مارتن فان برونسين :الانقسام والاختلاف بين الكرد

شارك هذا المقال:

مارتن فان برونسين :الانقسام والاختلاف بين الكرد

مارتن فان برونسين

الترجمة عن الإنكليزية: راج آل محمد

 

الوحدة الماثلة للعيان بين الكرد ضعيفة واهنة؛ وكون كردستان مقسّمة بين أربع دول-أو حتى أكثر، إذا ما أخذنا الجيوب الكردية في جمهوريات ما وراء القفقاس بعين الاعتبار- هو واحد فقط من بين الأسباب.  فالاختلافات في الدين واللغة والنواحي الثقافية الأخرى يعني أن المجتمع الكردي على درجة كبيرة من الاختلاف. لكن تأثيرات الانفصال السياسي التي فرضتها حدود الدولة وما يستتبع ذلك من تعليم رسمي وخدمة عسكرية وإذاعة وتلفزيون الحكومة ومشاركة في النظم السياسية المختلفة، جعلت الكرد في العراق وإيران وتركيا مختلفين عن بعضهم أكثر من ذي قبل.

أكراد لم يشملهم الإحصاء

بعض الأسئلة البسيطة حول الكرد أكثرها صعوبة في الإجابة كالسؤال عن عددهم على سبيل المثال. المصادر المختلفة تعطي تقديرات تتراوح ما بين أقل من 10 مليون إلى 40 مليون والتي، كما هو واضح، تعكس درجة التعاطف مع القضية القومية الكردية أكثر من شيء آخر. ليست هناك أرقاماً موثوقة بناء على الاحصائيات الفعلية.  فتركيا وإيران والعراق وسوريا فيها (حسب الترتيب)  أعداد كبيرة من المواطنين الكرد التي حاولت تلك الدول صهرهم، وإن لم يكن بنفس الدرجة من القهر،  وامتنعت عن شملهم في الإحصاء.

تركيا هي أكثر تلك الدول ثباتا على مبدئها وأكثرها نجاحاً في قمع الهوية الكردية. حتى وقت قريب كان يتم رسميا إنكار مجرد وجود الكرد كجماعة متميزة  واعتبار أن اللغة الكردية هي مجرد لهجة محرّفة عن التركية ومع ذلك كانت محظورة باعتبارها خطراً على الوحدة التركية.

في الثمانينات بات ممكناً الحديث عن الكرد في العلن وفي عام  1991 رفعت الحكومة الحظر عن المنشورات باللغة الكردية. رئيس وزراء تركيا ( ورئيسها فيما بعد من 1989 ولغاية وفاته في 1993) تورغوت أوزال الذي يُنسب إليه عموماً هذه الليبرالية، كان أول شخصية عامة يتحدث عن الأهمية السكانية للكرد.  تقديراته بأن عدد الكرد يبلغ 12 مليوناً (أي خمس إجمالي السكان) قد يبدو في الواقع قليلة ولكن ربما أراد أن يُقنع أبناء بلده بخطورة المشكلة الكردية. ولكن منذ أن اعترفت تركيا بأن هناك أعداد كبيرة من الكرد، ثمة جهود للتأكيد على وتعزيز الانقسام بينهم. فقد بدأ بعض أفراد الأقلية العلوية بالإضافة إلى الناطقين بالزازية، وهي لهجة قريبة جداً  من الكردية، بتنظيم أنفسهم بشكل منفصل ومعارضة الأغلبية الكردية.

يتراوح عددالكرد في إيران بين  5 و 6 ملايين على الأقل. اللغة الكردية قريبة من الفارسية وقد اندمج الكرد في غالب الأحيان بالحياة السياسية والثقافية في إيران أكثر من كرد العراق وتركيا. معظم الكرد في إيران، كما في أماكن أخرى، هم من السنة وهو ما يميّزهم ببساطة عن الأغلبية الشيعية في إيران. هناك أيضاً أكراد شيعة ولكن في الأجزاء الجنوبية من كردستان.

لقد تلقت الحركة الكردية في إيران دعماً كبيراً من الأكراد السنة فقط. إذ يبدو أن الأكراد الشيعة يشعرون بالتعاطف مع إيران أكثر من تعاطفهم مع فكرة الأمة الكردية، حيث وجدت الحكومة الإسلامية سهولة في تحشيدهم ضد القوميين الكرد. خلافاً لجيرانها امتنعت الحكومة الإيرانية في معظم الأحيان عن اللجوء إلى إجراءات قمعية منظمة ضد السكان الكرد ككل. وقد أفسحت مجالاً محدوداً للتعبير  الثقافي الكردي ولكنها تتصرف بحزم كلما كان يتم التفوه بمطالب الحكم الذاتي. وقد نجحت في تهميش الحركة الكردية من خلال الاغتيال المنظم لقادتها الفعّالين على أراض أجنبية في معظم الأحيان.

العراق هي الدولة الوحيدة من بين تلك الدول التي اعترفت على الدوام بوجود الكرد كمكوّن متميز من سكان العراق، كما إن دستورها يأتي على ذكرهم باعتبارهم أحد الشعبين الرئيسيين للعراق ( رغم أنه في فقرة لاحقة يؤكد أن العراق في الوقت ذاته جزء لا يتجزأ من الأمة العربية الكبرى). معظم أكراد العراق يعيشون في ولاية الموصل العثماني السابق الذي بقي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى موضع خلاف. حيث طالب بها كل من تركيا والعراق كما إن بعض المسؤولين البريطانيين تلاعبوا لوقت قصير بفكرة إنشاء دولة كردية شبه مستقلة فاصلة ما  بين العراق وتركيا.

فقط في عام 1926 أصبح ولاية الموصل بشكل نهائي جزءاً من مملكة العراق. في ذلك الوقت كان الكرد يشكلّون حوالي الربع فقط من إجمالي السكان. بالرغم من التاريخ المضطرب في الطرد والاقصاء (اليهود والكرد والعرب الشيعة ذوي الأصول الإيرانية كما يُزعم) بالإضافة إلى الإبادة الجماعية التي لحقت بالكثير من الجماعات الأخرى بالإضافة إلى الكرد، فإنهم لا يزالون يشكّلون نسبة مشابهة من السكان أو حوالي 4 مليون نسمة وفق أعلى التقديرات.

إن غياب بيانات الإحصاء ليس هو السبب الوحيد في هذه التقديرات المتباينة بشدة عن عدد الكرد.إذ ثمة سبب آخر هو أنه ليس ممكناً دوماً أن تقرر بشكل لا لبس فيه من هو الكردي ومن ليس كردياً. المسلمون السنة الذين تُعد الكردية لغتهم الأولى مثال صريح ولكن نتيجة الصهر والتزاوج مع المجموعات الإثنية الأخرى فإنه هناك مجموعة من الناس، ولا سيما في تركيا، الذين ينحدرون من أصول كردية ولكن التركية (أو الفارسية أو العربية في الدول الأخرى) هي لغتهم الأولى. إن الكثير من الشباب الذين اعتبروا أنفسهم أتراكاً في الستينات [من القرن الماضي] “أعادوا اكتشاف ” جذورهم الكردية ويعتبرون أنفسهم أكراداً في المقام الأول.

من ناحية أخرى هناك أكراد، ممن هاجروا إلى دول أخرى، يبذلون جهوداً في إخفاء أصولهم الكردية لكي يتم قبولهم بسهولة. وأخيراً هناك أقليات لغوية ودينية في كردستان التي تعتبر نفسها كردية في مواقف معينة وغير كردية في مواقف أخرى كما في حالة الناطقين بالزازية والعلويين في تركيا والأقلية الكاكائية والإيزيدية في العراق. تفضل تركيا وجهة النظر التي تقول أن متكلمي الزازية ليسوا أكراداً ( الكرد والزازائيون كانوا يعتبرون جماعات متميزة ثانوية من القومية التركية). وتعتبر الحكومة العراقية الكاكائيين واليزيديين، مثل كافة الأقليات الدينية الأخرى في البلد، عرباً وربما رفض اليزيديين لذلك هو أحد الأسباب الرئيسية لجمعهم وإعدامهم في 1988 في أعقاب حملة الإبادة الجماعية المسماة أنفال.

الشتات

الأغلبية الساحقة من الكرد يعيشو ن في المنطقة التي يُطلق عليها تقليدياً اسم كردستان والتي تتألف بشكل رئيسي من الجبال والهضاب التي تفصل آسيا الوسطى وبلاد الرافدين عن الهضبة الإيرانية وتشمل أيضاً الأطراف الشمالية لسهول بلاد الرافدين. تشمل تلك المنطقة معظم شرقي وجنوب شرقي تركيا وأجزاءً من شمال-غرب وشمال-شرق سوريا وشمالي العراق والأجزاء المجاورة لغربي إيران. وتتضمن مدناً رئيسية مثل ديار بكر ووان (في تركيا) ودهوك وأربيل وكركوك والسليمانية (في العراق) ومهاباد وسنندج وكرمنشاه (في إيران) ولكن اقتصادها يعتمد بشكل رئيسي على الزراعة وتربية الحيوان حيث اعتاد معظم الكرد العيش في القرى. ولكن منذ 1970 فإن أعداداً كبيرة من الكرد هاجروا من تلك المنطقة طوعاً أو كرها. فقد تسببت فورة النفط وزيادة فرص العمل في المدن خارج المنطقة من جهة ومكننة الزراعة من جهة أخرى في هجرة جماعية من القرى. فأدى ذلك إلى زيادة الجاليات الكردية في طهران وبغداد واستانبول وأزمير وأضنة، كما ظهرت أولى الجاليات الكردية في أوربا الغربية.

هجرّت الحكومة العراقية الكرد من المناطق الغنية بالنفط في خانقين وكركوك واستبدلتهم بفلاحين عرب. وفي مرحلة لاحقة تم إخلاء وتدمير كافة القرى في “المنطقة المحرّمة” الشاسعة على طول الحدود الإيرانية –وهو إجراء هدفه منع المقاتلين الكرد من العبور من وإلى إيران ولكنه أخفق في تحقيق الهدف المقصود.  في الثمانينات تم توسيع “المنطقة المحرّمة” أكثر  بحيث دُمِرت 4000 قرية من أصل 5000. بعض الذين تم إجلاءهم رُحّلوا إلى جنوب البلاد ولكن انتهى الأمر بمعظمهم في مخيمات إعادة التوطين الشديدة الحراسة في مناطقهم. وصلت سياسة التدمير أوجها في عمليات الأنفال في 1988 باستخدام الأسلحة الكيميائية والتي تم بموجبها تسوية كافة المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون الكرد بالأرض وسوق سكانها إلى نقاط تجمع حيث أُرسِل نحو 100.000 إلى فرق الموت والمقابر الجماعية.

في تركيا بدأت عمليات التدمير والإخلاء المنظمة في عام 1991 بهدف واضح هو عزل مقاتلي حزب العمال الكردستاني PKK عن القرويين ومنع مقاتليه من الطعام ووسائل الدعم اللوجستية الأخرى. بدءاً بالمناطق القريبة من الحدود العراقية ،حيث بالكاد بقيت أية قرى باستثناء تلك التابعة للميليشيات الموالية للدولة (حراس القرى)، كانت هناك موجات ناجحة من إخلاء المزيد من القرى في الداخل. لقد تم تهجير عشرات الآلاف من العائلات على الأقل بالقوة وأضعاف أضعاف ذلك الرقم هربوا من المنطقة بسبب ظروف الحرب التي جعلت الحياة العادية عملياً مستحيلة. لقد تضاعف سكان بعض شرقي تركيا ثلاثة أو أربعة أضعاف خلال بضع سنوات، فقد هاجر نحو مليون أو مليونين تركوا المنطقة متجهين صوب جنوب وغربي تركيا حيث انتهى المطاف بمعظمهم في الأحياء الفقيرة الشاسعة المحيطة بالمدن الكبيرة.

عقائد وألسنة مختلفة

الاختلافات اللغوية والدينية لعبت أدواراً حاسمة. ففي العراق التي يسيطر عليها عرب سنة، عمد الكرد الشيعة إلى تعريف أنفسهم باعتبارهم أكراداً أولاً ولعبوا دوراً في الحركة الكردية دون أن تُزعج تلك الحركة التي يسيطر عليها الكرد السنة. ولكن في حالة إيران الشيعية فإن الكرد يميلون إلى تعريف أنفسهم باعتبارهم شيعة بالدرجة الأولى، وكما لُوحظ فإن الحكومة الإسلامية تستطيع تجنيد الكثير من الكرد الشيعة لمحاربة الحركة القومية [الكردية].

في تركيا، الفرق بين المسلمين السنة والعلويين المهرطقين (يوجد منهم أكراد وأتراك وبعض الجماعات اللغوية الثانوية) أكثر حدة بين الكرد والترك. للعلويين الكرد، الذين يتكلم الكثير منهم بالزازية،المختلفة كلياً عن الكردية العادية،مواقف متباينة تجاه الحركة القومية الكردية حيث يلعب البعض منهم أدواراً قيادية بينما يفضّل آخرون أن ينأوا بأنفسهم عنها معتبرينها تهديداً لهويتهم المتمايزة.

رحّبت النخبة العلمانية التركية خلال العقد الماضي ببروز وعي علوي قوي باعتبارهم حليفاً محتملاً ضد الأصولية الإسلامية والقومية الكردية. وليس مستغربا، ربما، أن تكون أشرس المعارك بين الجيش التركي وحزب PKK الكردي هي التي وقعت في المنطقة التي يقطنها أكراد علويون، وفي وحوالي إقليم تونجلي [ديرسم]، حيث كان الطرفان يقاتلان من أجل الحصول على ولاءات الناس هناك.

وحتى بين الكرد الأصليين فإن الفروقات بين اللهجتين الشمالية (الكرمانجية)  والجنوبية (الصورانية) خطيرة، حيث أن كلتا اللهجتين غير مفهومتين بشكل متبادل. وداخل كل لهجة أيضاً هناك تنوعا ملحوظاً، والمحاولات الرامية إلى تطوير لغة فصحى مشتركة لم تحظ إلا بنجاح محدود. في العراق هناك شكلاً مقبولاً من السورانية الفصحى المفهومة بشكل عام ولكن قمع اللغة الكردية في تركيا حال دون بروز لغة كرمانجية فصحى مقبولة على نطاق واسع. الإذاعة والتلفزيون الحكوميان في كل من العراق وإيران تبثان برامج بلهجات كردية مختلفة وهو فيما يبدو محاولة متعمدة لمنع بروز  لغة فصحى مشتركة بين الكرد.

لقد لوحظ أن الحزبين الكرديين العراقيين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني اللذين هما على حالة من الخلاف في السنوات الأخيرة، يتلقيان دعمهما من المنطقة الشمالية التي تتكلم الكرمانجية  والمنطقة الجنوبية التي تتكلم الصورانية على التوالي. ولكن من الخطأ أن نحصر أسباب الصراع بالخلاف المناطقي-اللغوي لأنه في السابق حاز الحزبان على الدعم والتأييد من المنطقة الأخرى. ربما من الأصح أن نقول أن الخلاف السياسي له تأثير في فتح فجوة بين المناطق التي تتكلم الكرمانجية والمناطق التي تتكلم بالصورانية رغم أن خطوط المعركة لم تتوافق بشكل دقيق أبداً مع الحد اللغوي.

ولاءات مختلفة

إن العامل الحقيقي المسبب للشقاق في المجتمع الكردي لا يعود إلى اللاتجانس اللغوي والثقافي ولكن إلى الأهمية المتزايدة للبنى القبلية. إن القبائل الكردية التي قد تتألف من آلاف إلى عشرات الآلاف من العوائل تعتمد على (اعتقاد) بوجود سلالة مشتركة وبالولاء لزعيم قبلي تقليدي.  ترتبط كل قبيلة بمنطقة متميزة تتشكل من عدة قرى أو وديان بأكملها ويتعزز ارتباطها الداخلي بالمنافسة والصراعات مع القبائل المجاورة. ولكن ليس كل الكرد قبليين وقد خففت الهجرة إلى المدن من الولاءات القبلية.  لطالما اعتبر القوميون المدنيون تفكيك الروابط القبلية شرطاً ضرورياً من أجل نشوء ولاءات قومية حقيقية.

ولكن في أوقات الصراع المسلح بين الحكومة المركزية والحركة الكردية برزت القبائل مراراً وتكراراً كقوات حاسمة. كانت هناك صراعات طويلة بين عائلة البرزاني، التي ينتمي إليها قائد الحركة الكردية ذو الشخصية الكاريزمية [مصطفى البرزاني]، وبين بعض القبائل المجاورة. خلال الستينات قامت الحكومة العراقية بتزويد تلك القبائل بالمال والسلاح مع بعض الميليشيات التابعة للحكومة (أطلق عليهم القوميون لقب جحش). بدورها باتت الحركة نفسها معتمدة على الدعم القبلي ولا سيما في الجزء الشمالي.   

مع اتساع دائرة الصراع، ازداد عدد القبائل المجنّدة من قبل هذا الطرف أو ذاك. وقد عزّزت المبالغ المالية والأسلحة التي تدخل في المجتمع من مكانة الزعماء القبليين (الذين كانوا يتلقونها ويستطيعون إعادة توزيعها حسب رغبتهم) وعززّت بالتالي التماسك القبلي ونفخت على نار النزاعات بين القبائل المجاورة. كانت تحالفات القبائل مع الحكومة أو مع الحركة الكردية نفعية ومؤقتة دائماً.

بحلول أواخر الثمانينات، أصبحت غالبية القبائل من الجحش. في 1991 وفي أعقاب هزيمة العراق في الكويت، كان هؤلاء الجحوش تحديداً هم من بدأوا بالانتفاضة ضد الحكومة المركزية وفيما بعد اصطفوا مع أحد الأحزاب الكردية دون أن يقطعوا صلاتهم مع بغداد. لقد أصبح العديد من زعماء القبائل أمراء حرب محليين وتابعين اسمياً فقط لأحد الأحزاب. لم تتمكن تلك الأحزاب، التي لم ترغب في التبرأ من هؤلاء الحلفاء الأقوياء، من فرض الانضباط عليهم. السلب والنهب الذي قام به أمراء الحرب هؤلاء أطلقت العنان لجولات جديدة ومتكررة من القتال بين بيشمركة (أوك) و(حدك).

في تركيا أيضاً حازت القبائل على أهمية متجددة نظراً لتدخل الدولة. بدءأ من 1985 قامت الحكومة بتجنيد المزيد من رجال القبائل كـ”حراس قرى” لمحاربة PKK طواعية من جهة بعضهم والبعض الآخر تحت التهديد بتفريغ قراهم. العدد الإجمالي لحراس القرى يتجاوز الآن، على ما يبدو، الستين ألفاً. وكما في العراق فإن تلك الميليشيات ظلت تحت إمرة زعمائها القبليين الذين يأخذون منهم رواتبهم وأسلحتهم ومن الواضح أن ذلك زاد بشكل كبير من قوة هؤلاء الزعماء القبليين.   كجزء من حملتهم ضد قوات الغريلا، بات حراس القرى قادرين على القتل والسرقة دون أية مسؤولية وهو ما زاد من الصراع القبلي حدةً وأحيا التضامن القبلي بالترافق مع تدهور في الأمن. من الجدير بالملاحظة أن PKK لم يعتمد على مليشيات قبلية خاصة به مثلما ما فعلت إلى حد ما الأحزاب العراقية. إن معظم، إن لم يكن كل مقاتلي الغريلا، من أصول قبلية ولكنهم يعملون تحت إمرة الحزب الصارمة.

المنافسة فيما بين الدول   

لإيران والعراق وتركيا وإلى حد ما سوريا مشاكل متشابهة مع أكرادها ولذلك، يعتقد المرء، ثمة منفعة مشتركة في القضاء على الميول الانفصالية للكرد وآمالهم في الاستقلال. في بعض الحالات تعاونت تلك الدول لمواجهة تهديد القومية الكردية في الأحلاف الدفاعية التابعة للغرب مثل ميثاق سعدآباد (1937) وحلف بغداد (1955) التي شارك فيها الدول الثلاث الأولى [إيران والعراق وتركيا] اللذين مكنتها من تبني سياسات مشتركة تجاه الكرد، كما شكّل الكرد الموضوع الرئيسي للإجتماعات الثلاثية الدورية بين تركيا وسوريا وإيران.

ولكن عندما يكون هناك تضارب في المصالح الرئيسية لتلك الدول المجاورة فإنها غالباً ما تدعم ثورات الكرد فيما بينها. لقد أدركت كافة الأحزاب الكردية، في وقت ما، الحاجة إلى دعم إحدى الدول المجاورة وقد أصبحت تعتمد عليها بشكل كبير لدرجة أن القرارات السياسية الرئيسية كانت تتأثر (أو حتى تُتخذ) من قبل الدول الأجنبية الراعية لها. من 1963-1975 كانت إيران تمنح الحركة الكردية في العراق بقيادة الملا مصطفى البرزاني دعما مالياً وعسكرياً. بعد ذلك قدّم النظام العراقي تنازلات هامة في نزاع حدودي طويل الأمد مما أجبر البرزاني على الاستسلام. في تلك الأثناء كان بعض قادة الكرد الإيرانيين يعيشون في المنفى في العراق في انتظار فرصتهم، وعندما عادوا أثناء الثورة الإيرانية قاموا بإعادة تنظيم صفوفهم.

أثناء الحرب العراقية-الإيرانية،قام العراق بدعم أحزاب كردية إيرانية مختلفة في حين تحالفت إيران مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة ابناء الملا مصطفى البرزاني وصلت إلى حد القيام بعمليات عسكرية مشتركة ضد العراق. تلك التحالفات أدت أيضاً إلى مواجهات مسلحة بين كرد العراق وكرد إيران وهكذا فإن بيشمركة البرزاني ساعدوا الحكومة الإيرانية في 1968 بقمع حركة راديكالية في إيران، وفي الثمانينات أيضاً قاتل الحزب الديمقراطي الكردستاني جنباً إلى جنب القوات الإيرانية ضد شقيقه الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني.

تعتمد كل من سوريا والعراق، إلى حد كبير، في مواردها المائية على نهري دجلة والفرات وتشعران بتهديد حقيقي من مشاريع تركيا الطموحة في جنوب-شرقي الأناضول والتي ستحوّل الكثير من مياه النهرين لأغراض الري. علاوة على ذلك فإن لسوريا نزاع مع تركيا على إقليم لواء اسكندرون الذي يضم جالية عربية كبيرة.

لممارسة الضغط على تركيا، قامت سوريا بدعم PKK بشكل علني تقريباً الذي أقام منذ الثمانينات منشآت تدريبية في جنوب لبنان الذي تسيطر عليه سوريا ويتمتع بحرية الحركة في الشمال السوري. (بدورها تقوم تركيا بدعم حركة المعارضة السورية الرئيسية  متمثلة بحركة الإخوان المسلمين). من الواضح أن PKK يتمتع بإذن تلقي الدعم من أكراد سوريا ولكنه متهم أيضاً بأنه امتداد للحكومة السورية في قمع الأحزاب الكردية الأخرى في سوريا والعراق.

منذ 1991 وقسم كبير من كردستان العراق تشكّل فعلياً شبه دولة مستقلة تحت الحماية الدولية. بالإضافة إلى الأحزاب الكردية العراقية المختلفة ، فإن للحزب الديمقراطي الكردستاني-إيران وPKK قواعد هناك أيضاً. تشعر الدول الأربعة بالقلق إزاء تأثيرات شبه الاستقلال هذا على الأجزاء الأخرى من كردستان وقد حاولت جميعها مد أذرعها هناك.

لقد غزت القوات المسلحة التركية شمالي العراق بشكل متكرر وتحتفظ بوجود سري هناك ظاهرياً من أجل القضاء على قواعد PKK هناك، ولكن ربما [السبب الحقيقي لتواجدها هناك ]هو لفرض إرادتها على الأحزاب الكردية العراقية ولمنع تمدد النفوذ الإيراني والسوري هناك.  تدعم إيران المعارضة الشيعية العراقية والمعارضة الإسلامية لأسباب أيديولوجية وقامت ببناء تحالفات استراتيجية مختلفة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني أولاً ومن ثم مع PKK. وقامت في الصيف الماضي بغارة في عمق الإقليم في محاولة فاشلة للقبض على زعماء المعارضة الكردية الذين يعيشون هناك. وتقوم سوريا بممارسة نفوذها من خلال PKK ورعاية متوازنة للأحزاب العراقية. إن أحد أهم أسباب استمرار القتال بين الأحزاب الكردية العراقية هو أن تلك الدول المجاورة (إضافة إلى النظام العراقي) تحاول من خلال ذلك تغيير ميزان القوى لمصلحتها وتُفسد مفاوضات السلام التي سيكون له تأثير هام في حال تحقيقه.

شارك هذا المقال: