خويبون في الجزيرة السورية العليا تحت الانتداب الفرنسي و التقارب الكوردي الأرمني -2

شارك هذا المقال:

( بداية الخلافات بين أعضاء خويبون )

فاهيه طاشجيان

ترجمة: يونس أسعد

 

مصلحة فرنسا في تنمية الحركة الكردية في سوريا

في ظل ظروف النزاع الحدودي بين تركيا وفرنسا المنتدِبة، هل يمكن القول أن المفوضية السامية الفرنسية حاولت استغلال الأنشطة المناهضة لتركية و التي كان تقوم بها خويبون لزيادة الضغط على أنقرة؟

حسب رأي نيليدا فوكارو، “كانت أنشطة خويبون في الجزيرة، إلى حد كبير، بتشجيع من سلطات الانتداب الفرنسي  التي كانت تحاول دعم ظهور خصوصيات الهوية في المناطق الريفية في سوريا، لكي يوازي النفوذ المتنامي للقوميين العرب في المراكز الحضرية الكبرى”. (8 )

مع أن الكاتبة توافق على فكرة التأثير الفرنسي على عمل الفرع السوري من خويبون، فهي تؤكّد في المقام الأول على الدور الذي كانت تلعبه هذه المنظمة الكردية في السياسة الداخلية السورية. أمّا كريستيان فيلود الذي يتناول في دراسته مسألة النزاع الفرنسي التركي في  الجزيرة العليا، فهو يتمسك من جانبه بفرضية مساهمة الأكراد في تسوية هذا الصراع لصالح سوريا.  وحسب رأيه فإن نشاط حاجو هو الذي دفع أنقرة إلى قبول تنازلات هامة في موقفها الذي كان يعتبر متصلّبا حتى ذلك الوقت. و لم يتطرق الكاتب إلا بإيجاز شديد إلى مسألة خويبون وأنشطتها في الجزيرة العليا، و حصراً  في ختام أطروحته.(9 )

ويبدو أن اهتمام المفوضية السامية في بيروت بوجود وتطوير الحركة القومية الكردية في شمال سوريا قد ركّز على ثلاثة مواضيع أساسية. ولنتذكر مع ذلك أن التساهل النسبي والضمني الذي أبدته مفوضية بيروت كان مشروطاً ببعض المبادئ غير الملموسة، ألا و هي رفض منح الأكراد في سوريا، بأي شكل كان، الاستقلال الإداري الذاتي؛ و الحظر القاطع على الأكراد السوريين لأي تجاوز مكشوف لحركتهم في الأراضي التركية (عمليات التسلل، والغارات المسلحة، و ما إلى ذلك).

السياسة الداخلية السورية – خلال العشرينيات،كانت سلطات الانتداب تشن معركة مفتوحة ضد الاستقلاليين السوريين.

وقد وفرت الانتخابات البرلمانية التي أجريت في سوريا ولبنان إطاراً مواتياً كان المتحاربون يستطيعون من خلاله اختبار  قوتهم وشعبيتهم. و الحالة هذه فأن خويبون، التي أعلنت عن مناصرتها للانتداب، كانت حليفاً طبيعياً و بكل وضوح للمفوضية السامية خلال الانتخابات السورية.  وكان المرشحون الذين اختارتهم المنظمة الكردية جزءا من كتلة المؤيدين لاستمرار الانتداب. ولهذا السبب، فإن تطور خويبون و وجودها بين السكان الأكراد لم يؤدي إلاّ إلى تعزيز قوة الناخبين المؤيدين للانتداب.

الثقل المضاد لأهداف تركيا الإقليمية – كان التهديد التركي لشمال سوريا حقيقياً طوال فترة الحكم الفرنسي، ولم يتخلى الأتراك عن طموحاتهم الإقليمية في بعض المناطق السورية. بيد أن السلطات الفرنسية في بلاد الشام كان تحت تصرفها عدد قليل من الجنود لا يكفي للسيطرة على البلدان الخاضعة لانتدابها، بينما كانت مستعدة لمواجهة أي هجوم تركي.

وفي ظل هذه الظروف، كانت من مصلحة مفوضية بيروت أن تكون حليفة للقبائل الكردية في شمال سوريا، و التي كانت تستطيع أن تلعب دوراً مساعداً  في حالة الحرب. خاصة وأن الزعماء الأكراد كانوا يتمتعون بنفوذ قوي على مواطنيهم الذين يعيشون في تركيا. وقد اتفق مع هذا الرأي هوغ، القنصل البريطاني في حلب بعد الاجتماع الذي عقده مع ريلوس المسؤول الأعلى للمفوضية السامية الفرنسية. كتب هوغ أنه لاحظ تواطؤا فرنسيا في الثورة الكردية في تركيا. وأضاف أن الفرنسيين يأملون في استغلال استياء الأكراد لجعلهم قوة احتياطية جاهزة للهجوم على تركيا كفعل انتقامي، في حال تجددت هجمات العصابات من الأراضي التركية على شمال سوريا.(10 )

النزاع حول ترسيم الحدود في منطقة الجزيرة العليا – لم يكن قد تم تسوية الخلاف بعد، وبطبيعة الحال سعت بيروت إلى إيجاد وسائل للضغط من أجل أن تقبل أنقرة مطالباتها  بالأراضي المتعلقة بمنطقة منقار البط

وما دام هذا النزاع بقي معلقاً والمنطقة المتنازع عليها كانت محتلة من قبل  الجيش التركي، فمن الواضح أن سلطات الانتداب لم تكن على استعداد للامتثال لمطالب الحكومة التركية فيما يتصل بابعاد الزعماء الأكراد، الذين كانوا ينتمون بغالبيتهم إلى منظمة خويبون ، من المنطقة الحدودية.

وكانت المخاوف التركية بشأن وجود منظمة كردية قوية على مشارف تركيا أكثر حدة من عام 1927 حيث بدأ صراع مسلح كردي مرة أخرى في الأراضي التركية. وقد اكتسبت الثورة الكردية الجديدة المزيد من الأرض، وخاصة في الفترة 1928 و1929، وكان مركزها في شمال شرق بحيرة وان، وخاصة منطقة أرارات. وقد بات من الواضح أن خويبون، التي كان مقرها في سوريا، كانت المحرض الحقيقي للتمرد الكردي، والمعروف باسم “ثورة أرارات”. وأعربت أنقرة عن قلقها الشديد إزاء احتمال تحويل الجزيره العليا إلى قاعدة خلفية للمتمردين الأكراد في تركيا. و لذلك واصلت أنقرة الإعراب عن تخوفها من تجمع قادة خويبون في منطقة الجزيرة العليا. ولم تكن هذه المخاوف بلا أساس من الصحة تماماً.

 

تسوية النزاع الحدودي مع تركيا والحفاظ على السياسة الكردية من قبل فرنسا

وينبغي أن نتذكر أن المفوضية السامية الفرنسية أظهرت في وقت مبكر للغاية إرادتها الشديدة في حظر أي عمل كردي يهدف إلى جعل شمال سوريا قاعدة خلفية للثورات الكردية في تركيا.

وعلى الرغم من حزم بيروت، استمر التساهل مع وجود نشطاء خويبون بالقرب من الحدود التركية.    بين 1927 و  1930، كان جلادت بدرخان، زعيم خويبون، و فاهان بابازيان، مندوب الطاشناق لدى المنظمة الكردية، و هراتش بابازيان، ممثل الحزب الأرمني في حلب، يذهبون في كثير من الأحيان إلى الجزيرة العليا حيث كانت تنظم اجتماعات بمشاركة زعماء أكراد محليين. غير أن جميع الشخصيات السياسية الكردية التي اعتبرتها أنقرة تهديداً  والتي ادّعت أنها على مسافة بعيدة من المنطقة الحدودية ظلت باقية هناك دون قلق. و كان وجودهم في الجزيرة العليا، في وقت كانت فيه الثورة الكردية في أرارات في مرحلة النقاهة، قد حافظ على المخاوف الأمنية للحكومة التركية. و لأن أنقرة كانت على علم تماما بتوقيع اتفاق سياسي وعسكري كردي أرمني كان هدفه الواضح هو النظام التركي وسيادة تركيا.

ولذلك كانت الحالة السياسية والعسكرية حساسة بالنسبة للسلطات التركية. وكان جيشها يستعد لشن هجوم واسع النطاق ضد معقل المتمردين الأكراد في منطقة أرارات. وقد حدث ذلك في صيف عام 1930. و بموازاة ذلك، كانت تركيا تسعى بعناد إلى منع ظهور جيوب جديدة من المقاومة الكردية التي من شأنها أن تسبّب في تشتيت القوات المسلحة التركية وإرغامها على التعامل مع عدة جبهات بنفس الوقت.

وفي ظل هذه الظروف، حدث استرخاء في موقف أنقرة بشأن ترسيم حدود الجزيرة العليا. وفي صيف عام 1928، اقترح فتحي بك، السفير التركي في باريس، على الخارجية الفرنسية خط حدودي جديد يزيد قليلاً (من 2 الى 4 كم ) عن خط الحدود الذي كانت تطالب به فرنسا(11). واعتبر القادة الفرنسيون أن التنازلات التركية كافية.  وفي 22 حزيران 1929، وقع السيد تشارلز دي شامبرون، السفير الفرنسي لدى تركيا، والسيد توفيق رشدي ، وزير الخارجية التركي، بروتوكولا في أنقرة يثبت الحدود الجديدة.(12 )

و أخيرا دخلت القوات الفرنسية من 3 الى 6 حزيران 1930 الى منطقة منقار البط دون أية حادثة تذكر .

وهكذا اكتمل الاحتلال الفرنسي للجزيرة العليا، و اعتبرته المفوضية العليا نجاحاً مدوياً لسياستها.

يبدو أن التوقيع على بروتوكول أنقرة في 22 حزيران، و الذي أعقبه التوقيع على بروتوكول مراقبة الحدود في 29 حزيران، لم يكن كافيا لطمأنة سلطات الانتداب بالكامل، قبل أن تصل إلى هذه المرحلة من الاحتلال الفعلي لمنطقة منقار البط.  في الوقت الذي كانت تركيا تحشد قواتها لقمع الثورة الكردية في أرارات، طلبت أنقرة بإلحاح من المفوضية العليا الفرنسية إبعاد القادة الأكراد عن المنطقة الحدودية. و في نوفمبر 1929 عرضت تركيا قائمة طويلة من “غير المرغوب فيهم” على المسؤولين الفرنسيين. و من بينهم جميع أسماء القادة الأكراد الذين كانت لهم علاقة بخويبون. و بعبارة أخرى، دعت أنقرة إلى إبعاد جميع الزعماء السياسيين والقبليين الأكراد من  شمال سوريا.(13 )

ردت المفوضية العليا بتقديم قائمة خاصة بها من “غير المرغوب فيهم”، والتي كانت تتألف من زعماء قَبَليين أكراد وعرب معروفين بأنهم شاركوا سابقا في غارات مسلحة على الأراضي السورية من منطقة الحدود التركية. و الحالة هذه فان هؤلاء الأشخاص كانوا من المحميين من قِبَل السلطات التركية التي ظلت منذ أوائل العشرينيات  تمارس ضغوطاً مستمرة على الحدود السورية، وبالتالي فإنهم خدموا طموحات أنقرة في التعامل مع أجزاء من سوريا.

إن عرض المعسكرين التركي والفرنسي لمطالب متناقضة جعل من المستحيل التوصل إلى أي حل وسط بشأن طرد زعماء خويبون من شمال سوريا، و لا سيما من منطقة الجزيرة العليا. وبوسعنا أن نفترض أن تعنت بيروت في مواجهة مطالب الحكومة التركية كان له تفسيران رئيسيان:

الأول أنه على الرغم من التوقيع على بروتوكول 22 حزيران 1929، إلا أن القوات الفرنسية لم تكن قد دخلت بعد منطقة منقار البط.  و كانت المفوضية السامية لا تزال تشكك في الأحكام الحقيقية للأتراك فيما يتعلق بتطبيق بروتوكول أنقرة. و لذلك فإن بيروت لم تكن تميل إلى إبعاد زعماء خويبون في وقت مبكر، و بالتالي حرمان نفسها من أنجع وسيلة للضغط على السلطات التركية. و من ناحية أخرى، أصبح كل «غير المرغوبين فيهم» لدى تركيا في السنوات الأخيرة حلفاء مخلصين للمفوضية السامية.

و قد تجلى هذا التحالف في النضال ضد الطموحات الإقليمية التركية في سوريا من ناحية، و في التعامل مع الشؤون السياسية الداخلية السورية (تعزيز قوة الناخبين المؤيدين للانتداب) من ناحية أخرى. و بطبيعة الحال، إن لم ترتكب هذه الشخصيات جريمة صارخة ضد تركيا، فمن الصعب جدا على سلطات الانتداب أن تبعد هذه الشخصيات عن أماكن إقامتها. ومن الواضح أن مجرد كون الشخص عضوا في خويبون لم يكن يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.

في بداية حزيران 1930، كانت القوات الفرنسية في بلاد الشام تحتل بالفعل منقار البط. فهل كانت بيروت تستطيع وقتها الاستمرار في تجاهل المطالب الملحّة بشكل متزايد من قِبَل أنقرة بإبعاد زعماء خويبون؟

ومع ذلك، فإن حدثا ذا أهمية كبيرة بالنسبة للجزيرة العليا كان سيقع قريبا، و يقود سلطات الانتداب إلى اتخاذ تدابير قمعية ضد قادة خويبون في سوريا.

قضية تدخل خويبون العسكري في تركيا انطلاقاً من الأراضي السورية

وفي صيف عام 1930، كان الهجوم العسكري التركي على منطقة أرارات جارياً وسجل أولى نجاحاته. وكانت الأنباء التي وصلت إلى قادة خويبون في سوريا عن الوضع في منطقة الثورة مثيرة للقلق، وأفادت عن تقدم كبير للجيش التركي. وكان بقاء حركة التمرد الكردية نفسها على المحك. وقد أثار هذا الوضع على الفور  حالة من  الذعر بين قادة خويبون اللاجئين  في سوريا.

وفي بداية شهر حزيران، انتقل جلادت بدرخان إلى الحسكة و استقر عند أبناء جميل باشا. وكان هدف الزعيم الكردي هو تنظيم عملية لمساعدة مواطنيه الثوار. وخلال شهر تموز، عقدت اجتماعات عديدة في الحسكة، في مقر إقامة جلادت بدرخان، بمشاركة الزعماء الأكراد في الجزيرة العليا، من أجل إعداد خطة عمل مشتركة.(14 )

وكان المشروع الأولي يتعلق بإدخال مجموعات مسلحة إلى داخل الأراضى التركية، وفق محاور  محددة جيداً: 1- من جرابلس الى أورفا بالنسبة لمؤيدى مصطفى وبوزان ابنا شاهين؛  2- من رأس العين إلى ويران شهر بالنسبة لمؤيدى أبناء ابراهيم باشا؛ 3- من درباسية إلى ماردين بالنسبة لمؤيدي أبناء جميل باشا؛ 4- من قاميشلي إلى إيجيه خان بالنسبة لمؤيدي حاجو آغا بصحبة جلادت بدرخان.(15) وقد عقد قادة خويبون العزم على التقدم مع مجموعاتهم المسلحة في مناطق ميديات وماردين و ويران شهر. و يبدو أن عمل الأكراد السوريين تم تنظيمه بموجب اتفاق سري مع الثوار في تركيا. و وفقا للأخبار التي تلقتها خويبون، فإن زعماء القبائل قد تمردوا في منطقة سليفان، و كان من المقرر أن تمتد الحركة إلى سيرت. ومن ثم فإن اطلاق العملية التي خططت لها خويبون كانت من حيث المبدأ بمثابة  تحريض لنشوب ثورة كرديّة جديدة في منطقة أخرى غير أرارات. خاصة و أن الزعماء الأكراد كانوا مقتنعين بأنهم بمجرد دخولهم إلى أماكن سكناهم التقليدية في تركيا، فإن زعماء مثل حاجو  و أبناء إبراهيم باشا سيكون بوسعهم كسب أعضاء قبيلتهم(الموزعين على جانبي الحدود التركية السورية) إلى جانب قضيتهم  وبذلك تزيد أعدادهم زيادة كبيرة. (16 )

وفي 29 تموز،  اتُخذ قرار السير إلى نجدة أكراد تركيا. و وفقا لتقرير أجهزة الاستخبارات الفرنسية، فإنّ  مصطفى وبوزان أبناء  شاهين بك أبديا تحفّظهما ولم يلتزما بهذا القرار. أما حاجو آغا، مع جميل باشا وإبراهيم باشا، فقد وعدوا جلادت بدرخان بالعمل وفقا للقرار المتخذ.(17 )

وكان من المقرر بدء العملية في الثالث من آب. وفي ذلك اليوم، وصل بالفعل جلادت بدرخان ومحمد بن جميل باشا من الحسكة الى قبور البيض، مقر حاجو، للدخول أثناء الليل، بصحبة زعيم قبيلة هفيركان، إلى الأراضي التركية. ولكن كما كان متوقعاً فإن مصطفى وبوزان ابنا شاهين لم يتحركا. أما أبناء إبراهيم باشا فقد اكتفوا، إن جاز القول، بإبلاغ الضابط الفرنسي في رأس العين بالعملية الجارية، و الذي أمرهم بالامتناع عن المشاركة في هذه العملية. ولذلك تركّز العمل على محور القامشلي – الدرباسية.

أما ابناء جميل باشا الآخران، أكرم و قدري، فقد جمعا مجموعتهماالمسلحة في داهلغ،  وهي قرية تقع بالقرب من الحسكة وكانت تتألف من 16 «مسيحيا كرديا»(18) تم تجنيدهم في القامشلي و14 قروياً كانوا يعملون لصالح أبناء جميل باشا. و عبرت المجموعة الحدود إلى الغرب من الدرباسية و وصلت إلى غوس، وهي قرية تبعد 15 كيلومترا عن ماردين. ويبدو أن هذه القرية كانت مكان الاجتماع الذي كان من المقرر أن تنضم إليه المجموعة الكردية بقوة مسلحة تضم أكراد محليين. ومع ذلك، وجد أكرم و قدري أن المجموعة المحلية ضعيفة جدا للدخول في معركة  جادة ضد تركيا. ولذلك قررا العودة إلى سوريا ليلة 6-7 آب.(19 )

و من جانبها، كانت المجموعة التي يقودها حاجو تتألف من 70 إلى 80 شخصا. وقد وصلوا إلى قرية حباب، بالقرب من نصيبين، حيث كان من المقرر أيضا أن يرحب بهم أكراد تركيا.( 20 )

و وفقاً لاعترافات جلادت بدر خان، فإن الأكراد المحليين كانوا ينتظرون وصول ستة مدافع وأسلحة رشاشة وعد بها الفرنسيون الثوار الأكراد، ولكن لم يصل أي شيء. و تفيد تقارير جلادت بدرخان  أنه على الرغم من خيبة أملهم، فإن الثوار كانوا على استعداد دائم للانتفاضة، لو كان التسلل من سوريا قد تم بالفعل وفقاً للمحاور الأربعة المخطط لها. و لكن في اليوم التالي تبين أن ابني شاهين بك وأبناء إبراهيم باشا لم يتحرّكوا. وعلى الرغم من هذه الانشقاقات، فإن جلادت كان عازماً على القيام بالعملية.  بمساندة 80 من رجال حاجو، كان من المؤكد أنهم يستطيعون أن يأخذوا مدينة مديات التي، حسب رأيه، لم تكن محمية بشكل جدي، و كان مثل هذا النجاح الرمزي يمكن أن يكون نقطة البداية لانتفاضة كبيرة تشمل دياربكر وبوطان وماردين. و لكن هذه المرة، كان حاجو هو الذي رفض أن يتبع زعيم خويبون، و لم يكن أمام المجموعة أي خيار سوى العودة إلى قبور البيض، ليلة 5 – 6 آب.(21 )

و وفقاً للخطة فإن مجموعة من الأرمن كان من المخطط لهم أن ينضموا إلى قوات حاجو بعد ذهابه.  وكما كان مخططا، غادر 30 أرميينا جُنّدوا في القامشلي مساء 5 آب الى قبور البيض، التي كانت نقطة الانطلاق الى تركيا. ومع عودة جماعة حاجو إلى القرية في الوقت نفسه، عاد هؤلاء الأرمن إلى القامشلي .(22)

ورغم أن العملية كانت فاشلة تماما ولم تسفر عن أي اشتباكات مع الجيش التركي، فإنها كانت رغم ذلك انتهاكاً صارخاً لسيادة الاراضي التركية. فقد انتهك القادة الأكراد بصورة خطيرة التزامهم مع المسؤولين الفرنسيين بعدم انتهاك الأراضي التركية. وينبغي لنا أن نتذكر أن الامتثال لهذه القاعدة كان حتى ذلك الوقت السبب الرئيسي وراء تسامح بيروت مع زعماء خويبون في شمال سوريا.

وعلى الفور اتخذت المفوضية السامية تدابير صارمة ضد زعماء خويبون. و أٌبعد أبناء جميل باشا و حاجو آغا و أبناؤه عن منطقة دير الزور إلى أجل غير مسمى وأرسلوا إلى دمشق. و كان يحظر تماما على جلادت و كاميران بدرخان وممدوح سليم وهراتش بابازيان دخول الأراضي الواقعة شرق الفرات. وقد وضع مصطفى و بوزان ابنا شاهين، وكذلك الدكتور توروس باسمديان، تحت الإقامة الجبرية في حلب. ولم يعد فاهان بابازيان، الذي كان في فرنسا، يحصل على تأشيرة دخول الى سوريا ولبنان.  و تمّ وضع أبناء إبراهيم باشا تحت الإقامة الجبرية في الحسكة، في حين أٌبعد قدّور بك، ورسول آغا، وسامي بك المللي إلى دير الزور. كما تم تطبيق مراقبة وثيقة على قرية تل براك الأرمنية وعلى التجمعات الأرمنية الأخرى التي وفرت الرجال لعملية التوغل.

ونفذت عمليات نزع السلاح في المناطق المعنية بالقضية: تعلك، و قامشلي، و قبور البيض و ما يحيط بها. و في 4 آب، صدر قرار طرد بحق ثريا بدر خان من سوريا و لبنان، و كان يحمل جواز سفر مصري. و كان إجراء مماثل ينتظر شقيقه جلادت، ولكنه تهرب منه لأنه كان قد اختار الجنسية السورية في وقت سابق.(23 ) أما الزعماء الأكراد الآخرون، الأقل نفوذاً وانتماءاً إلى خويبون، فقد وضعوا بدورهم في محل الإقامة في دير الزور.(24 )

ولا بد من التشديد هنا على أن حالة توغل  الأكراد كانت أيضاً بمثابة صدمة قاسية للمفوضية السامية في سوريا ولبنان، و التي كان من المفترض أن تضمن عدم حدوث مثل هذه العمليات.

وقد هزت القضية إدارة الانتداب التي كانت مقتنعة حتى ذلك الوقت بأن لها اليد العليا على الشؤون الكردية في سوريا و أنها كانت على علم تام بأنشطة خويبون من خلال القادة الأكراد المخلصين لسلطات الانتداب مثل حاجو آغا، والشيخ بصراوي ( بصراوي آغا – مدارات كرد ) و مصطفى و بوزان ابني شاهين بك. وعلى هذا فقد طلبت الخارجية الفرنسية من بيروت فتح تحقيق فوري وطالبت ” بمعاقبة أي إهمال ان وجد هناك  من جانبنا”.(25 )

في 13 آب،  تم إرسال مدير جهاز الاستخبارات التابع للمفوضية السامية إلى منطقة الجزيرة لإجراء تحقيق متعمق في هذه المسألة.(26). و قد كشف التقرير النهائي للمقدم مورتيه  أن ضباط جهاز الاستخبارات في منطقة دير الزور، وخاصة ضباط جهاز قامشلي، كانوا على علم تام بمسألة استعدادات خويبون من أجل التوغل المسلح في تركيا.

بيد أن مورتيه أشار إلى وجود ثغرات في نظام نقل المعلومات إلى المفوضية السامية؛ و من ناحية أخرى، لم يأخذ الضباط الفرنسيون بجدية خطط الهجوم التي وضعتها خويبون والتي أبلغت عنها.(27 )

وقد حازت حدة التدابير المتخذة ضد زعماء خويبون على رضا  أنقرة. فقد شكر توفيق رشدي في نهاية آب 1930 على “موافقتها على اتخاذ التدابير اللازمة لضمان الامتثال لمعاهدة حسن الجوار”.(28 ) وفي أيلول من نفس العام، هنأ رئيس مجلس تركيا، في كلمة ألقاها في الجمعية الوطنية في أنقرة، سلطات الانتداب على التدابير المتخذة لضمان أمن الحدود.(29 )

منذ ذلك الوقت، دخل تاريخ  الجزيرة العليا مرحلة جديدة.  و بسبب حرمانها من زعمائها، الذين تقلصت حرياتهم في الحركة، لم تعد خويبون تعتبر تهديداً حقيقياً لأمن تركيا. وفي السنوات التالية وحتى نهاية فترة الانتداب، فإن التغيرات العميقة في العلاقات بين فرنسا وسوريا  كانت من شأنها أن تجعل الحركة الوطنية الكردية قوة في مجال السياسة الداخلية السورية أكثر منها في مجال الجغرافية السياسية الإقليمية.

 

 

 

 

( 7 ) وفقاً للأرقام التي قدمها روندو و نُشرت في عام 1939، بلغ عدد الأكراد 000 110 نسمة ( روندو ، بيير ، الاكراد في سوريا ، نشر في ” فرنسا المتوسطية و الافريقية ، 1939 ، الفصل 1 ، الصفحات 98-99 ) (RONDOT, Pierre, Les Kurdes de Syrie, dans «France Méditerranéenne et Africaine»,1939, fasc.1, pp.98-99).  من ناحية أخرى قدر عدد هؤلاء السكان في تقرير أعدته دوائر المفوضية العليا بشأن الأكراد في سوريا ونشر عام 1929 بنحو 100 ألف نسمة (مركز الارشيف الدبلوماسي في نانت)، انتداب سوريا ولبنان.

الدفعة الأولى، القسم  السياسي، رقم 569، «ملاحظات حول المسألة الكردية» (رقم 921/شرق سوريا / 2) «Notes sur la question kurde» (n°921/ES/2)، مذكرة مقدمة من المقدم تراكول، رئيس الاستخبارات في دول سوريا و جبل الدروز، إلى مدير الاستخبارات في بلاد الشام،  15 آذار  1929، دمشق).

( 8 ) فوكارو ، المرجع السالف الذكر، الصفحة 129

( 9 ) فيلود، كريستيان، تجربة الإدارة الإقليمية في سوريا خلال الانتداب الفرنسي : الفتح والاستعمار و اظهار اهمية الجزيرة، 1920-1936، رسالة دكتوراة، جامعة لوميير ليون 2، 1991.

VELUD, Christian, Une expérience d’administration régionale en Syrie durant le mandat français: conquête, colonisation et mise en valeur de la Gazîra, 1920-1936, thèse de doctorat, Université Lumière Lyon 2, 1991.

( 10 ) وزارة الخارجية ، 371 / 12255 ، بول ايستيرن جن ، 1927 ، رسالة من هوغ ، قنصل بريطانية العظمى في حلب ، الى وزارة الخارجية ، 15 كانون الاول 1927 ، حلب ، ص 175 .

FO (Foreign Office) 371/12255, Pol. Eastern–Gen., 1927, lettre de Hough, Consul de la GB à Alep, au FO, 15 déc. 1927, Alep, f° 175

(11 )  فيلود ، المرجع السابق، الصفحة 344.

( 12 ) بروتوكولات خط الحدود التركية السورية الموقعة في أنقرة في 22 يونيو 1929، نشر في «أورينتي مادرنو»(إيطاليا)،السنة التاسعة، العدد 8، أغسطس 1929، الصفحات 353 – 361 «Oriente Moderno»(rivista mensile), IXe année, n°8, août 1929, pp.353-361..

(13 ) وزارة الخارجية , بلاد الشام 1918 – 1940 ، سوريا – لبنان ، المجلد 185 ، رسالة من بونتوس الى وزير الخارجية ، 27 تشرين الثاني 1929 ، بيروت ، الصفحات 160 – 161 .

MAE (Ministère des Affaires étrangères), Levant 1918-1940, Syrie-Liban, vol.185, lettre de Ponsot au ministre des AE, 27 novembre 1929, Beyrouth, ff. 160-161

(14 ) وكان من بين المشاركين في اجتماعاته: جلادت و ثريا بدر خان، وأبناء جميل باشا، ومصطفى وبو زان ابنا شاهين، وأبناء إبراهيم باشا، وحاجو آغا، و قدور بيك، وكذلك ها راتش بابازيان  وتوروس باس-فيفاروا Hratch Papazian et Toros Basmadjian، بصفتهما عضوين من حزب الطاشناق.

(15 ) وزارة الخارجية ، بلاد الشام 1918-1940 ،سوريا-لبنان،المجلد 466 ، اراضي الفرات ، الاستخبارات، المعلومة رقم25 ، ” تصريحات جلادت بدرخان ” ، 23 ايلول 1930 ، ص 89 «Les déclarations de Djéladet Bédir Khan», 23 septembre 1930, f°89

( 16 ) وزارة الخارجية ، بلاد الشام 1918 – 1940 ، سوريا-لبنان ، المجلد 466 ، الامن العام ، 23 تموز 1930 ، قامشلي ، الصفحات 66 – 67 .

( 17 ) وزارة الخارجية ، بلاد الشام 1918-1940 ،سوريا-لبنان، المجلد 466 ، تقرير المقدم مورتيه ، مدير الاستخبارات في بلاد الشام ، 27 اب 1930 ، بيروت ، الصفحات 55 – 56 .

( 18 ) مركز الارشيف الدبلوماسي في نانت ، انتداب سوريا ولبنان, الدفعة الأولى, رقم 1765، الامن العام، المعلومة رقم 2865 ، 8  آب 1931، بيروت . من المرجح أن يشير هذا التعبير إلى الارمن الذين لجأوا حديثا إلى منطقة  الجزيرة العليا من مناطق كردستان في تركيا.

( 19 ) وزارة الخارجية ، تقرير مورتيه ، 27 اب 1930 ، الوثيقة المذكورة ، ص 57 .

( 20 ) تطابقت  شهادات الاكراد الذين عبروا الحدود على أنهم لم يصادفوا أى مواقع لحرس الحدود التركىة على طريقهم. ومن المرجح أن يكون الأتراك قد حشدوا بالكامل لقمع ثورة أرارات، فضلاً عن الثورات الكردية الأخرى التي كان من المرجح أن تنشأ في مناطق أخرى من شرق الأناضول.

( 21 ) وزارة الخارجية ، ” تصريحات جلادت بدرخان ” ، الوثيقة المذكورة ، الصفحات 90 – 92 . وقال قائد خويبون غاضبا من سلوك الزعماء الأكراد الآخرين و تحت صدمة فشل العملية : ” أنا رجل مخلص، و لست على الاطلاق مثل أبناء شاهين بك ولا مثل أبناء إبراهيم باشا، هم خونة و انتهازيون. أنا كردي وأنا عازم على سفك دمي أو أن أنجح يوما. الأمر لم ينته وسوف ننجح لفترة طويلة. أنا محترف في التمرد وسأغادر سوريا حالما يسمح لي من اجل الذهاب والعمل تحت سماوات أخرى”.

( 22 ) وزارة الخارجية ، تقرير مورتيه ، 27 اب 1930 ، الوثيقة المذكورة ، ص 58 .

( 23 ) وزارة الخارجية ، بلاد الشام 1918 – 1940 ، سوريا-لبنان ، المجلد 166 ، رسالة من بونسوت الى وزير الخارجية ، 23 ايلول 1930 ، بيروت ، الصفحات 41-48 : مركز الارشيف الدبلوماسي في نانت ، انتداب سوريا و لبنان ، الدفعة الاولى ، القسم السياسي ، رقم 572 ، رسالة من كاميران بدرخان الى المفوض السامي في بيروت ، 18 تشرين الاول 1930 ، بيروت.

( 24 ) وكان من بين هؤلاء القادة : ديراكلي الياس، ودرويش اغا، وحاجي سليمان عباس، والشيخ احمد،  والشيخ ابراهيم، والشيخ بشير.

(25 ) مركز الارشيف الدبلوماسي في نانت ، صندوق انقرة ، رقم 126 ، برقية(رقم 168 ) إلى السفارة الفرنسية في تركيا، 11 اب 1930، باريس.

(26 ) مركز الارشيف الدبلوماسي في نانت ، صندوق انقرة ،

رقم 126 ، برقية (رقم 171 ) إلى السفارة الفرنسية في تركيا، 14 آب 1930، باريس.

( 27 ) وزارة الخارجية ، تقرير مورتيه ، 27 اب 1930 ، الوثيقة المذكورة ، ص 62 .

( 28 ) مركز الارشيف الدبلوماسي في نانت ، صندوق انقرة ، رقم 126 ، برقية رقم 233 من السفارة الفرنسية في تركيا الى وزارة الخارجية ، 24 اب 1930 اسطنبول.

( 29 ) وزارة الخارجية ، الامانة العامة ، المجلد 2244 ، مذكرة شامبرون ، 24 ايلول 1930 ، اسطنبول.

يتبع ……..

 

 

 

شارك هذا المقال: