صورة صلاح الدين: من القرون الوسطى إلى العصر الحديث

صورة تخيلية لصلاح الدين من القرن التاسع عشر ، للرسام الفرنسي غوستاف دوريه

شارك هذا المقال:

 

جوناثان فيليبس
ترجمة: مصطفى إسماعيل

موجز

في عام 1187 استعاد صلاح الدين مدينة القدس المقدسة من أجل الإسلام. وفي السنوات اللاحقة، صدّ جيوش الحملة الصليبية الثالثة قبل وفاته في عام 1193. ورغم مرور أكثر من 800 عام على وفاته، لا يزال السلطان يتمتع بمكانةٍ بارزة في التاريخ والسياسة والثقافة. تمَّ إعداد هذه الورقة لإعطاء لمحةٍ عامة عن سيرته، ومعرفة أي جوانب من حياته قد تم صياغتها من قبل الناس على مر قرون، وتفسير شعبيته المستدامة والمستمرة في العالم الإسلامي وفي الغرب.

في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين تم نشر ثلاثة سير ذاتية عن صلاح الدين: من قبل هانز موهرنغ (ترجمة لكتاب سابق من الألمانية إلى الإنكليزية) (كتاب موهرنغ: صلاح الدين: السلطان وزمنه – المترجم)، ومن قبل عبد الرحمن عزام (المقصود كتابه: صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السني- المترجم) وآن ماري إيده (المقصود كتابها: صلاح الدين – المترجم) في 2008، وكان صلاح الدين موضوعاً لمعارض رئيسية في فرنسا (2001-2002)، وفي ألمانيا (2005-2006). صلاح الدين استحضر أيضاً من قبل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وكان موضوعاً لأداء كبير للموسيقى والرقص في دمشق، سوريا في أكتوبر 2009، وقد لعب دور البطولة في مسلسل كارتون متعدد الأجزاء للأطفال أنتجه التلفزيون الماليزي وقناة الجزيرة (المسلسل الكارتوني: صلاح الدين.. البطل الذي أصبح اسطورة – المترجم)، وتم بثه في نوفمبر 2010 [1]. لم تكن تلك تشكيلة سيئة عن رجل مات منذ أكثر من 800 سنة. إن مقاصد الورقة، المقدمة هنا بشكل مختصر، هي تقديم لمحة عامة عن سيرته المهنية ومعرفة أي جوانب من حياته قد تم استخدامها وصقلها من قبل الناس على مر قرون من أجل المحافظة عليه أو إعادته إلى دائرة الضوء العامة. سأحاول بعد ذلك أن أوضح سبب شعبيته المستدامة والمستمرة إلى حد كبير في العالم الإسلامي وفي الغرب. كما أن الورقة هذه سوف تتتبع كيف تم خلق سمعته في المقام الأول.

عرض موجز لحياة صلاح الدين

ولد صلاح الدين في تكريت (العراق الحالي) في 1137-1138 لأم كردية (في غالبية المصادر عنه: ولد في عائلة كوردية -المترجم). كان والده وعمه بداية في خدمة الزنكي (عماد الدين الزنكي -المترجم)، الحاكم العنيف لحلب والموصل، ثم – بعد مقتل الزنكي في 1146، عملوا في خدمة ابنه نور الدين، الرجل الذي منح المسلمين المقاومين للصليبيين قوته الروحية والعسكرية.
برز صلاح الدين كجندي شاب واعد، رغم أنه كان ذا نزعة مدنية واضحة إلى حد ما في سنواته الأولى. لكن صعوده الحقيقي كان عندما غزا نور الدين مصر في 1169، وبعد ذلك بوقت قصير مات ممثله هناك (عم صلاح الدين، شيركو) تاركاً الشاب ذو 32 عاماً مسؤولاً عن البلاد.
كان أحد التعقيدات الرئيسة أن مصر كانت شيعية (إسماعيلية – المترجم)، وأن نور الدين وصلاح الدين وسوريا كانوا من السنة. بدأ صلاح الدين بتشجيع بناء المدارس، والأهم من ذلك، كان وراء عزل الخليفة الشيعي (الواقع أن الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله توفي ولم يعزله صلاح الدين – المترجم) وطرد المتبقين من النظام الفاطمي المعزول. في هذه الأثناء، أصبح صلاح الدين نفسه أكثر صرامة وتوقف عن شرب النبيذ مثلاً. كانت كل هذه الأمور مصدر بهجة لنور الدين، لكن صلاح الدين بدأ أيضاً بتشكيل قاعدة سلطته في مصر. فوالده أصبح أمين الخزانة في القاهرة، فيما استولى أخوه على السلطة في اليمن ومنطقة مكة المكرمة. كان هذا التصرف تقليدياً تماماً بالنسبة إلى الشرق الأدنى المسلم، ولكن بالنسبة إلى نور الدين بدا ذلك وكأنه تحدٍ لسلطته. عندما رفض صلاح الدين مساعدة سيده في الحملات ضد فرنجة مملكة اللاتين في القدس في وقت مبكر من 1170، بدت الحرب الأهلية محتملة. ولكن توفي نور الدين في أبريل 1174.
على مدى السنوات الـ 13 التالية، أمضى صلاح الدين الكثير من وقته محاولاً الاستيلاء على أراضي نور الدين السابقة (حيث خلف ابناً)، وكثيراً ما كان صلاح الدين منخرطاً في نزاع مسلح مع إخوته في الدين، حاضّاً إياهم على الانضمام إليه في حرب المسلمين المقدسة (الجهاد)، وإنتاج ما يشدد على أهمية القدس كمكان بدأ فيه الرسول محمد المعراج، والحاجة إلى طرد الفرنجة، بالإضافة إلى سلسلة من الحملات (بدرجات متفاوتة من النجاح) ضد الصليبيين. كل ذلك ساعد على موازنة أو حجب حقيقة أنه كان -من بعض النواحي- مغتصباً سيطر على أراضي نور الدين.
بحلول صيف عام 1187، كان صلاح الدين قد جمع اتحاداً غير مستقر للشرق الأدنى المسلم يتألف من مصر وسوريا والجزيرة (شمال العراق). تمكن من استدراج الفرنجة لخوض معركة في حطين عام 1187، وهناك دمر القوة العسكرية للصليبيين. بحلول أكتوبر من ذلك العام كان قد استعاد القدس من أجل الإسلام، وقد عد ذلك ذروة في مسيرته والحدث الذي دمغ اسمه في سجلات التاريخ. كانت معاملته المتسامحة للسجناء الفرنجة -على النقيض من المذبحة الوحشية التي رافقت الحملة الصليبية الأولى في عام 1099- محل إعجاب واسع النطاق.
بالتأكيد، ردَّت أوروبا الغربية (يستخدم الكاتب مصطلحاً معاصراً، والواقع كانت أوروبا الغربية مجموعة من الممالك والإمارات الإقطاعية – المترجم). إذ تمكنت جيوش الحملة الصليبية الثالثة، بقيادة أعظم ملوك أوروبا حينها، الإمبراطور فريدريك باربروسا من ألمانيا، والملك ريتشارد قلب الأسد من إنجلترا، والملك فيليب أوغسطس من فرنسا، من استعادة بعض ممتلكات الفرنجة على الساحل المشرقي لكنهم فشلوا في استرجاع القدس. على الرغم من عدة هزائم يمكن أن يدعي صلاح الدين بشكل مبرر أنه كان قد رأى أفضل محاربي العالم المسيحي، وكبدت الحرب السلطان صلاح الدين خسائر هائلة، وتوفي بعد ذلك بقليل في مارس عام 1193. [2]

وجهات نظر غربية من العصور الوسطى عن صلاح الدين

هذا أحد أكثر الجوانب المثيرة للاهتمام في حياة صلاح الدين وما بعد مماته. وصف مؤرخو الأحداث اللاتين في العصور الوسطى من الحملة الصليبية الأولى (1095-1099) المسلمين بأنهم مخلوقات حيوانية ثرثرت وعوت وارتكبت أعمالاً بربرية لا توصف ضد المسيحيين.
كان المستوطنون الفرنجة في المشرق -من خلال العيش على الأراضي المسلمة ومع العديد من المسلمين بين الشعوب الأصلية التي حكموها- قد اكتسبوا وجهة نظر أكثر تقدماً. رأى وليام، مطرانُ صور، صلاح الدين كـ “عقل حاد وحيوي، شجاع في الحرب وسخي إلى أبعد حد”.
واعترف وليام بسحر السلطان الشخصي عندما كتب قبل عام 1184، أن دبلوماسياً فرنجياً حصل بشكل حسن جداً على الراحة معه: “الأمير الذي كان يجب أن تتم مقاومته بقصارى جهودنا نال تعاطفنا”. ولكن وليام كان ينتقد بشدة تصرف صلاح الدين مع نور الدين، وأدعى أن السلطان قد هاجم الخليفة في مصر حتى موته، وأشار إلى أنه وزع كل أمواله.
توفي وليام قبل خسارة القدس، لذلك لم تكن شهادته غير مشوبة بهذا الحدث. كان جسر صلاح الدين الحقيقي إلى الوعي الأوروبي هو الحملة الصليبية الثالثة، حين قضى العديد من الكتاب سنوات بجوار المسلمين وقائدهم الكاريزمي.
لم ينتصر الجميع لصلاح الدين: إذ وصفه النص المجهول “إيتنيراريوم بريغورينورم” *، والذي كتب جزءه الأول في 1191-1192 بأنه “مضطهد للإيمان المسيحي”، وأن وظيفته الأولى هي الترخيص بفرض ضرائب على البغايا في دمشق. ويزعم أنه رُقيَّ فارساً من قبل الفرسان الصليبيين الذين أسرهم، ولكنه بالرغم من ذلك ظل طاغية غداراً وجشعاً.
كتب أمبرويز، وهو راهب نورماني (أيضاً نورماندي -المترجم) فرنسي، تقريراً طويلاً عن الحملة الصليبية الثالثة عام 1195، وفي حين أنه وصف المسلمين بأنهم “عرقٌ وثني مكروه”، فإنه وصف صلاح الدين كرجل شهم وشجاع قام بحماية الحجاج المسيحيين عندما حجوا إلى القدس.
لقد نقل ذلك الراهب عن محادثة مثيرة للاهتمام بين أسقف سالزبوري والسلطان صلاح الدين، حيث قال الأسقف لصلاح الدين: “إذا جمع المرء خصالك (خصال صلاح الدين) مع التي لـريتشارد قلب الأسد، فلن تجد في أي مكان في العالم أميرين من هذا القبيل”، وهذا دلالة واضحة لتقدير شخصية صلاح الدين.
كان هناك الكثير مما جعل فرسان أوروبا الغربية يعجبون بصلاح الدين. وبصرف النظر عن المسألة الصغيرة المتعلقة بخسارة الصليبيين للقدس، فإن كياسة صلاح الدين ومروءته وشجاعته هي سمات أعجبوا بها بشدة. لكن تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن احترام هذا الفرد لم يمتد إلى فهم أوسع للمسلمين في أوروبا الغربية.
كانت هناك سلسلة من التوسعات والتغييرات خلال السنوات 1220- 1240 على التقارير عن الحملة الصليبية الثالثة، وتم مد تاريخ المطران وليام من صور إلى ما بعد 1184 وترجم إلى الفرنسية القديمة وتم تداوله على نطاق واسع. كانت مناقب صلاح الدين مضمنة في هذه النصوص، وأصبحت مناقبه مألوفة للكثيرين. قبل النظر إلى هذه الأمور، أود أن أنظر إلى بعض وجهات نظر المسلمين عن الرجل، وهل هناك أي اتساق مع آراء الغرب عنه؟

وجهات نظر المسلمين حول صلاح الدين

من المؤكد أن وجهات نظر المسلمين حول صلاح الدين بدون الخوض في تفاصيل كبيرة هي أن العديد من المصادر التي تكتب عنه تصور سلسلة من مناقبه. لقد عرف بكرمه وتقواه وطباعه المثقفة، ولطفه وإحسانه إلى الآخرين بمن فيهم المسيحيين.
في إحدى القصص، تم إحضار أم فرنجية شابة إلى السلطان، تبكي لأن رضيعها كان قد أخذ من خيمتها على يد مهاجم مسلم. عرف صلاح الدين الذي أحضر الطفل، وكافأه، وأعاد جمع شمل الرضيع مع والدته وسط مشاهد من المشاعر العظيمة. أخيراً، كان صلاح الدين -بالطبع- بطل الإسلام من أجل استرداده للقدس.
كانت المصادر الرئيسية لتلك الفترة التاريخية جزءاً من الحاشية الشخصية لـ صلاح الدين و/ أو الإدارة التي يمكن أن يقال إنها تجعل الصورة العامة مغرضة إلى حد ما. لكن لم يكن صلاح الدين فوق النقد، فقد كان ائتلافه هشاً في كثير من الأحيان، وكان البعض غاضبين منه من أجل السنوات التي قضاها في قتال المسلمين بدلاً من الصليبيين، وذلك في الفترة التي سبقت حطين. كما كان المؤيدون لسلالة نور الدين خافتي الصوت لا محالة في إشادتهم بصلاح الدين في بعض الأحيان.
من وجهة نظر أكثر حيادية -ربما- من المفيد النظر في رأي ابن جبير، وهو حاج مسلم إسباني (أندلسي حينها من غرناطة -المترجم) زار الشرق الأوسط في عام 1184- 1185، وبحكم خلفيته لم يكن هناك حاجة لاسترضائه. باختصار، كان حكم ابن جبير إيجابياً للغاية: ابن جبير رأى صلاح الدين “هبة من الله، رجلاً ورعاً، ويشن دائماً حرباً مقدسة ضد أعداء الله”. [3]

تطور صورة صلاح الدين في الغرب

بالعودة إلى الغرب في العصور الوسطى، والتفكر في أدلة الكتاب المسلمين، هناك -على ما أعتقد- أساس سليم إلى حد ما للخصائص الإيجابية التي نسبت إليه. لكن لتوضيح سبب قبول صلاح الدين بحماس شديد في الغرب، من الضروري الاعتراف بالقوة الثقافية الرئيسية في أوروبا في القرن الثالث عشر، وهي ازدهار الفروسية.
مؤلفاً من مزيج من الشجاعة، والمكانة، والحب التقليدي من القرون الوسطى بين الفرسان والنساء النبيلات المتزوجات، والأفعال التي ذكرت في “أغاني الإيماءات” ** كانت أموراً مثالية في معرفة نبل شخص ما.
في 1250 تم نشر كراس “نوط الفروسية” على نطاق واسع، وكان دليلاً فعلياً عن الفروسية، وكان أحد الشخصيات المركزية في الكراس هو صلاح الدين، رغم كونه مسلماً. مع مناقبه الشهيرة من الحقيقة، والعدالة، والمروءة، والمعاملة العادلة للنساء، كان صلاح الدين (رغم عقبة مضايقة معتقده الديني للأوروبيين) رجلاً شهماً يمكنه لعب دور وعظي حيوي في هذا النص.
في حقل الأدب على مدى عقود متتالية، بدأت سيرته تتخذ عدة أدوار غير متوقعة، بما في ذلك انحداره المزعوم من سلالة الكونتيسة بونثيو (أو خوانا دي مونثيو، ملكة قشتالة وليون بعد زواجها من ملك قشتالة فرناندو الثالث -المترجم) وعلاقاته مع النساء في الغرب، بما في ذلك إليانور آكيتاين (إليانور آكيتاين شهيرة لكونها أقوى ملكة في أوروبا في العصور الوسطى، إذ حكمت فرنسا وبعدها إنكلترا -المترجم)، ورحلاته المختلفة إلى أوروبا.
كما ظهر صلاح الدين في مواقع أكثر تميزاً، كما في الكوميديا الإلهية لدانتي (عام 1320)، حين ظهر في الدائرة الأولى من الجحيم إلى جانب الأبطال الوثنيين من طروادة وروما والديكاميرون لبوكاشيو (عام 1353).
في قرون لاحقة استمر صلاح الدين في الظهور كنموذج للمروءة والصرامة في أعمال أخلاقية مختلفة. وفي عصر التنوير، كانت الصليبيون قد فقدوا الكثير من السمعة. ورغم أن أحد منتقديها الأساسيين، فولتير (في عام 1756) (يستخدم فولتير شخصية صلاح الدين كأداة ضد المثل المسيحية في مسرحيته زائير أو تراجيديا زارا في 1732 -المترجم)، كان لا يزال يركز على رحمة السلطان وتسامحه مقارنة بالحشد البربري المضلل في الغرب الكاثوليكي. [4]
أصبحت الأداة الرئيسية لاستمرار وجود صلاح الدين في الخيال الشعبي للغرب في كتابة سيرْ والتر سكوت. كانت روايات سكوت هي الأكثر مبيعاً في العالم في القرن التاسع عشر، وقد ترجمت على نطاق واسع، وشكلت عامل إلها للعديد من المشاريع المسرحية والموسيقية والفنية. في روايته “التعويذة” (عام 1825) كان لطف صلاح الدين، ومروءته، ومهارته الطبية (موهبة جديدة)، وسلوك الفرسان الذي لديه قد وضعه عالياً كشخصية لا تضاهى. [5]

مكانة صلاح الدين في العالم الإسلامي إلى الوقت الراهن

في عام 1898، قام القيصر فيلهلم الثاني (غليوم الثاني قيصر الرايخ الألماني الثاني -المترجم) بالتودد إلى العالم الإسلامي برحلته إلى القدس ودمشق. ففي شهر نوفمبر من ذلك العام زار القيصر قبر صلاح الدين في دمشق ووضع إكليلاً من الورد مع رسالة: “من إمبراطور كبير إلى إمبراطور كبير آخر”.
كما دفع القيصر ثمن ترميم المبنى والضريح الرخامي بجوار النعش الخشبي من القرون الوسطى. هناك بعض الشك في أن هذا الحفل ساعد على لفت الانتباه إلى صلاح الدين.
إنها مسألة نقاش أكاديمي حالي حول مدى أهمية صلاح الدين في الشرق الأدنى المسلم في الوقت الحالي.
صحيح أن أفعال الظاهر بيبرس استمرت في جذب المزيد من الاهتمام فعلياً في القاهرة خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان ما لا يقل عن 30 مؤدياً في الشارع يكسبون رزقهم بإلقاء قصائد عن حياة السلطان المملوكي (مع أن صلاح الدين لعب دوراً صغيراً في هذا).
مع التسليم بأهمية زيارة القيصر كحافز خارجي في إحياء ذكرى الحروب الصليبية، خاصة في مستويات النخبة في المجتمع المسلم، لا ينبغي أن يكون نقل ذاكرة الحروب الصليبية -وبالتالي صلاح الدين- من خلال الثقافة الشعبية هو التقليل من شأنها، وهو مجال بحث مهيأ للمزيد من العمل.
كان سرد الحكايا جانباً مهماً للغاية في ثقافة الشرق الأوسط، وساعدت مثل هذه الحكايا على توفير نواة للذاكرة، يستطيع الزعماء السياسيون والدينيون الوصول إليها سواء كانوا إسلاميين أو قوميين عرب. إضافة إلى ذلك، وبينما بدأت الإمبراطوريات الإسلامية في الانهيار خلال القرن التاسع عشر، برز أيضاً مفهوم التطلع إلى الماضي لتعلم دروس الحاضر. من خلال هذا التنوع في الوسائل، بدأ تاريخ الحقبة الصليبية يتردد صداه في الحركات الدينية والسياسية عبر العالم الإسلامي (السني).
خلال السنوات الخمسين الماضية، اختار عدد من القوميين العرب تعريف أنفسهم مع صلاح الدين وبه كونه الرجل الذي هزم الغرب. يمكن لحجتهم أن تكشف عن أوجه الشبه المذهلة –وكذلك التباين- بين أجنداتهم الخاصة ومسيرة بطل العصور الوسطى. وكان جمال عبد الناصر، رئيس مصر بين عامي 1954 و1970، قد أقام علاقة وثيقة خاصة مع سلطان القرون الوسطى. كان تأميم عبد الناصر لقناة السويس في عام 1956 قد وضع مصر ضد إسرائيل وفرنسا وبريطانيا وكان عبد الناصر يرى التأميم موقفاً للهوية العربية ضد القوى الاستعمارية الغربية وحلفائها الصهاينة.
في 1958، أحدث عبد الناصر الجمهورية العربية المتحدة -كونفدرالية سوريا ومصر- وهي البقعة نفسها التي حكمها صلاح الدين في القرن الثاني عشر. كانت خطابات عبد الناصر غالباً ما تشير إلى سلفه الشهير (صلاح الدين)، وفي فبراير 1958، خطط لزيارة رسمية إلى قبر السلطان في دمشق.
أقام عبد الناصر علاقة جلية بفترة الصليبيين بإدعائه أن “المنطقة بأكملها كانت متحدة لأسباب أمنية متبادلة لمواجهة الإمبريالية القادمة من أوروبا حاملة الصليب من أجل إخفاء طموحاتها خلف واجهة مسيحية، وأن معنى الوحدة لم يكن أكثر وضوحاً مما كان عليه عندما انضمت المسيحية في الشرق العربي إلى صفوف الإسلام لمحاربة الصليبيين حتى النصر”. كما تحدث عن الحملة الصليبية الثالثة: “هاجمنا الصليبيون المتعصبون في سوريا وفلسطين ومصر. العرب المسلمون والمسيحيون قاتلوا جنباً إلى جنب للدفاع عن وطنهم الأم ضد هذه الهيمنة الأجنبية العدوانية. لقد انتفضوا جميعاً كرجل واحد، فالوحدة هي السبيل الوحيد للسلامة والحرية وطرد المعتدين. كان صلاح الدين قادراً على اتخاذ ريتشارد.. كأسير حرب وكان قادراً على هزيمة قواته”. هذه النقطة الأخيرة خاطئة تماماً، لكنها مكنته من المقارنة بالنصر المصري في أزمة السويس: “كان لنا شرف ضرب بريطانيا وفرنسا معاً (في السويس) بعد أن ضربنا كل منهما على حدة”. لقد تفاخر بأن الغربيين “لم ينسوا هزيمتهم (من قبل صلاح الدين الأيوبي)” وأرادوا الانتقام في “حملة صليبية متعصبة إمبريالية أخرى”.
كان الرئيس السوري حافظ الأسد هو الآخر الذي ربط صورته بصورة صلاح الدين. كان التمثال الفروسي المثير للإعجاب الذي ينتصب خارج قلعة دمشق جزءاً من تلك العملية (نصب التمثال هناك في 1992). هذا النصب التذكاري يعرض صلاح الدين المنتصر على ظهر حصان، يتقدمه متصوف مقدس ومحارب جهادي، في حين ترك خلفه في حالة من البؤس الصليبيين المهزومين. الرسالة واضحة: تماماً كما هزم صلاح الدين الغرب، فإن الأسد سوف يفعل ذلك أيضاً. كذلك فإن مكتبه قد زين بلوحة كبيرة لانتصار صلاح الدين في حطين ما يفيد عن أمله في أن تلاقي إسرائيل يوماً نفس مصير الصليبيين.
كان الزعيم القومي الثالث الذي يتبنى إرث صلاح الدين، والرجل الذي دعا أيضاً إلى الجهاد هو صدام حسين. أضفى الرئيس العراقي الكثير من الواقعية على طرحه كونه يتقاسم مع صلاح الدين مسقط رأسه، قرية تكريت. وإنه لمن المفترض أن أحداً لم يشعر بالميل إلى الإشارة إلى أن صلاح الدين نفسه كان من أصل كوردي نظراً لاضطهاد صدام حسين للكورد في العراق. وبغض النظر عن هذا الإزعاج التاريخي، فإن صدام أشاد بتحرير السلطان للقدس ومقاومته للغرب. وتراوحت أساليب صدام في صناعة هذه العلاقة مع صلاح الدين من ملتقى: “معركة التحرير- من صلاح الدين إلى صدام حسين”. إلى كتاب للأطفال، بينما صورت لوحة جدارية في قصره سلطان العصور الوسطى يراقب فرسانه، وبجانبه أعجب صدام بدباباته تتدحرج إلى نصر متخيل ضد الغرب. [6]
لم يكن القوميون العرب وحدهم هم الذين استخدموا استذكار صلاح الدين لمنفعتهم. فحين استخدم الرئيس بوش بشكل كارثي كلمة “حرب صليبية” في رده المرتجل على فظائع 11 سبتمبر، أكمل ببساطة المزاعم التي كان أسامة بن لادن قد أنتجها منذ سنوات: “إذن فلقد أعلن بوش بكلماته الخاصة: الهجوم الصليبي. والغريب في هذا هو أنه التقط هذه الكلمات مباشرة من أفواهنا”.
لقد قام بن لادن بتحويل كلمات بوش ضده بذكاء: “إذن العالم اليوم مقسم إلى عالمين كما قال بوش: إما أن تكون معنا أو أنت مع الإرهاب. إما أن تكون مع الحملة الصليبية أو أنت مع الإسلام. إن صورة بوش اليوم هي أنه في الخط الأمامي، وهو يصيح حاملاً صليبه الكبير”.
أثنى بن لادن على حكمة صلاح الدين واستخدامه الجهاد للنجاح في إلحاق الهزيمة بالغرب، وهكذا مرة أخرى قدم مثالاً مناسباً
عن دافع. [7]

خاتمة

ختاماً، ينبغي التأكيد على أنه يجب على المرء ألا يدفع بذاكرة وإرث الحروب الصليبية إلى حد بعيد لاستكشاف أوجه الشبه بين العصور الوسطى والحاضر، فالحروب الصليبية انتهت بكل تأكيد في القرن السادس عشر. من ناحية أخرى، يجب على المرء بكل تأكيد أن يكون واعياً حول سمعته القوية والسامة في الشرق الأدنى الإسلامي اليوم.
إن الهزيمة التي ألحقها صلاح الدين بالغربيين واستعادته للقدس تعني أن إنجازاته قد طابقت طموحات الكثيرين في العالم الإسلامي. مع ذلك، ومع ذلك، فإن خصاله كرجل لطيف وسخي ورؤوف استحوذت على خيال الناس في الغرب من القرون الوسطى وإلى الأمام. هذه الخصال تعبر الحدود والأجيال، ولا تزال تلوح في الأفق في بعض المعالجات الحديثة له مثل مسلسل الرسوم المتحركة من نوفمبر 2010، حيث يمثل نموذجاً أخلاقياً للجمهور المراهق.
لقد أصبحت شخصية صلاح الدين عبارة عن مجاز، وهي شخصية مرنة بشكل ملحوظ وقابلة للتكيف. كما قد لاحظنا، كان بعيداً عن الكمال كشخص، لكن التاريخ اختار التركيز على الجوانب الأكثر إيجابية في شخصه، وصورته -في كثير من النواحي- قائمة على الحقيقة. إن المديح المزامن لعبد اللطيف الذي زار صلاح الدين في عام 1192، يعد بمثابة مذكرة مناسبة للاختتام هنا:
“لقد وجدت ملكاً عظيماً ألهم كل من الاحترام والعاطفة للبعيدين والقريبين، رزينٌ وقابلٌ لاستجابة الطلبات. اتخذه رفقائه كقدوة لهم… [حين توفي] حزن الرجال عليه كما يحزنون على الأنبياء. لم أرَ حاكماً آخر تم تلقف موته من الناس بهذا القدر من التفجع، لأنه كان محبوباً من الطيبين والسيئين، والمسلمين وغير المؤمنين على حد سواء”. [8]

ملاحظة المؤلف حول الورقة:
هذا النص عبارة عن نسخة مختصرة من المحاضرة التي قدمت في مؤتمر براونشفايغ في فبراير 2011. تستند عناصر منه على أقسام من كتابي “المحاربون المقدسون: تاريخ حديث للحروب الصليبية” والذي صدر في لندن عام 2009، وترجم إلى الألمانية وصدر في ميونيخ في أكتوبر 2011. نسخة أكثر تفصيلاً من هذه الورقة مستندة على أبحاث، وتسبر المزيد من الأفكار المبينة هنا سوف تصدر في 2013.

ملاحظات توضيحية من المترجم

* هذا النص المجهول هو:
Itinerarium Peregrinorum et Gesta Regis Ricardi
وهو نص نثري يسرد عن الحملة الصليبية الثالثة، وكان ينسب إلى جيفري دي فينسوف، ولكن تم تجميع النصوص من قبل ريتشارد دي تمبل في 1220.

** أغاني الإيماءات أو
chansons des gestes
نصوص شعرية من العصور الوسطى بالفرنسية القديمة.

مصادر الورقة البحثية:

1- Hannes Möhring, Saladin: The Sultan and His Times, 1138-93, trans. David S. Bachrach, (Baltimore: Johns Hopkins Univ. Press, 2008), first published in German as Saladin, der Sultan und seine Zeit, 1138-93 (Munich: Beck, 2005); Abdul Rahman Azzam, Saladin (Harlow: Pearson Longman, 2009); Anne-Marie Eddé, Saladin (Paris: Flammarion, 2008). The French and German exhibitions were held, respectively, at: Paris, l’Institut du monde arabe, 2001-2; and Halle, Oldenburg and Mannheim, 2005-6. For the bin Laden reference, see note 8 below. The cartoon can be located at: www.saladin.tv/
2- من أجل تفاصيل عن حياة ومسيرة صلاح الدين انظر في الكتب الثلاث أعلاه، إضافة إلى:
Carole Hillenbrand, Crusades: Islamic Perspectives (Edinburgh: Edindburgh Univ. Press, 1999); Malcolm C. Lyons and David Edward Pritchett Jackson, Saladin: The Politics of the Holy War (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1982).
3-
Jonathan Phillips, Holy Warriors, 43-50.
القصة عن الأم والرضيع يمكن العثور عليها ايضاً بشكل سهل في:
Francesco Gabrieli, Arab Historians of the Crusades (Berkeley, CA: University of California Press, 1969), 111.
4- Maurice Keen, Chivalry (London/New Haven, CT: Yale Univ. Press, 1984); Margaret A. Jubb, The Legend of Saladin in Western Literature and Historiography (Lewsiton, NY: Lewiston [et al.] : Edwin Mellen Press, 2000).
5- Elizabeth Siberry, The New Crusaders: Images of the Crusades in the 19th and Early 20th Centuries (Aldershot: Ashgate, 2000).
6- Jonathan Phillips, Holy Warriors, 308-344; Paul B. Sturtevant, “SaladiNasser: Nasser’s Political Crusade in El Naser Salah Ad-Din,” in: Hollywood in the Holy Land: Essays on Film Depictions of the Crusades and Christian-Muslim Clashes, Nickolas Haydock and Edward L..Risden, eds. (Jefferson, NC: McFarland, 2009) 123-46; Mordechai Kedar, Asad in Search of Legitimacy: Message and Rhetoric in the Syrian Press under Hafiz and Bashar (Brighton: Sussex Academic Press, 2005); Ofra Bengio, Saddam’s Word: Political Discourse in Iraq (Oxford: Oxford Univ. Press, 1998).
7- Messages to the World: The Statements of Osama bin Laden, Bruce Lawrence, ed., tr. James Howarth (London: Verso, 2005), 218.
8- نص عبد اللطيف مترجم في :
Bernard Lewis, Islam: From the Prophet Muhammad to the Capture of Constantinople: Volume 1: Politics and War (Oxford: Oxford Univ. Press, 1987), 66-67.

شارك هذا المقال: