كيف استقرت فرنسا في سوريا الكونت دوغونتو بيرون – 1922

شارك هذا المقال:


ترجمها عن الفرنسية: إبراهيم خليل

الفصل الأول من الباب الثاني [معاهدة 1916 / سوريا – أهميتها – الوصف الجغرافي والاقتصادي – الأعراق والديانات – … ]

العنوان الأصلي للكتاب واسم المؤلف وسنة الطباعة

Comment la France s̕ est installée en Syrie 1918 – 1919
Comte R. De Gontaut – Biron
Copyright 1922

خلال السنتين اللتين ستعقبان الحرب, سيفتح تطبيق معاهدة 1916 الباب لمناقشات مستفيضة بين فرنسا وانكلترا ولكن إنكلترا ولكي تتحاشى التقيد بالمعنى الحرفي لنص الاتفاقية تراها تفتعل جدالات ومناورات على أمل إسقاط تلك الاتفاقية التي ندمت على توقيعها مسخرة في سبيل ذلك جميع قدراتها التفاوضية في خدمة أدوات التأثير الرهيبة التي تسيطر عليها في الشرق.

يبدو من الضروري قبل أن نشرع في تفحص تفاصيل بنود اتفاقية 1916 من وجهة النظر الفرنسية وتوضيح منافعها وأضرارها أن نسهب قليلاً في الحديث عن سوريا بوصفها الموضوع الرئيس في هذه الاتفاقية.

سوريا برزخ بين قارتين أو بالأحرى ممر معبد يغمر البحر أحد طرفيه بينما يحاذي الطرف الآخر الصحراء, هكذا تبدو لنا سوريا. لم يسبق لها مطلقاً بحدودها الضيقة تلك, والتي رأى فيها نابليون واحدة من أفضل الدفاعات, أن كانت دولة ولا كان سكانها أمة.

استخدمت الهجرات البشرية, منذ أقدم العصور, طرق سوريا الموازية والمجاورة للنقطة التي تبدو على الخريطة عدة تفرعات لطريق واحدة وبضعة مسالك للدرب ذاته. على أن سوريا لم تزل, كما كانت منذ القدم, ملتقى الجيوش والتجار العابرين, هذه البقعة التي تشكل شواطئها نقطة تماس وتعايش بين أوربا وآسيا وأفريقيا, بأرضها وبحرها على حد سواء, تبدو سوريا سوقاً بمئة مدينة, ميناءً بمئة حوض حيث تنتهي وتتقاطع الطرق التجارية للعالم القديم. من الواضح أن سبب غناها وازدهارها فيما سبق كان شعباً قوياً ومجتهداً عرض أفضل ما لديه. ورغم أنها فقدت اليوم بريقها القديم وجفت وانهارت فإنها ما تزال محافظة على هيبتها. بقيت مفاتنها ولم يتغير عليها شيء سوى افتقاد الجد والحماس بل إن أهمية سوريا قد ازدادت اليوم في عيون الممولين والاقتصاديين وما زال كبار رجال الدولة يرون في امتلاكها رهاناً للهيمنة السياسية في الشرق كله. إن ذكريات نجمة المجوس وتأليه ثابور واستلهامات غولغوثا قد تركت في جوها المشرق إشعاعاً متألقاً لأسرارها المجيدة حيث يفد إليها المسيحيون دائماً من أقطار الأرض لتثبيت ايمانهم وتجديد آمالهم.

رسمت الطبيعة لسوريا حدوداً في غاية الوضوح: البحر المتوسط في الغرب, جبال طوروس في الشمال الغربي والشمال, حوضا دجلة الأعلى والأوسط, والصحراء في الشرق, وأخيراً العربية السعودية وسيناء في الجنوب.

من عينتاب إلى مشارف سيناء وعلى امتداد ألف كم يفصلها انخفاض طولاني وحيث يجري باتجاه معاكس نهر العاصي ونهر الأردن, توجد سلسلتان متناظرتان تشكلان من الشمال إلى الجنوب هيكل سوريا. ستارة عملاقة تنبثق إحداها من الساحل المتوسطي بأسماء متعددة (الأمانوس, جبال النصيرية, لبنان, جبال الجليل ويهوذا) تمتد كتلتها الضخمة, التي نادراً ما تقطعها وديان داخلية, ببروز متناقص شيئاً فشيئاً, من خليج اسكندرونة إلى مرتفعات قناة السويس. السلسلة الأخرى موازية للأولى وبارتفاع مشابه لها تقريباً, تمتد من الشمال إلى الجنوب, جبال لبنان, جبل حرمون, جبل عجلون, وأخيراً جبال موآب. وعند أطراف الصحراء, شرقي جبل عجلون, تنتصب كتلة منعزلة تسمى بجبل حوران.

بين هذه الجروف الرطبة وبارتفاعات متساوية تماماً, ثمة صدع متصل يتخذ على التوالي الأسماء التالية: وادي العاصي, سهل البقاع, غور الأردن, بتغيرات ملحوظة في المستوى. وهكذا, فإن البقاع المحصور بين جبال لبنان وما يقابلها ترتفع وسطياً 900 م, بينما يقع البحر الميت تحت مستوى سطح البحر المتوسط بـ 394 م.

باستثناء أنهار العاصي والأردن والليطاني, فإن الأنهار الصغيرة والفيضية قلما يستفاد منها في السقاية, ومع ذلك فإن الأراضي السورية تستقبل أمطاراً كافية تسمح, عند توفر ظروف ملائمة, بزراعة شتوية وربيعية رغم الجفاف الدوري المعتاد في فصلي الصيف والخريف.

في 1919، بلغت قيمة الرأسمال السوري من الضريبة العقارية حوالي أربعة مليارات ونصف المليار, هذا التقييم المخفض بشكل إرادي هو أقل بمقدار الثلث على الأقل من قيمة الرقم الحقيقي بدليل أنه رغم الأدوات البدائية المستخدمة فقد بلغ الناتج بناءً على عوائد العشور مبلغاً يقارب المليار والستمائة مليون.

يمكن توقع فائض قيمة معتبر في غضون بضع سنوات في منطقة كهذه حالما تباشر استثمار ثرواتها الباطنية وجبالها وسهولها، استثماراً عقلانياً مكثفاً ناهيك عن إنتاج القطن في كيليكيا وحول أنطاكية ونابلس، والحبوب في سهول حلب والبقاع وحوران ووادي أنطاكية, الأشجار المثمرة والزراعات السبخية في الساحل ودمشق, والنخيل في الواحات الجنوبية، والكروم على امتداد منحدرات لبنان, وكذلك الزيتون والتبغ. تربية الماشية ذات القرون, الخرفان, الخيل، البغال والجمال. استخراج النفط من الموصل, البيتومين والأسفلت من الغور ومن البحر الميت, الفوسفات من السلط، ومن عمّان, اللينيت (الخشب المتفحم) اللبناني, فلزات الحديد والنحاس والنيكل والرصاص المفضض, وكذلك المنغنيز الذي تم اكتشاف القليل منه في أكثر من موقع ولكن دون التمكن من تحديد درجة توفره بعد, وأخيراً صناعة الحرير التي كانت رائجة فيما مضى والتي من الممكن تنشيطها من جديد بطرائق أكثر كمالاً.

لقياس انحطاط النمو السوري، حسبنا أن نلقي نظرة على عدد السكان. ففي عهد الإسكندر قبل الميلاد بثلاثة قرون – كان عدد سكانها عشرين مليون نسمة, وقد تقلص هذا العدد إبان الغزو العربي في القرن السابع إلى النصف أما في أيامنا هذه (يقصد عام 1922 – المترجم) فقد هبط إلى ما يقارب الأربعة ملايين فقط.

لقد صهرت قرون الهيمنة الإسلامية الطويلة الغزاة السابقين باللاحقين الذين اختلطوا بأهل البلاد الأصليين. ومع ذلك فثمة تقسيم حاد يفصل بين السكان من ناحية الاختلاف الديني ناهيك عن العرقي وهو ما يجب البحث في أصوله. لقد جرى التجمع السكاني بشكل أساسي حول السناجق الدينية القديمة التي تمثل ذكريات الماضي وآمال المستقبل, كتب السيد رينيه بينون:

سوريا متحف الديانات، وأشد ما يحتار فيه الأنتروبولوجيون, عند قياس الجماجم, هو تحديد التقاطعات بين أصول سكانها

حكم المسلمون سوريا ولذلك فهم يشكلون اليوم ما يزيد على نصف عدد سكانها. ينقسم السكان المسلمون إلى طائفتين متمايزتين تناوئ إحداهما الأخرى: السنة أنصار عمر والشيعة أنصار علي . توصف الأولى بالأورثوذكسية (المتشددة) كون أنصارها يمثلون أحفاد عرب الغزو, والسوريون المؤسلمون (مسيحيون ويهود وصابئة إلخ…) يضاف إليهم بعض الأتراك المتمركزين حوالي حلب والقبائل البدوية في الداخل وكذلك الشركس الذين يقطنون الحدود الشمالية.

أما الشيعة فينقسمون إلى مجموعتين:

الكرد المستقرون في أرمينيا الصغرى (شمال اسكندرونة حاشية) حوالي عينتاب وفي كردستان (ولايتي الموصل ودياربكر حاشية)

المتاولة وهم بقايا محتملة من مستعمرة فارسية قديمة, يقيمون اليوم في سهل البقاع وكذلك في عدة نقاط من مقاطعة صيدا.

بينما يحتل المسيحيون المرتبة الثانية من حيث العدد غير أنهم متفوقون, من حيث وضعهم, على جيرانهم المسلمين. فبالإضافة إلى الامتيازات الثمينة التي حصلوا عليها من إدارة الانتداب الفرنسية, يتميز السكان المسيحيون عن سواهم بالتعليم والعلاقات والثروة, وهم موزعون على ثلاثة مذاهب: الكاثوليك, الأورثوذوكس والبروتستانت.

باستثناء الكاثوليك اللاتين الأوربيين في معظمهم الذين تمارس طائفتهم الصغيرة نفوذاً سياسياً ومعنوياً راجحاً بفضل اﻷبرشيات العديدة المقامة في البلد، فقد حافظ الكاثوليك الشرقيون, تحت سلطة بطاركتهم المنتخبين وبإدارة الخورية الرومانية, على شعائرهم الخاصة ولغتهم الدينية – وهي تقريباً أقدم لغة وطنية – فضلاً عن طقوس أخرى متميزة. وتكتفي منهم روما باعتناق شكلي للعقيدة تاركة لهم, فيما يختص بالنظام الكنسي, ما يشبه حكماً دينياً ذاتياً شبه كامل. نعرف منهم بشكل خاص:

الموارنة المتحدون مع روما بموجب ميثاق مبرم منذ السنوات الأولى من القرن الثالث عشر, يسكن الموارنة لبنان ويشكلون مجتمعاً وطنياً خاصاً بهم.

الملكيون أو اليونان الكاثوليك – المنتشرون تقريباً في عموم سوريا

الأرمن المتحدون في شمال البلاد

الآشوريون المتحدون الموزعون على الهضبات الشمالية وفي منطقة القدس

الكلدان المتحدون المقيمون بجوار حلب.

أما الطائفة اللا متحدةفليست أقل وحدةً وهي بانفصالها عن الوحدة الدينية مع روما (بعد انشقاق فوتيوس) تضم مجموعتين عامتين: المجموعة التي يقال لها الأورثوذوكسية ومجموعة الطبيعة الواحدة للمسيح وبهذه الاخيرة يرتبط المجتمع الكلداني, معتنقاً مذهب نسطوريوس، والمجتمع الارمني والقبطي والأحباش معتنقو هرطقات أوتيش. لدينا كذلك الآشوريون الأورثودوكس جنوب بيروت وفي إقليم دمشق, الأرمن الغريغوريون في أرمينيا الصغرى واليعاقبة والكلدان.

هذه هي باختصار الشعائر الأورثوذوكسية في سوريا، ولا ننسى هنا الأقباط والأحباش اللذين لهما ديران في القدس.

منذ أكثر من نصف قرن وبدعم من انكلترا وألمانيا والولايات المتحدة، شن البروتستانت على سوريا هجمات عنيفة, كانوا يتصرفون بثروات هائلة واستغلوا, إلى جانب القناعات الدينية, الطموحات السياسية وباشروا نضالاً نشطاً ضد الكاثوليكية والنفوذ الفرنسي. ولأنهم آخر الوافدين فقد حاولوا التعويض بالمال عن التقاليد المفتقدة ومع ذلك لم تصل دعايتهم الخائبة إلى النتائج التي كانوا يأملونها.

من جهة أخرى, يبدو يهود سوريا محكومين بقدر أسود إذ ينظر إليهم المسيحيون والمسلمون على حد سواء باعتبارهم حثالة الناسرغم نجاح بعض المساعي في تحسين صورة البعض منهم نوعاً ما. يبلغ تعدادهم حوالي التسعين ألفاً يتركز معظمهم في القدس وفلسطين, منهم يهود محليون أو مهاجرون, متصوفة, تجار أو سياسيون قدموا للموت على أرض الميعاد والاستراحة في ثراها أو للقيام ببعض التجارة أو لتمهيد الطريق أمام الصهيونية, وعدا ذلك يعيش عدة مئات من السامريين في نابلس وضواحيها.

هناك أيضاً بعض الديانات الباطنية, ثمة مجتمعات سرية بعدد المذاهب الدينية ما تزال طقوسها غامضة أو أنها غير مكتملة الوضوح وتتطلب إشارة موجزة إليها بسبب الارتفاع النسبي لعدد معتنقيها.

في المقام الأول, هناك الدروز القاطنون بشكل رئيسي في حوران وجنوب لبنان وفي جوار بيروت والساحل. يعتقد الدروز, بحسب الظاهر, بوحدانية الله وبالرسالة النبوية لبعض الأنبياء كموسى ويسوع ومحمد والأمير الحاكم ( الحاكم بأمر الله – المترجم ) ويتبنون عادةً المظاهر الدينية للديانات الأخرى.

النصيرية أو العلوية, وليس لهم مؤسس معروف ولا كتاب موحى, تستعير ديانتهم التناسخ وبعض العبادات من الآلهة السورية القديمة في عهد الوثنية, كما تستعير النبي علي (علي ليس نبيا كما هو معروف المترجم) من اﻹسلام ومذاهب التجسيد من المسيحية، وقد اتخذوا من المنطقة الجبلية الواقعة بين النهر الكبير ونهر العاصي ملاذاً لهم.

بمرور الوقت، تغلب الأتراك على هذا العرق الهائج والمشاغب والذي يعمل بنفاد صبر على استعادة استقلاله القديم والمقاوم للحضارة حتى أنهم تحالفوا مع الاسماعيليين في حصن مسعدة والقدموسيين المسجونين في قلعة قدموس.

وأخيراً، الطائفة اليزيدية ( الإيزيدية المترجم ) المعروفة بأنهم عبدة الشيطان: ينحدر هؤلاء من سلالة منصهرة من معتنقي المجوسية، يحافظون على عبادة الشمس والنجوم والعناصر وظواهر الطبيعة, ينعزلون في السفوح الجنوبية لجبال طوروس.

تكتسب الديانات في الشرق أهمية حيوية أكثر من أي مكان آخر في العالم لدورها في تحديد هويات الأفراد وعقد الأنساب وروابط الإلفة وهي تحل حتى يومنا هذا محل الرابطة الوطنية الغريبة إلى حد ما على الشرقيين. ولذلك فإن كل مسعى أخلاقي وكل مبادرة سياسية واجتماعية محكومة أن تأخذ في اعتبارها احترام طابع الدين ومظاهره تجنباً لأي إخفاق ذريع أو تقدمٍ نحو فشل محتوم.

خلال السنتين اللتين ستعقبان الحرب, سيفتح تطبيق معاهدة 1916 الباب لمناقشات مستفيضة بين فرنسا وانكلترا ولكن إنكلترا ولكي تتحاشى التقيد بالمعنى الحرفي لنص الاتفاقية تراها تفتعل جدالات ومناورات على أمل إسقاط تلك الاتفاقية التي ندمت على توقيعها مسخرة في سبيل ذلك جميع قدراتها التفاوضية في خدمة أدوات التأثير الرهيبة التي تسيطر عليها في الشرق.

يبدو من الضروري قبل أن نشرع في تفحص تفاصيل بنود اتفاقية 1916 من وجهة النظر الفرنسية وتوضيح منافعها وأضرارها أن نسهب قليلاً في الحديث عن سوريا بوصفها الموضوع الرئيس في هذه الاتفاقية.

سوريا برزخ بين قارتين أو بالأحرى ممر معبد يغمر البحر أحد طرفيه بينما يحاذي الطرف الآخر الصحراء, هكذا تبدو لنا سوريا. لم يسبق لها مطلقاً بحدودها الضيقة تلك, والتي رأى فيها نابليون واحدة من أفضل الدفاعات, أن كانت دولة ولا كان سكانها أمة.

استخدمت الهجرات البشرية, منذ أقدم العصور, طرق سوريا الموازية والمجاورة للنقطة التي تبدو على الخريطة عدة تفرعات لطريق واحدة وبضعة مسالك للدرب ذاته. على أن سوريا لم تزل, كما كانت منذ القدم, ملتقى الجيوش والتجار العابرين, هذه البقعة التي تشكل شواطئها نقطة تماس وتعايش بين أوربا وآسيا وأفريقيا, بأرضها وبحرها على حد سواء, تبدو سوريا سوقاً بمئة مدينة, ميناءً بمئة حوض حيث تنتهي وتتقاطع الطرق التجارية للعالم القديم. من الواضح أن سبب غناها وازدهارها فيما سبق كان شعباً قوياً ومجتهداً عرض أفضل ما لديه. ورغم أنها فقدت اليوم بريقها القديم وجفت وانهارت فإنها ما تزال محافظة على هيبتها. بقيت مفاتنها ولم يتغير عليها شيء سوى افتقاد الجد والحماس بل إن أهمية سوريا قد ازدادت اليوم في عيون الممولين والاقتصاديين وما زال كبار رجال الدولة يرون في امتلاكها رهاناً للهيمنة السياسية في الشرق كله. إن ذكريات نجمة المجوس وتأليه ثابور واستلهامات غولغوثا قد تركت في جوها المشرق إشعاعاً متألقاً لأسرارها المجيدة حيث يفد إليها المسيحيون دائماً من أقطار الأرض لتثبيت ايمانهم وتجديد آمالهم.

رسمت الطبيعة لسوريا حدوداً في غاية الوضوح: البحر المتوسط في الغرب, جبال طوروس في الشمال الغربي والشمال, حوضا دجلة الأعلى والأوسط, والصحراء في الشرق, وأخيراً العربية السعودية وسيناء في الجنوب.

من عينتاب إلى مشارف سيناء وعلى امتداد ألف كم يفصلها انخفاض طولاني وحيث يجري باتجاه معاكس نهر العاصي ونهر الأردن, توجد سلسلتان متناظرتان تشكلان من الشمال إلى الجنوب هيكل سوريا. ستارة عملاقة تنبثق إحداها من الساحل المتوسطي بأسماء متعددة (الأمانوس, جبال النصيرية, لبنان, جبال الجليل ويهوذا) تمتد كتلتها الضخمة, التي نادراً ما تقطعها وديان داخلية, ببروز متناقص شيئاً فشيئاً, من خليج اسكندرونة إلى مرتفعات قناة السويس. السلسلة الأخرى موازية للأولى وبارتفاع مشابه لها تقريباً, تمتد من الشمال إلى الجنوب, جبال لبنان, جبل حرمون, جبل عجلون, وأخيراً جبال موآب. وعند أطراف الصحراء, شرقي جبل عجلون, تنتصب كتلة منعزلة تسمى بجبل حوران.

بين هذه الجروف الرطبة وبارتفاعات متساوية تماماً, ثمة صدع متصل يتخذ على التوالي الأسماء التالية: وادي العاصي, سهل البقاع, غور الأردن, بتغيرات ملحوظة في المستوى. وهكذا, فإن البقاع المحصور بين جبال لبنان وما يقابلها ترتفع وسطياً 900 م, بينما يقع البحر الميت تحت مستوى سطح البحر المتوسط بـ 394 م.

باستثناء أنهار العاصي والأردن والليطاني, فإن الأنهار الصغيرة والفيضية قلما يستفاد منها في السقاية, ومع ذلك فإن الأراضي السورية تستقبل أمطاراً كافية تسمح, عند توفر ظروف ملائمة, بزراعة شتوية وربيعية رغم الجفاف الدوري المعتاد في فصلي الصيف والخريف.

في 1919، بلغت قيمة الرأسمال السوري من الضريبة العقارية حوالي أربعة مليارات ونصف المليار, هذا التقييم المخفض بشكل إرادي هو أقل بمقدار الثلث على الأقل من قيمة الرقم الحقيقي بدليل أنه رغم الأدوات البدائية المستخدمة فقد بلغ الناتج بناءً على عوائد العشور مبلغاً يقارب المليار والستمائة مليون.

يمكن توقع فائض قيمة معتبر في غضون بضع سنوات في منطقة كهذه حالما تباشر استثمار ثرواتها الباطنية وجبالها وسهولها، استثماراً عقلانياً مكثفاً ناهيك عن إنتاج القطن في كيليكيا وحول أنطاكية ونابلس، والحبوب في سهول حلب والبقاع وحوران ووادي أنطاكية, الأشجار المثمرة والزراعات السبخية في الساحل ودمشق, والنخيل في الواحات الجنوبية، والكروم على امتداد منحدرات لبنان, وكذلك الزيتون والتبغ. تربية الماشية ذات القرون, الخرفان, الخيل، البغال والجمال. استخراج النفط من الموصل, البيتومين والأسفلت من الغور ومن البحر الميت, الفوسفات من السلط، ومن عمّان, اللينيت (الخشب المتفحم) اللبناني, فلزات الحديد والنحاس والنيكل والرصاص المفضض, وكذلك المنغنيز الذي تم اكتشاف القليل منه في أكثر من موقع ولكن دون التمكن من تحديد درجة توفره بعد, وأخيراً صناعة الحرير التي كانت رائجة فيما مضى والتي من الممكن تنشيطها من جديد بطرائق أكثر كمالاً.

لقياس انحطاط النمو السوري، حسبنا أن نلقي نظرة على عدد السكان. ففي عهد الإسكندر قبل الميلاد بثلاثة قرون – كان عدد سكانها عشرين مليون نسمة, وقد تقلص هذا العدد إبان الغزو العربي في القرن السابع إلى النصف أما في أيامنا هذه (يقصد عام 1922 – المترجم) فقد هبط إلى ما يقارب الأربعة ملايين فقط.

لقد صهرت قرون الهيمنة الإسلامية الطويلة الغزاة السابقين باللاحقين الذين اختلطوا بأهل البلاد الأصليين. ومع ذلك فثمة تقسيم حاد يفصل بين السكان من ناحية الاختلاف الديني ناهيك عن العرقي وهو ما يجب البحث في أصوله. لقد جرى التجمع السكاني بشكل أساسي حول السناجق الدينية القديمة التي تمثل ذكريات الماضي وآمال المستقبل, كتب السيد رينيه بينون:

سوريا متحف الديانات، وأشد ما يحتار فيه الأنتروبولوجيون, عند قياس الجماجم, هو تحديد التقاطعات بين أصول سكانها

حكم المسلمون سوريا ولذلك فهم يشكلون اليوم ما يزيد على نصف عدد سكانها. ينقسم السكان المسلمون إلى طائفتين متمايزتين تناوئ إحداهما الأخرى: السنة أنصار عمر والشيعة أنصار علي . توصف الأولى بالأورثوذكسية (المتشددة) كون أنصارها يمثلون أحفاد عرب الغزو, والسوريون المؤسلمون (مسيحيون ويهود وصابئة إلخ…) يضاف إليهم بعض الأتراك المتمركزين حوالي حلب والقبائل البدوية في الداخل وكذلك الشركس الذين يقطنون الحدود الشمالية.

أما الشيعة فينقسمون إلى مجموعتين:

الكرد المستقرون في أرمينيا الصغرى (شمال اسكندرونة حاشية) حوالي عينتاب وفي كردستان (ولايتي الموصل ودياربكر حاشية)

المتاولة وهم بقايا محتملة من مستعمرة فارسية قديمة, يقيمون اليوم في سهل البقاع وكذلك في عدة نقاط من مقاطعة صيدا.

بينما يحتل المسيحيون المرتبة الثانية من حيث العدد غير أنهم متفوقون, من حيث وضعهم, على جيرانهم المسلمين. فبالإضافة إلى الامتيازات الثمينة التي حصلوا عليها من إدارة الانتداب الفرنسية, يتميز السكان المسيحيون عن سواهم بالتعليم والعلاقات والثروة, وهم موزعون على ثلاثة مذاهب: الكاثوليك, الأورثوذوكس والبروتستانت.

باستثناء الكاثوليك اللاتين الأوربيين في معظمهم الذين تمارس طائفتهم الصغيرة نفوذاً سياسياً ومعنوياً راجحاً بفضل اﻷبرشيات العديدة المقامة في البلد، فقد حافظ الكاثوليك الشرقيون, تحت سلطة بطاركتهم المنتخبين وبإدارة الخورية الرومانية, على شعائرهم الخاصة ولغتهم الدينية – وهي تقريباً أقدم لغة وطنية – فضلاً عن طقوس أخرى متميزة. وتكتفي منهم روما باعتناق شكلي للعقيدة تاركة لهم, فيما يختص بالنظام الكنسي, ما يشبه حكماً دينياً ذاتياً شبه كامل. نعرف منهم بشكل خاص:

الموارنة المتحدون مع روما بموجب ميثاق مبرم منذ السنوات الأولى من القرن الثالث عشر, يسكن الموارنة لبنان ويشكلون مجتمعاً وطنياً خاصاً بهم.

الملكيون أو اليونان الكاثوليك – المنتشرون تقريباً في عموم سوريا

الأرمن المتحدون في شمال البلاد

الآشوريون المتحدون الموزعون على الهضبات الشمالية وفي منطقة القدس

الكلدان المتحدون المقيمون بجوار حلب.

أما الطائفة اللا متحدةفليست أقل وحدةً وهي بانفصالها عن الوحدة الدينية مع روما (بعد انشقاق فوتيوس) تضم مجموعتين عامتين: المجموعة التي يقال لها الأورثوذوكسية ومجموعة الطبيعة الواحدة للمسيح وبهذه الاخيرة يرتبط المجتمع الكلداني, معتنقاً مذهب نسطوريوس، والمجتمع الارمني والقبطي والأحباش معتنقو هرطقات أوتيش. لدينا كذلك الآشوريون الأورثودوكس جنوب بيروت وفي إقليم دمشق, الأرمن الغريغوريون في أرمينيا الصغرى واليعاقبة والكلدان.

هذه هي باختصار الشعائر الأورثوذوكسية في سوريا، ولا ننسى هنا الأقباط والأحباش اللذين لهما ديران في القدس.

منذ أكثر من نصف قرن وبدعم من انكلترا وألمانيا والولايات المتحدة، شن البروتستانت على سوريا هجمات عنيفة, كانوا يتصرفون بثروات هائلة واستغلوا, إلى جانب القناعات الدينية, الطموحات السياسية وباشروا نضالاً نشطاً ضد الكاثوليكية والنفوذ الفرنسي. ولأنهم آخر الوافدين فقد حاولوا التعويض بالمال عن التقاليد المفتقدة ومع ذلك لم تصل دعايتهم الخائبة إلى النتائج التي كانوا يأملونها.

من جهة أخرى, يبدو يهود سوريا محكومين بقدر أسود إذ ينظر إليهم المسيحيون والمسلمون على حد سواء باعتبارهم حثالة الناسرغم نجاح بعض المساعي في تحسين صورة البعض منهم نوعاً ما. يبلغ تعدادهم حوالي التسعين ألفاً يتركز معظمهم في القدس وفلسطين, منهم يهود محليون أو مهاجرون, متصوفة, تجار أو سياسيون قدموا للموت على أرض الميعاد والاستراحة في ثراها أو للقيام ببعض التجارة أو لتمهيد الطريق أمام الصهيونية, وعدا ذلك يعيش عدة مئات من السامريين في نابلس وضواحيها.

هناك أيضاً بعض الديانات الباطنية, ثمة مجتمعات سرية بعدد المذاهب الدينية ما تزال طقوسها غامضة أو أنها غير مكتملة الوضوح وتتطلب إشارة موجزة إليها بسبب الارتفاع النسبي لعدد معتنقيها.

في المقام الأول, هناك الدروز القاطنون بشكل رئيسي في حوران وجنوب لبنان وفي جوار بيروت والساحل. يعتقد الدروز, بحسب الظاهر, بوحدانية الله وبالرسالة النبوية لبعض الأنبياء كموسى ويسوع ومحمد والأمير الحاكم ( الحاكم بأمر الله – المترجم ) ويتبنون عادةً المظاهر الدينية للديانات الأخرى.

النصيرية أو العلوية, وليس لهم مؤسس معروف ولا كتاب موحى, تستعير ديانتهم التناسخ وبعض العبادات من الآلهة السورية القديمة في عهد الوثنية, كما تستعير النبي علي (علي ليس نبيا كما هو معروف المترجم) من اﻹسلام ومذاهب التجسيد من المسيحية، وقد اتخذوا من المنطقة الجبلية الواقعة بين النهر الكبير ونهر العاصي ملاذاً لهم.

بمرور الوقت، تغلب الأتراك على هذا العرق الهائج والمشاغب والذي يعمل بنفاد صبر على استعادة استقلاله القديم والمقاوم للحضارة حتى أنهم تحالفوا مع الاسماعيليين في حصن مسعدة والقدموسيين المسجونين في قلعة قدموس.

وأخيراً، الطائفة اليزيدية ( الإيزيدية – المترجم) المعروفة بأنهم عبدة الشيطان: ينحدر هؤلاء من سلالة منصهرة من معتنقي المجوسية، يحافظون على عبادة الشمس والنجوم والعناصر وظواهر الطبيعة, ينعزلون في السفوح الجنوبية لجبال طوروس.

تكتسب الديانات في الشرق أهمية حيوية أكثر من أي مكان آخر في العالم لدورها في تحديد هويات الأفراد وعقد الأنساب وروابط الإلفة وهي تحل حتى يومنا هذا محل الرابطة الوطنية الغريبة إلى حد ما على الشرقيين. ولذلك فإن كل مسعى أخلاقي وكل مبادرة سياسية واجتماعية محكومة أن تأخذ في اعتبارها احترام طابع الدين ومظاهره تجنباً لأي إخفاق ذريع أو تقدمٍ نحو فشل محتوم.

شارك هذا المقال: