مجازر الأرمن في الرواية الكردية

شارك هذا المقال:

عدنان جليك واركين أوبكنغن

ترجمها عن الانكليزية راج آل محمد

مجازر الأرمن [التي جرت]في عام 1915، بوصفها جزءاً من مشروع بناء الأمة التركية، شكلّت أيضاً بداية عملية ستصل في العقود اللاحقة إلى الذروة في تلاشي العيش المشترك الذي استمر مئات السنين بين الشعبين الأرمني والكردي فيما يُطلق عليه اليوم: شرقيُّ الأناضول ذو الغالبية السكانية الكردية. وحتى وقت قريب كانت تركة المجزرة والتغيرات الراديكالية التي رافقتها في الحياة الثقافية والمادية تُعالَج بشكل هامشي فقط، إذا ما أخذنا بالحسبان أن الخطاب الشعبي في تركيا قد تشكل، إلى حد كبير، نتيجة فرضية الدولة الناكرة للمجزرة. (قارن Biner2010، 69،89).
ولكن رغم محدوديتها، فقد كانت هناك جهودٌ من قبل بعض الباحثين في دراسة العلاقات الكردية-الأرمنية وأثر الكرد في تلك المجزرة (ساسوني، 1992 وبوزأرسلان 1995، وكيسر 2005 وتيرنون 2007).
من ناحية أخرى، كشف بحث حديث في التاريخ الشفاهي للمجزرة عن حضور قوي للذاكرة الجمعية لدى كثير من المواطنين الكرد المعاصرين في تركيا بخصوص العلاقات الكردية-الأرمنية في الماضي والعملية التي من خلالها جرى تطهير المنطقة من الأرمن (Biner 2010;Ungor 2014; Ege 2011;çelik, Dinç 2015)

إن دراسة كيفية تمثيل المجازر الأرمنية-والأرمن بشكل عام- في الأدب الكردي الحديث تبدو نقطة إنطلاق مفيدة للبحث. بات الأدب الكردي، الذي قدّمه أكراد تركيا، ملحوظاً منذ الثمانييات بسبب الاضطهاد (زيدان أوغلو 2012) ومفهوماً بشكل أفضل على أنه أدب ناشئ حديثاً. يقول سكالبيرت-يوجل Scalbert-Yucel (2013:264-268) إن الوظيفة الرئيسية للأدب الكردي الحديث، وبخاصةٍ أثناء الثمانينات والتسعينات حين كان القمع ضد الكرد في تركيا في أوجه، هي”تقديم شهادة” من خلال “إيجاد مستندات” تتعلق بقمع الدولة واضطهادها للكرد.
إن دراسة كيفية نظر –أو تجاهل- الأدب الكردي إلى المجازر الأرمنية يقدم لنا زاوية نظر مهمة لدراسة ماضي العلاقات الكردية-والأرمنية وحاضرها. وإذا ما أخذنا بالحسبان أن الأدب مكوّن رئيس في تشكيل التيقُّن الثقافي (Neumann 2008:355)، فإنه يمكن أن يعطينا فهما لا لبس فيه عن المفاهيم السائدة في ذاكرة المجتمع الحالية من خلال الآلية التي يجري عبرها التعاطي مع الذاكرة في الأصناف الأدبية.
في الحقيقة،وبعد فترة قصيرة من الصمت النسبي عن العلاقات الكردية-الأرمنية ومجازر الأرمن في الأدب المقدّم من الجيل الأول من الكتاب الكرد في الشتات الأوربي في الثمانينات والتسعينات، فثمة مؤخراً زيادة ملحوظة في الروايات والقصص القصيرة الكردية التي تتحدث عن ذكريات 1915 ولاسيما في أعمال الجيل الشاب من الكتاب الكرد الذين يكتبون الشعر والقصص القصيرة وفيما بعد أيضاً الروايات منذ أواخر التسعينيات.

تبحث هذه الدراسة في كيفية معالجة الجيل الجديد من الكتاب الكرد في تركيا الإبادة الجماعية والعلاقات الكردية-الأرمنية في الماضي. بدأنا بمراجعة أدبية مبينين أنها من خلال علاقتها بالحاضر والذاكرة الجمعية؛ فإن لها دوراً تأسيسياً وتحويلياً في الهوية.
بعد ذلك قمنا بوصف القمع الذي مارسه الخطاب الرسمي التركي على الأدب التركي الذي يتناول الإبادة الجماعية ومناقشة الآليات التي قادت إلى بروز الأدب الكردي كميدان للذاكرة/الخطاب المضاد للإبادة الجماعية؛ ذلك الأدب الذي يشجع الأعمال الأدبية على تناول ذاكرة الإبادة الجماعية حيث أدت طوال الوقت إلى نشوء خطابات (كردية) جديدة داخل علاقات القوة الناشئة. خلال بحثنا في الأدب الكردي، قمنا بتقييم عددٍ من الأفكار المتكررة والمشتركة من خلال التركيز على ثلاث روايات وقدمنا نظرة شاملة أكثر للطريقة التي جرى من خلالها تقديم مجازر الأرمن لعام 1915 في الأدب الكردي. وينتهي البحث بمناقشة نقدية عن احتمالات وحدود حضور ذاكرة الإبادة الجماعية وتعاظمها في الأدب الكردي فيما يتعلق بالمواجهة مع الماضي.

1- الأدب والماضي: ديناميات خطاب الذاكرة في تركيا

إن علاقة الأدب بالماضي، وبخاصة في أعقاب ظهور روايات السير الذاتية للشهود العيان الناجين من الإبادة الجماعية اليهودية (هولوكوست)، باتت مفهومة على نطاق واسع كآلية هامة في مواجهة الماضي، فقد لعب “أدب الشهادة” دوراً بارزاً في الكشف عن الجرائم ضد الإنسانية والحديث عن الإبادة والقتل الجماعي والتمييز العنصري والإقصاء التي تعرضت لها الجماعات المقموعة.
لاحقاً، توسع هذا الحقل ليشمل أدب الشهادة الذي ظهر أثناء عمليات مواجهة الماضي بعد الحرب الأهلية الإسبانية وما تبعها من ديكتاتوريات عسكرية في أمريكا اللاتينية (سباركايا،2014) في هذه السياقات الثلاثة؛ فإن النتاج الأدبي غالباً ما يتقدم على المناهج الصارمة في مواجهة الحقب المظلمة في الماضي. ويثبت الأدباء غالباً أنهم أكثر حيوية من المؤرخين والأكاديميين في تناولهم الحقائق التاريخية المسكوت عنها حيث يجرى إنكارها. وضمن الأجناس الأدبية ذاتها، فإن هذا ينطبق بشكل خاص على الروايات التي، من خلال خطوطها الدرامية التقليدية وقصصها ذات الإحياءات الهامة تقدم نماذج قوية ومعيارية غالباً لسردنا الذاتي وتفسيرنا للماضي وتساعدنا في كشف النقاب عن الحقائق المخفية لمصلحة السلطات [السياسية].
من المنطلق ذاته يجادل نيشانيان (2011) أن الأدب هو الميدان الوحيد الذي يستطيع، كما ينبغي، أن يقصّ الكارثة felaket التي مرّ بها الشعب الأرمني في اللحظة نفسها التي يستطيع فيها الأدب فقط أن ينقل بصدق ما لا يمكن سرده بشكل مطلق من تلك الكارثة.
إضافة إلى دور الأدب بوصفه شاهداً ومواجها للماضي، فإن الكثير من الدراسات تؤكد على أهميته في تمثيل العلاقة وبنائها بين الذاكرة والهوية (إيرل وآخرون، 2003 اقُتبِس في بورست Borst2009). إحدى تجليات تلك العلاقة تقدّم على شكل “محاكاة الذاكرة” التي تشير إلى الطرق السردية والجمالية التي تقوم النصوص الأدبية باستعمالها لكي تمثّل وتعكس عملية الذاكرة (نيومان 2008:334). بحسب هذا النموذج الثلاثي-الأبعاد الذي صاغه نيومان (2005) حول مفهوم بول ريكور عن المحاكاة، فإن الأعمال الأدبية مصوًّرة قبل وقوع الحدث من خلال سياقاتها الأدبية وهي سياقات لها بحد ذاتها تأويلات للذاكرة والهوية. لكن الأعمال الأدبية تختار وتعدّل مكونات الأنظمة الثقافية والاستطرادية الموجودة، وبذلك تكوّن صور الذاكرة وتقدم احتمالات جديدة لفهم الماضي ورؤيته. هذا الانتقال والاستكشاف يمكن بدورهما أن يعيدا تشكيل التصورات السائدة في الذاكرة الجمعية في المجتمع من خلال التأثير في فهم القارئ وصور الماضي [لديه].
بهذا المعنى، يمكن فهم الأعمال الأدبية على أنها تقدم، من خلال الحوار، الماضي الذي تزعم أنها تصفه أكثر من محاكاة تصورات قائمة من قبل في الذاكرة، وبذلك فإن الأعمال الأدبية تسهم بشكل فاعل في استقرار أو تحويل نسق أو ثقافة الذاكرة.إذا ما أخذنا بالحسبان هذا النموذج الذي تطور ضمن إطار الذاكرة والهوية والأدب، فإنه من الممكن الافتراض أن تلك الروايات التي تعالج موضوع الإبادة الجماعية ،ضمن الحقل الأدبي الكردي المهمّش، ربما تفصح عن أشكال من الذاكرة المقموعة والمهمّشة-وإن كانت على الأغلب ذاكرة الكرد-وبذلك تسهم في بناء ذاكرة منافية للذاكرة الثقافية السائدة، وبهذه الطريقة تساعد على تمكين الأفراد والجماعات المهمّشة و/أو المرفوضة بشكل رمزي. ولكن هذه القدرة التحويلية (إعادة التصوير) للأدب في التأثير على الذاكرة الثقافية والإدراك بالهوية هو في الغالب ذو أهمية محدودة في سياق الأدب الكردي في تركيا لمحدودية جمهور القراء للأدب الكردي في تركيا بحكم انخفاض مستوى عدد القادرين على القراءة والكتابة باللغة الكردية (قارن أوبنجين 2012 وجاميسون 2016) مع ذلك، من خلال تحليل أعمال أدبية كهذه؛ فإننا نستطيع أن نلاحظ أية تصورات عن الماضي أُعطيت أهمية أكبر أو تم إهمالها أو حجبها في الأدب الكردي من خلال أدوات هذا الأدب.

لقد ميّز بعض الباحثين بين نوعين من الذاكرة الجمعية: “الذاكرة الرسمية” و”الذاكرة الحية” (بيلجين Bilgin2013،15). الذاكرة الرسمية هي التي تقدمها الجماعات السائدة أو المسيطرة على المجتمع وتقدمها عبر علم التأريخ الرسمي. وهي تخدم بناء الهوية الجمعية للجماعة ويلتزم بمتطلبات هذا البناء.الذكرة الحية، من ناحية أخرى، قوامها أولئك الذين عايشوا الأحداث وهي، بهذه الحال، متوقفة على حامليها. إنها ذاكرة أشخاص مبنية من قبل من عايشوا الألم والعذاب وشعروا بالتهديد والخوف من الأحداث، والذين هم أما ضحايا أو مرتكبو الجريمة ويحملون إما شرف أو عار تلك الأحداث. إنها ذاكرة حية بحكم تطورها الدائم مع الوقت ومرورها بتغيرات وتحولات. من هذين النوعين من الذاكرة الجماعية “اختيار” الماضي يكون على المحك في النوع الأول، بينما في النوع الثاني فإن الموقف يكون “خاضعاً” له (يبرساله Ypersele وآخرون، استُشهِد به في بيلجين Bilgin 2013:15)

وفي مناقشته الروايات التركية بخصوص الإبادة الجماعية الأرمنية، يعرض توركيش Turkes الندرة العددية لأية روايات تركية –من بين عشرات آلاف الروايات التي ظهرت في ظل الجمهورية التركية الحديثة- تناولت موضوع تهجير الأرمن. ويحاجج بأن إهمال ذكر المسألة الأرمنية وغيابها وتلاشيها في الأدب التركي الحديث له علاقة ببناء الهوية القومية التركية. حتى تلك الروايات القليلة التي ناقشت الموضوع، فإن جرائم الطرفين (الأتراك والأرمن) تتوازى و/أو تبذل جهوداً إضافية للتقليل من حجم جريمة الجانب التركي ونصيبه منها (توركيش 2015:124). النموذج المتكرر في اتهام الأرمن يتضح من خلال تصويرهم وهم يقيمون تحالفات مع الروس والإنكليز والفرنسيين وللسبب نفسه يرتكبون المجازر الجماعية بحق الأتراك.
بالنسبة للمؤلفين الأتراك، مثل المؤلفين اليونانيين تماماً، فإن شن القتال ضد الأرمن كان بمنزلةالموت-أو-القتل و إما نحن-أو-هم. يصوًّر الأتراك على أنهم مظلمون وطيبون وأخلاقيون وقلوبهم ملأى بالحب تجاه الأرمن، الذين رغم الخوف فإنهم تجنبوا الانخراط في العنف في الوقت الذي يصوَّر فيه الأرمن على أنهم غير مخلصين وخونة يقودهم الحقد والتعطش للدماء (توركيش 2015:123-124) ولكن هناك مؤخرا، لحسن الحظ، تنامياً في نتاج الأدب التركي الذي يتبنى مقاربات مختلفة للإبادة الجماعية [بحق الأرمن] مسهماً في بناء منظور حقيقي في المواجهة مع الماضي(المزيد من المناقشة حول هذه النقطة فيما يأتي). مع ذلك، فإن المقاربة السائدة في الأدب التركي تبقى تكراراً لعلم التأريخ التركي الرسمي وإعادة إنتاجه.

كما سيتضح في الأقسام اللاحقة، فإن المؤلفين الكرد للروايات التي تعالج [أحداث] 1915 يقعون بشكل واضح خارج إطار التاريخ الرسمي والذاكرة المحظورة للدولة القومية التركية، وبذلك فإن الكثير من تلك الروايات يبرز بصفتها ذاكرة مضادة تعتمد على الذاكرة الحية. في إطار التستر على ذاكرة المجازر الأرمنية في التأريخ التركي الرسمي وخطابات الثقافة الموازية، فإن الإصرار على معالجة ذاكرة المجازر في الأدب الكردي الناشئ ي وتمثيلها حقق وظيفة هامة في بناء الذاكرة المضادة.
ولكن، كيف لنا أن نستشف المعنى من هذا البروز الحديث نسبياً لتوّاقٍ لسرد عن الإبادة الجماعية الأرمنية وتقديمه الأدب الكردي، خاصة، إذا ما أخذنا بالحسبان الخطاب السياسي والثقافي السائد في تركيا،الذي يرتكز على نفي المجزرة وإنكارها ؟
ينبغي أولاً أن ننظر إلى السياق العام في تركيا حيث هناك تطورات هامة في العقدين الماضيين بخصوص المواجهة مع الماضي ولا سيما في الجانب الثقافي. التيار الذي بدأ مع أدب الشهادة وتركيزه على النتائح المروّعة للصدمة الاجتماعيةالتي أفرزها الانقلاب العسكري في 12 أيلول/سبتمبر 1980 استمر مع النتاج الأدبي الذي عالج عنف الدولة الممارَس في المناطق الكردية خلال التسعينيات. فيما بعد أسهمت أعمال مكرديج ماركوسيان (حي الكفار GavurMahallesi) في عام 2000 وعمل فتحية جتين (جدتي في 2004) واغتيال هرانت دينك في 2007 في زيادة الأعمال الأدبية التي تعالج الإبادة الجماعية الأرمنية.
وهكذا فإن الأدب الذي يحوم حول الانقلاب العسكري في 12 أيلول/سبتمبر ومجزرة ديرسم بين 1937و1938 والحرب الدائرة في المنطقة الكردية خلال التسعينيات ومجازر الأرمن في 1915 إضافة إلى الدراسات التاريخية التي تعتمد على الذاكرة تشير كلها إلى بناء ثقافة جديدة للذاكرة في تركيا اعتماداً على منظور مواجهة أكثر صراحة مع الماضي والتي تؤلف سياقاً أوسع للحساسية النسبية لكثير من المؤلفين الكرد تجاه المجازر الأرمنية.

بالإضافة إلى هذه الخلفية العامة في السياق الوطني، فإن هناك ديناميات داخلية بالأهمية ذاتها للمنطقة الكردية بشكل خاص حيث أدت، على ما يبدو، إلى إيلاء المزيد من الاهتمام بذاكرة المجزرة في الأدب الكردي. لقد بقي المؤلفون الكرد، الذين تم نفيهم إلى أوربا في الثمانينيات، صامتين إلى حد كبير حيال موضوع الأرمن وأحداث 1915 مركزين جلّ اهتمامهم على أدب [قومي] كردي.فيما عدا رواية محمد أوزون المتأخرة صرخة دجلة 1 و 2 المنشورة في 2001 و2003 التي كانت في طليعة [الروايات] التي تصدت للتعايش الثقافي الذي يمتد مئات السنين في بلاد ما بين النهرين،فإن أية رواية أخرى لا تركز على الأرمن والإبادة الجماعية، والقليل جدا منها تأتي على ذكر الأرمن أو المجزرة بطريقة مباشرة. ربما يُعزى ذلك إلى أن الباعث الرئيسي في النشاط الأدبي لكرد الشتات كان هو كردستان المتخيَّلة ومرتبط بالبحث عن دولة قومية. وثمة عامل آخر وثيق الصلة بالموضوع وهو أن هؤلاء الكتاب كانوا يكتبون قبل “موجة الذاكرة” في تركيا.

لكن الجيل الجديد من الكتاب الكرد يتألف بشكل رئيسي من شباب وشابات تسيّسوا ابتدءاً من التسعينيات في سياق الحرب المستمرة في تركيا إذ التفوا حول مجلات ودور نشر ومراكز ثقافية متنوعة وبشكل خاص في استانبول وديار بكر. تناول هذا الجيل [في أعمالهم] ليس فقط عنف الدولة الممارَس بحق الكرد ولكن أيضاً مظالم تاريخية أخرى وبشكل خاص الإبادة الجماعية للأرمن. هذا التوسع الموضوعاتي في النتاج الثقافي يوازي، بشكل ملفت للنظر، التطورات التي جرت على أسس سياسية في المنطقة الكردية. فالحكومات المحلية (أو البلديات) المرتبطة بالحركات السياسية التابعة للأكراد، والتي تزايدت بشكل مضطرد عدداً وسلطةً على المستوى المحلي منذ 1999، تبنت سياسات ثقافية شاملة لمختلف الجاليات الدينية والثقافية. وبناءً عليه، فإن النشاطات الثقافية التي نظمتها تلك الحكومات [البلديات]جرى بشكل رئيسي لمناقشة موضوع التعددية الثقافية والحنين إلى ماضي العيش المشترك. بالتوازي مع تلك التطورات، فإن الممثلين السياسيين الكرد عالجوا أحداث 1915 على أنها إبادة بحق شعب أصيل في المنطقة مع الاعتراف في الوقت نفسه بتورط أسلافهم في تلك الأحداث. لذلك يمكن القول أن مقاربة الحركة السياسية السائدة التي- بعكس الإيديولوجيا الكمالية عن الأمة والثقافة الموحدتين- تشجع مجتمع متعدد الثقافات ومتعدد المكونات ربما وفّرت الإطار الإيدولوجي والسياسي للمؤلفين الكرد لإعادة التفكير بالماضي وإعادة إنتاج الحقائق التاريخية المسكوت عنها في التاريخ الرسمي بشكل أدبي بالاعتماد أيضاً على الذاكرة الحية في المجتمع.

2- ذاكرة المجزرة في الرواية الكردية:

مثلما ذكرنا في المقدمة فإنه منذ بداية الألفية الجديدة ولا سيما في النصف الثاني من عقده الأول ، وعندما انتقل النتاج الأدبي من الشتات إلى المدن الرئيسية داخل تركيا وكردستان، ومع “موجة الذاكرة” في تركيا، فإن عدد الأعمال الأدبية التي تعالج مجازر الأرمن تزايد بشكل مثير.

من بين أولى تلك الروايات كانت رواية(رثاء الوقواق) Kilama Pepûgî لـ( دينيز كوندوز)DenizGûndûz الصادرة في عام 2000 والتي كانت أيضاً أول رواية تُكتب باللهجة الزازية. جاء بعدها روايات مثل:

  • (آه يا أماه) Ay Dayê لمهدي زانا (2005)
  • (الحب المستور) EvînaPinhan لصبري إقبال (2006)
  • رواية (كلمات آثمة)GotinênGunehkar لحسن متي (2007)
  • (مسيحي الأب) Bavfileh ليعقوب تل أرمني YaqobTilermeni (2009)
  • (معرض الصور) PêsenghaSûretan لعرفان آميدي (2011)
  • الحَلَق Guhar لأيوب كوفان EyubGuven (2001)
  • بئر النصارىKortikaFilehan لمحمد دَفيرن Mehmet Devîren
  • مجموعة القصص القصيرة مثل (دلشا ) لفلات دلكش (2003)
  • فارجآباد Verjabed لأحمد جكو (2010)
  • (المحكوم) لمحمد علي كوت (2002)
  • Berenge لعمر فاروق أرسوز (2013)
  • (الخيط) لمحمد دجلة (2013).

إضافة إلى ذلك، نُشِرت بعض القصص القصيرة التي تعالج [أحداث] 1915 ومجازر الأرمن في مجلات مختلفة. وقد حدث تطور مشابه أيضاً في النتاج الأدبي باللغة التركية لمؤلفين أكراد عالجوا أحداث 1915 من خلال علاقتها بالمجتمع الكردي. من بين تلك الأعمال:

  • رواية سردار جان (حكايات جدتي) 1993
  • AhparikSarkis  آهباريك سركيس لـ (زلكوف كيشناك) 2011
  • (شبح خربوط) لـ (متين أقطاش) 2012
  • (الفتاة الأرمنية آغجك) لـ(يوسف بكي) 2007
  • (المنطقة المفقودة من الجنة) لـ(يافوز أكينجي) 2012

هذه الصحوة من الاهتمام بذاكرة الإبادة الجماعية في الأدب الكردي أصبحث مؤخراً موضوعاً لأبحاث علمية (Yislemen 2014; Galip 2013; Celik 2015) .

رغم أن بعض هذه الأعمال تجري قبل أو بعد 1915 إلا أنه يُصادف أن يكون أحد أو بعض أبطالها من الأرمن والفكرة الرئيسية تركّز على أو تدورأحداثها حول [أحداث] 1915 ونتائجها. سيجري البحث في الطرق الخاصة التي تم من خلالها إيصال وبناء ذاكرة [أحداث] 1915 ونتائجها على مرحلتين. في المرحلة الأولى سوف ندرس عن قرب الأفكار المتواترة المتعلقة بـ1915 وماضي الكرد والأرمن في الأدب الكردي الحديث بناءً على تحليل ثلاث روايات. من ثم سنقوم بتلخيص ومناقشة مقاربات أكثر عمومية لأحداث 1915 والتاريخ الأرمني-الكردي الحديث في الأدب الكردي الحديث.

الروايات الثلاث التي تم اختيارها لتحليل الموضوع وهي:

  • KilamaPepûgî رثاء الوقواق لـ( دينيز كوندوز)
  • (مسيحي الأب) Bavfileh ليعقوب تل أرمني
  • (معرض الصور ) Pêşengha Sûretan لعرفان آميدي

قمنا باختيار هذه الروايات الثلاث؛ لأن خط أحداثها يرتكز بشكل رئيسي على المجزرة و/أو على الماضي الكردي-الأرمني على شكل “خيال الذاكرة”.
علاوة على ذلك، فإنها تمثل ثلاثة زمكانات وثلاثة أنماط من الشخصيات (قبائل كردية علوية-سنية مقابل شباب أرمن مسيّسين ومتعلمين ويقابلها أيضاً شخصيات مسنة في إطار القرية) وأخيراً لأن مؤلفي تلك الروايات يشتركون بذات الخلفية من التسيس في الحركة الكردية في التسعينيات ويمكن النظر إليهم كممثلين عن “الجيل الشاب” من الكتاب الكرد الذين قمنا بوصفهم أعلاه. إن محتوى هذه الروايات وبناءها مهما نلفهم الأفكار الناشئة ولتحديد السياق الذي في إطاره جرت معالجة الذاكرة في الرواية ولذلك قمنا بتقديم موجز

عن الروايات الثلاث.

رثاء الوقواق لـ دينيز كوندوز صدر في عام 2000 وتدور أحداثها حول العلاقات بين قبيلة جبران Cibran الكردية السنية وقبيلة خورمك Xormek الكردية-العلوية والأرمن الذين يعيشون في منطقة فارتو (تقع في منطقة موش الحالية).
ترتكز القصة على حكايات العم كلو ApêGelo وهو علوي مسن من أعيان المنطقة وأُعيد صياغتها على لسان راوٍ بضمير الغائب.
بعد مشاركتهم في [الفرسان] الحميدية في عام 1890، بدأ رجال قبيلة جبران بممارسة مزيد من الضغط على العلويين والأرمن مما زاد من تفاقم العلاقات السنية-العلوية والكردية-الأرمنية. العلويون والأرمن يتعاونون في مقاومة اضطهاد القوات الحميدية. لكن العلاقات الطيبة بين العلويين والأرمن، والتي تعززت من خلال رابطة الكريفاني  krive الممتدة منذ قرون، يصيبها الخلل عندما يقتل ليفون زعيم الجماعة الأرمنية 21 رجلاً قبلياً.
بعد صدور قرار ترحيل الأرمن، يطلب زعيم الأرمن، آشوت، المساعدة من الزعيم العلوي ولي آغا ولكن الأخير ينتقم لقبيلته بقتل آشوت وأسرته بمكيدة. عندما يتحول اضطهاد الأرمن بشكل تدريجي إلى إبادة جماعية، يمتنع العلويون عن حماية كرائفهم، بسبب العداوة التي نشأت بينهم مؤخراً، وهكذا يتم تهجير الأرمن أسراباً في حين يجري نهب ممتلكاتهم. في السنوات اللاحقة، عندما يغزو الروس المنطقة، يحاول الأرمن الانتقام لأنفسهم، بدون تمييز بين السنة والعلويين الكرد، ويهاجمون القرى فيرتكبون مذبحة بحق الناس. يهرب معظم الكرد العلويون إلى ديرسم. وهكذا فإن الحكاية ترصد التغيرات الاجتماعية والتاريخية في المنطقة من 1890 وحتى 1916 وتصف التوتر القائم على أساس الاختلافات الإثنية والثقافية وتكشف النقاب عن الضرر غير المسبوق الذي أُلحِق بالنسيج السكاني والثقافي في المنطقة.

مسيحي الأب ليعقوب تل أرمني الصادرة في (2009) –حيث يشير العنوان إلى الأطفال ذوي الأصول الأرمنية الذين أصبحوا مسلمين (أو بالأصح أُرغِموا على ذلك) بين الكرد- فتنظر في تجارب أربعة طلبة جامعيين أكراد في استانبول يبحثون عن مخطوطة تسرد قصة طفلة أرمنية تحولت إلى الإسلام تدعى هدلة أو باربويان، بحسب اسمها الأرمني.
أثناء المجزرة وبينما كانت قافلة هدلة في طريقها من سكارية إلى دير الزور، يتم خطفها من قبل كردي. تعيش هدلة حياة مليئة بالتمييز والمظالم في تلك القرية. يقوم مدرّس تركي ــــــ جرى نفيه إلى تلك القرية ـــــــــ بكتابة قصة هدلة ليحولها إلى رواية. عندما تستحوذ على مخطوطة تلك الرواية، تصبح الشابة الكردية (طيبتْ) وأصدقاؤها الثلاثة مطلعين على التجارب المؤلمة التي مر بها الأرمن على أرضهم وتجعلهم في أن يربطوا بين استمرارية حالة العنف ضد الكرد في التسعينيات التي عانوا منهم شخصياً.

معرض الصور لعرفان آميدا المنشورة في عام 2011 تحكي قصة آرام وآشخان، وهما أخ وأخت، نجيا من المجزرة.وتغطي ثلاثة أجيال من ماردين إلى استانبول.
تم تنشئة آرام على يد أستاذ في مدرسة دينية تقليدية يُعرف باسم ملا سليم بينما تترعرع آشخان على يد فاطمة خاتون في بيت زعيم كردي محلي يُعرف باسم تيمور آغا. عندما يدرك آرام في مرحلة ما منشأه وقصة عائلته، يشعر بأنه مكسور ويقرر البحث عن شقيقته.
يصل إلى قريتها متنكراً في زي إمام ويبدأ بالعيش هناك دون أن يكشف عن هويته الحقيقية لها. ويُصبح عضواً نشِطاً في الدوائر السياسية اليسارية. أثناء الإنقلاب يجري اعتقاله وتعذيبه. ويتمكن أخيراً من الهروب إلى استانبول ويتخذ اسم العم يوسف Apê ûsiv حتى يخفي هويته.
في استانبول يقابل حفيد شقيقته فاطمة، سرفان وصديقته زلال، وكلاهما ناشط في الدوائر السياسية الكردية ومن خلال التفاعل معهما، يصبح شاهداً على محنة الكرد خلال الحرب في التسعينيات. مشاهداته تلك، تجعل آرام يفهم المصير المشترك بين دوامة ماضيه والتراجيديا (المأساة) التي تحصل للكرد.

في هذه الروايات وغيرها الكثير التي تعالج المجزرة والعلاقات الكردية-الأرمنية، ثمة بعض الأفكار التي تُعطى أهمية بشكل مستمر وأحياناً تُعطى بعداً دلالياً في النص من دون صياغتها بكلمات بشكل صريح. الأفكار الرئيسية تتمثل في المحاولات الرامية لتثبيت استمرارية وضعية الضحية للأرمن والكرد والتي وقعت في فترات مختلفة، ومصير الأطفال الأرمن الذين أصبحوا (أو أُجبروا على) التحوُّل إلى الإسلام بين الكرد، والكشف عن معاناتهم كأرمن بين الكرد فقط وهم يحتضرون وأخيراً التأكيد على رابطة الكريف(=الكريفانية) التي ترمز إلى أن الكرد والأرمن تشاركوا في خبرات سابقة. وفيما يأتي، نَصِفُ كيف تبدت تلك الأفكار في الروايات.

نحن الغداء وأنتم العشاء (حرفياً نحن العشاء وانتم السحور) Em şiv hûn paşiv

أحد المؤشرات الهامة لدور الثقافة الشفاهية الكردية، بوصفها مصدراً لقصص المجزرة في الأدب الكردي، هو التكرار الممنهج لعبارة Em şiv hûn paşiv والتي تعني “إن كنا بمنزلة الغداء، فإنتم بمنزلة العشاء” حيث يُفترض أنها قيلت من قبل الأرمن للكرد قبل و/أوأثناء المجازر. هذه العبارة أو مضمونها تظهر بشكل متكرر في الكثير من السرديات الشفاهية عن مجازر الأرمن بين الكرد وكذلك في الكثير من الروايات والتي تؤسس [لفكرة] استمرارية الدمار الذي وقع للشعبين على يد عدو مشترك، الدولة العثمانية وخلفاؤها، الدولة التركية القومية الجديدة. وبذلك يتم التأسيس لوضعية الضحية بين الشعبين.

في بداية رثاء الوقواق، المتخيلة على أساس الذاكرة الجماعية المتعلقة بـ1915 في منطقة فارتو، يُعلن المؤلف نيته بناء قصة اعتمادا على تلك الذاكرة:”أخبرني العم كلو هذه القصة على السطح على أنسام المساء. كنتُ في حينه طفلاً. وكنت حتى ذلك الحين أعرف أن الأرمن أناس سيئون. لكن العم كلو قال ” كناكرفاء، كنا كالأخوة” عندما استمر في الكلام، شعرت أن دمي ينزف. قال” قصة الكرد والأرمن [تشبه] قصة طائر الوقواق. لقد تصرفوا بجهل وقتلوا أخوتهم.” بعد ذلك فهمت أن الوقواق ليس [فقط] قصة؛ إذ أن الناس بهذه الطريقة أفصحوا عن آلامهم وحولوها إلى قصة.

في الروايتين الأخريين، الإطار الزمني يدور بين 1915 والتسعينيات. الإطاران الزمنيان يمثلان ذروة قمع الدولة التي تعرض لها على التوالي الأرمن والكرد. على سبيل المثال في رواية آميدا “معرض الصور ” يُعتقل الملا سليم ويُعذّب في أعقاب الانقلاب العسكري. يصرخ عليه ضابط الحكومة ويقول” هل الثورة وكردستان من شأنك يا ابن الكلب؟ هل قلت ثورة…ثورتكم اندلعت في 1915، يا ابن الأرمنية”iiفي رواية تل أرمني مسيحي الأب أيضاً التركيز يكون على 1915 باعتبارها سنوات معتمة على الكرد وتسرد قصة هدلة بدءاً من 1915 إلى ذلك اليوم حيث يربط المؤلف بين هاتين الحالتين من التضحية.

الإطار المؤقت في روايتي آميدا وتل أرمني يتراوح ما بين 1915 والتسعينيات يُبلّغ عنه من خلال تجارب المؤلفين في التسيس خلال التسعينيات ومن خلال رؤية الحركة الكردية السياسية للتاريخ الحديث و، كأداة تأطيرية، السعي لتقديم المصير المشترك من كونهم ضحايا عنف الدولة. الشخصيات الكردية في الروايات تشكل طلائع العنف الممارَس على الشعبين دامجةً بذلك محنة الأرمن في ذخيرة نضالهم السياسي، بينما تؤكد الشخصيات الأرمنية على نقطة أن الكرد يدفعون ثمن عدم أخذهم تحذيرات الأرمن وتوسلاتهم بالحسبان أثناء 1915.
ما يثير الانتباه في رواية رثاء الوقواق لـ(دينيز كوندوز)أن استمرارية دور الضحية مرسوم بشكل معكوس.إذ أن حالة العنف والتمييز بحق الكرد السنة، الذين ساندوا نظام “الملةmillet ” العثماني، بدأت مع إقامة الدولة القومية التركية، بينما تاريخ العنف والتضحية في حالة الكرد العلويين يعود إلى فترات أبكر من ذلك. بناءً عليه، يشير الكاتب إلى العنف الجمعي للسلطان العثماني ياوز سليم(حكم بين 1512-1520) الذي ذبح آلاف العلويين وبذلك يربط الكاتب دور الضحية بين العلويين الكرد والأرمن على خلفية العنف الممارَس من قبل التحالف السني الذي يشمل أيضاً الأكراد السنة. هذا الربط مهم بشكل خاص، لأنه يظهر أن مجازر الأرمن تفسّر وتُفهم بأشكال مختلفة بين الكرد السنة والكرد العلويين.

“مسيحي الأب” محنة الأطفال الأرمن الذين تأسلموا

يقدر المؤرخون عدد الأطفال والنساء الذين خُطِفوا من قوافل الأرمن المهجّرين في 1915 وجرى إجبارهم على الدخول إلى الإسلام بنحو عشرات الآلاف (Ternon 2007; Kevorkian 2006). على نحو مماثل، فإن الكثير من الدراسات الشفاهية قد أكدت على الأعداد العالية للأرمن الذين تحولوا إلى الإسلام في المنطقة ذات الأغلبية الكردية Tekin 2009, Ritter, Sivasilian 2012; Neyzi, Kharatyan-Araqelyan 2010( كثيراً ما أصبح الأرمن المتأسلمون موضوعاً للروايات الكردية التي تتناول المجزرة.
تشير كلمة “bavfileh” الكردية للإشارة إلى أولئك الأفراد الذين ينحدرون بشكل جزئي أو كلي من أصول أرمنية وترعرعوا بين الكرد بصفتهم مسلمين. والكلمة ذاتها اُستُخدِمت عنواناً لرواية تل أرمني والتي قد يُنظر إليها على أنها مسعى من الكاتب ليكون في طليعة من تناول تلك الظاهرة الواسعة الانتشار. في رواية Bavfileh (مسيحيُّ الأب) فإن الطفلة باربيون ذات التسعة أعوام تُخطف، لدى مرور القافلة من ماردين، من قبل رجل كردي وتُصبح مسلمة باسم هدلة وتتزوج من رجل فقير في القرية.
المقطع التالي يشير إلى المشكلات التي تواجهها في حياتها اليومية لكونها من أصول أرمنية:
“في أحد الأيام قالت لي بنت الجيران zêdega ظلت تلك الكلمة ترن في رأسي لأيام وتأملت في تلك المصيبة . فرغم الفتك بكل أقربائي، دون رحمة، لا يزال يُنظر إليّ كشيء غير مرغوب فيه”.
منذ اليوم الأول الذي أُخذت فيه إلى القرية، بدأ التوبيخ والاحتقار والذل”. مثلما يدل الاقتباس أعلاه، فإن ذلك الاقصاء يجرحها من الداخل فتضيف” رغم أنهم يطلقون على من بقي حياً من الأرمن “بقايا السيف”فإن التعبير الأفضل لحالتهم هو zêdega.” أي أن حياة الأرمن الذين نجوا أو أُنقِذوا من أحداث1915 يمكن أن توصف بشكل دقيق بكونهم في مكان خطأ أو “إضافة” أو “فَضَلة” حيثما انتهى بهم المقام.
وبذلك فإن رواية تل أرمني”مسيحي الأب” تقدم نظرة داخلية مهمة عن كيفية النظر إلى من بقي على قيد الحياة من الأرمن والتعامل معهم من قبل المجتمع الكردي مع التأكيد على فظاعة تجاربهم وغلبة الإجحاف بحقهم والتحامل عليهم.

على نحو مماثل في رواية PêsenghaSûretan (معرض الصور ) فإن الأخوين آشخان وآرام يُسلّمان من قبل عائلتهما إلى تيمور آغا الكردي حيث يُعطي لـ (آشخان) اسماً جديداً هو فاطمة، بينما يُطلق على آرام اس م سليم.
تعيش فاطمة مع تيمور آغا كـ”خادمةnavmalî ” تعيش في المنزل وتقوم بالأعمال الروتينية؛ وتُجبر على الزواج من ابن تيمور آغا.
بينما يُسلّم أخوها آرام إلى إمام القرية؛ ليتولى تربيته وتعليمه. عندما ينتقل الإمام إلى قرية أخرى، تفقد فاطمة أثر الإمام وتفقد بذلك آخر صلة لها بماضيها الأرمني. حتى أخيراً ،وهي على فراش الموت، تسرد قصتها الحزينة لإمام القرية، الملا سليم (غير مدركة أنه في الحقيقة شقيقها). لقد عاشت حياتها في صمت مطبق عن ماضيها بين أناس تشعر بينهم بأنها دخيلة وغريبة.

“سكرات”: قول الحقيقة أثناء الاحتضار

في عام 1985 (ص 187-189) ألقى كل من داس وداندي ظلالا من الشك على قدرة اللغة الأكاديمية التحليلية على الإحاطة بدرجة العنف الممارَس تجاه المرأة والأبعاد الأسطورية لتجاربهن في حالة الحروب الأهلية والإبادة الجماعية والانقسامات السياسيةـويري (الباحثان) أن الأدب مناسب أكثر لهكذا غرض؛حيث إنه عبر اللغة الأدبية فقط يمكن التعبير عن الصدمات النفسية للرجال والنساء على المستوى الفردي وعلى المستوى التجريبي للحوادث الاجتماعية على نطاق أوسع. بموازاة ذلك، وفي بعض الأعمال الأدبية لمؤلفين كرد، فإن الأرمن المتأسلمين مسموح لهم بسرد حكاياتهم الشخصية الحزينة بكامل مداها فقط وهم على فراش الموت (سكرات).

في PêsenghaSûretan (معرض الصور) تصرخ آشخان بصوت عال، وهي على فراش الموت، في وجه الإمام وتقول له كل الحقائق التي خبأتها في صدرها طوال حياتها. فالطفلة أشخان ضيّعت عائلتها ووُضِعت في سياق حياة جديدة باسم ودين مغايرين؛ محرومة من ماضيها ومنفصلة عن شقيقها. إنها تمتلك فجأة القوة؛ لتقول حقيقتها وهي على فراش الموت وتبدأ بوصف معاناتها التي مرت بها منذ طفولتها. المسألة الأولى التي تثيرها هي مأزق ديانتها والذي بدأ في سن التاسعة أو العاشرة عندما أُخِذت من عائلتها وأُجبرت على الدخول في الإسلام. “أيها الإمام، أنا من أتباع محمد في يوم ومن أتباع عيسى في اليوم التالي. مسلمة أنا في يوم ومسيحية في يوم آخر.
رغم انقطاعها عن ماضيها، فإنها تستمر في الحفاظ على سرية هويتها بطريقة مقنّعة بحيث لا تترك مجالاً للشك من قبل المحيطين بها. وتُطلع الإمام على الصليب المنقوش الذي كانت تخبِّئه تحت مخدتها طوال تلك السنين وتضيف: “أنا أرمنية، سيدي، أو كمان يقولون “مسيحية الأب” ولكنني لست مسيحية الأب bavfileh بل مسيحية fileh منذ يوم القيامة منذ يوم هلاكنا من المثير للانتباه أنه في السرديات الشفاهية، كما في الأعمال الأدبية، فإن تكرار هذاالسيناريو، حيث نساء مثل آشخان دفعن ثمن النجاة من المجزرة عنفاً اجتماعياً خضعن له طوال حياتهن، يتمردن في اللحظات الأخيرة قبل الموت؛ ليكسرن الصمت الذي ارتبط بشخصياتهن. هو عمل متعمد لإعلان الحقيقة من خلال كسر صمت طويل، ولكنه يشير أيضاً، على نطاق واسع، إلى ارتياب المسلمين من الأرمن المتأسلمين.
هذا الارتياب الدائم بأصولهم المعروفة، ولكن غير المصرّح بها، على نطاق واسع هوالذي يقود مسيحيي الأب إلى أن يخفوا “الجانب الأرمني” في المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه.

“كريف” الحنين إلى العيش المشترك المفقود

في عمله التأسيسي عن التاريخ والمجتمع في الأقاليم الشرقية في الحقبة الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، يناقش كيسر Kieser (2005:33)، وبشكل مقنع، أنه لم يكن هناك أبدا في الأقاليم الشرقية ” نظام الملة ” millet كالمعمول به في العاصمة، حيث جرى التوصل إلى طريقة للعيش بسلام بفضل مراعاة العلاقات التراتبية الواضحة. يبدو أن إحدى المؤسسات الاجتماعية التي أسهمت في تنظيم العيش المشترك بين الكرد والأرمن هي ما يُطلق عليه “الكريفاني”، التي تعبّر عن رعاية ختان أحد الذكور [في حضن أحدهم] وتؤدي إلى بناء نوع خاص من العلاقات بين الأسر التي قد لا تكون مرتبطة ببعضها بروابط أخرى.
وهو ما تشير إليه بوضوح المقابلات التي أجريناها في دياربكر، أي أن “الكريفاني” كمؤسسة اجتماعية لعبت دوراً رئيسياً في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقات بين الكرد والأرمن. ومن ناحية أخرى من خلال منع الزواج بين الأديان المختلفة-حيث إن الأسر التي تربط بينهم علاقة “كريفاني” لا يستطيعون التزاوج فيما بينهم- ومن ناحية أخرى ومن خلال بناء نوع من الحماية أو الرعاية بين الكرد الذين كان لديهم موقعاً متقدما في ” نظام الملة” millet والأرمن الذين كانوا في درجات أقل أهمية في التراتبية الاجتماعية. وبالتالي؛ فإن هذه المؤسسة قد أوجدت نوعاً من التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بين الشعوب التي تعيش في المنطقة.

لا غرابة إذاً أن تطفو العلاقة الكردية-الأرمنية بشكل متكرر في الروايات والقصص الكردية التي تتناول الأرمن. حيث تقوم الشخصيات الروائية الكردية ،في الكثير من الحالات، بمناداة بعضها بـ”كريفي”. إن الجوانب الإيجابية في العلاقات الكردية-الأرمنية يجري تذكرها أو استدعاؤها من خلال التأكيد شبه المتواصل على كونهم “كريف”. ففي رواية رثاء الوقواق [التي تصنّف ضمن] “خيال الذاكرة”، على سبيل المثال، تعد مؤسسة “الكريفاني” الأساس الرئيسي للعلاقات الكردية-الأرمنية.
لذلك، فإن الأرمن يستفيدون دوماً من حماية قبيلة خورمك الكردية العلوية التي تربطهم بها علاقة “كريفانية” من اضطهاد قبيلة جبران الكردية السنية ومن اضطهاد الجنود العثمانيين. إن قانون “الكريفاني” تربط الأطراف المنخرطة فيها مع بعضها البعض اقتصادياً واجتماعياً.
ففي الرواية ذاتها، على سبيل المثال، يُقتل زعيم قبيلة خورمك على يد قبيلة جبران، وعندما يصل ولدا الزعيم (ولي ومم) إلى استانبول، لكي يخبرا أخاهما البكر (زينل)، يجري استضافتهم من قبل “كريفهم” الأرمني (كبو أفندي). لا يستطيع (ولي) تجنب النظر إلى الفتاة الجميلة في بيت المضيف، “ناسياً نفسه وحتى حقيقة بأنهم كريف، حيث لا يستطيع الطرفان الزواج من بعضهما عندما تربطهم تلك العلاقة”7وبالمثل، فإن (ساكو) الأرمني في بيت كريفه “كتم أنفاسه عندما رأى النساء حيث إنه بحسب [التقاليد] فإنه من المفروض أن ينظر إلى كريفاته(=النساء) كما ينظر إلى أخواته. وعدم الخضوع لهذا المبدأ سوف يوقعه في إثم كبير”8على نحو مماثل، عندما يأخذ ولي بثأره من الأرمني ليفون من خلال قتل كريفه آشوت وأسرته،فإن بعض أفراد القبيلة لا يتقبلون ذلك على أساس أن الكريف هو بمثابة الأخ ويجب ألا يُقتل مهما كانت الأسباب.
هذا الشعور بالذنب النابع من قتل الكريف يكتسب بعداً رمزياً في الجملة الأخيرة من الرواية. لدى انتقاله إلى ديرسم بسبب الحرب، يستقر زينل وأسرته في بيت؛ ليرى بأن طائر الوقواق قد بنى عشاً له على أحد الجدران وهو يبكي وينوح ليل نهار ولا يدع أهل البيت ينامون.

في هذا السياق تعلّق إمرأة علوية مسنة على الموضوع كما يلي:

“يا بني، إن الوقواق، ما هو إلا آشوت. آشوت الذي هو كريفك وقد تنكّر في شكل طائر الوقواق. وفي كل ليلة عندما يبكي فهو ينادي “ولي”. إنه يلعنك. ولذلك لا يستطيع ولي أن ينام(…) لأن ولي آغا قتل كريفه (…) ولي آغا أباد آشوت وأطفاله في الوادي.”iii.
هنا تفسر العلوية عويل الوقواق على الجدار على أنه مصيبة دائمة تحل بولي آغا جراء قتله لآشوت وعائلته على حساب خرق قانون الكريفانية. مرة أخرى وفي بداية الرواية، نجد الراوي العم جلو يقول” كنا كرائف..كنا أخوة (…) إن قصة الكرد والأرمن تشبه قصة طائر الوقواق. لقد (…) قتلوا اخوتهم” إن هذا السرد الرمزي يقدم فكرة أن المجرمين لا يمكن أن يفلتوا أخيراً من المظالم التي ارتكبوها أثناء الإبادة الجماعية. بهذا المعنى، فإنه يشبه ما يسميه كل من جلليك ودينج بـ”المواجهة الرمزية” التي ينبغي بموجبها أن يدفع الناس ثمن مشاركتهم في المجزرة وذلك عن طريق المصائب التي تحل بهم في وقت لاحق.

من ناحية أخرى فإن العلاقة الاجتماعية الكردية-الأرمنية القائمة على “الكريفاني” تفقد سحرها وشرعيتها في ظروف الإبادة الجماعية في بعض الأعمال الكردية الأخرى مثل رثاء الوقواقالتي تستحضر تلك العلاقة من خلال الحنين إلى الماضي المشترك وإضفاء طابع مثالي على العلاقات بين المجتمعين. على سبيل المثال في رواية الحَلَق Guhar لأيوب كوفان EyubGuvenثمة تركيز على الحياة اليومية للناجين من الإبادة في بلدة ديريك في الخمسينات [من القرن الماضي] حيث يُبرز المؤلف وبشكل مفرط روابط الكريفاني بين الكرد والأرمن عندما يقوم بإحالات إلى العيش المشترك الهادئ بين الشعبين. في “مسيحي الأب” ،من ناحية أخرى، فإن رد فعل الرسام الأرمني على إسباغ الطابع المثالي والحنين إلى العلاقات القائمة على “الكريفاني”بين المجتمعين مصوَّر بشكل واقعي أكثر. حيث:

“كل الكرد يقولون أنهم والأرمن كرائف. هذا صحيح ولكن الصحيح أيضاً هو أنهم تسببوا في سفك الدماء والموت لمن تربطهم به علاقات الكريفاني.

مقاربات للإبادة وتاريخ الأدب الكردي

إضافة إلى هذه الأفكار الخاصة المتكررة، فإن الأعمال الأدبية الكردية تتشارك في مقاربتها للإبادة الأرمنية والتاريخ. لقد وجدنا ميزة واحدة في معظم الروايات وهي الانخراط في نوع خاص من نزع الصفة التاريخية،مثل تلك الروايات كافة التي تتناول دور الكرد في أحداث 1915، حيث الفاعلالحقيقي لتلك الأفعال هي الدولة أي الحكومة العثمانية/التركية، وأن بعض الكرد بفعلتهم تلك إنما “خُدِعوا” بمكائد الدولة وأصبحوا “أدوات” في [ارتكاب] المجازر. وعلى المنوال نفسه، فإن الكثير من هؤلاء المؤلفين يقيّمون ويحللون ويطلقون الأحكام على 1915 من وجهة نظر الراهنة. وفي النتيجة؛ فإنه في الكثير من الروايات هناك شخصيات كردية إما سيئة جداً أو طيبة جداً، بينما كل الأرمن تقريباً هم ضحايا محرومون وأناس طيبون.
حقيقة أخرى أشار إليها أيضاً يشيلمن Yeşilmen (2014) هي أنه بدلاً من معالجة الأسباب و/أو مجازر 1915، فإن الروايات [الكردية] تركز على النتائج. إن الخطاب المتكرر بكثرة حول النتائج هي التي تؤسس لاستمرارية الكوراث التي حلت بالأرمن والدمار الذي مرَّ به الكرد في السنوات والعقود اللاحقة في إشارة إلى أن العامل المشترك وراء محنة الشعبين هي الامبراطورية العثمانية والنظام الجمهوري الجديد الذي خلّفها. إن هذا التركيز يضع جانباً مسائل تتعلق بالذنب والنية والمسؤولية بدلاً من التركيز على الضحية البرئية واستمرارية فدائية بين معاناة الأرمن في بداية القرن العشرين والمعاناة الكردية في العقود التالية حيث تجري تعبئة الأرمن من أجل دعم [قضية] الكرد.

إن النقطة المشتركة في الروايات هي محورية التجارب للفتيات والفتيان الذي خُطِفوا أو أُنقِذوا في 1915 وتأسلموا فيما بعد. القليل جداً من القصص تصاغ حول شهادة وتجارب الناجين مما يخلق الانطباع أن الكتّاب يطوّرون حكايات اعتماداً على قصص مشابهة سمعوها في الحياة الحقيقية. وفي الواقع فقد كشفت دراسة حديثة عن التاريخ الشفاهي لديار بكر (جليك، دنج 2015) وماردين (بينر 2010) ووان (إيجي 2011) أنه في العقود الماضية ثمة انتقال ملحوظ للذاكرة من خلال الشهادات والتجارب الشخصية للنساء والأطفال الذين نجوا من المجزرة وعاشوا بين الكرد ومعظمهم كمسلمين ضمن فئة خاصة أُطلِق عليها اسم bavfileh التي تعني حرفياً:(ذوي الأصول المسيحية من جهة الأبوين).

وهكذا يبدو كما لو أن الكتّاب يعيدون بشكل أدبي إنتاج الوصف العياني الذي اكتسب عبر تجاربهم الذاتية وصدامهم مع الذاكرة الجمعية لوسطهم الاجتماعي بفضل الذاكرة القوية وتداول الحكايات المتعلقة بمجازر الأرمن في المجتمع الكردي. بهذا المعنى، يمكن فهم الأدب الكردي على أنه شهادة على شهادة حيث لم يعش أي من الروائيين في عام 1915 ولكنهم انطلقوا من الذاكرة الجمعية للمجتمع الكردي؛ ليقدموا شهادة غير مباشرة عن الأحداث. هذه السلسلة من العوامل والدوافع مع النشاط الأدبي الناجم عنها يؤكد حقيقة أن تلك الأعمال،التي تُعدّ بعضها بحق “خيال الذاكرة”،تساهم في بحث الأفراد والمجتمع عن الهوية من خلال إعادة صياغة الشهادات التي تتواجد داخل المجتمع عبر الإمكانات المعروضة في الأدب.

الاستمرارية بين التاريخ الشفاهي والوصف الأدبي الحديث عن [مجازر] 1915 وآثارها في الأدب الكردي مباشر إلى حد ما. ما يصعب تقديره أكثر هو إلى أي حد تتطابق تلك الأعمال الأدبية عن المجزرة وآثارها مع التاريخ الحقيقي للمجزرة ولا سيما فيما يتعلق بمسؤولية الكرد عنها. تكمن الصعوبة بشكل رئيسي لأن “التاريخ الحقيقي”عن دور الكرد في المجزرة غير واضح البتة. فالدراسات الموجودة (ساسوني، 1992، بوز آرسلان 1995، كيسر Kieser2005، تيرنون 2007 Ternon وكيفوركيان 2006) تنظر إلى دور الكرد على مستويات مختلفة (من المشاركة الفاعلة في المجازر إلى حماية الضحايا) ومن ناحية الفاعلين المختلفين أو أصحاب المصالح (بدءاً من الزعماء القبليين ومروراً بالمجموعات شبه العسكرية وانتهاءً بالأفراد العاديين). وبالتالي فمن غير الممكن أن نتحدث عن “الكرد” بشكل عام.
وليس من المنطقي أن نعمم مقاربة واحدة عن “دور الكرد” في المجزرة. مع ذلك، فإن الدراسات تؤكد على أن قسماً من الكرد شاركوا بالفعل في المجزرة. تلك المشاركة الفعلية للكرد في المجزرة نادراً ما تصوَّر في الأدب الكردي الحديث. وذلك يعود جزئياً كنتيجة ثانوية للتركيز المفرط في تلك الأعمال الأدبية على آثار المجزرة.
بعض المصادر الأخرى عن المشاركة المباشرة للكرد تتملص إما من خلال تمثيل الفاعلين بصفتهم شخصيات شريرة معزولة أو من خلال تنظيمهم في صفوف الآخرين كالعرب والشراكسة11. ومع ذلك فإن تورط الكرد في المجزرة يُعّبر عنه أحيانا في الروايات الثلاث التي جرى تحليلها أعلاه بعبارات عامة من قبيل “لقد قتلوا أخوتهم (رثاء الهدهد ص3) أو “لقد تسببوا في جلب الدم والموت لكرائفهم (مسيحي الأب ص47)
أخيراً ورغم أننا قد ناقشنا لغاية الآن المقاربة السائدة لأحداث 1915 بين الكرد وتمثيلها في الأدب، لا بد من ملاحظة أنه ثمة سرديات متنوعة أخرى عن المجازر في السياسة و المجتمع الكرديين. بعض السرديات أقرب ما تكون إلى صيغة الإنكار التي تتبناها الدولة، كما شُرِحت في سياق مدينة وان لـ(إيجه Ege) (2011:60-64) من جهة أخرى، فإن بعض خطابات القوميين الكرد يتبنى فكرة أن الكرد كانوا أداة وأن الأرمن أيضاً ارتكبوا مجازر بحق الكرد. في تلك السرديات؛فإنه يجري إنكار مسؤولية الكرد عن المجزرة بينما تبرَّر محنة الأرمن بشكل ضمني بسبب عداوتهم وتعاونهم مع القوى الخارجية12. على حد علمنا لغاية 1915 تلك المقاربات لم تُمّثل في الأدب الكردي الحديث لهذا لم نولها الاهتمام في مناقشتنا.

حدود وامكانيات الأدب الكردي في مواجهة مجازر الأرمن

بينما يسود إنكار شديد لمجازر الأرمن على نطاق الدولة التركية والرأي العام التركي، فإنه تُتخذ في المنطقة الكردية مبادرات هامة لمواجهة الماضي من قبل الحكومات المحلية والفعاليات السياسية. فعلى سبيل المثال حدث في ديار بكر في الرابع والعشرين من شهر نيسان/ابريل 2015 إحياء ذكرى المجزرة من قبل المنظمات الأرمنية في الشتات وتركيا وبعض المنظمات الأهلية المحلية.
وقد تمثلت الحركة الكردية السياسية بأرفع أعضائها مكانة ونعني بذلك محافظ ديار بكر والرئيس المشترك لحزب HDP، الحزب السياسي الرئيسي المؤيد للكرد. إضافة إلى ذلك، وفي أعقاب نجاح الحركة السياسية الكردية في الفوز بالانتخابات المحلية منذ 2000 فإنه ثمة جهود كبيرة لحماية التراث الثقافي الأرمني وترميمه في المنطقة وبشكل خاص في ديار بكر والمناطق المحيطة بها.
كل هذه المبادرات يمكن أن تُفسّر على أنها إعلان نوايا من قبل الدوائر السياسية الكردية لمواجهة ماضي المجزرة (قارن Scalbert-Yucel 2015; Ayata 2009; Biner 2010) يجب أن يُفهم الحضور المتزايد لذاكرة 1915 كتيار جديد في الأدب الكردي، الذي وصفناه في هذا المقال،على أنه امتداد لتلك الجهود لمواجهة الماضي. ورغم محدودية جمهوره من القراء،فإن هذا الأدب،الذي يستمد بقوة أفكاره من التاريخ الشفاهي لحكايات 1915 ضمن المجتمع الكردي، يمتلك هذه الإمكانية. إن كل تلك الأعمال الأدبية تتخذ بوضوح رؤية نقدية تجاه الماضي وتعالج أحداث 1915 على أنها مجزرة كبرى بحق الأرمن وتعرض حالة الاغتراب والتمييز التي مر بها الناجون وتربط ما بين المجزرة واستمرارية التجارب المريرية التي مرّ بها الكرد لاحقاً، وترفض المعتقدات المتوارثة في تحريض الدولة على العنف بحق الأرمن في الماضي. ومع ذلك، فإن الكثير من تلك الأعمال الأدبية تركّز على النتائج أكثر من تركيزها على سير عملية المجزرة وعلى تجارب الناجين من المجزرة بين الكرد. بعملها ذاك تقوم تلك الأعمال بنزع الصفة التاريخية عن الخط السردي والأسلوب وبإهمال أو إسكات الدوافع على المستوى المحلي الشخصي وديناميات الخلافات المجتمعية في العلاقات الكردية-الأرمنية فيما يتعلق منها بالمجزرة.
من ناحية أخرى، فإن إلحاح الكتّاب الكرد على تناول العنف في الماضي القريب للمنطقة وإبراز علاقة الذاكرة-التاريخ، حوّل الأدب الكردي الناشئ إلى ساحة للذاكرة. وهذا يوازي المشاهدات الميدانية التي اعتمدت على بحث التاريخ الشفاهي بين الكرد (Biner 2010; Ege 2011; Tekin 2013; Çelik, Dinç 2015)بهذا المعنى، فإن هذه الأعمال الأدبية تسهم في بناء ذاكرة مضادة اعتماداً على الذاكرة الحية لمجتمعها والتي تستمد قوتها أيضاً من الخطاب السياسي. وبذلك ،تتحدى الرواية الرسمية للذاكرة القائمة على تأريخ الدولة المركزية الرافض للمجزرة. على هذا النحو فإنه يمكن النظر إلى مثول الأرمن وقصص 1915 في الأدب الكردي على أنها مسعى لبناء ذاكرة جمعية.
إن كان لنا أن نعبّر بشكل رسمي عن العملية المفترضة لكيفية بناء الذاكرة في سياق الأدب الكردي اعتماداً على “محاكاة الذاكرة”، فيمكننا أن نقول

أولاً أن الكتّاب الكرد محاطون بثلاث نظم ثقافية استطرادية مختلفة عن المجازر: فمن جهة هناك المقاربة الإنكارية –أو عادة الإنكار التالية للمجازر الجماعية- كما عبّر عنه سويجان Suciyan (2015:21-27) والتي روجتهاالأوساط الأيديولوجية للدولة. ومن ناحية أخرى هناك نسختهم عن الماضي المبنية على الثقافة الشفاهية المؤثرة في الأوساط العائلية للمؤلفين وأخيراً كأفراد مشاركين في الحركة السياسية الكردية-وخاصة في التسعينيات التي شهدت [نشاطاً] سياسياً كثيفاً-وتفاعلهم مع تحليل الحركة الكردية للتاريخ والماضي الذي يتعارض بوضوح مع التأريخ الرسمي للدولة التركية.
إن أعمال هؤلاء المؤلفين مصوّرة مسبقا ضمن إطار هذه الخطابات الثلاث.

ثانياً من خلال رفض المقاربة الإنكارية للدولة تجاه التاريخ، بوحي من الحكايات المرتبطة بخلفياتهم الأسرية، ووضعها ضمن إطار الخطاب التعددي والانتقادي القومي الذي تتبناه الحركة القومية الكردية، فإن الأعمال الأدبية ترتب حضور الذاكرة للعلاقات الكردية-الأرمنية التي تقع بوضوح خارج إطار سطوة إنكار الماضي. مع ذلك حتى هذا الترتيب يُبرز تأويلات أو حكايات معينة ويُهمل حكايات أخرى أو يخفيها. فعلى سبيل المثال، التركيز على النتائج بدلاً من سير المجزرة ذاتها من جهة يسمح بدمج التجارب المريرة للناجين بين الكرد في بروز حضور الذاكرة بينما، من ناحية أخرى، هذا التركيز على النتائج التاريخية أكثر من العملية نفسها تترك الوكلاء (ولا سيما دور الكرد) أثناء العملية خارج تلك الذاكرة.
إن هذه الانتقائية في هذه المرحلة التشكيلية تؤكد على متانة العلاقة بين الذاكرة والهوية.

أخيراً، فإن المواجهة والمعارضة بين هذا الحضور الجديد للذاكرة والذاكرة الثقافية السائدة التي تتنكر للمجزرة تسهم في بناء مقاربات مختلفة أكثر نقدية للمجازر والتاريخ وإشاعتها؛ وبفعلها هذا، فإن هذه الأعمال الأدبية تعيد تصوير الذاكرة الجمعية السائدة في المجتمعات التي وُلدت فيها.
إن قدرة الأدب الكردي على التأثير أو إعادة تصوير الذاكرة الجمعية، مثلما يتضح مما ناقشناه أعلاه، تكمن في فهم عنف الدولة ضد الأرمن والكرد وتمثيله على أنه مستمر أو على الأقل موروث متواصل. استثمار هذا الارتباط في أن تكون ضحية من خلال علاقة الاستمرارية وجعل جيل جديد من الكرد متعاطفين مع مآسي الشعب الأرمني أعاد تنشيط ذاكرة المجزرة بين الكرد.
ولكن، كما رأينا، فإن مساواة الكرد بين محنتهم ومجازر الأرمن يحمل خطر توظيف تلك الذاكرة.

شارك هذا المقال: