي عينٍ تترقب الجيل الجديد في مجالي الأدب والفكر، وهو المقموع من الأجيال السابقة؟ هل سيخلق مفاهيم فكرية أو فلسفية مغايرة/جديدة؟

خ. حسين: للأسف؛ لا أملك إمكانيات المؤرخ وجلده لمتابعة المنعطفات التي تفاجىء حركة الفكر أو الاقتصاد أو الأنحاء الأخرى. ومن ثم فالآراء في هذا المحفل لا تخرج عن مسار الانطباع الشّخصي. إلى ذلك وأنا أقرأ السّؤال شعرت بأن الزَّمن قد دفعني بعيداً عن المشهد، أئلى هذه الدرجة قد ارتكب الزمن تجاعيده في الروح؟ وبعبارة أخرى قد أخرجني سؤالك من مشهد الكتابة أدباً وفكراً؛ لأتولى مهام “العين التي ترقب”، هذا المهام التي لا تلائم طبيعتي مطلقاً، فأنا لا أتقن المراقبة، لا أتقن الأرخنة، لا أريد أن أغادر المشهد لأنّ ما أنتجته لا يمثّل شيئاً مهماً، كنت أحلمُ بكتاباتٍ أكثر قوةً وحضوراً واختلافاً لكن فترة النضج تعرّضتْ إلى زلزال عصف بكلّ سوريا، عصف بكل المخططات والخطط، ليبتلعنا عراء مرعب! ونجد ذواتنا على أقواس متاهة لا أمل للخروج منها قريباً.  لا شك بأن أيّ حقبة ترمي بعقولها في المشهد والحقبة الرّاهنة لا تخرج عن عجرفة المعيار في هذا الشّأن في الدفع بعقولها. وإذا كان المقصود بالجيل (الأجيال) الراهنـ(ـة) التي تعيش نعمة التكنولوجيا وبؤسها فليس بمستطاعي التأريخ لها لكنّ الفكر والأدب السّائد لايزال مكتنفاً بالصدى، صدى الأجيال الأقدم وصدى الآخر العاصف…لا إجابة لديّ عن مفاهيمه الفكرية أو الفلسفية ومدى إنجازه لها من عدمه…لربما ثمة…. ثمة مفاجآت…. بخصوص الجيل الذي أنتمي إليه، فالأمر لا يحيد عن تَبيِيْىء أفكار الآخر…لا دروب تَرتكبُ مفاجآتها…الشيء الأشد حضوراً، الأكثر سحراً: فعل الترجمة…الترجمة بما هي عبور للحدود، بما هي استضافة للآخر، بما هي إحداث جرح في اللغة ــ المنقولة إليها والمنقولة عنها، أعني الترجمة بماهي إخصاب للغة وللفكر وتقويض للأصالة المزعومة للغة ما…دعينا نقول: ثمة شعرية للترجمة تتبلور في المشهد الثقافي…تأخذني السعادة كذلك أن اللغة الكردية أيضاً باتت تتكلمُ اللغات الأخرى في خضمّ أفعال الترجمة وممارساتها… هل الأجيال الجديدة مقموعة؟ العالم برمته محاصَر بالقمع والرُّعب والجوع الآن…

                                                              في النهاية مع جزيل الشكر…..

شارك هذا المقال: