الكورد: إرث الكفاح والمعاناة

شارك هذا المقال:

مردوخاي نيسان
ترجمة: مصطفى إسماعيل


مقدمة المترجم:

هذا البحث “الكورد: إرث الكفاح والمعاناة” هو أحد الأبحاث في كتاب الباحث الإسرائيلي مردوخاي نيسان المعنون بـ “الأقليات في الشرق الأوسط.. تاريخ الكفاح والتعبير عن الذات” الذي صدرت طبعته الثانية في 2002. البحث استعراضٌ بلغة صحفية سلسلة لتاريخ الكورد في منطقة الشرق الأوسط إلى جانب العديد من الإثنيات العرقية والدينية الأخرى.
المركزي لدى الباحث نيسان في كتابه هو قراءة حال القوميات غير العربية والأقليات الدينية المسلمة وغير المسلمة في بعض بلدان المنطقة، وعلاقتها مع الإيديولوجيا الإسلامية والعروبية المهيمنة، وفي هذا السياق هناك في الكتاب أبحاث أخرى تطبيقية عن البربر الأمازيغ، البلوج، الدروز، العلويين، الأقباط، الأرمن، الآشوريين، الموارنة، مسيحيي السودان، واليهود، حيث يستعرض الباحث ماضي تلك القوميات والأقليات وحاضرها في سياق هيمنة الغالبية المسلمة أو العربية، بعد مدخل نظري فكري عن فسيفساء الشرق الأوسط والنقاش المتصاعد في المنطقة والعالم فيما يتعلق بخطابات الهوية والأقليات في العقود الأخيرة.

الكورد: إرث الكفاح والمعاناة

الشعبُ الكوردي، أحفادُ الجوتيين القدامى الذين عاشوا قبل حوالي أربعة آلاف سنة، يُعدُّ اليوم أحدَ أقدم المجتمعاتِ في تاريخ الشرق الأوسط وجزءاً حيوياً من السياسة في الشرق الأوسط. مُنحدرينَ من قبائل هندو-أوروبية تعود سلسلة نسبهم إلى الميديين الذين احتلوا وادي دجلة عام 612 ق.م.

يكتب هيرودوت في تاريخه أن الفرس أصبحوا سادةً على الميديين، رغم أن الفرس كانوا يوماً عبيداً لهم. إلى اليوم يصارع الكورد، الميديون المعاصرون مع الإيرانيين، الفرس القدامى. [1] وقد اختار الإسكندر الأكبر لنفسه امرأة كردية خلال عبوره آسيا وأنجب منها طفلاً ذكراً.

محصورين بضعفٍ بين إمبراطوريات قوية، الإغريق الهيلينيين في الغرب والفرس في الشرق، واصلَ الكورد البقاء كمجموعة قومية متمايزة. كانت لغتهم آرية، وترتبط بالفارسية لكن كوردية بشكلٍ فريد. هناك لهجتان رئيسيتان، كانتا لا تزالان في الغالب لهجات غير مكتوبة، هما الكورمانجية في الجزء الشمالي من كوردستان والسورانية في الجنوب. لكن بالإضافة إلى المرويات الشفاهية التي تشكل خزان ثقافة المجتمع، كُتبتْ أيضاً أعمال باللغة الكوردية في القرن السادس عشر.
الموطن الجغرافي للكورد غطى سلسلة جبال زاغروس، وامتدّ من جبال طوروس غرباً إلى السهل الإيراني شرقاً، ومن الجزيرة العربية إلى جورجيا. وقد اعتبر الشاعر الكوردي من القرن السادس عشر أحمدي خاني دونما حرج كل هذه المنطقة “أرضاً كردية” والدليل يكمن في الدم الكوردي الذي روى أراضي تلك المنطقة. وفقاً لـ مهرداد إزادي، فإن المحدد النوعي الأقصى للكورد هو “طريقة حياتهم اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، والتي أبقتهم منفصلين ومستقلين عن المجموعات العرقية الأخرى المحيطة بهم”. [2]

لقد كان هذا التمايز ذو قيمة، رغم كلفته الباهظة خلال تاريخ الكورد الطويل. إن نمط الحياة الخاص هذا مضافاً إلى لغة مختلفة يلعب دوراً في تنظيم ورسم الشؤون المجتمعية.

كانت الحياة الكوردية مبنية على أس قبلي منذ العصور القديمة، وهذا سمح بالحفاظ على المجتمعات المحلية المترابطة بإحكام تحت قيادة زعيم تقليدي كان يعرف باسم آغا الذي كثيراً ما كان يقمع فلاحيه، أو بك (مصطلح تركي)، أو شيخ الذي كان أيضاً شخصية دينية، أو سيد.

أعاقت الحياة القبلية الوحدة القومية الكوردية التامة، في حين أنها عززت الخصوصية الكوردية إزاء المجموعات القومية الأخرى. وعلى الرغم من توزعهم على مجموعات قبلية ودينية، إلا أن الكورد حافظوا بتأكيدٍ قوي على مركزهم الإقليمي الحيوي.

ضمن حدود الثقافة التقليدية، كانت هيمنة الذكور أمراً بديهياً، لكن دونما إنكار لدور الأنثى في حياة الأسرة والمجتمع. وفي الواقع، ووفقاً لـ أ. هادي حقي فإن النساء الكورديات تتمتعن بقوة هائلة، ويمكن رؤيتهن في البيئة الإجتماعية، بخلاف الإناث في الحياة الإسلامية الكلاسيكية. بالإضافة إلى الملابس التقليدية المميزة (السراويل الفضفاضة للرجال، وعدم ارتداء النساء للحجاب)، أو الخنجر الشهير، حافظت الثقافة الكوردية على سلامتها على مر القرون. [3]

 
الحياة الكوردية في ظل الإسلام

شكل الغزو الإسلامي-العربي في القرن السابع تحدياً للسلامة القومية للكورد كجماعة عرقية متمايزة في معاقلهم الجبلية الممتدة من شرق الأناضول شمالاً إلى مضيق هرمز جنوباً. رغم مقاومة الكورد للمد العربي جزئياً ورفضهم اللغة العربية، إلا أنهم خضعوا للدين الجديد وتبنوا صيغته السنية (بعضهم شيعة). الكورد الذين كانوا زرادشتيين قبل قدوم الإسلام إلى مناطقهم لم يتخلوا أبداً عن أعرافهم التقليدية مثل الاحتفال بالسنة الجديدة نوروز. الإنقفال داخل المجتمع الإسلامي المهيمن لم يمحو الخصوصية الكوردية. والحقيقة، أن الكورد كانوا بطرق معينة أكثر تمايزاً من ذي قبل بعد أن أصبحوا لاحقة للعالم الإسلامي.

كان التبني الديني للإسلام منعطفاً ثقافياً ذو حدين، فمن ناحية، طوَّر المسلمون الكورد نظامهم الصوفي المميز، إذ ظهرت الصوفية القادرية في القرن الحادي عشر (القادرية أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني- المترجم)، والصوفية النقشبندية في القرن الرابع عشر (أسسها الشيخ بهاء الدين أحمد بن محمد المعروف بـ شاه نقشبندية- المترجم)، وهكذا ارتفعوا بتجربتهم الإسلامية إلى ذرى صوفية. وقد برزت شخصيات كردية عظيمة من هذا التطور الروحي في الحياة الكوردية. لكن من ناحية أخرى، لم يكن المسلمون الكورد يُعتبرونَ في الواقع أعضاء متعصبين جديين في المعتقد الإسلامي، أو مستوفين جميع مبادئه وفقاً لنص وروح الإسلام، وبرز منهم بعض علماء الدين المرموقين. كان سي. جي. إدموندز نفسه قد أربك نفسه إلى حد ما في عشرينيات القرن العشرين ليتعلم من التقارير المباشرة في العراق أن النقشبنديين كانوا عرضة للانحراف، مثل أطراف حفلات الاستحمام المختلطة في فورة حماسية من استعداء المحيط الاجتماعي. [4]

في الواقع، فإن الإسلام العربي المتشدد مالَ على الدوام إلى امتلاك صورة حاطة من قدر الكورد. إذ كان قد تم تسهيل وشرعنة تحقير الشخص بوضوح، كما جرى في بداية التاريخ العباسي في القرن الثامن، حيث تم تقديم أبو مسلم الخراساني بعد قتله كشخص من الأصل الكوردي، وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن كلمة “كُورد” باللغة التركية قد تعني “الذئب”، وباللغة العربية (رغم أن علم أصل الكلمة غير واضح تماماً) قد تشير كلمة “الكورد” إلى “قرد” (لا إشارة في كتاب الباحث حول هذا الزعم، وليس هناك ما يسند زعمه في العديد من المعاجم العربية- المترجم).

ما هو جلي، أنه حين أراد العالم الإسلامي ابن تيمية في القرن الرابع عشر تحديد الناس الذين كانوا قطاع طرق يستحقون الموت، أشار بإصبع الاتهام إلى إخوانه المسلمين الكورد. وتعرف مقولة عربية الكورد كـ “أحد ثلاثة أوبئة في العالم”. [5]

كانت ثلاث جماعات كوردية محددة دينياً تعد باطنية، وفعلياً خارج الحدود الشرعية للإسلام التقليدي. فالعلويون، ولا سيما في تركيا الحالية، يشكلون معتقداً توفيقياً مع عناصر مما قبل الإسلام والمسيحية، بينما يرفضون الشريعة الإسلامية، وكان يتم الافتراء على الإيزيديين، الذين يسكنون في وادي لالش في كوردستان العراق، على أنهم عبدة النار أو يُعرفون كعبدة للملاك طاووس، ويعرفون أيضاً بتقديسهم لمشايخهم والأضرحة. أما أهل الحق، وهو معتقد سري في كوران في شمال غرب إيران، فكان يحمل ملامح صوفية، ويفتقر إلى أي سمات دينية إسلامية مركزية مثل المسجد أو رمضان أو الحج. [6]

أعداد كبيرة من الكورد الذين يعدون عرقياً من غير العرب لم يكونوا مسلمين حتى، عدا عن حقيقة أن حتى المسلمين منهم ظاهرياً كان يتم التشكيك في سلوكياتهم غير الإسلامية. إن تأسيس ديانة جديدة تماماً كالإيزيدية يمكن أن يقدم كغطاء روحي لمحاولة الهروب من خطر الإسلام.

لا تزال شخصية صلاح الدين الأيوبي الملحمية أكثر من أي شخصية مسلمة أخرى هي السمة المميزة للمجد الكوردي في تاريخ الشعب القومي. في الواقع فإن تأثيره قومي، وليس قبلياً، إذ تألق مع التقاليد العسكرية للمجتمع عندما قاد القوات المسلمة لتحقيق نصر نهائي ضد الصليبيين في القدس في 1187. ولد صلاح الدين في تكريت، شمال بغداد عام 1137، وصُوِّر صلاح الدين كجندي نبيل والأكثر مهارة من القادة المسلمين الآخرين في تنظيم وتوحيد الإسلام للجهاد. حكم صلاح الدين في مصر وسوريا وأجزاء من بلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية، ولكن لم يكن مصدر ارتياح لجميع المسلمين. كان هذا الخليفة في نظر الزنكيين يتمتع بخاصية مزعجة لكونه كوردياً، مضايقاً التصدر التركي ومحولاً انتصاره المشهود إلى قوة محسوبية كوردية. [7]

لقد كان صلاح الدين ذلك المحرر المسلم العظيم ضد الكفار (يقصد الصليبيين في ذلك السياق التاريخي، ولكن يمكن العثور على نعت الصليبيين بالكفار لدى ابن واصل الحموي في كتابه “مفرج الكروب في أخبار بني أيوب”- المترجم)، لكن ربما أكثر من ذلك، كان ذلك الملك الكوردي العظيم الذي تملأ مآثره حوليات التاريخ الكوردي وتترك أملاً دائماً للعظمة القومية مرة أخرى. في الوقت نفسه، فإن صلاح الدين، الذي يتم تجاهل أصوله العرقية غالباً، يحظى باحترام كبير من قبل العرب (في السنوات الأخيرة هناك محاولات لتشويه هذه الشخصية التاريخية من لدن بعض الشخصيات الثقافية والفنية العربية- المترجم).

إن الخاصية المميزة للحياة القبلية مع سلطة مقسمة بين الملا (رجل الدين) والخان (القاضي)، لم تمنع ظهور شخصيات كبرى ووقائع مهمة تجاوزت الحدود القبلية الضيقة. خلال الطور الإسلامي في الحياة الكوردية كان الحكم الذاتي للجماعة القائم على إمارات مستقلة أو مقاطعات دليلاً على التصميم القومي. محاطين في مواقعهم الجبلية بين الإمبراطورية العثمانية والعرش الفارسي، حاول الكورد استغلال موقعهم إلى أقصى حد. في فترات من عامي 1514 و1515، على سبيل المثال، حارب الكورد إلى جانب الأتراك ضد الفرس، وقد نالوا الاعتراف بالحكم الذاتي لهم كتعويض مقابل دفع ضريبة سنوية للدولة العثمانية. في أوقات أخرى، بعد بضعة عقود، حاربت القوات الكوردية إلى جانب الفرس ضد أعدائهم الأوزبك، على أمل إنقاذ أو ترسيخ قدر من الحكم الذاتي الكوردي. لم يكن غريباً أن يبذل العثمانيون جهوداً لقمع التمرد الكوردي، كما حدث في العمادية في أربعينيات القرن التاسع عشر، رغم أن الكورد في تسعينيات القرن التاسع عشر كانوا يديرون قوات الحميدية (أيضاً فرسان الحميدية- المترجم) الموالية للدولة العثمانية. في بدليس وهكاري، وفي أماكن أخرى من كوردستان، كان الأمراء القبليون الكورد يقومون بصك عملاتهم الخاصة، وكانت صلاة الجمعة في المسجد تشهد امتداح أعمالهم وسلطتهم (في هذا السياق يورد باسيلي نيكيتين في كتابه “الكرد: دراسة سوسيولوجية وتاريخية” عن الأمير محمد رواندوزي أنه سك النقود باسمه ولكنه لم يأمر بذكر اسمه في خطبة الجمعة- المترجم). لذلك، هناك أساس متين للتميز القومي الكوردي في المصادر العرقية والثقافية والجغرافية والتاريخية. نجا هذا الشعب بمعزل عن شعوب الشرق الأوسط الأخرى، ولكن دونما تحويل للخصوصية والاستقلالية إلى استقلال قومي. بسبب الظروف الاستراتيجية غير المواتية نسبياً، حيث يتموضعون بين قوى أقوى، ولفشلهم في توليد قابلية سياسية طويلة الأجل من أجل الوحدة والترابط الذاتي، ظل الكورد لآلاف السنين عرضة للتطورات الرئيسية التي جرت في أنحاء المنطقة. ومع ذلك، كانت السلالات الكوردية معروفة، حتى لو لم تكن هناك دولة قومية كوردية متبلورة.

تزامن التخمر القومي والتعبئة الإيديولوجية في القرن التاسع عشر مع شرارة جديدة في الحياة الكوردية، وإن لم تكن بالضرورة سبباً لها. إذ اندلعت ثورات قبلية كوردية ضد الباب العالي العثماني بتواتر كبير في السنوات 1826، 1834، 1850-1851، 1853-1855، و1880. كذلك الأمر، فإن الثورات الكوردية ضد بلاد فارس في عشرينيات القرن التاسع عشر كانت جزءاً من نسيج واسع من التشدد الكوردي ضد الحكم الأجنبي. في 1840 ظهر زعيم يطمح إلى توحيد الشعب الكوردي في جميع أرجاء كوردستان والقتال من أجل الاستقلال القومي، بدا كمخلص مفعم بالأمل، ربما صلاح دين جديد في إهاب قومي خالص. حوّل بدرخان بك الإيزيديين الكورد إلى الإسلام، وسعى إلى جلب مجتمعات أخرى مثل الآشوريين والأرمن إلى جبهة مشتركة للقتال ضد العثمانيين. في عام 1884، أُعلن بدرخان بك أميراً على كوردستان، وبدلاً من الحد من الأهداف إلى الحكم الذاتي القبلي والحفاظ على امتيازات القادة، كان الهدف الآن هو التحرر الإقليمي لجميع سكان كوردستان. كانت الإمبراطورية في حالة انتقالية، متداخلة مع شقاق وطني وصراعات عسكرية بما في ذلك فرص نيل الحقوق الجماعية للسكان. لكن اسطنبول، القسطنطينية السابقة، صمدت أمام التحدي.

نحو الاستقلال في كوردستان

عقب الهزيمة التركية على يد روسيا في 1877، ظهر زعيم كردي جديد له نفس الرسالة القومية. الشيخ عبيد الله (عبيد الله النهري- المترجم)، دعا من معقله في جبال هكّاري النائية إلى الوحدة الكوردية. وكتب إلى القنصل البريطاني أن “الأمة الكوردية مقسمة”، وتمتلك شرعية المطالبة بالاستقلال. لقد شكل الرابطة الكوردية واستولى على أراضٍ داخل الحدود الفارسية. ولكن لم تكلل جهوده بالنجاح، إذ قام الأتراك بنفيه إلى مكة عام 1881. وفي وقت لاحق أُعدم إبنه من قبل الأتراك عام 1925. [8]

لكن الانتفاضة العسكرية الكوردية ورغم فشلها في الجوهر، إلا أنها كانت مصحوبة بوسائل أخرى مناسبة لـ “مرحلة الصحوة” في الكفاح القومي. ظهرت أول صحيفة كوردية في القاهرة عام 1892 (صدر أول عدد من صحيفة كوردستان لمؤسسها مقداد بدرخان في 1898- المترجم)، وافتتح نادٍ كوردي في اسطنبول عام 1908 (في 1908 تأسست جمعيتان كورديتان في إسطنبول وهما: كوردستان تعالي جمعيتي، وكرد تعاون وترقي جمعيتي- المترجم)، في الأيام المضطربة للثورة التركية. في عام 1910 تم تشكيل جمعية جديدة هيفيا كورد (الأمل الكوردي) (كرد هيوي طلبه جمعيتي، أي جمعية الأمل للطلبة الكورد- المترجم)، وقام المثقفون الأكراد بإصدار الصحف لبث روح قومية جديدة. لكن التوجه كان قصير الأمد ولم يدم طويلاً. رغم العون البريطاني والروسي خلال انتفاضة عبيد الله (كان البريطانيون تحديداً ضد ثورة الشيخ عبيد الله النهري- المترجم)، ورغم الضعف العثماني قبل الحرب العالمية الأولى حين تولت جمعية الاتحاد والترقي السلطة في انقلاب على السلطان، إلا أن الكورد كانوا لا يزالون غير مؤهلين لأداء هذه المهمة. القمع التركي وتلاعب الدولة بأقليات الإمبراطورية مضافاً إلى الدعم الأجنبي غير الكافي والعابر أبقى الكورد بلا حول ولا قوة، على الرغم من وجود علامات على المشاعر القومية النشطة.

لقد كان الشرق الأوسط بأكمله قابلاً لتجربة نظام سياسي جديد في أعقاب سقوط الإمبراطورية العثمانية وتدخل أوروبي نشط في جميع أنحاء المنطقة. كبار السن من الكورد والذين كانت لديهم الآن فرصة جديدة للحياة، لم يكونوا غير مبالين بالتطورات، ففي عام 1919، توجه شريف باشا (شريف باشا خندان- المترجم) من قبيلة بابان الكردية الشهيرة إلى باريس للدفاع عن حقوق شعبه في مؤتمر فرساي للسلام، وبعد ذلك شارك في مؤتمر سيفر عام 1920. في الوقت نفسه، أسس الأمير ثريا بدرخان، سليل الانتفاضة الكوردية لعام 1840، في القاهرة لجنة لاستقلال كوردستان. التقت هذه الجهود الدبلوماسية والدولية مع التطورات العسكرية في حلبة الكفاح في الداخل. في عام 1918، استولى الشيخ محمود (الشيخ محمود حفيد زادة البرزنجي- المترجم) على السليمانية، المركز الأدبي للحياة القومية الكردية، أثناء الفوضى التي أعقبت الانهيار العثماني. لكن البريطانيين شرعوا في إقامة نظام عربي حازم في بغداد ونفوا الشيخ إلى الهند. بعد السماح له بالعودة في عام 1922، التقط الشيخ محمود إشارات الحماسة الكوردية وأعلن نفسه ملكاً على كوردستان، لكن البريطانيين قاموا مرة أخرى بنفيه. [9]

بدت المبادرات الدبلوماسية والعسكرية مجتمعة تعبيرات حية عن حملة قومية كوردية حقيقية من أجل الاستقلال.

قوى الحلفاء، المدركة لدعم الرئيس ويلسون لإقامة دول للشعوب الصغيرة (وفق المبادئ الأربعة عشر للرئيس الأمريكي وودرو ويلسون- المترجم) وسخطها على الاضطهاد التركي الماضي، لم تكن معارضة للتطلعات الكوردية. إذ نصت المادة 62 من القسم الثالث من معاهدة سيفر الصادرة في 10 أغسطس 1920 على أن يتم تنفيذ مخطط الحكم الذاتي المحلي للمناطق التي تقطنها أغلبية كوردية والواقعة شرق نهر الفرات وجنوب أرمينيا، فيما ذهبت المادة 64 إلى أبعد من ذلك واعترفت بحق الشعب الكوردي في تقديم طلب إلى مجلس عصبة الأمم من أجل الاستقلال بعد عام واحد فقط.

إلا أن هناك ثلاثة قيود وقفت في طريق منح الاستقلال الكامل:
1- أن يظهر طلب الاستقلال “أن غالبية سكان هذه المناطق يرغبون في الاستقلال عن تركيا”، وهذا ينطوي على بعض مستويات اختلاط الكورد مع غير الكورد في تلك المناطق (الجماعات العربية والتركمانية).
2- على مجلس عصبة الأمم أن ينظر في “قابلية هذه الشعوب للاستقلال” بطريقة عملية.
3- يتعين على تركيا أن توافق على منح الكورد دولة، رغم أن تركيا اضطرت في معاهدة سيفر إلى “التخلي عن جميع حقوقها وملكيتها في هذه المناطق”. [10]

رغم ذلك، للمرة الأولى كانت هناك الآن وثيقة دولية تعترف بالاستقلال الكوردي، وتشجع شعباً بلا دولة على اغتنام فرصة تنتظرهم. صحيح أن تاريخاً من الكفاح والحرمان لم يظهر تعبئة قومية عميقة للغاية، ولكن كانت هناك إشارات كافية على حيوية جماعية استفادت في ظل وجود دعم أجنبي ودبلوماسي أو معنوي على اقتراح أن تكون بداية جديدة في متناول اليد. لقد وقفت الأقلية الكوردية على عتبة الاستقلال.

تحول الوعد الدبلوماسي إلى واقع سياسي واجه العديد من العقبات الصعبة. على المستوى الدولي، تجاهل الحلفاءُ الكوردَ عندما وقعوا في يوليو 1923 على معاهدة لوزان مع تركيا تحت قيادة أتاتورك، ولم تكن هناك إشارة إلى الكورد في المعاهدة.

إن حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنضم إلى عصبة الأمم أثارت أوقاتاً عصيبة بالنسبة لبعض الأقليات. فيما ركز البريطانيون الذين يسيطرون الآن على العراق -وفي الواقع كانت بريطانيا الداية الفعلية لولادة العراق كدولة- اهتمامهم بالسيطرة الإمبراطورية على الشرق الأوسط والعلاقات الجيدة مع تركيا أكثر من تركيز اهتمامهم على تطوير فكرة الاستقلال الكوردي. والحالة هذه، كان يمكن لعصبة الأمم المتعاطفة من مسافة بعيدة أن تقدم مساعدة براغماتية ضئيلة في لعبة مصالح القوى الدولية.

بدا أن الوضع الكردي يعود بسرعة إلى نمطه السابق من التمرد والتعرض للقمع، ولكن هذه المرة مع وجود اختلاف كبير، فالكيانات السياسية الجديدة القائمة على سلطة معترف بها دولياً، غيورة على سيادتها ومكرسة جهودها لتحقيق أهداف الغالبية السكانية واجهت الكورد بمزاج عدواني. لقد أنذرت فكرة الدولة القومية بالسوء للأقليات. في عام 1922 تم تنظيم لجنة للاستقلال الكوردي في أرضروم، لكن مدى تأثير دورها في تركيا يبدو غير واضح. اندفع الكورد في تمرد نشط تحت قيادة الشيخ سعيد في عام 1925، لكن سرعان ما تم القبض عليه وشنق في ديار بكر. مثلت الثورة نحو ربع سكان تركيا، وجرت في سلاسل الجبال الشرقية المنيعة، بدت الثورة استراتيجية غير قابلة للتصديق، لكن الدافع العرقي الطوراني كان ملتهباً وغير متسامح تماماً مع الجماعات المتنافسة والمعادية تاريخياً. [11]

كان التنوع في الإمبراطورية العثمانية نعمة ونقمة في آن معاً، لكن في تركيا الجمهورية كان التنوعُ لعنة. إذ أصبح القمع سريعاً وحانقاً، وأظهر السمات التالية: تهجير جماعي، وإعادة توطين أكثر من 500 ألف كوردي خارج كوردستان في وسط وغرب تركيا بين عامي 1925 و1928، وتدمير مئات القرى الكوردية، وحظر التدريس أو التحدث باللغة الكوردية، أو حتى حظر ارتداء الزي التقليدي الكوردي.

كان هدف تركيا هو التفكيك المطلق للمجتمع الكوردي التقليدي من خلال تفكيك القبلية الكوردية وإحداث إفقار مادي كامل، لذلك فإن الحكومة رفضت بناء المدارس والمشافي أو نقل الاقتصاد الصناعي إلى المنطقة الذي من شأنه خلق فرص عمل جديدة. [12]

في خضم ثورة العشرينيات من القرن العشرين، واستناداً أيضاً إلى مؤتمر عقد في باريس، أسس الكورد في لبنان الرابطة القومية الكوردية – خويبون. في تركيا، قامت خويبون برفع العلم الكوردي على جبل آرارات/ آغري في منطقة وان، وواصلت النضال من أجل الخلاص القومي في مواجهة عدو متوحش لا يقهر.

في العراق، لم يقدم الوضع سوى القليل من العزاء أو الأمل في المستقبل. أدى تأسيس الدولة العربية في عام 1921 تحت حكم الملك فيصل، وهو مستورد حجازي بشهادة بريطانية، إلى إثارة استياء السكان المحليين الكورد (والحساسيات الدينية للغالبية الشيعية). في مارس 1923، ومع استمرار تأجج التمرد في كوردستان، استخدم البريطانيون سلاح الجو الملكي لمعاقبة القرى. في ظل الظروف المحلية والدولية القائمة بعد معاهدة لوزان، كان أقصى ما يمكن أن يتوقع الكورد تحقيقه في العراق هو إدارة شبه مستقلة في الأجزاء الشمالية الشرقية من البلاد حيث يقطنها الكورد، ويوظف فيها الكورد الذين يتحدثون اللغة الكوردية. كان هذا أقل بكثير من الاستقلال، وسيعتمد تنفيذه جوهرياً على حسن نية الحكام العرب في بغداد. [13]

مع إنهاء النزاع حول الموصل لصالح العراق بقرار لعصبة الأمم عام 1925 قُضي الأمر، ففي 1932 أصبح العراق دولة عربية مستقلة ملحقة بها أراضي كوردستان التاريخية مع أقلية سكانية كوردية. أبلغت مفوضية الانتداب التابعة لعصبة الأمم بأن احترام حقوق الأقليات مكفولٌ، لكن التاريخ سيظهر أن ذلك لم يكن صحيحاً، ففي أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، قاد الأخوان أحمد البارزاني ومصطفى البارزاني قبيلتهم في اشتباكات مع القوات الحكومية. [14] بالطريقة الكوردية النمطية كان هدف التحرر من سلطة أجنبية مرحلياً مقدساً ويعادل هدفهم المتمثل في الاستقلال الكامل، وهما هدفان مرتبطان في الممارسة رغم اختلافهما من حيث المبدأ، سيما وأن الاستقلال الكوردي قد تم استبعاده من الأجندة السياسية الدولية.

في إيران المجاورة، لم تكن الفرص الكوردية أكثر سطوعاً من الفرص الكوردية في الأماكن الأخرى. قام إسماعيل آغا سمكو من قبيلة شكاك بأنشطة متمردة ضد القوات الفارسية، ويبدو أنه تلقى بعض التشجيع من تركيا وربما بعض المساعدات من روسيا. لكن دون جدوى، إذ تم القبض على سمكو في عام 1926 (لم يتم القبض عليه بل كان لاجئاً في العراق ثم تركيا فالعراق وعاد لاحقاً إلى كردستان إيران- المترجم) وتم قتله من قبل عملاء الحكومة الإيرانية في 1930.

يلقي الدرس المؤثر لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى بظلال قاتمة على الكورد على النقيض من الآمال المهيجة المرتبطة بتأسيس دول شرق أوسطية جديدة لدى الشعوب الأخرى في المنطقة. لقد ظهرت كل من تركيا والعراق وإيران لتكريس طموحات غالبيتهم السكانية، مع اهتمام ضئيل بتأثيرات ذلك على الجماعات الأقلوية المقيمة داخل حدودها الدولية. بدلاً من التحرر من دائرة النسيان السياسي، واجه الكورد مرة أخرى القمع والمعاناة الإنسانية. لقد خلق التفاؤل – الذي تولد في وقت سابق في باريس وسيفر أو من خلال مبادرة خويبون في لبنان- صدى في كوردستان لكنه كان خافتاً.

كانت الإساءة هي تقسيم الشعب الكوردي بين ثلاثة دول -تركيا والعراق وإيران- وتشتيتهم المؤلم من سوريا إلى الاتحاد السوفييتي.

عندما قام بكر صدقي، وهو كوردي، بانقلاب عسكري ضد النظام الملكي في بغداد عام 1936، أسس قاعدة قديمة جديدة من تدخل الجيش في الحياة السياسية في الشرق الأوسط. وقد حذا العرب في السنوات اللاحقة بالعراق في ذلك عبر تنصيب الجيش فوق رؤوس السياسيين، لكن قضية بكر صدقي لم تسهم في شيء من أجل الطموحات الكوردية. [15]

واقعة مهاباد

رياح التاريخ أثارت هبات جديدة من الانبعاث القومي للشعب الكوردي في السنوات التالية. في أغسطس 1944 تم التأكيد بحزم على وحدة الكورد، حين التقى ممثلون عن كورد إيران والعراق وتركيا في جبل دالانبار في لحظة تنسيق قومي. في عام 1945 أعيد تنظيم تجمع كومله السابق، ولكن تحت مسمى جديد هو الحزب الديمقراطي الكوردستاني (ب د ك) في مهاباد- إيران بزعامة قاضي محمد. بعد عام، أُعلنَ فرع الحزب في العراق بقيادة إبراهيم أحمد.

كان التطور الأكثر أهمية في هذه السنوات هو جمهورية مهاباد، تلك الحكومة المدعومة من السوفييت غرب بحيرة أورميه (بحيرة رضائية)، والتي تأسست في ديسمبر 1945 واستمرت إلى ديسمبر 1946. [16] وفي حين أن مهاباد كمركز كوردي افتقرت إلى الهالة الأدبية التي لمدينة السليمانية في العراق، والعمق التاريخي الذي لمدينة ديار بكر في تركيا، إلا أن موقعها في شمال غرب إيران كان ذو قيمة استراتيجية. كان قد تم حرمان إيران نفسها من السيادة الكاملة على أراضيها بفعل تدخل بريطانيا والاتحاد السوفييتي في 1941، ما ترك فراغاً جزئياً يمكن للكورد استغلاله على نحو مفيد بمساعدة من الشيوعية الأجنبية.

تم تشكيل حكومة كوردية بقيادة قاضي محمد، تم رفع العلم الكوردي، وتم تسيير جيش تحت قيادة مصطفى البارزاني إلى ميدان القتال. رنا الكورد من جميع أرجاء المنطقة بأمل إلى جمهورية مهاباد. ربما كانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ستوفر في النهاية انتصاراً سياسياً أنكر على الكورد بعد الحرب العالمية الأولى.

 لكن تضافرت نقاط ضعف أساسية وتطورات متعلقة بالمصادفات لتحويل الجمهورية إلى تجربة عابرة. في الواقع، احتشد عدد قليل من القبائل الكوردية للدفاع عن مهاباد، بعضها بسبب تشويه صورة الجمهورية بناء على التورط السوفياتي الإلحادي والشيوعي، وبعضها بسبب الانقسامات التقليدية التي أعاقت التلاحم القومي الكامل من أجل قضية مشتركة.
في الوقت نفسه، أدى رحيل الجيش الأحمر من إيران في مارس 1946 والركود الاقتصادي السيء إلى تقصير عمر الجمهورية السياسي.

في ديسمبر 1946 دخل الجيش الإيراني مهاباد. سجن قاضي محمد وشُنق في شهر مارس، فيما عاد البارزاني إلى العراق، وكانت تلك بداية رحلة أطول للبارزاني أدت به وبأتباعه إلى الاتحاد السوفييتي، إلى منفى مديد استمر حتى عام 1958. رغم ذلك، كانت جمهورية مهاباد في الفترة من 1945 إلى 1946 هي أكبر إنجاز ملموس للاستقلال الكوردي في العصر الحديث. قصر عمر جمهورية مهاباد يقابل بطبيعتها الاصطناعية، إذ ولدت في ظروف غريبة، مفتقرة إلى التعبئة القومية الكاملة المطلوبة لتوفير إمكانية النجاح الدائم.

التحرير كما التمرد

بعد ذلك، تعرضت الحالة الكوردية عموماً في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى أشكال نمطية من القمع الثقافي والإفقار الاقتصادي والإضعاف السياسي. فالمناوشات العسكرية ضد شاه إيران في الخمسينات من القرن الماضي لم تسفر عن أية مكاسب، فيما أجهض الرعب الكمالي والاعتقالات في تركيا جهود الحزب الاشتراكي الكوردستاني في تركيا الذي كان يوضح أسباب الكفاح الكوردي. إن تعليم اللغة التركية في المناطق الكردية، بين “الأتراك الجبليين” كما جرى تسمية الكورد رسمياً، يجسد الإكراه اللغوي للكورد من قبل أنقرة، كجزء من حملة واسعة من القمع.

ضربتُ كردستان في شرق تركيا كمثلٍ عن “مستعمرة داخلية” كلاسيكية، حيث تم استخراج المواد الخام وتصديرها، في حين استمر الفقر والتخلف في المناطق الريفية كسياسة حكومية. في سوريا، أثار حسني الزعيم، وهو من أصل كوردي، أملاً جديداً لشعبه في أعقاب انقلابه عام 1949. لكن حكمه الدمشقي الذي بدأ في مارس واستمر حتى شهر أغسطس فقط، تم تشويهه من لدن العرب والفلسطينيين والإسلاميين بتسميته “الجمهورية العسكرية الكوردية” (تشويه فترة حكم الزعيم بهذه الطريقة يؤكده أيضاً الصحفي باتريك سيل في كتابه “الصراع على سوريا”- المترجم).

كان دور الكورد في مواقع السلطة السورية خلال فترة الشيشكلي اللاحقة فصلاً عابراً أيضاً. في أواخر الخمسينيات، تميز تعريب منطقة الجزيرة الشرقية بإنكار الحقوق الكوردية وترحيل الكورد إلى أجزاء أخرى من البلاد (الواقع كانت هناك كانت هناك سلة من المشاريع استهدفت الكورد بدأت بالمرسوم التشريعي 193 لعام 1952 القاضي عدم إنشاء أو تعديل أي حق على الأراضي في مناطق الحدود إلا برخصة من وزير الداخلية، وسياسات فترة حكم عبد الناصر في سوريا، والإحصاء الاستثنائي لعام 1962 ومشروع الحزام العربي الذي طبق في مرحلتين الأولى بين 1959 و1963 والثانية الأضخم في 1974-1975- المترجم).

حقيقة أن خالد بكداش، وهو كوردي، يرأس الحزب الشيوعي السوري كان نتيجة هامشية قياساً إلى مجتمعه التقليدي، رغم أن التأييد للسوفيات كان دون أدنى شك منتشراً في أوساط الكورد بسبب جهود بكداش. [17]

في لبنان، أصبح العيش في العشوائيات حال الفقراء الكورد.
 
بالنسبة إلى السوفييت، سوف يكون الكورد ورقة سياسية يجري استغلالها للتلاعب بالشؤون واستغلال الفرص في العالم الإسلامي في الجنوب.
في العراق، على أية حال، دقت الساعة لجولة جديدة من الجهود لتجاوز وضع الكورد كأقلية أدنى منزلة في التاريخ.
شكلت ثورة يوليو 1958 في بغداد عهداً جديداً للعراق الحديث وفرصة جديدة للكورد من أجل تحقيق الذات الجماعية.
أعلن الدستور العراقي المؤقت أن العرب والأكراد كانوا “شركاء”، وأن الكورد يشكلون حوالي 15-20% من مجموع السكان، ويبلغ تعدادهم حوالي مليوني كردي من أصل عشرة ملايين مواطن عراقي. في أكتوبر 1958 عاد مصطفى البارزاني، الذي لُقب بـ “الملا الأحمر”، من منفاه في الاتحاد السوفييتي. وفي مارس 1959، قاتلت قواته الكوردية بولاء مع نظام قاسم ضد التهديد الناصري المعبر عنه في تمرد الشواف (أو حركة العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل- المترجم). الاعتزاز الكوردي تصاعد نتيجة لهذه التطورات.

ويبدو أن المساعدة السوفييتية لتأييد الطموحات القومية كانت متاحة عندما تدهور شهر العسل الكوردي-العربي. في عام 1961، بدأ التمرد الكوردي عندما أصبح هدف الحكم الذاتي متشابكاً مع تقرير المصير في جدل لا ينتهي حول ما إذا كان الكورد يريدون حرية جماعية داخل العراق أو الانفصال عنه.

بحلول عام 1963، قامت قوات حرب العصابات الكوردية بقيادة البارزاني، مدعومين بالتضامن القبلي في موطنهم الجبلي، بإعلان “منطقة محررة” في شمال شرق العراق، امتدت من زاخو في الشمال إلى حلبجة في الشرق.
كانت التلال والمرتفعات الريفية في أيدي الكورد، فيما كانت القرى والمدن غالباً ما تخضع لسيطرة الحكومة العراقية. هذا النمط التقليدي من حرب العصابات يشير إلى القوة القومية للكفاح الكردي. قدر تعداد مقاتلي البيشمركة (أولئك الذين يواجهون الموت) بنحو 20.000 من المقاتلين النظاميين و40.000 من المقاتلين الاحتياط. وكان قد تم تزويدهم بأسلحة خفيفة لمحاربة قوة عسكرية عراقية تقليدية.

وبحلول منتصف عام 1963، بدا التمرد بالغليان، وفيما استمرت قوات البارزاني القبلية في مهاجمة معسكرات العدو، واختطاف المسؤولين، والمناوشة مع القبائل المناهضة للبارزاني، تغلغل الجيش العراقي في عمق المنطقة الكوردية. ففي شهر يونيو استولى الجيش العراقي على كويه سنجق، وأصبح قصف الأهداف الكوردية أشد ضراوة، كالهجوم على مدينة السليمانية الذي أسفر عن مقتل 280 مدنياً. [18]

وفي شهر يوليو، اتهم السوفييت الحكومة العراقية بالسعي إلى “التصفية المادية للأقلية الكوردية”. “خلال عام 1963، تسبب انقلابان عسكريان في تعقيد حرب العراق ضد الكورد، لكن الحكومة كانت مصممة على كبح جماح التهديد الداخلي باستخدام أفضل السبل المتوفرة: القمع الثقافي والاضطهاد المادي.

أثار وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968 -والذي كان عملية تراكمية خلال عقد الستينيات- إمكانية التوصل إلى حل سلمي للمسألة الكردية في العراق. كان منظّر الحزب الرئيسي ميشيل عفلق قد فهم أن الأقليات العرقية تخشى القومية العربية، وكان هو نفسه مسيحي أرثوذكسي يوناني، وبالتالي فإن برنامج الحزب للاشتراكية والمساواة يمكن أن يوفر بطريقة معقولة وسيلة لدمج الكورد في النسيج المجتمعي العراقي الجديد بقيادة حزب البعث. [19]

في الواقع قدم النظام البعثي في مارس 1970 الأرضية لإقامة تسوية على أساس الحكم الذاتي الكوردي. سوف يعترف الاتفاق بالكوردية كلغة رسمية في كوردستان، في كل من التعليم والإدارة المحلية، وتوفير التنمية الاقتصادية، وتعيين نائب كوردي لرئيس الجمهورية في بغداد. وإعلان أن العراق هو وطن للشعبين العربي والكوردي، اللذين يتمتع كل منهما بحقوقه القومية.

اجتاحت الاحتفالات كوردستان، لكن الفرحة كانت سابقة للأوان. إذ كانت المرحلة المباشرة لوقف إطلاق النار والبرنامج السياسي المنشور محقونة بعدم الثقة المتبادلة والاتهامات حول التنكر للوعود. “لا تثق بابتسامة العدو” يقول المثل الشعبي الكوردي. حين وصل الطرفان إلى موعد تنفيذ الاتفاق في عام 1974، اختار البارزاني رفض الاتفاق ودخل المعركة بكامل قوته.

كانت المظالم الكردية كثيرة وخطيرة، بما في ذلك تعطيل نص الاتفاق وروحه الداخلية الميتة.
أشارت سياسة التعريب وطرد الكورد إلى الجنوب وتوطين العرب في الشمال إلى عزم العراق على إفراغ كوردستان من سكانها الأصليين تاريخياً. [20]
ينطوي الإنفاق المتدني المخصص في الميزانية لإعادة تأهيل المنطقة الكوردية على سوء النية من الحكومة. وفي الآن نفسه، أظهرت محاولتان على الأقل لاغتيال مصطفى البارزاني، زعيم ورمز الكفاح الكوردي في عامي 1971 و1972، قناعة بغداد القاتلة بلزوم احتواء التمرد الكوردي والمستحسن تحطيمه بأي وسيلة.

كان البارزاني مصراً على أن تكون كركوك -المدينة والمنطقة الغنية بتاريخها الكوردي وبمواردها النفطية- ضمن المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي. رفض العراقيون هذا المطلب بشكل كامل، وامتنعوا عن تنفيذ الأحكام الرئيسية لاتفاق 1970.
إن رفض البارزاني للاتفاق في 1974 لم يكن مبنياً فقط على الغدر العراقي، بل أيضاً على أمله في أن لحظة الانتصار الكوردي قد أزفت. لذلك كان من شأن أي تسوية سياسية جزئية أن تخنق النخبة القومية التي يمكن أن تقود إلى النجاح الكامل.

غطى الدعم الإيراني خلال الستينيات من خلال توفير الإمدادات العسكرية العورات الكوردية، وأدت الاتصالات مع إسرائيل إلى تقديم المشورة في تنظيم العمليات الاستخباراتية وتكتيكات حرب العصابات.

ربما كان الأمر الأكثر أهمية رمزياً هو المساعدات الأمريكية المقدمة على شكل 16 مليون دولار وأسلحة سوفيتية وصينية الصنع، والتي جرى تسليمها للكورد عبر إيران في عام 1972. نتيجة لذلك، فإن إضعاف النظام البعثي الذي كان قد وقع على معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفييتي قد أدى ببعض المسؤولين الأمريكيين إلى اعتبار الكورد عنصراً إيجابياً في معادلة التنافس الأوسع للقوى العظمى في الشرق الأوسط.
لكن وزير الخارجية كيسنجر تدخل في 1973-1974 ومنع تقديم المزيد من المساعدات الأمريكية إلى الكورد، رغم استمرار البارزاني في الأمل في إلغاء هذا التغيير في السياسة في واشنطن. [21]

عرض بارزاني وضع حقول النفط في كركوك تحت تصرف المشغلين الغربيين، وتكريس قواته القتالية كحصن ضد التوسع السوفياتي جنوباً نحو العراق وبالتالي إلى الخليج الفارسي.

إن فكرة التحالف الأمريكي الكوردي الذي رفضته واشنطن في السبعينيات سوف تُنعشُ بشكل ضعيف في الثمانينات، عندما يضمن بناء قدرات الكورد إلى جانب عوامل أخرى أن “يظل العراق وإيران في حالة استنزاف”. كما علّق أحد المراقبين على الحرب الطويلة بين هذين البلدين الخليجيين. [22]

كان التمرد الكردي المولود من الإحباط والتفاؤل يجري في مسار مرير من مارس 1974 إلى مارس 1975.
الشبه-دولة الكوردية في شمال العراق تم حلها بالكامل بسبب الحرب البعثية عليها والتخلي الأجنبي عنها. قصف الجيش العراقي قلعة دزه في 24 أبريل ما أسفر عن مقتل 131 مدنياً وإصابة أكثر من 300 شخص. وبعد أربعة أيام، قُتل 42 مدنياً في حلبجة وجُرح أكثر من 100 شخص.

توغل الجيش العراقي في المنطقة التي يسيطر عليها الكورد، وقصفها بشدة بالصواريخ والدبابات والقاذفات السوفيتية الصنع. كانت قوات البارزاني لا تزال قادرة على مضايقة القوات العراقية وحافظت على شريط رفيع من الأراضي على طول الحدود الشمالية الشرقية للعراق، لكن الخسائر في الأرواح والأضرار المادية كان ثقيلة وباهظة. [23]

اختفت الانقسامات القبلية جزئياً مع استمرار الكفاح الكوردي القومي. لكن تطوراً خارجياً غير متوقع أدى إلى وقف القتال.
أنهت اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران في 6 مارس 1975 دعم الأخيرة للحملة العسكرية الكوردية ضد بغداد. أصبح الكفاح غير مجدٍ في تلك المرحلة دون إمدادات الأسلحة من إيران أو قاعدة جغرافية في إيران. كانت المساعدات الأمريكية قد أوقفت بالفعل، كما انتهى الأمر بالإسهام الإسرائيلي بسبب الضغط الأمريكي على ما يبدو. في كوردستان نفسها كان الفقر والمعاناة مستفحلين. أعدمت الحكومة 227 من قادة التمرد وسجنت الآلاف من مقاتلي البيشمركة، ودمرت أكثر من 200 قرية كوردية، وأعادت توطين حوالي 300 ألف كوردي في جنوب العراق، وطردت أكثر من 100 ألف إلى إيران. [24] نام اللاجئون الكورد في إيران في خيمٍ منصوبة على ثلج الشتاء. الغذاء كان شحيحاً والمرافق الطبية غير مؤهلة. على مدار عام لجأ ما يقدر بنصف مليون كوردي إلى إيران. [25]

كان البارزاني قد غامر بمصير شعبه ورفاهه عندما رفض قبول اتفاق الحكم الذاتي في عام 1974. بعد عام من ذلك، فشلت المغامرة بشكل مأساوي لشعب كان يميل تاريخياً إلى الحذر بدل المخاطرة. قبيل وفاته بوقت قصير في 1 مارس 1979، قال مصطفى البارزاني بشكل حزين “أنا فاشل”. [26]
كانت سيرته الشخصية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسار شعبه، وكان فشله فشلاً للكورد أيضاً. لم يتغلب التمرد بشكل كامل على الانشقاق بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني المبني على أسّ عشائري والمشرعن دينياً والذي يتزعمه البارزاني وجماعة جلال الطالباني، حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي ظهر في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، والذي كان حزباً أكثر مدينية ويسارية في توجهاته الإيديولوجية.

لقد ضاعت الفرصة وانهار الكفاح رغم نجاحه الجزئي. لقد فشلت الحركة القومية الكردية بشكل عام في تعبئة القوى اليسارية العراقية، ولم تنجح الجهود الكوردية في التقارب مع البعث العراقي باستثناء التعاون المؤقت بين الجانبين.
على نحو مماثل، أحجمت قوات البارزاني عن محاولة حشد الطاقات الكوردية المحلية في “المنطقة المحررة” لتنفيذ برامج تعليمية واجتماعية واسعة النطاق تؤدي إلى اندماج قومي أكبر. لقد منعت الممارسات والمصالح الإقطاعية القبلية التقليدية هذا: انهار “الانقلاب” الثوري. كان التحرر من العراق دائماً هدفاً أكثر مغزى وربما أكثر واقعية من حرية كوردستان. لذلك، وبينما كان التمرد مجازفة مثمرة، كانت الثورة عقيمة.

لقد برهن الاعتماد على القوى الأجنبية أنه مجرد مصلحة بغيضة وهشة. وفي الآن نفسه، تم إجهاض كفاح جماهيري، رغم زرع بذور مثل هذا الكفاح خلال الستينيات والسبعينيات. واصلت بعض القبائل البقاء بمعزل عن قوات البارزاني، وحاربت عشائر أخرى مثل الزيباريين كمرتزقة في قوة فرسان صلاح الدين المنظمة من قبل الجيش العراقي.

كان صراع الأخوة في الماضي يميز الجهود الكوردية. إذ كان والد زوجة مصطفى البارزاني قد عارضه في عام 1945، واصطف عبيد الله نجل البارزاني إلى جانب الحكومة في السبعينيات. لقد قوضت الفصائلية الواهنة والمخزية الطابع القومي للكفاح الكوردي. [27]

حتى عندما حقق المتمردون الكورد نجاحات، مسيطرين على الجبال ومسلحين الفلاحين، لم يتم تحويل موطئ قدمهم في كوردستان إلى قاعدة متقدمة لعمليات عسكرية هجومية ضد قلب مراكز القوة العراقية. انتهت طريقة عمل حرب العصابات الكوردية حيث كان يجب أن تبدأ. إذ لم ينفذ البارزاني ومقاتلوه في نهاية المطاف إلى كركوك أو الموصل أو بغداد، وكان للجيش العراقي في نهاية المطاف أن يقصف ويستولي على جومان وعمادية والسليمانية داخل كوردستان نفسها.

بسبب افتقادهم لرسالة إيديولوجية محفزة وبدون وحدة قومية كاملة كضحايا لاستراتيجية عسكرية واقعية، كان من المتوقع أن يخسر الكورد. في بلد ليس له منفذ بحري ويواجه حكومة مركزية قوية، كان يتعين على الكورد فعل المزيد من أجل الخروج من المأزق في هذا الصراع الطويل.

الإصرار والعجز الكورديان

بعد انتهاء فترة التمرد الرئيسية في عام 1975 ظلت القضية الكردية مشكلة مستمرة في العراق. حوالي 25 % من مناطق البلاد هي كردية من حيث الهوية القومية، ويسكنها ما يؤلف حوالي 4 ملايين شخص يتركزون في المناطق الشمالية والشرقية. وعلى الرغم من حملات التعريب والتغيير الديمغرافي لا يزال يتم الحديث باللغة الكوردية كما أفاد المتحدث باسم الحزب الديمقراطي الكوردستاني بعد زيارة إلى خانقين ومدن كوردية أخرى في العراق. [28]

هذا الدليل على الحيوية الثقافية واكب حملة عسكرية متواصلة اكتسبت زخماً وخصوصاً خلال حرب العراق مع إيران، انطلاقاً من سبتمبر 1980. مستفيدين أحياناً من دعم سوري وإيراني، صعد كورد العراق بقيادة مسعود البارزاني ابن الأسطورة مصطفى البارزاني بنجاح عمليات حرب العصابات ضد الجيش العراقي. في عام 1986، كان جيشان عراقيان يقدر تعداد أفرادهما بـ 160 ألف جندي من جيوش العراق السبعة متمركزين في كوردستان يحاولان عبثاً تهدئة المنطقة. فيما بلغ تعداد قوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني 10 آلاف بيشمركة، لكن التعداد كان كافياً للسيطرة على كثير من المناطق الجبلية وإدارة المنطقة في الليل. استمر الطلب على الحكم الذاتي الكوردي في تشكيل البرنامج السياسي الأساسي رغم الجهود التي بذلها جلال الطالباني من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني للتفاوض على تسوية مع بغداد. [29]
وفي الوقت نفسه، قام العراق بإعدام الشباب الكورد المتهربين من الخدمة العسكرية الإلزامية والذين رفضوا المشاركة في الحرب ضد إيران، وهي حربٌ اعتبروها غريبة عن أهدافهم القومية.

خلال لجوء مسعود البارزاني في تركيا عام 1988، قصف العراق بلا رحمة قرى كوردية في محافظة السليمانية مستخدماً الأسلحة الكيماوية، ولا سيما في حلبجة حيث مات 5 آلاف شخص وفي أماكن أخرى.

قدمت حملة الأنفال العسكرية والتي حملت تسمية السورة القرآنية حول “غنائم الحرب” موضوعاً إسلامياً للذبح العربي للكورد.
وأوردت تقارير أن نظام صدام حسين كان يسمم قادة الاتحاد الوطني الكوردستاني وعائلاتهم، وقارن القائد العسكري للاتحاد الوطني الكوردستاني مصطفى قادر محمود سياسة صدام مع الإبادة الجماعية التي ارتكبها بول بوت في كمبوديا. إذ تم تدمير بلدات وقرى بأكملها في كوردستان، وكان الآلاف، وربما 100 ألف كوردي هربوا إلى تركيا في نهاية المطاف بحثاً عن الأمان. وقد ذكرت منظمة العفو الدولية أن مئات السجناء السياسيين الكورد قد أُعدموا في العراق في أوائل عام 1988. [30]
كان الليل الحالكُ للتاريخ الكوردي لا يزال ينتظر بزوغ ضوء صباح جديد.

فشلت الأساليب العراقية لحل النزاع في تسوية القضية. إن الصهر العربي كان بالطبع غير مجدٍ ثقافياً، والاشتراكية البعثية هي فكرة غامضة للغاية. تم إجراء بعض التطوير في التعليم لتهدئة الكورد. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الجامعة في السليمانية كانت تشهد على الخصوصية الكوردية داخل العراق العربي.
 
وفي حين أن الحكم الذاتي هو صيغة فشلت في التوصل إلى اتفاق لأن كل طرف فسّر مجاله بطريقة مختلفة، فإن فكرة الفيدرالية قد نوقشت من قبل بعض الكورد، إلا أن العراق ورئيسها صدام حسين رفضاها.
جدوى الانفصال والتي اعتبرها إدموند غريب مستحيلة، فيما اعتبرها ويليام هيزن ممكنة، استمرت بالاعتماد على تحول كبير في الحياة الكوردية. سوف يتعين تجاوز القبائلية نحو تنظيم مجتمع مندمج، وبناء مجتمع متحضر ومتعلم أكثر حداثة. في سياق تكوين جنسية متأهبة ذاتياً، مستعدة سياسياً لإقامة دولة قومية كوردية. الظروف الخارجية مثل تآكل وحدة الدولة العراقية بسبب الحرب مع إيران أو بعد حرب الخليج في عام 1991 والتي أدت إلى انتفاضة شيعية كبيرة ضد الحكام السنة في السلطة في بغداد، سيحفز بلا شك إمكانية الانفصال الكوردي. [31]

في هذه الأثناء كان الاهتياج الكوردي في تركيا يحمل طابع الأصالة الإثنية، لكنه يواجه عداوة دولة حازمة. بتعدادهم المقدر بنحو 10 ملايين نسمة، ما يشكل نحو 15-20٪ من مجموع سكان تركيا، وبتركزهم الجغرافي في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد المتاخم للمناطق الكوردية في العراق وإيران، كان الكورد هدفاً للقمع التركي منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923. وكان التتريك يعني حظر اللغة الكوردية بموجب قانون صدر في 1924، وفرض عقوبات بالسجن على أي كوردي يتكلم بلغته القومية. إن فكرة بقاء الكورد كمجموعة عرقية منفصلة، كما طورها عالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشيكجي، هي جريمة ضد الدولة. [32]

إن الواقع الملموس للشعب الكردي قد تعرض إلى إنكار فظيع من قبل النظام التركي. إذ تم عدُّ بتليس ووان وديار بكر كشرق تركيا بدلاً من – لاعتبارات التاريخ والعرق واللغة المؤكدة – عدّها قلب الوطن الكوردي لآلاف السنين. مواجهة هذا التهديد الثقافي والمادي بالإبادة الجماعية حفز النشاط الكوردي.

تطور التنظيم السياسي والاضطراب العرقي بشكل ملحوظ في الستينيات. شهد هذا العقد إطلاق مجلات باللغة الكوردية وتأسيس أحزاب كوردية مثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني في 1965 والجمعية الثقافية الثورية للشرق (د. د. ك. و) في 1969، وتضمنت الأطر اللاحقة حزب الطليعة لعمال كردستان (حزب ب ب ك ك أو بيشنك) والتحرير الوطني لكردستان (ك و ك) وكلاهما ماركسي ومؤيد للسوفيات. [33]

اتخذ التمرد في تركيا شكلي القتال الجبلي-الريفي وحرب العصابات في المناطق الحضرية. قدمت المعارضة اليسارية الواسعة للأنظمة العسكرية في أنقرة إطاراً أوسع عبر من خلاله الكورد عن مظالمهم وطموحاتهم القومية الخاصة. وأطلق الجيش الشعبي لتحرير تركيا الذي أعدم زعيمه الكوردي دنيز غزميش في عام 1972، منصة ديمقراطية تركية عامة لتطعيم الأهداف الكوردية.
كان يُشتبه في تلقي هذه المجموعة ومجموعات مشابهة أخرى الدعم السوفياتي، ولكن في الواقع كانوا يحملون طابع أيديولوجي ماركسي. كان يعتقد أن التشدد الكوردي ضد تركيا، التي هي عضو في حلف الناتو ومستفيدة من وجود القوات الأمريكية والمساعدات العسكرية والاقتصادية، كان بمثابة ذراع لتمرد بالوكالة لصالح السوفيات على حدودهم الجنوبية.

جدير بالذكر، أنه وفي إطار سلسلة علاقات موسكو العالمية زار الكورد معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان قبل عام 1982. وقد قام حزب العمال التركي، والذي يقدم خطاً إيديولوجياً يسارياً، بحملة لإقامة جمهورية كوردية اشتراكية في ديار بكر. كان أعضاء الحزب مثلهم مثل أعضاء حزب العمال الكوردستاني منخرطين منذ السبعينيات في تمرد. ألقي القبض على حوالي 2000 شخص من المشتبه بهم في عام 1982. [34] رغم أنه تم الإبلاغ عن مجموع لا يُصدق لأكثر من 80 ألف شخص تم اعتقالهم أو احتجازهم في جميع الولايات الكوردية في شرق تركيا خلال الفترة بين 1980 و1981. [35]

من الاستماع إلى أشرطة الموسيقى الكوردية إلى الانخراط في النشاط الحزبي القومي، تراكمت “جرائم” الكورد، وامتلأت السجون العسكرية بهم دون نهاية لها في المشهد. تم عرض لمحة عن المحنة الكوردية في فيلم “الطريق”، والذي عاش كاتبه ومنتجه يلماز غوني في المنفى في أوروبا، ولكن غوني ميت الآن.

كان ثلثا الجيش التركي منشغلاً في منتصف الثمانينيات بالتمرد الكوردي في الشرق، حيث فرضت حالة الطوارئ لفترات طويلة من الزمن. في عام 1987 وعد رئيس الوزراء تورغوت أوزال بالتنمية الاقتصادية للمنطقة الكوردية ومشاريع الري وما شابه، ولكن هذه الإيماءة كانت تتناقض مع سياسة التتريك الحاسمة على المستوى الثقافي واللغوي، ومخططات إعادة التوطين التي هددت بتفريغ المحافظات الكوردية من سكانها الأصليين. [36]

وعد زعيم الكريلا الكوردية عبد الله أوجلان والذي أفادت التقارير أنه ماركسي بمواصلة القتال. وقد دشن حزبه الماركسي- اللينيني (حزب العمال الكوردستاني) موجة من الإرهاب في منتصف 1984، مغيراً على القوافل العسكرية التركية ومخافر الجندرمة بشكل منتظم. وفقاً للتقارير فإن قواعد حزب العمال الكوردستاني كانت في سوريا. بينما أعدت حالة الطوارئ في الولايات الكوردية في جنوب شرق الأناضول لقمع ما اعتقدته أنقرة تمرداً انفصالياً يهدد السلامة السياسية لتركيا. لذا ميزت الاعتقالات الجماعية والتعذيب والتهجير القسري مع الترهيب الدائم الذي يحوم فوق المجتمع الكوردي حال هذه الأقلية، [37]
لكن القتال استمر رغم ذلك. من 1984 إلى 1988، قتل المقاتلون الكورد حوالي تسعمائة جندي ومدني تركي، بينما كانوا يعانون بأنفسهم من خسائر كبيرة.

في الوقت نفسه، قدم اتجاه ضمني نحو التحضر في أنقرة والمدن التركية الأخرى قوة دافعة محددة للتحديث الكوردي الذي يمكن أن يسهم في زيادة الوعي الإثني. عاش مليونا كردي في اسطنبول في أوائل التسعينات. ولكن بشكل عام لم يتمكن الكورد من الانتقال من المعارضة الراديكالية والعنيفة ضد الحكم التركي إلى تأسيس نخبة قومية تقود شعباً مثقفاً، وبالتالي تنفيذ حملة سياسية واضحة موجهة إلى المنابر العالمية. الكورد أعضاءٌ في البرلمان وينشطون في السياسة الوطنية التركية، لكنهم غير قادرين على أن يكونوا دعاة فعالين لطموحات جماعتهم القومية. التخلف الإنمائي المتوطن ونقص الخدمات والأمية واسعة الانتشار تعيق الاندماج القومي الكردي. لكن هناك علامات على وجود صحوة أكثر عمقاً، فبعض الإيماءات الشخصية للحيوية الكوردية، وإعطاء المواليد أسماء كوردية، وتوزيع أشرطة فيديو عن مواضيع كوردية عبرت على سبيل المثال عن الصمود القومي ضد سياسة الصهر التركية.

في إيران ومنذ الثورة الإسلامية عام 1979 التي انحسرت إلى حد ما فقط مع وفاة آية الله الخميني في عام 1989، اتبعت فرص الكورد النمط المألوف لكفاح حرب العصابات والتعرض لقمع الدولة. بتعدادهم البالغ حوالي ستة ملايين كوردي في إيران، فإن المبدأ الشيعي في الهوية الفارسية يمكن في أحسن الأحوال أن يرضي فقط أولئك الكورد الشيعة الذين يبدو أنهم أقلية والذين يشاركون هذه الهوية الدينية الإسلامية في الجزء الشمالي الغربي من البلاد. نتذكر هنا أن معظم الكورد هم من المذهب السني. وقد طالب الكورد تحت الزعامة الروحية للشيخ عز الدين الحسيني بالحكم الذاتي الإقليمي والاستخدام الحر للغتهم. كانت ردة فعل الخميني هي حظر حزب الديمقراطي الكوردستاني- إيران والقيام بحملة من القمع وإخماد الفتنة. قام الحزب الديمقراطي الكردستاني- إيران، برئاسة الدكتور عبد الرحمن قاسملو بإرسال حوالي 10 آلاف من أفراد البيشمركة في معركة مستمرة ضد نظام طهران. كما شنت كومله، وهي جماعة ماركسية أصغر، بمقاومة مسلحة ضد الخميني. وبمساعدة عراقية قاموا بمهاجمة قواعد عسكرية إيرانية مثل قاعدة بيرانشهر، وحاصروا المدن ماكو وأورمية وكامياران ومدينة سنندج. [38]

كانت مهاباد عاصمة الجمهورية الكردية في عام 1946 هي الأخرى مسرحاً لحرب العصابات في أواخر يونيو 1982 حيث قتل خلالها 64 شخصاً. إبان ذلك، تم اغتيال قاسملو في عام 1989 في فيينا، وذلك قبل خمسة أيام من زيارة مقررة له إلى الولايات المتحدة، ودفن لاحقاً في باريس. نتيجة لاستمرار الحرب العراقية الإيرانية واستمرار العراق في استخدام الشقاق الكوردي- الإيراني كأداة لإضعاف وتحويل الطاقات الإيرانية، استمرت الثورة الكوردية ضد الجمهورية الإسلامية. لم يكن قد تم بعد ابتكار آلية إيرانية متكاملة بهدف تهدئة المظالم الكوردية.

ليس هناك إنكار لحقيقة أن الوطن الكوردستاني الذي يمتد عبر تركيا والعراق وإيران (وربما شرق سوريا) هو منطقة عرقية لا تقهر، ترتكز على حيوية الثقافة الكوردية والإمكانات الاقتصادية، وخاصة بالنظر إلى حقول نفط كركوك الكبيرة. ولكن ثبت أن إمكانية تحويل القبلية إلى القومية، أو الوعي الشعبي إلى قومية سياسية يمثل تحدياً لا يُغلب. إن الجانب الجغرافي لحال الكورد ينذر بتهديدات انفصالية ضد الدول الإقليمية القائمة. وبالتالي فإن هذا العامل الأخير يدعم الكورد عندما تجعل المصالح المباشرة للدول الإقليمية استغلال بطاقة الأقلية مفيداً، لكنهم دائماً على دراية بالسابقة الخطيرة حول انعكاسات النجاح الذي سيحققه الكورد في دولة ما من دول المنطقة على مصير الكورد في الدول المجاورة. لذلك فإن التنسيق ضد الكرد هو عنصر محتمل يمكن تطويره عند الضرورة. في الواقع، توصلت تركيا وسوريا إلى اتفاقية تعهدت بموجبها دمشق بوقف المساعدات عن الكورد في تركيا في 1987 (المعلن هو أنها اتفاقية بين أنقرة ودمشق حول تقاسم مياه الفرات- المترجم). وبالمثل، عندما كانت حرب الخليج بين إيران والعراق تشغل بغداد، دُعي الجيش التركي للقيام بدوريات في المنطقة الحدودية العراقية الشمالية مع تركيا لمنع المتسللين من الدخول أو الخروج، وفي مايو 1983 ومرة أخرى في أكتوبر 1984، هاجمت تركيا كردستان العراق بالتعاون مع سياسة القمع المتبعة في بغداد. وقف إطلاق النار بين إيران والعراق في أغسطس 1988 أطلق يد بغداد مجدداً لمتابعة هجومها الوحشي ضد الكورد في الشمال. ومرة أخرى أثبت الاعتماد على طهران أنه “قصبةٌ ضعيفةٌ” في الحسابات الكوردية. ﻟﺬﻟﻚ، ﺛﺒﺖ أن اﻟﺪﻋﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ هشٌ وعابر وﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ اﻟﻈﺮوف واﻟﺘﻄﻮرات خارج التحكم اﻟﻜوﺮدي، وهذا الدعم يبدأ ويُجدد ويتم إنهاؤه بدون إشعار. كانت المساعدات من أمريكا مفيدة للكورد العراقيين، وكانت المساعدات السوفياتية المقدمة بشكل مباشر أو غير مباشر مفيدة للكورد في تركيا، لكن ينبغي أن تكون تلاعبات القوى العظمى قد علمت الكورد أن خلاصهم يجب أن يكون محلي الصنع، وإلا فلا خلاص.

رفضُ الكورد المغامرات الإرهابية العالمية المبهرة لم يولي كفاحهم سوى اهتماماً دولياً هزيلاً. في أوروبا، أعربت الجماعات الكوردية عن نضالها من خلال المؤتمرات القومية والتظاهرات في الشوارع، وعززت تضامنها الجماعي بمحاولة تنشئة أطفالهم على وعي كوردي. في ألمانيا وحدها، كان هناك حوالي نصف مليون كوردي يشكلون مجتمعاً مميزاً. وفي أمريكا تم القيام بأنشطة ثقافية كوردية كمؤشر على تقليد حي تم إكماله بإعادة التنشيط السياسي عبر جعل الجمهور مطلعاً على الانتهاكات القديمة التي ارتكبت ضد شعب شرقي قديم. [39]
هذه النشاطات التي جرت خارج منطقة الشرق الأوسط وفي الشتات جزئياً لم تكن قوية بما يكفي ليتردد صداها بقوة داخل كوردستان نفسها.

في هذه الأثناء، تمكن الزعيم الكوردي جلال الطالباني من عرض قضية شعبه المأساوية في اجتماعات عقدت مع مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية وأعضاء في الكونغرس في منتصف عام 1988. أقيم معرض عن التاريخ والمحنة الكوردية في الكابيتول هيل في 1989، وأبدت لجنة حقوق الإنسان في الكونغرس اهتمامها بهذه القضية. كان الطالباني في واشنطن مجدداً في أغسطس 1990 للحصول على الدعم الأمريكي لدور الكورد في محاولة الإطاحة بنظام صدام حسين البعثي في بغداد. جاء هذا الجهد الدبلوماسي في أعقاب غزو العراق للكويت وتصميم أمريكا على تغيير ذلك. وبالفعل استفاد البيشمركة الكورد من معظم الفوضى الناجمة عن إخراج العراق من الكويت والتهديد الوجودي لنظام صدام حسين في مواصلة حملتهم العسكرية نحو كركوك في مارس 1991. لكن بحلول أوائل أبريل كان الكورد في حالة تراجع يائسة أمام الجيش العراقي المتقدم. كانت السيطرة على أراضيهم وتدفق اللاجئين وحتى الإبادة الجماعية تهديدات سيئة محتملة، حيث كانت كارثة ذات أبعاد هائلة تحوم حول المصير الكوردي. لكن الأزمة في الخليج فتحت فرصة كبيرة في كوردستان.

الحكم الذاتي والانقسام القومي في التسعينيات

في يناير 1991 قامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي ومهدت الأرضية السياسية والعسكرية للحكم الذاتي الكوردي في شمال العراق. وبدعم من قرارات الأمم المتحدة والقرار الأمريكي/ البريطاني تم إعلان الأراضي الواقعة شمال خط العرض 36 ملاذاً آمناً للكورد والسكان المحليين الآخرين. بعد الانتخابات في مايو 1992 تم إنشاء إدارة للإقليم وعاصمتها أربيل، وخلال وقت قصير حوَّل التمويل والغذاء والحرية المقدمة والمدعومة من الأمم المتحدة والولايات المتحدة هذا الجزء من كوردستان إلى مثالٍ لحقّ تقرير المصير للأقليات، ولدولة مستوطنة من الشعب الكوردي المضطهد تاريخياً.

في الوقت نفسه، استمر الاعتلال المتأصل في المجتمع السياسي الكوردي ليعيق التجربة القومية. إذ تزاحم الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي يتزعمه مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني من أجل السلطة والعائدات في المنطقة الشمالية الحرة. أدى القتال بين الحزبين الذي بدأ في مايو 1994 إلى سقوط بضعة آلاف من الضحايا في الطرفين، حيث كشفت الكمائن في المدن وتفجيرات السيارات عن فظائع الإرهاب الكوردي الداخلي. كان هناك أيضاً قتال بين أعضاء من الحزب الشيوعي العراقي وأعضاء من الاتحاد الوطني الكوردستاني في منطقة دوكان في محافظة السليمانية. وقاد الانقسام بين الحزبين الكورديين العراقيين الرئيسيين (الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني) إلى التعاون مع تركيا في حملتها ضد حزب العمال الكوردستاني. لقد طوقوا مقرات حزب العمال الكوردستاني في شمال العراق، وقدموا دعماً على الأرض لغارات أنقرة الجوية.

من المؤكد أن حصولهم على تأييد من تركيا، بينما كانوا يحاولون الوقوف بحزم أمام الغزو العراقي للمنطقة الكوردية الحرة كما جرى في خريف عام 1996، كان بالتأكيد جزءاً من الحافز للبارزاني والطالباني. ولكن استمر التوتر فيما بينهما في الوقت الذي بذلت فيه مساعٍ للتوسط بينهما من أجل الاتفاق على إنهاء المواجهات بينهما. في سبتمبر 1998 -على سبيل المثال- توسطت الولايات المتحدة للمصالحة بين الزعيمين الكورديين. قال الحزبان حينها إنهما ملتزمان بعراق موحد تعددي ديمقراطي يضمن الحقوق السياسية وحقوق الإنسان للشعب الكوردي على أساس فيدرالي. [40]

في الوقت نفسه، شارك الكورد في منتدى المؤتمر الوطني العراقي، وكانت معارضتهم لصدام حسين أكثر من رمزية كجبهة سياسية ضد الحكم البعثي. لأن الشكل الوحيد الملموس للنشاط المعارض في الواقع كان في الإدارة الإقليمية في الشمال، وقد واظبوا على ذلك.

في تركيا، تعرض تمرد حزب العمال الكوردستاني لضربتين كبيرتين بحلول نهاية العقد.
أولاً، أرغمت أنقرة سوريا بحزم في اتفاقية أضنة في أكتوبر 1998 على التوقف عن تقديم المساعدات اللوجستية والتدريبية لقوات التمرد الكوردية، أو السماح لهم باللجوء داخل أراضيها أو في لبنان.
ثانياً، في فبراير 1999 تمكنت تركيا من اختطاف عبد الله أوجلان الزعيم الأسطوري لحزب العمال الكوردستاني، الذي غادر سوريا إلى روسيا، ثم مُنحَ اللجوء في اليونان، ثم شق طريقه إلى كينيا.
تم جلبه إلى المحكمة، وحكم عليه بالإعدام لتأجيج الإرهاب والدعوة إلى الانفصال الكوردي عن تركيا. ولكن السلطات التركية علقت تنفيذ الحكم. خلفية تعليق تنفيذ الحكم كان تطلع تركيا إلى أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي، وتجنب الإجراءات التي قد تصور البلاد بأنها تدوس بشكل مفرط حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.

كان أوجلان بوضوح رمز النضال الكوردي من أجل الحرية والمساواة مع غالبية السكان الأتراك، وأثار اعتقاله موجة مضطربة من الاحتجاجات في أوروبا وأمريكا الشمالية بين مجتمعات كورد الشتات. وبدا أن المرحلة الرئيسية للنضال السياسي والعسكري للكورد في تركيا قد انتهت، وأن أقصى ما يمكن لهذه الأقلية الكبيرة أن تحققه في أحسن الأحوال في ظل الظروف الجديدة هو الحقوق الثقافية في إطار تركيا موحدة وسلطوية.

لقد أظهرت محاكمة الكاتب الكوردي والمواطن التركي الذي يحظى باحترام ياشار كمال عام 1995 الظروف المحزنة لمجتمعه العرقي. لأنه كان قد عبر عن يأسه من تعرض الكورد للقمع بقلمه فقط، ولم يكن يجرؤ على الكفاح من أجل الحرية من خلال العنف والسلاح. [41]

في إيران، ظل الوضع الكوردي كما ذي قبل. كان نظام طهران المركزي يطارد الكورد في الجبال، ويحاول إرغامهم على تبني القيود الدينية للإسلام. في عام 1992، قام عملاء إيرانيون باغتيال صادق شرفكندي الزعيم المنفي للحزب الديمقراطي الكوردستاني- إيران، وثلاثة من رفاقه في برلين. [42] وكان القائد اللاحق للحزب هو مصطفى هجري.

ختاماً، هناك أسباب عديدة تفسر فشل الكورد في توحيد أهدافهم القومية بشكل مؤثر وتحقيقها. فمن ناحية، أثبت الاعتماد على التدخل الدولي سواء العسكري أو الإنساني أنه مفيد جزئياً فقط. إذ ظل صدام حسين مصدر إزعاج دائم لمنطقة الحكم الذاتي الكوردية. والسؤال المؤرق هو ماذا ستكون تداعيات توقف مساعدات الأمم المتحدة والولايات المتحدة المقدمة للكورد في المستقبل؟

ومن ناحية أخرى، إذا كان الكورد قد تفادوا العروبة، إلا أنهم خضعوا للإسلام. لقد فعلوا ذلك بدون حماس، وظلوا في دائرة الاشتباه باعتبارهم مسلمين لا مبالين بالإسلام. في الآونة الأخيرة، ومع أسر الإسلام لقلوب الكثيرين وبروزه كقوة سياسية قيادية، أعلن كورد مثل مسعود البارزاني أن مجتمعهم يمارس الشعائر الدينية مثل كل المسلمين. إلا أن الإسلام وفقاً لمنظور شديد الوضوح جادل حوله فرات [43] كان السبب الرئيسي وراء فشل الكورد في التوحد، وأصبحوا بدلاً من ذلك امتداداً لأطر إيديولوجية وسياسية أوسع.

في نهاية المطاف، حارب صلاح الدين الأيوبي من أجل الإسلام وليس من أجل كوردستان، وتكيفت سلالته في وقت لاحق مع الإمبراطورية العثمانية دون أن تكافح من أجل الانفصال عنها.

وهكذا، لم ينجح الكورد في تشكيل مجتمع قومي قوي ومتماسك بشكل كاف، وكان أحد أسباب ذلك هو ارتباطهم بالإسلام.

في الواقع، برزت روح إسلامية متزايدة في كوردستان العراق في مطلع هذا القرن، مع الأخذ بعين الاعتبار التوغل الأفغاني والسعودي والإيراني في المنطقة الشمالية (ربما يقصد جماعة أنصار الإسلام التابعة لتنظيم القاعدة قبل 2003- المترجم). وقد صور التوجيه القسري إلى المساجد والمضايقات ضد النساء غير المحجبات الأجواء الاجتماعية والدينية الأصولية. تنافست مجموعات متنوعة من الحركات الإسلامية المسلحة من أجل النفوذ، حيث كان الإسلاميون المتشددون مرئيين بشكل خاص وناشطين في المنطقة الشمالية الشرقية المدارة من قبل الاتحاد الوطني الكوردستاني.
تحدياً للأحزاب الكردية التقليدية والقومية، سعت العناصر الإسلامية الجديدة ومن بينهم بعض الكورد الوطنيين، إلى إعادة صياغة الخطاب السياسي بعيداً عن القومية وباتجاه الدين. [44] كانت الحرب المقدسة ضد الكفار تحل محل الحرب الكوردية ضد العرب. كان الإسلام الذي اعتمده الكورد تاريخياً مع بعض اللامبالاة والريبة يهدد الآن بسرقة الهوية الجماعية الكوردية وسلامتها. والإمبريالية الإسلامية كما في الماضي، كانت في حالة حرب مع القومية الكوردية.

الكتاب:
Mordechai Nisan: Minorities in the Middle East: A History of Struggle and Self-Expression, 2d edition, 2002, McFarland.
في عام 1991 صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وحتى 2012 صدرت من هذا الكتاب 16 طبعة باللغة الإنكليزية.

الكاتب:
مردوخاي نيسان (1934- 2017) بروفيسور إسرائيلي في الجامعة العبرية في أورشليم/ القدس، وقد أصدر العديد من الكتب، منها:
– ضمير لبنان: سيرة سياسية لإتيان صقر (أبو أرز).
– الهوية والحضارة: مقالات عن اليهودية والمسيحية والإسلام.
– نحو إسرائيل جديدة: الدولة اليهودية والمسألة العربية.
– السياسة والحرب في لبنان: كشف الغموض.
– السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط: إعادة تقييم سياسية.

مصادر البحث:

1. Vera Beaudin Saeedpour, “Of Kurdish Spring and Our Own Discontented Winter,” Kurdish Times, 1, 1, Spring 1986, p. 57.

2. Merhdad Izady, The Question of an Ethnic Identity: Problems in the Historiography of Kurdish Migrations and Settlement,” ibid., p. 18.

3. Quoted in Kurdish Times, 1, 2, Fall 1986, p. 64. Also William O. Douglas, Strange Lands and Friendly People, New York: Harper, 1951, p. 61.

4. C. J. Edmonds, Kurds, Turks and Arabs: Politics, Travel, and Research in North Eastern Iraq 1919-1925, London: Oxford University Press, 1957, pp. 204-05.

5. Ibn Taimiyya on Public and Private Law in Islam, tr. Omar A. Farrukh, Beirut: Khay- ats, 1966, p. 88. The above remark on Abu Muslim appears in Moshe Sharon, Black Banners from the East, Jerusalem: Magnes Press & Leiden: E. J. Brill, 1983, p. 204.

6. Christine Allison, “Oral History in Kurdistan: The Case of the Badinani Yezidis,” The Journal of Kurdish Studies, II, 1996-1997, pp. 37-48. See the work of John S. Guest, Survival Among the Kurds: A History of the Yezidis, London: Kegan Paul International, 1993; and Philip Kreyenbroek and Christine Allison, eds., Kurdish Culture and Identity, London and New Jersey: Zed, 1996.

7. Hamilton Gibb, The Life of Saladin, from the Works of Imad Ad-Din and Baba AdDin, Oxford: Clarendon Press, 1973, especially p. 16.

8. Arshak Safrastian, Kurds and Kurdistan, London: Harvill Press & the Hague: Mouton, 1948, ch. 4.

9. Kendal [Kurd], “Introduction, Les Kurdes sous l’Empire Ottoman,” in Gerard Chaliand et al., Les Kurds et le Kurdistan: La Question Nationale Kurde an Proche-Orient, Paris: Francoise Maspero, 1978, pp. 31-68.

10. The Treaties of Peace, 1919-1923, Vol. I, New York: Carnegie Endowment for International Peace, 1924, pp. 807-08.

11. Dana Adams Schmidt, Journey Among Brave Men, Boston: Little, Brown, 1964, pp. 54-57

12. Kendal, “Le Kurdistan de Turquie,” in Chaliand et al., pp. 66-153.

13. Jacob Robinson, Were the Minorities Treaties a Failure? New York: American Jewish Congress, 1943, pp. 36, 167, 203-4, 238.

14.-Edmund Ghareeb, The Kurdish Question in Iraq, Syracuse, N.Y.: Syracuse University Press, 1981, pp. 29-34.

15. Edmonds, pp. 307, 365.

16. Archie Roosevelt, Jr., “La Republique Kurde de Mahabad,” in Chaliand et al., pp. 199-223.

17. Patrick Seale, The Struggle for Syria: A Study of Post-War Arab Politics 1945-1958, London: Oxford University Press, 1965, p. 62.

18. Chaliand, pp. 248-49.

19. Ghareeb, p. 68.

20. Martin Short and Anthony McDermott, The Kurds, report no. 23, London: Minority Rights Group, May 1981, esp. pp. 9-11.

21. Christopher S. Raj, “Iraq: Challenges to Saddam’s Regime,” Foreign Affairs Reports, 32, 2, February 1983, pp. 43-44 (Indian Council of World Affairs); also Chaliand et al., pp. 159-60.

22. Robert D. Kaplan, “Kurdish Guerrillas Continue Their Pressure,” The Wall Street Journal, August 28, 1986.

23. Short and McDermitt, Pt. 2.

24. William E. Hazen, “Minorities in Revolt: The Kurds of Iran, Iraq, Syria, and Turkey,” in McLaurin, p. 65.

25. Short and McDermott, pp. 16-17.

26. Ghareeb, p. 181.

27. Peter Shiglett, “The Kurds,” in CARDRI (Committee Against Repression and for Democratic Rights in Iraq), Saddam’s Iraq: Revolution or Reaction? London: Zed Books, 1986, pp. 7-202.

28. “On’ en est le Kurdistan?” Interview with Ismet Cheriff Vanly in L’Afrique et 1’Asie Modernes, No. 107, 4 trimestre, 1975, pp. 55-63. Also: Kendal Nezar, “The Kurds: Current Position and Historical Background,” in Kurdish Culture and Identity, ch. 1, pp. 7-19.

29. Financial Times (London), Jan. 7-8, 1986, and The Guardian, Jan. 17, 1986.

30. The Jerusalem Post, February 26, 1988, April 18, 1988; Scott B. MacDonald, “The Kurds in the 1990s,” Middle East Insight, January-February, 1990, pp. 29-35.

31. Ghareeb, p. 163, Hazen, “Minorities in Revolt,” p. 72.

32. The trial and imprisonment of Dr. Besikci are detailed at length in Kurdish Times, Fall 1986, pp. 3-44.

33. Michael M. Gunter, “The Kurdish Problem in Turkey,” Middle East journal, 42, 3, Summer 1988, pp. 392-401.

34. The New York Times, June 30, 1982.

35. Kurdish Times, Spring 1986, p. 8.

36. South, November 1987, p. 17.

37. “Helsinki Watch Report” (Special Issue), Kurdish Times, 2, 1, December 1987; Michael M. Gunter, “Kurdish Militancy in Turkey: The Case of PKK,” Crossroads, 29, 1989, pp. 43-59.

38. Facts on File, vol. XL, No. 2043, January 1-7, 1980, and No. 2084, October 17, 1980.

39. أشير على وجه الخصوص إلى أعمال فيرا بودين سعيد بور التي أنشأت البرنامج الكردي في نيويورك. وفي خطاب وجهته شخصياً إلى الكاتب أعربت عن عزمها على “عدم الخلود إلى الراحة إلى أن يتم ضمان بقاء الكورد الثقافي.” أشكرها على تزويدها لي بالمواد، بما في ذلك أعداد من صحيفة كرد تايمز.

40. Kurdish Life, 31, Summer 1999, pp. 1-6.

41. Kurdish Life, 29, Winter 1999.

42. Keesing’s Record of World Events, April 1997, p. 41612.

43. Personal communication by Firat (guerrilla), Jan. 20, 2001, from Ahura Mazda

[the principle of good in Zoroastrianism]

kurdistan_lib@hotmail.com.

44. Michael Rubin, “The Islamist Threat from Iraqi Kurdistan,” Middle East Intelligence Bulletin, Dec. 2001. From the MEIB web site.

شارك هذا المقال: