البحث عن الهوية: أزمة الهوية في تركيا

تركيا - أزمة الهوية

شارك هذا المقال:

البحث عن الهوية: أزمة الهوية في تركيا
سميح مِناريجي*

ملخص

يتعامل هذا البحث مع سؤال لماذا لا يزال لدى الأتراك أزمة هوية بعد مرور ثمانين عاماً على عملية التحديث الكمالية. أنا أزعمُ أن الكمالية المهووسة بعمقٍ بالقومية والعلمانية تجنبت العديد من المبادئ الملتبسة عبر توليد تعريفات غامضة. وهكذا فشلت الكمالية في بناء هوية مشتركة ومقبولة عموماً، مُربكةً بشكلٍ عام المجتمع التركي بينما حولت نفسها إلى إيديولوجية دولة كافكاوية (نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا- المترجم).
يخلص البحث إلى أن الارتباك العميق والنقد المتزايد في نقاشات الهوية الحالية في تركيا إنما هو نتيجة للتجربة مع الإيديولوجيا الهجينة للكمالية وظهور هوية مدنية تركية جديدة.

مدخل

في مايو 2005 وخلال مقابلة معه في إستانبول، أكد صامويل هنتنغتون أن فرص قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي غير موجودة “بما أن الأمم الأوروبية مستمرة في الاعتقاد أن الشعب التركي ليس أوروبياً ثقافياً، لذا لن يسمحوا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”. أدى هذا التصريح إلى جدال بين الأتراك: هل الأتراك جزء من الثقافة الأوروبية أم لا، وإن لا فمن نحن؟
بالتأكيد، لم يبدأ بحث تركيا عن الهوية مع تصريح هنتنغتون الحاد، ويبدو أنه لن ينتهي عاجلاً. لقد بدأت حاجة تركيا إلى هوية جديدة ومعاصرة مع حركة التحديث وبناء الأمة في بدايات القرن العشرين.
بعد حرب الاستقلال وخلال التأسيس اللاحق للجمهورية التركية أعاد مصطفى كمال (المعروف أكثر كـ أتاتورك) تعريف هويتي الأفراد والدولة وفقاً لشروط خاصة (مبادئ الكمالية).
أحدثت عملية تحرير الجمهورية الجديدة قطيعة مع الإسلام وإرث الإمبراطورية العثمانية، وأعادت تعريف الهوية التركية المعاصرة على قاعدة الأفكار القومية والعلمانية.
لماذا لا يزال لدى الأتراك أزمة هوية بعد مرور ثمانين عاماً على عملية التحديث الكمالية هو سؤال مزمن، كما ان الارتباك العميق والنقد المتزايد في نقاشات الهوية الحالية في تركيا هي بنتيجة التجربة مع الإيديولوجية الكمالية الهجينة وظهور هوية تركية مدنية جديدة.
أنا أزعم أن الكمالية المهووسة بشدة بالقومية والعلمانية تجنبت العديد من المبادئ الملتبسة عبر توليد تعاريف غامضة، وهكذا خلقت الكمالية مجتمعاً تركياً حائراً للغاية في حين حولت ذاتها إلى إيديولوجية دولة كافكاوية.
كانت المبادئ الكمالية خليطاً من الوضعية الفرنسية وتداخلها الواقعي الصرف مع الوضع في تركيا. هذه الإيديولوجيا الهجينة كانت الأساس لنموذج التحديث في تركيا والذي يهدف إلى إنشاء دولة قومية علمانية على الطراز الفرنسي، لكن بعد ثمانين عاماً من التحديث والأورَبة لم تتمكن الكمالية بنجاح من خلق هوية جديدة ومقبولة بشكل عام، ولم تكن قادرة على كسر الهوية التقليدية للأتراك.
اليوم، هنالك فقط 49% من الأتراك يدعمون عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي مستقبلاً (في 2004 كانت النسبة 71%)، كما وأن هنالك تشكيكاً واضحاً في الاتحاد الأوروبي.
في القسم الأول، أفحص الخلفية التاريخية لأزمة الهوية الحالية. أقدم بعض الأحداث التاريخية والأنماط التقليدية لإظهار كيفية صياغتها للإيديولوجية الكمالية.
في القسم الثاني والثالث، أركز على كيف أن المبادئ الكمالية والانقلابات تفاعلت وشكلت الجمهورية كنموذج للتحديث.
يبين القسم الرابع كيف أن نموذج التحديث الكمالي لعب دوراً بارزاً في تحديد الهوية التركية الجديدة. في القسم نفسه أورد بعض الأدلة التي تبحث في كيفية اختلاق الكمالية نظريات وأطروحات عديدة.
يركز القسم الخامس على فشل الكمالية وظهور معارضة جديدة في المجتمع المديني التركي.
في القسم الأخير أدرس الأحداث الحالية في تركيا وكيف تم تحفيزها وعرقلتها من الهوية التركية.

1-الجذور التاريخية

تبدو الجذور التاريخية لنقاشات الهوية المعاصرة في تركيا راسخة في فترة تدهور الإمبراطورية العثمانية والتي بدأت في أوائل القرن السابع عشر، وتحديداً بحلول عام 1632 أثناء الحصار الثاني لفيينا: “لقد بلغت الإمبراطورية العثمانية خطاً لا يمكنها أن تتقدم بعده، بل يمكنها فقط أن تنسحب منه” (برنارد 25).
خلال هذه الحقبة من انحدار الدولة العثمانية، انخرط الإنكشارية (الجيش) والعلماء (النخبة) بحيوية في سياسة القصر، وأصبحوا عقبة هائلة أمام الإصلاح في الدولة. هاتان القوتان التقليديتان في الإمبراطورية العثمانية كانتا لا تزالان تلعبان أدواراً حاسمة ومستمرة خلال فترة تأسيس الجمهورية الجديدة، حيث تبنت النخب الكمالية مفهوم العلماء وتبنى الجيش التركي مفهوم الإنكشارية.
كانت حقبة التنظيمات (إعادة التنظيم) في 1839 أهم فترة إصلاح في الإمبراطورية العثمانية. كان لإصلاحات تنظيمات آثار بعيدة المدى، منها التأثير على مصطفى كمال وغيره من القادة التقدميين ومفكري الجمهورية. خلال الحقبة نفسها أسست مجموعة من الطلبة الجامعيين الشباب وبعض الطلبة العسكريين مجموعة سرية باسم جون توركلر (الشباب الأتراك). سوف تعمل المجموعات نفسها لاحقاً مستلهمة الوضعية الفرنسية في ائتلاف واحد هو جمعية الاتحاد والترقي. كانت الجمعية الجديدة تهدف إلى استبدال الإيديولوجية الرسمية للدولة العثمانية (العثمنلة) بالإيديولوجية القومية التركية.
خلال حرب الاستقلال وطوال سنوات العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين توافد المهاجرون المسلمون -معظمهم من البلقان ولكن أيضاً من مناطق البحر الأسود وجزر بحر إيجه وقبرص وسنجق الإسكندرون (هاتاي) والشرق الأوسط والاتحاد السوفييتي- على تركيا. أتراك ومسلمو الإمبراطورية العثمانية جاءوا إلى البلاد التي اعتبروها وطنهم. (جاغابتاي 82)
لم تمنح تركيا الجنسية فقط لمن هم أتراك عرقياً، بل منحتها أيضاً لجميع المسلمين العثمانيين الذين هاجروا إلى الجمهورية الجديدة. وفقاً لذلك فإن النسيج المجتمعي التركي الجديد كان قائماً على نفس المجتمع متعدد الثقافات والأعراق الذي كان موجوداً في الإمبراطورية العثمانية.
في الواقع، لم يكن لدى الأتراك قط مجتمع متجانس ثقافياً وعرقياً خلال سنوات تأسيس الجمهورية الجديدة.

2-مبادئ الكمالية والانقلابات

خلال تأسيس الجمهورية التركية (29 أكتوبر 1923) أصبح حزب الشعب الجمهوري الحزب السياسي الأول والوحيد في تركيا حتى 1945 (نهاية حقبة الحزب الواحد). لا تزال راية حزب الشعب الجمهوري اليوم تحمل شارة السهام الستة والتي تحيل إلى المبادئ الرئيسية الستة للكمالية، هذه المبادئ هي:
مبدأ الجمهورية ويمثل عزل السلطان ونفي السلالة الحاكمة وتأسيس الجمهورية.
مبدأ الثورية ويمثل استبدال المؤسسات التقليدية بالمؤسسات والمفاهيم الحديثة من خلال إحداث التغييرات الاجتماعية.
مبدأ الشعبية ويمثل الانقلاب الكمالي مُقاداً من النخبة مع توجه نحو الشعب التركي بشكل عام.
مبدأ التدخلية ويمثل التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تعتمد على تدخل الدولة.
مبدأ العلمانية ويمثل غياب التدخل الديني ورجال الدين في الشؤون الحكومية والسياسية.
مبدأ القومية ويخلق دولة قومية تركية مبنية على النزعة القومية التركية.
لا شك أن اختيار مصطفى كمال المتفرد والخاص كان المحدد المحوري لتأسيس الجمهورية الجديدة وهويتها: “أتاتورك قائداً عظيماً يحكم قبضته على الجيش الوطني كاملاً تحت سلطته الكاملة، وجموع الفلاحين الأناضوليين المسحورين به كمنتصر على الكفار، وبطلاً قومياً اكتسب أعظم قوة في البلاد. هو الذي أعلن البلاد جمهورية وأصبح حاكمها. بعدئذ قام مثل كرومويل آخر أو نابليون أو موسوليني آخر بتوجيه مصائر الدولة الحديثة”. (توينبي 186)
بموازاة المبادئ الكمالية، استبدل مصطفى كمال بعض المؤسسات التقليدية بمؤسسات انقلابية علمانية جديدة مثل: إلغاء الخلافة وتأسيس مديرية الشؤون الدينية في 1924، إغلاق المدارس الدينية التقليدية في 1924، حظر التعاليم الصوفية في 1924، حظر الطربوش العثماني والحجاب في 1925، تبني قوانين جزائية ومدنية وتجارية أوروبية في 1926، استبدال الأحرف العربية بالأحرف اللاتينية في 1928، إقصاء الإسلام بصفته ديناً للدولة في 1928، الاعتراف بالحقوق السياسية الكاملة للمرأة في 1934، إقرار العلمانية كمبدأ دستوري في 1937، وحظر تأسيس جمعيات أو أحزاب مبنية على أساس الدين أو الطائفة في 1938.
الكمالية مثلها مثل حركة التحديث التركية المبكرة الأخرى (الاتحاد والترقي) تأثرت بعمق بالوضعية الفرنسية، وتبنت مبادئ مثل علمانية اليعاقبة الراديكالية. لكن اعتماد العلمانية في نمطها الفرنسي بطريقة واقعية بحتة أدخل النخبة الكمالية في معضلة خطيرة. ففي حين كان على النموذج الفرنسي للعلمانية التعامل مع الكنيسة ككل كمؤسسة، لم تكن هناك لا في الإمبراطورية العثمانية ولا الجمهورية الحديثة مؤسسة دينية مشابهة. نتيجة لذلك كان مكان الكنيسة كخصم سياسي لعلمانية اليعاقبة الفرنسيين دائماً شاغراً في العلمانية الكمالية. وقد حاولت الكمالية سد هذه الثغرة، إذ غالباً ما كانت تختلق مفاهيم تجريبية جديدة أو تصعّد ضد مجموعات صغيرة معزولة أو تناصبها العداء.
إضافة إلى ذلك، كان النسيج الديني للإمبراطورية العثمانية غنياً. إذ كان هناك العديد من الجماعات الدينية المتنوعة التي تعيش على الأراضي العثمانية دون أي نزاع خطر. بهذا المعنى فإن الإمبراطورية العثمانية كانت قد بلغت بالفعل بنية علمانية قوية في منطقتها.
واجهت المبادئ والتغييرات الكمالية معارضة محلية متعبة في السنوات الأولى من عمر الجمهورية (وبخاصة مبدأي العلمانية والقومية) وأصبحت حامية لذاتها: “بينما راعت تركيا الغرب واعتبرته نموذجاً، ومنذ قلد مفهوم أتاتورك للتحديث أوروبا، فإن أنقرة تحولت بعيداً عن الديمقراطية واعتمدت خطاً سلطوياً” (جاغابتاي 156). “بعد هذا التحول، أصبحت الكمالية بشكل عام مثل غيرها من الإيديولوجيات وسيلة لاكتساب وصيانة قوتها الخاصة” (فيروز 46).

3-نموذج التحديثات

أخذت الإيديولوجيا الكمالية على عاتقها إعادة تشكيل الجمهورية التركية وإعادة تعريف الهويات داخلها آخذة بعين الاعتبار النموذج الغربي. إذ اضطرت نخبة الجمهورية إلى حل جميع الروابط التقليدية بين الجمهورية الجديدة وماضيها العثماني قبل صياغة ارتباط بين الهويات الجديدة والإصلاحات.
يحدد الأب الفكري للجمهورية ضياء غوك ألب النموذج الوحيد الذي ينبغي على الأتراك تبنيه: “هناك طريق وحيد لحل مشاكلنا، وهو محاكاة تقدم الأوروبيين في العلوم والصناعة والتنظيم العسكري والقانوني، وبتعبير آخر، مساواتهم في التحضر، والطريق الوحيد للقيام بذلك هو الالتحاق بالحضارة الأوروبية بشكل تام”. (غوك ألب 45)
بينما أصرت النخبة الكمالية بشدة على أهمية التغريب في تركيا الحديثة، فإنها من جهة أخرى اقتنعت ضمناً أن الأتراك كانوا مختلفين عن الحضارة الغربية.
وفقاً للنخب الكمالية، لم يكن الأتراك مطلقاً جزءاً من حضارة الأوروبيين والحضارة الغربية، كما أن الحضارات الغربية لم تكن أبداً حليفة الأتراك. يمكن للمرء ملاحظة هذا الموقف الكمالي المتناقض في انطباعه عن معاهدة سيفر. إذ أن الكمالية ورغم إلغاء معاهدة سيفر بالكامل واستبدالها بمعاهدة لوزان 1923، اعتمدتْ معاهدة سيفر الملغاة أداةً قوية من أجل تفسير وإدانة الحضارة الغربية. إذ استخدمت معاهدة سيفر على نحو ثابت من قبل الكمالية كدليل على الغرض الحقيقي للسياسات الأوروبية تجاه المجتمع التركي. بهذا المعنى، فإن الغرب كان العدو الخفي للأتراك الذي يهدف إلى تقسيم وإضعاف، بل وحتى محو الجمهورية التركية.
إضافة إلى ذلك، كان النموذج الاقتصادي والسياسي للتحديث في نمطه الأوروبي لا يزال يواجه معضلة أخرى.
لن تجد النبرة العقائدية الكمالية الدعم الكافي في المجتمع المديني ذلك لأن “الجماعات المثيرة للجدل تتجه إلى القيم التقليدية والإسلامية بدلاً من التوجه إلى الهيمنة السلطوية للدولة ونخبتها الإدارية”. (ياووز 9)
مما لا شك فيه أن الكمالية قد اتخذت بعض الإجراءات الجذرية المعادية للتقاليد “وخاصة الإصلاح اللغوي الذي يقطع الأجيال التركية في المستقبل عن التراث الثقافي العثماني المدون” والذي من شأنه إحداث ردة فعل عنيفة ومشاكل محتملة في الهوية لاحقاً. (بيكولي 61)
تُظهرُ عملية التحديث المبكر في تركيا تشابهاً مع المسار الياباني في التحديث “اللحاق بالغرب”. كان الاختلاف الرئيسي مع المسار الياباني هو أنه لم يكن لدى الكمالية مسار واضح للتحديث. إذ أن معظم التعريفات الكمالية للتحديث كانت منحرفة ومتناقضة ومقتصرة على فئة معينة.
إضافة إلى ذلك، فإن الكمالية كانت على الدوام إما تتخلى عن بعض تعريفاتها أو تستبدلها بأخرى جديدة، وكان من شأن صراعات التعريف هذه لاحقاً أنها فتحت فجوة بين النخب القنوعة والمجتمع التركي.

4-تحديد الأتراك والآخرين

عندما قررت نخب الدولة الكمالية خلق هوية جديدة للجمهورية التركية ومواطنيها، كانت نقطة البداية هي مفهوم أن “الهوية التركية تنأى بنفسها عن الممارسة والتقليد الإسلاميين وتنحو باتجاه الغرب”. (برنارد 54)
أفرطت الكمالية في النزعتين القومية والعلمانية، فتحولت هوية الدولة من هوية شعبية إسلامية تقليدية إلى هوية دولة قومية جديدة متغربنة. وقد استخدمت النخب الكمالية “الجهاز اللغوي” لتحديد الروابط بين الهوية الفردية وهوية الدولة.
“حالما تم التخلي عن الماضي العثماني والإسلامي حظيت النخبة الجمهورية بفرصة ملء الثغرة الناشئة عن ذلك عبر اختلاق تاريخ جديد ولغة جديدة مفصلة لتناسب رؤيتها للتركي الجديد، وقد شجع أتاتورك نفسه المؤرخين على خلق نظريات تاريخية مزيفة كـ “نظرية التاريخ التركي” و “نظرية لغة الشمس” في ثلاثينيات القرن العشرين” (ياووز 50)

كلا نظريتي الكمالية في اللغة والتاريخ حملتا الرسالة نفسها: “الأتراك كانوا أوروبيين حقيقيين”.
في ضوء النظريات الجديدة، بدأت النخب الكمالية بإعادة صياغة مفاهيم وأفكار المجتمع التركي القديم الممتدة إلى قرون.
حاولت الكمالية تعيين هوية جديدة ومشتركة قائمة على النزعة القومية التركية، وذلك من خلال التأكيد على أن “كل الحضارات منحدرة من الأتراك (نظرية التاريخ التركي)، وأن اللغة التركية هي جزء من عائلة اللغات الهندو-أوروبية (نظرية لغة الشمس). وقد خلفت هذه الأفكار شكاً كبيراً ونزاعاً في المجتمع التركي. وإنه لمن المفارقة، أن الأطروحات الكمالية الدوغمائية كانت متناقضة أساساً مع الأسس الغربية للتفكير النقدي والمنطق العلمي.
في الواقع، كانت الكمالية قد ابتعدت عن الحداثة الغربية بينما كانت تحاول اللحاق بالغرب.
سرعان ما ستواجه جهود النخب الكمالية في إعادة التعريف وإعادة البناء انتقادات حادة حتى من المنتمين إليها. وقد نددت خالدة أديب بالكفاح الكمالي من أجل الهوية الجديدة: “تم كسر استمرارية الثقافة التركية بشكل مفاجئ. الجيل الشاب سوف يقرأ ويكتب، ولكنهم لن يشعروا بالألفة مع ثقافة عمرها نصف قرن. بدون ماضٍ، بدون ذاكرة جماعية للجمال المتراكم في الوعي القومي سوف يكون هناك فظاظة من نوع ما وانخفاض في المعايير الجمالية”. (أديفار 235)
وبهذه الطريقة لم يتمكن التفسير الكمالي للقومية والعلمانية من تأسيس هوية تركية مشتركة ومقبولة عموماً. مستندين إلى المبادئ الكمالية مع هوية تركية مهلهلة لم تكن نخب الدولة قادرة على إنشاء مؤسسات قوية في الجمهورية الجديدة لتعزيز الديمقراطية.
وكان هذا التطور السياسي المصاب بعمى الألوان هو مصير الحكومة التركية، في حين أن المجتمع التركي كان متعدد الأعراق والثقافات كما كان الحال في الإمبراطورية العثمانية. كما أن انعدام سيادة قانون ليبرالي وتجانس بديل في الجمهورية الجديدة حال دون ازدهار ديمقراطية كاملة.  ورغم أن النخب الكمالية قد أعلنت باستمرار أنها تمتلك ديمقراطية في تركيا الحديثة، لكنها في الواقع كانت ديمقراطية ضعيفة وتحوز اعترافاً هشاً، ومن هنا فإن نوعية هذه الديمقراطية لم تصل أبداً إلى السوية نفسها لأي ديمقراطية أخرى في المجتمعات الديمقراطية.
خلال ثمانين عاماً من عمر تركيا الحديثة فسرت النخب الكمالية والجيش التركي أي كفاح من أجل الديمقراطية الليبرالية على أنه نزوع انفصالي، خيانة، وعدو مميت للأتراك والجمهورية.
علاوة على ذلك، فإن الهيمنة الاستبدادية للدولة اضطهدت بثبات هذه الحركات مستخدمة القوة العسكرية والقضائية المفرطة بإسم وحدة البلاد والجمهورية.

5-الفشل والتحرك بعيداً

أي شخص يقرأ التاريخ السياسي المتأخر للجمهورية التركية سوف يفاجئ بالدور المعقد الذي يلعبه الجيش التركي. إنه لمن سخرية القدر أن حركة الإصلاح ضد الإنكشارية (الجيش) والعلماء المسلمين (النخب) كانت تخلق نمطاً جديداً من الإنكشارية والعلماء. “كانت الانقلابات الثلاثة في 1960، 1971، و1980 نقاطاً مركزية لتفحص عودة الإنكشاريين الجدد وترسيخ دورهم السياسي المستقل”. (بيكولي 86)
واجهت تركيا انقلابها العسكري الأول الصعب في 27 مايو 1960. حظر الانقلابُ الحزب الديمقراطي وأودع قادة الحزب السجن بدعوى انتهاكهم المبادئ الكمالية والدستور. وقد أرسل أعضاء الحكومة المنتخبة وأعضاء الحزب الديمقراطي إلى السجن، وتم إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس ووزيريه للمالية والخارجية حسن بولاتكان وفطين رشدي زورلو في سبتمبر 1961.
في 12 مارس 1971 أرسل ضباط القيادة العليا للجيش التركي تحذيراً لإجبار حكومة سليمان ديميريل على التنحي.
جرى الانقلاب العسكري الثالث في 11 سبتمبر 1980، وقد أُجبرتْ الحكومة المنتخبة في تركيا ورئيس الوزراء من حزب العدالة على المغادرة من خلال تحذير عسكري رسمي.
خلال جميع الانقلابات العسكرية الشاقة، أُجبرتْ الحكومات المنتخبة على مغادرة البرلمان، تم حل الأحزاب السياسية وحظرها،، تم الحكم على القادة السياسيين وسجنهم، تم منع جميع الأنشطة الديمقراطية وحظرها، وتم اعتقال جميع الشخصيات السياسية المدنية.
لم يكن الدور المكثف للجيش التركي مقتصراً على الانقلابات التدخلية الصارمة، بل كان لديه أيضاً طرق أخرى لإجراء تغييرات يراها ضرورية كمثل قيامه بانقلابات ناعمة. على سبيل المثال، وجه الجيش مرة تحذيراً عسكرياً علنياً للحكومة المنتخبة دون أي تدخل مادي وأصدر بياناً تحذيرياً صحفياً من صفحة هيئة الأركان العامة التركية على الانترنت.
بناءً على ذلك، تسببت تدخلات لا تحصى لقوى الجيش التركي في عدم استقرار سياسي مزمن في تركيا، وسوف يكون هذا التأثير طويل الأمد لعدم اليقين السياسي هو السبب الرئيس المعوق للتنمية الاقتصادية في تركيا. إذ لم تكن تركيا لا دولة جاذبة للاستثمار الأجنبي ولا سمحت بازدهار اقتصاد السوق داخل حدودها، وقد عزلت الجمهورية الجديدة نفسها عن التكامل الإقليمي والعالمي مع الحفاظ على اقتصاد دولة مركزي عاجز.
لاحقاً، سوف يؤدي الاقتصاد الهش في تركيا إلى المزيد من التغيرات السياسية التي اتضح أنها فخٌ للأتراك وحلقة مفرغة.
في 2008 شهد الأتراك نوعاً جديداً من الانقلابات. كان انقلاباً قضائياً قادته النخب الكمالية، إذ أعلنت المحكمة العليا التركية بعد فترة وجيزة من الانتخابات العامة لعام 2007 أنها قد تحظر حزبين سياسيين في تركيا هما حزب العدالة والتنمية الفائز في انتخابات 2007 وحزب المجتمع الديمقراطي الذي يمثل الكرد في تركيا.
من الواضح أنه لم يكن هناك أمام الأتراك طريق عقلاني لامتلاك تقدم ديمقراطي واقتصادي بنتيجة التدخلات العسكرية والقضائية.
الاستقلالية المطلقة للجيش التركي وفرت إمكانية كبيرة للنخب الراضية عن الوضع لجهة إمكانيتها العمل بشكل متواصل على البنية الجديدة لتركيا. من ناحية أخرى، دفعت الاستقلالية نفسها المعارضة خارج النظام السياسي في البلاد. أسفر ذلك لاحقاً عن تحرك نخب المجتمع المدني المضادة بعيداً عن الكمالية ساعية من أجل نظام جديد.

6-الأحداث الحالية

في 1996 وقع حادث سير غريب في بلدة سوسورلك. أثار ركاب السيارة والحمولةُ الفضيحةْ في صندوق السيارة أسئلة عالقة. أحد الركاب كان عبد الله جاتلي، أحد أكثر المطلوبين على قائمة الانتربول كشخص متورط في اعمال عنف. كان جاتلي الزعيم السابق لمنظمة يمينية إرهابية خلال سبعينيات القرن العشرين.
كان صندوق السيارة مليئاً بالمال والكوكائين والأسلحة الرشاشة وبطاقة هوية رسمية تعرف جاتلي كضابط شرطة في إستانبول.
لعبت حادثة سوسورلك دوراً أساسياً في إماطة اللثام عن الشؤون المعقدة لنخب الدولة والسلوك الهيكلي للجمهورية المعروفة كـ “دولة داخل دولة” أو “الدولة العميقة”.
“لم تكن سوسورلك أكثر من قمة جبل جليد، فالشبكة الإجرامية التي افتضح أمرها بما فيها مختلف السياسيين وعضو في قوى الأمن والبنوك والمؤسسات والمجموعات اليمينية الإرهابية ومهربو المخدرات والعاملين في جرائم غسيل الأموال تعكس الحالة الكارثية التي وصلت إليها المؤسسات السياسية التركية في منتصف تسعينيات القرن العشرين”. (بيكولي 112)
لفت حادث السير في سوسورلك الانتباه إلى الممارسات الفاسدة لنخبة الدولة وإلى أي مدى بإمكانهم أن يذهبوا في ممارساتهم. بعد الحادث تغير الرأي العام في تركيا بشكل كبير باتجاه التشكيك الجدي في نخب الدولة.
كانت سياسات وشؤون الدولة الرسمية في تركيا دائماً سلسلة مرعبة من الانقلابات العسكرية والاغتيالات وتدخلات بلا نهاية وعمليات الجيش والضغط الشديد من النخب الكمالية واليد الخفية للدولة العميقة.
كان على تركيا أن تواجه بعض المشاكل الخارجية مثل قبرص وقضية الأرمن والإقليم الكردي في شمال العراق والتفاوض على عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن ناحية أخرى، كان على تركيا أن تواجه بعض المشاكل الداخلية أكثر إلحاحاً في تركيا مثل الانفصالية الكردية (حزب العمال الكردستاني) والحقوق الفردية للكرد في تركيا وحظر ارتداء الحجاب في سلك التعليم ومؤسسات الدولة الرسمية ومستقبل الديمقراطية في تركيا وانعدام نمو اقتصادي مستقر.
إلى تاريخه، لم يكن لدى تركيا فرصة كبيرة من أجل تحديد حلولها المدنية لهذه المشاكل الداخلية والخارجية بسبب الهوية الضمنية الرسمية للدولة ولم تتمكن تركيا من خلق بنية دولة مدنية جديدة ولا مجتمع متحرر بالكامل من جميع أشكال الكمالية.
على نحو مفاجئ استمر تحرير النظام السياسي في تركيا منذ بداية عهد تورغوت أوزال (1980-1993) إلى حكومة رجب طيب أردوغان الحالية، و”العمل اليائس الجاري من قبل المؤسسة البيروقراطية العسكرية التابعة للدولة التركية للحفاظ على امتيازاتها السلطوية لن يلقى التأييد على المدى البعيد”. (ياووز 12)
كانت حركة التحديث الكمالية النموذج الوحيد للأتراك خلال عملية بناء الدولة القومية، وكان مفهوم التتريك هو الثيمة المركزية للإيديولوجيات الكمالية، لكن التعريف المفكك للتتريك والتفسيرات المبهمة للحركة الانقلابية الكمالية فشلت بشكل ذريع.
إن المجتمع التركي المقسم والمرتبك على نحو خطير اليوم هو نتاج لتلك الإخفاقات الكمالية. لم يكن الجذر الافتراضي لكلمة “التتريك” ليجلب أي ارتياح لمجتمع تركي مختلط عرقياً، وما كان ليسمح لأي فلسفة أخرى بمحاولة إحداث تغيير. كذلك فإن هوى الكمالية الشديد بالقومية والعلمنة خلق مشاكل عميقة. إذ لم تتمكن الكمالية من إدراك أهمية الماضي التقليدي والديني للأتراك. عوضاً عن ذلك سعت لجلب تعريفات مختلقة حديثاً موافقة لشروطها. لجأت الكمالية إلى الواقعية فقط خلال السنوات الأولى من ثورتها.
بالتأكيد، تأثرت الكمالية مثل غيرها من حركات التحديث التركية الأقدم بالفلسفة الوضعية الفرنسية وتبنت مبادئها (علمانية اليعاقبة مثلاً)، وعلى العكس من ذلك فشلت الكمالية ونماذج التحديث الأقدم في الاعتراف بالتنوع العرقي والديني في تركيا.
كان التعهد الأكبر للكمالية هو نقل التطورات السياسية والاقتصادية الغربية إلى تركيا، لكن زعامة مصطفى كمال خلال السنوات الأولى تحولت إلى زعامة مطلقة.
كانت زعامته استبدادية: “كان أتاتورك رجل الفعل السريع والحاسم. رجل القرار غير المتوقع وغالباً القرار العنفي. كان الجندي الصارم والمتألق. كان الشارب النهم ومعاشر البغايا، وكان رجلاً ذو إرادة هائلة ونشاط زاخر في كل شيء. كان يدعى الديكتاتور من قبل معاصريه وكان كذلك بكل تأكيد”. (برنارد 290)
المفارقة أن تركيا بدأت بالابتعاد عن النمط الغربي للتقدم السياسي والاقتصادي بدلاً من نقله إلى المجتمع التركي بسبب القمع الكمالي المزمن.

* سميح مِناريجي: باحث تركي وأستاذ علم الاقتصاد في كلية جنوب غرب تينيسي في ممفيس- ولاية تينيسي الأمريكية.
** العنوان الأصل للبحث:
Search For Identity: Turkey’s Identity Crisis
وقد صدرت في 30 أبريل 2008

المراجع:
-Adıvar, Halide Edip. Turkey Faces West: A Turkish View of Recent Changes and Their Origins.

New Haven: Yale University Press, 1930.

-Cagaptay, Soner. Islam, Secularism, and Nationalism in Modern Turkey: Who Is a Turk?

London, New York: Taylor & Francis Routledge, 2006.

-European Commission. Public Opinion. Eurobarometer 68. December 2007 < http://ec.europa.eu

/public opinion/archives/eb/eb68/eb68_tr_nat.pdf>.

-Feroz, Ahmad. Making of Modern Turkey. London, New York: Taylor & Francis Routledge,

-Gökalp, Ziya and Devereaux Robert. The principles of Turkism. Leiden: E.J. Brill, 1968

-Huntington, Samuel P. Huntington: Turkey won’t enter EU. Turkish Daily News, May 26, 2005.

<http://www.turkishdailynews.com.tr/article.php?enewsid=14176>.

-Lewis, Bernard. The Emergence of Modern Turkey. London: Oxford University Press, 1968.

-Piccoli, Wolfango and Jung Dietrich. Turkey at the Crossroads: Ottoman Legacies and a Greater

Middle East. London: Zed Books, 2001

-Toynbee, J. Arnold. Turkey. New York: Charles Scribner’s Sons, 1927

-Yavuz, M. Hakan. Islamic Political Identity in Turkey. New York: Oxford University Press

(US), 2003.

 

شارك هذا المقال: