أبعاد الشخصية الصلاحية

شارك هذا المقال:

صلاح الدين لقبه و اسمه يوسف بن أيوب بن شادي ، كنيته أبو المظفر ، لقبه السلطاني : الملك الناصر أصله من قرية دوين ( بضم الدال ) ( 1 ) ، كان مولده في ” شهور سنة اثنين و ثلاثين و خمسمائة و ذلك بقلعة تكريت ” ” و توفي سنة تسع و ثمانين و خمسمائة هجرية ( 2 ) ،  أما دخول العائلة إلى المشهد التاريخي فيبدأ من تكريت  ثم انتقال نجم الدين أيوب و شيركو منها إلى الموصل اضطراراً بعد تفاقم الأوضاع سوءاً بينهم و بهروز قائد شرطة بغداد و السلطان مسعود السلجوقي  من جهة أخرى و يرجع السبب إلى قتل شيركو أحد أقرباء بهروز بسبب من اعتدائه على شرف امرأة في سوق المدينة و لتقديم نجم الدين و أخيه الدعم لعماد الدين الزنكي حين انكسر الأخير أمام جيوش خليفة بغداد و التجأ إلى تكريت ، فساعدوه و نقلوا جنوده بالقوراب إلى الضفة الأخرى للنهر و يذكر أن مولد صلاح الدين كان في ليلة نزوحهم عن تكريت فاجتازت العائلة النهر ليلاً و استقبل عماد الدين العائلة فأكرم وفادتهم و سارع إلى تعيين نجم الدين أيوب حاكماً على مدينة بعلبك و عيَن شيركو قائداً من قواد جيشه وازدادوا مكانة و حظوة فجعل عماد الدين من بلدة ” الرها ” وقفاً لطعام و كسوة شيركو و أهله و قد تولى ” يوسف صلاح الدين بعض المهام العسكرية في حياة والده و كشف عن مواهبه كقائد عسكري في وقت مبكر حيث بعث نور الدين عمه شيركو إلى مصر فانضم إليه و كان في السابعة و العشرين ” ( 3 ) أو السادسة والعشرين حسب ما تشير إليه بعض المصادر

الصعود السياسي لصلاح الدين :

عندما توفي شيركو حدث نزاع بين قواده و كلُّ يريد أن يحل مكانه و كان أكبرهم عين الدولة الياروقي التركماني لكن العاضد أسند الوزارة إلى صلاح الدين الأيوبي و ألبسه حلّة الوزارة و على الرغم من ذلك لم يأبه أحد لصلاح الدين لأنه كان أصغرهم سناً و لكنّ الفقيه عيسى الهكاري استطاع بحنكة سياسية و حكمة أن يفرق أهواء الطامعين بالرغائب و المكاسب فانحاز إلى صلاح الدين سيف الدين علي بن أحمد بن أبي الهيجاء الهكاري و شهاب الدين محمود خال صلاح الدين و قطب الدين خسرو بن طليحة الهذباني قائد أربيل ما جعل عين الدولة الياروقي يهرب من مصر غضباً و جعل نجم صلاح الدين في صعود ، ما سلف كان ضرورياً للدخول إلى فهم أبعاد الشخصية ففي تكوين الشخصية لا يمكن إغفال الظروف الموضوعية العامة

أبعاد الشخصية الصلاحية :

أبعاد التميز في الشخصية :

1 ــ عمق الاستراتيجية السياسية و العسكرية : يصعب التفريق بين مستويات الحنكة السياسية و العسكرية في شخصية مثل صلاح الدين حيث الأرضية العسكرية منذ مرحلة الشباب مضافاً إليها البعد السياسي حين استلم وزارة الخلافة الفاطمية في مقتبل شبابه هذه الخلافة باتساع رقعتها الجغرافية من ناحية و كم المؤامرات الهائل الذي يستهدف شخص الوزير الجديد الغريب عن جسم المجتمع حيث السودانيون كانوا يسيطرون على مفاصل الجيش ، من جهة أخرى كان الصليبيون على الحدود براً و بحراً يتحينون أية فرصة لتقويض أركان مصر و السيطرة عليها و لا ينبغي التغافل عن ازدواجية الانتماء بين كونه وزيراً للدولة الفاطمية و كونه قائداً من قواد نور الدين الزنكي الذي يتبع و إن اسمياً الخلافة في بغداد و نحن ندرك عمق الخصام الفكري و السياسي و العقائدي بين الخلافتين العباسية و الفاطمية حيث الامتداد التاريخي للاحتراب السني ـ الشيعي

و إذا نحن بدأنا من نقطة الشجاعة و هي ما احتفظ به المخيال الشعبي عن هذا البطل سنرى أن ظهور هذه الشخصية المتفردة كان حتمية تاريخية حيث الوعي الشعبي المحبط من التشرذم الإسلامي آنئذ و الانكسار الإسلامي العربي في وجه السيطرة والتمدد الصليبي و ضعف الخلافة العباسية إذ لا شيء لها سوى الاسم و عنصر الشرعية ، و توزع العالم الإسلامي على ثلاث خلافات ، في ظل هذه الظروف كان لا بد من ظهور صلاح الدين كشخصية عسكرية فذة حيث الشجاعة في عصر الضعف و الهمة في زمن التكاسل و التقاعس و يمكننا أن نرى الطور الأول في بروزه العسكري أنه جاء برعاية عمه أسد الدين شيركو الذي يترادف اسمه مع الشجاعة حيث شارك صلاح الدين عمه  حملته الأولى على مصر ثم حملته الثانية و التي تعرف بموقعة البابين و فيها تولى مقدمة الجيش أمام الفرنجة و أثبت بطولة و جَلَدَاً و بعد المعركة تم الاستيلاء على مدينة الاسكندرية و ترك شيركو صلاحَ الدين حاكماً عليها ثم كانت محاصرة الاسكندرية و خيانة شاور لشيركو فاضطروا للانسحاب ثم كان اصطحاب آخر له بعد استيلاء عموري ملك الفرنجة على بلبيس و إجبار المصريين على دفع الغرامة    و يمكننا اعتبار الحملات الثلاثة الاختبار العملي الأول لصلاح الدين ؛ من حرب إلى تعرض لمحاصرة شديدة و طويلة إلى فهم أبعاد اللعبة السياسية : خيانة شاور و التفاوض مع الفرنجة .

و يتضح امتزاج الجانب العسكري و السياسي في شخصيته أكثر في استطاعته بحزم القضاء على الوجود السوداني في قصر الخلافة الفاطمي و قتل مؤتمن الخلافة الذي كان يحاول التنسيق مع الفرنجة للانقلاب على الوجود الشامي و السيطرة على القصر مجدداً و هنا تكرست شخصيته كآمر و ناهٍ حيث لم يبق في مصر قوة تضاهي قوة وجوده

و من تتبع بعض معارك صلاح الدين الداخلية و الخارجية  نتوصل إلى حجم نشاطه العسكري و بعد نظرته السياسية

1 ــ   عام 568 هجرية توجه صلاح الدين إلى مدينتي الكرك و الشوبك و أعمل فيهما السلب و النهب و التدمير و في ذات العام جرت معركة النوبة و تم فيها القضاء على ما تبقى من مقاومة السودانيين و كانت الحملة بقيادة تورانشاه

2 ــ عام 569 هجرية تم الاستيلاء على اليمن بجيش من قيادة تورانشاه  فسيطر على جميع مدن اليمن بما في ذلك : الزبيدة ــ تعز ــ الجبل ، وعين عثمان السنجاري على مدينة عدن

ــ في هذا العام أيضاً تمكن صلاح الدين من إحباط محاولة إعادة الخلافة الفاطمية من قبل الموالين و المقربين من الفاطميين و كان منهم عمارة اليمني و عبد الصمد الكاتب و القاضي العويرس و ابن عبد القوى و أولاد شاور بالتنسيق مع الفرنجة

3 ــ 570 هجرية معركة الإسكندرية حيث التصدي للفرنجة الصقليين الذين جاؤوا بأسطول ضخم

ــ الاستيلاء على حمص و حماه

4 ـ 579 هجرية الاستيلاء على آمد و تل خالد و عينتاب

ـ الاستيلاء على مدينة حلب حيث بادل عماد الدين مدينة حلب بمدينة سنجار و فيها قال الشاعر القاضي محي الدين بن بركي الدين قصيدته في مدح السلطان صلاح الدين :

و فتحكم حلباً بالسيف في صفر                           مبشر بفتوح القدس في رجب

و قد تمت نبوءته

ــ الاستيلاء على مدينة حارم و تعيين إبراهيم بن شروة الهكاري حاكماً عليها

ــ محاصرة الموصل للمرة الثانية و العدول عنها بمعاهدة تضمن له الخطبة و السكة باسمه و المنطقة الممتدة من شهرزور حتى الزاب في بهدينان .

ـ ما سبق كان ضرورياً لفهم استراتيجية صلاح الدين البعيدة النظر فلقد انطلق في مشروعه من تفكير منطقي واقعي عماده إدراك حالة التفرق الإسلامية و انقسام المنطقة الجغرافية في مصر و الشام و العراق وما يليها بين أمراء أقوياء يتقاسمون الأرض والمصالح ولا يتقاسمون الطموح في استرجاع بيت المقدس في ظل غياب سلطة مركزية قوية تضبط الأطرف وفق رؤية موحدة ، هذه الظروف الموضوعية و الجيوسياسية كانت واضحة الملامح في ذهن صلاح الدين فكيف كانت الاستراتيجية :

ــ الاستيلاء الفعلي على منطقة جغرافية تمتلك قوة بشرية و اقتصادية و تمت أولى الخطوات بتقلده الوزارة من العاضد الفاطمي ليكتسب بذلك شرعية لدى المصريين

ــ القضاء على كل منافس محتمل له للاستمرار بمشروعه فكانت وقعة السودان لأنهم ــ السودانيين ــ كانوا يمثلون القوة العسكرية المقربة من العاضد و ترجح بعض المصادر عددهم ب خمسين ألف و هو عدد يتجاوز حجم قوات صلاح الدين

ــ باعتبار أن القوة و الغنى والشرعية في منطقة معينة لا تتيح له اكتساب شرعية متجاوزة للحدود فقد أمر قبل وفاة العاضد بالدعاء للخليفة العباسي على المنابر بأمر من نور الدين الزنكي فاستطاع بذلك إرضاء خليفة بغداد و نور الدين لشرعنة وجوده و استمالة الرأي العام الشعبي الذي حصل عليه نوعاً ما في مصر أثناء معاركه مع الفرنجة قبل توزيره و بعده و لنا أن ندرك المعنى العميق لذلك إذا وعينا مدى سيطرة فكرة الصراع الديني على المخيال الشعبي حيث الصراع ضد الصليبية واجب مقدس و إرضاء لله و رسوله و نحن ندرك ذلك من حجم القصائد التي نظمت مدحاً في صلاح الدين و بطولته فضلاً أن إطاحته بالخلافة الفاطمية الشيعية العقيدة زاد في ثقل صلاح الدين و أسطرته لدى الأغلبية السنية .

ــ بتوجهه نحو الشام و استقراره في دمشق ثم الاستيلاء على حمص و حماه و آمد و تل خالد و عنتاب و حلب و أجزاء كبيرة من الموصل تم عملياً وصل مصر بالشام و العراق و كردستان و هي الجبهة الأساسية التي تمتلك خزاناً بشرياً و مادياً وبعداً جيوسياسياً في معادلة الصراع مع الصليبيين دون أن نغفل دور اليمن كرافد مادي و هو ما عجز عنه كل القادة الذين توالوا تاريخياً بعد صلاح الدين إلى يومنا هذا .

كان دأب صلاح الدين في ما سلف سياسة الترغيب و الترهيب و الاستمالة و التطميع و عقد أحلاف أو تفاهمات معينة تبعاً للظروف كاتفاقه مع عماد الدين و مبادلته حلب بمدينة سنجار و الآن ماذا بقي بعد هذه الجبهة القوية ؟ صارت الأوضاع مثالية لاستفزاز الصليبيين و محاصرة قلاعهم كما في حصن الكرك و طرابلس و الغارات المفاجئة للخيالة لكسر حاجز الانهزام في نفوس المقاتلين حيث يمثل الصليبيون قوة جبارة عدداً و عتاداً و للتمهيد بانتصارات صغيرة نوعاً ما لانتصار أكبر كما في حطين 1187 م

من جانب آخر كان صلاح الدين يعمد لتضبيب الرؤية السياسية لميزان القوة في منظار الرأي العام الإسلامي صوناً لهالة الجبروت المكتنفة لجيشه و تحركاته ففي حصاره للموصل و حين ” علم أنه بلد عظيم لا يتحصل منه شيء بالمحاصرة على هذا الوجه و رأى أن طريق أخذِهِ أخذُ قلاعه و ما حولها من البلاد و إضعاف بطول الزمان فرحل عنها و نزل على سنجار في سادس عشر شعبان و أقام يحاصرها و كان منها شرف الدين بن قطب الدين و جماعة و اشتد عليه الأمر حتى كان ثاني شهر رمضان فأخذها عنوة ” ( 4 ) و يتكرر موقف شبيه في عودته أخرى إلى الموصل و اصطدامه بمقاومة قوية و قد تراجع عنها فأرسل إلى عماد الدين زنكي حاكم سنجار طالباً منه السعي بينه و بين حاكم الموصل حتى يحافظ على هيبة السلطنة فأرسل عماد الدين وزيره شمس الدين عبد الكافي مع رسول صلاح الدين شمس الدين بن الفراشي قاضي العسكر فتمكنوا من إبرام معاهدة بين صلاح الدين و حاكم الموصل عز الدين استحصل منها صلاح الدين ما يلي :

ـ” المنطقة الواقعة بين شهرزور و حتى الزاب في بهدينان و أن تكون الخطبة و السكة باسم صلاح الدين إضافة لتعهد الحكام بنجدة صلاح الدين  إن هو طلب ذلك  ” ( 5 ) مما سلف يتجلى لنا امتزاج السياسي بالعسكري فما يُعجَزُ عنه عسكرياً يُؤخَذُ سياسياً و المتتبع لسيرة هذا السلطان يدرك حتى ممارسته السياسة ببعدها البراغماتي فقد عمد إلى الإبقاء على العدو لتوطيد سلطته السياسية يذكر ابن شداد في حوادث سنة سبع و ستين و خمسمائة ” في هذه السنة جرى بين نور الدين و صلاح الدين الوحشة في الباطن و كان صلاح الدين سار و نزل الشوبك و هي بلاد الإفرنج ثم رحل عنها خوفاً أن يأخذها فلا يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر فنزله ولم يفتحه لذلك و بلغ ذلك نور الدين فكتمه و توحش باطنه لصلاح الدين ” ( 6 ) على أن الإعداد لمعركة حطين يُستدَلُّ به على العقل العسكري الفذ من استغلاله العوامل الجغرافية الطبوغرافية في تحديد أرض المعركة و الإستفادة من الظروف الجوية و اتجاه الشمس و تواجد الماء ففي أوائل سنة 583 هجرية تحرك من الشام و عسكر بقواته في بصرى منتظراً عودة الحجاج لحمايتهم من تعديات الفرنجة في الكرك ثم خرج من بصرى فنزل في الكرك فلم يحاصرها و اكتفى بقطع الأشجار المحيطة و إرسال جيشه للرعي و جني الثمار لغرض استعراض القوة و قد خلف ولده الأفضل في موقع رأس الماء على طريق دمشق / بصرى فتوافدت عليه عساكر مصر و أطراف الشام فبعث سرية أغارت على مواقع الإفرنج ثم  عاد على طريق رأس الماء و توجه بجيشه إلى الساحل و كانت الخطوة الأولى الاستيلاء على بحيرة طبرية لقطع المورد المائي عن العدو ثم تقدم إلى قرية حطين بين طبرية و عكا حيث زحفت جيوش الأوربيين الموحدة من الكرك و عكا و الناصرة و صور و طرابلس و قلاع الساحل و تمركز  في جبهة مواجهة للغرب لتكون الشمس من وراء ظهور مقاتليه و كانت مواقع الأوربيين في مواجهة الشمس و كان الفصل صيفاً فاشتد الحر عليهم مع العطش لشحة المياه كما أدى انقطاع مياه البحيرة إلى تيبس أعشاب الموقع الذي تمركزوا فيه فأمر فرقة النفاطين فرموها بالنفط فاشتعلت النيران تحت سنابك خيولهم ثم أمر الرماة بالنبال فأمطروهم ثم أصدر الأمر بالهجوم بعد إنهاكهم فلم يصمدوا طويلاً قتمزقت صفوفهم و و كان في الأسر جميع حكام المدن المحتلة من بلاد الشام ما عدا طرابلس ثم عامل صلاح الدين الأسرى حسب خطرهم فقتل فرسان الداوية و الاسبتارية و هم نخبة فرسان الأوربيين و أعدم حاكم الكرك و كان مجموع ما استرده في هذه المعركة خمسين مدينة و موقع .

البعد العلمي في شخصية صلاح الدين :

كان صلاح الدين مهتماً بالعلم و العلماء يقربهم ويرعاهم ، حافظاً للقرآن ، يسمع الحديث و يخبره و يذكر العماد الأصفهاني عنه أنه ” كان يؤثر سماع الأحاديث بالأسانيد و تكلمِ العلماء عنده في العلم الشرعي المفيد و كان لمداومة الكلام مع الفقهاء و مشاركة القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية والأسباب المرضية و الأدلة المرعية و كان من جالسه لا يعلم أنه جليس السلطان بل يعتقد أنه جليس أخ من الإخوان ” ( 7 )

إذا صلاح الدين لم يكن قائداً عسكريا و مجاهداً بالمفهوم الديني فحسب بل ويعتبر حاكما مستنيراً و عالماً و هذا ما يظهر في وصف الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله له ” العالم العادل المجاهد المرابط ” ( 8 ) و مدح القاضي الفاضل له ” الحمد لله الذي جعله ذا يومين يوم يسفك فيه دم المحابر تحت قلمه و يوم يسفك دم الكافر تحت عَلَمه ” ( 9 ) و نشرصلاح الدين العلوم الدينية و الدنيوية و أصبحت القاهرة في فترة تواجده فيها منارة معرفية إلى جانب بغداد ــ استمر هذا الاهتمام حتى خلفائه ــ يدفعه إلى ذلك حاجة ضمنية إلى ثورة فكرية أو تغيير فكري للقضاء على مخلفات الدولة الفاطمية لتعزيز مشروعه الوحدوي و حشد المسلمين حوله ، عموماً لم تكن مهمته صعبة نظراً لأن أغلبية المجتمع المصري كانت سنية المذهب على عكس القوة المسيطرة قبل ذلك الدولة الفاطمية الشيعية المذهب و و بلغ اهتمامه بالعلم ” اغتنامه فرصة تواجده في الاسكندرية سنة 572 هجرية فتوجه للسماع على المحدث الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي بصحبة ولديه الأفضل علي و العزيز عثمان ” ( 10 ) و كان ” يحرض على الحديث حتى في ساحات القتال ” ( 11 )  و كان ” فقيها عالماً مدلياً بآرائه التي تدل على سعة علمه جمع له الفقيه أبو المعالي مسعود بن محمد النيسابوري ما يحتاج إليه في الفقه كتاباً و كان من شدة إعجابه و حرصه عليه يعلم أبناءه الصغار منه ” ( 12 ) و يروى مدى ولع صلاح الدين بالكتب فكان يجازي عليها بعد التمعن فيها و توسم نفعها فقد ألف له شيت بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن الحاج القناوي كتاب : تهذيب الواعي في إصلاح الرعية و الراعي ( 13 ) و محمد بن أبي الفرج الأصفهاني المعروف بالعماد الكاتب كتاب ” الفتح القسي في الفتح القدسي ” متناولاً فيه الأحداث التاريخية و إجراءات صلاح الدين في معاركه الجهادية و ألف له قاضي بيت المقدس و قاضي العسكر ابن شداد كتاب ” النوادر السلطانية و المحاسن اليوسفية ” و هو كتب يتناول سيرة صلاح الدين  في  سنوات مرافقته له  و صنف له تاج الدين محمد بن هبة الله الحموي المصري أرجوزة سماها : ” حدائق الفصول و جواهر الأصول ” و التي تسمى أيضاً بالعقيدة الصلاحية و غيره الكثير من التصانيف ، يضاف إلى ذلك مجالسه  و التي كانت تعقد في يومي الاثنين و الخميس و يحضرها العلماء و الفقهاء و المتصوفة كما يعود له الفضل في فتح الكثير من المدارس و البيمارستانات و لا يزال بعضها إلى اليوم ماثلاً في الشام و مصر و إن كان ذلك في مصر خصوصاً من وجهة نظرنا خطوة بهدفين : إشباع الدافع العلمي لديه و شل الفكر الشيعي في مصر الذي ازدهر إبان الخلافة الفاطمية فصلاح الدين كان سنياً أشعرياً على المذهب الشافعي كما أغلب عشائر الأكراد و يذكر ابن شداد أنه ـ أي صلاح الدين ـ ” قد أخذ عقيدته بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم و أكابر الفقهاء و  فهم من ذلك ما يحتاج إلى فهمه بحيث إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً و إن لم يكن بعبارة الفقهاء ” ( 14 ) ما يعنينا هنا من هذا الاقتباس عبارتان : و فهم من ذلك ما يحتاج إلى فهمه ــ يقول فيه قولاً حسناً و إن لم يكن بعبارة الفقهاء ” الأمر الذي يدفعنا إلى التخفيف من مبالغة بعض معاصريه حين اعتبروه عالماً فقيهاً و نحن نرى أن صلاح الدين كان متبحراً في العلم و ذا رأي و نظرة دون إطلاق صفة العالم خاصة أن ابن شداد كان مرافقاً و صديقاً له و نحن ندرك مدى إعجابه بصلاح الدين من قراءة كتابه النوادر السلطانية و المحاسن اليوسفية

بقي لنا أن نذكر أن صلاح الدين تلقى علومه و معارفه على يد جماعة من علماء و شيوخ عصره مثل الإمام أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم الأنصاري و العلامة النحوي أبي محمد عبد الله بن بري ت 582 هجرية و المحدث الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصفهاني ت 576 هجرية و الشيخ أبي الفتوح محمود بن أحمد بن علي المعروف بابن الصابوني ت 581 هجرية و الشيخ أبي المعالي مسعود بن محمد النيسابوري ت 578 هجرية و الفقيه المؤرخ بهاء الدين أبي المحاسن المعروف بابن شداد .

أبعاد التفرد في الشخصية الصلاحية :

يذكر المفكر هادي العلوي في هذا السياق في حديثه عن السلطان صلاح الدين الأيوبي : ”  إذا تجاوزنا حكم الراشدين بلقاحيته المعمدة بمبادئ حركة تاريخية صاعدة يبدو صلاح الدين من الحكام القلائل الذين تمتعوا بالشعبية و أحبهم الناس الذين تعودوا على مقت الحكام و تمني زوالهم و لا يرجع ذلك إلى مجرد بطولته في مقاومة الاحتلال الأوربي فقد تصدى لنفس المهمة حكام سابقون ولاحقون لم تكن لهم ذات المكانة في قلوب الناس ” ( 15 )

لكن من أين جاءت هذه الخصوصية و هذا التفرد و الكاريزما الشخصية هنا يحلل هادي العلوي ظاهرة صلاح الدين قيقول إنه ” مثلَن في شخصيته السياسية والعسكرية خصوصيات المجتمع الكردي كما نعرف نحن ـ العراقيين ـ من وراء تماسنا اليومي مع هذا الشعب الجبلي و كان قريب العهد من منشئه الكردي فجده المباشر يحمل اسماً كردياً و كذلك عمه المسمى شيركو و لم يمر على انفصاله من بيئته الأصلية وقت يكفي لنسيان تكويناتها القيمية إلى حد الانتهاء إلى تصليب شخصية حضرية تذوب في أجواء المدن الكبرى ” ( 16 )

و يشير فيليب حتي إلى هذا التفرد بدوره ” ينبغي اعتبار صلاح الدين من جميع الوجوه أعظم الأبطال الذين حاربوا الصليبيين بمن فيهم الظاهر بيبرس أحد المماليك مع العلم أنه ظهر على المسرح في الطور الثالث من الحملات التي شنها المسلمون ‘ إن تفوقه و نبله كرجل و كبطل سواءً أكان ذلك في الحرب أم في السلم أمر يشهد له به الأعداء و الأصدقاء لقد عفّى النسيان ذكر عدد كبير من أبطال المسلمين و لوّث البحث التاريخي الهالة التي تجلل أبطالاً آخرين لكن الزمن و البحث العلمي التاريخي قد أضفى على ذكر صلاح الدين شرفاً على شرف و نبلاً على نبل ” ( 17 ) و في محاولة رد على سؤال محير و هو ” لماذا صلاح الدين ؟ لماذا اجتذب صلاح الدين و ليس القادة المسلمون الآخرون ممن قاتلوا الصليبيين لا سيما بيبرس و عماد الدين الزنكي و ابنه نور الدين مديح الأجيال ؟ ترد الكاتبة المستشرقة البريطانية كارول هيلينبراند :  ” من الواضح أن صلاح الدين كان يمتلك أصدقاء حميمين بين الفرسان الصليبيين مثل باليان ابلين و أنه حظي باحترام كبير من قبل ريتشارد قلب الأسد و ريموند صاحب طرابلس و إن الكرم الذي أظهره عقب الانتصار في حطين و من بعدها في القدس قد نال إعجاب المصادر المسيحية و عموماً إن هذه حقائق جلية تسربت إلى الصورة الأسطورية اللاحقة التي أظهرته رجلاً متحضراً شريفاً وعطوفاً و لكن هذا لا يفسر لماذا أصبح صلاح الدين أكثر المسلمين شهرة باستثناء النبي محمد نفسه و قد يكون ذلك لأن صلاح الدين هو من استولى على القدس ” ( 18 ) و تستطرد في دراستها ” و أياً كان السبب وراء شهرة صلاح الدين فمن الحق القول إنه لم يحدث أن تعلقت مخيلة الأوربيين بشخص مسلم قدر تعلقها بصلاح الدين إن تفوفه على معاصريه من مسلمين و نصارى أقرّ به أعداؤه الصليبيون إبان حياته و إنّ صورته حتى في ظل التعصب الأعمى للعصور الوسطى قد بقيت نقية لا بل أضفي عليها عناصر رومانسية في وقت كان موقف أوربا من الإسلام مزيجاً من الجهل و العداء ” على أن أول إشادة أوربية بصلاح الدين كان في فترة حياته من مؤرخ الحروب الصليبية  ( وليم الصوري ) صاحب الكتاب التاريخي المهم ” تاريخ الأعمال التي تمت ما وراء البحار ” و تكمن أهمية الشهادة في كونها صدرت من شخص فاعل في الحروب الصليبية فوليم الصوري كان رئيس الأساقفة و كان مستشاراً للمملكة اللاتينية في القدس : 1170 ــ 1184  يقول وليم الصوري في صلاح الدين بعد ارتقائه الوزارة في مصر  ” رجل حاد الذهن ، نشط في الحرب و سخي دونما حد ” ( 19 )، ” إنه من دواعي سرور جميع الحاضرين أننا ينبغي أن نبذل كل جهد لمقاومة هذا الرجل العظيم المندفع من انتصار إلى آخر إلى أعلى القمم ” ( 20 )  مما يثبت بالقرينة الدامغة أن صورة هذا السلطان اللانمطية قد استحوذت على الآخر العدو و الخصم

لكن ما الذي يجعل صلاح الدين متفرداً عن غيره من كبار الخلفاء و حتى الصحابة في التاريخ الإسلامي كعبد الملك بن مروان الذي كان فقيهاً فتحول إلى طاغية و قبله  معاوية و ابنه رغم أن صلاح الدين قد انغمس في تلك البيئة العربية و كان عالماً بالتاريخ الإسلامي و سقطات الخلفاء و جرائمهم و تطويعهم الأيديولوجيا لصالحهم ؟! يقدم العلوي تحليلاً اجتماعيا عقلانياً للظاهرة فيذكر أن صلاح الدين ” احتفظ وسط هذا كله بوجدان كردي كان له فعل ملموس في حياته العسكرية و السياسية و تتقوّم في هذه التجربة ظاهرة فريدة في المحيط الديني و السلطاني معاً ، إن المشترك بين المتدينين من الحكام هو قوة النزوع الدموي اللازمة عن عنف الأيديولوجيا حين يكون في السلطة مما يعزل التدين المسيس عن التدين الشعبي أعني تدين العوام الذين لا تحركهم مصالح سياسية أو اقتصادية و فعل التدين في السلطة معاكس لفعله في الناس العاديين لكن صلاح الدين كان في تدينه أقرب إلى رجل عادي منه إلى سلطان ” ( 21 ) و يظهر ذلك جلياً في سلوكه فلم يستبح المدن المسترجعة من الفرنجة و كان يلتزم بقوانين الحرب و أخلاقياتها و السلم و العهود التزاماً صارماً و هو ما كوّن له حتى في الآداب الأوربية صورة الفارس النبيل ، و لعل أخلاقه الشخصية تتجلى في صنيعه بكنوز الخليفة العاضد الفاطمي بعد وفاته هذا الكنز الذي ” من كثرته يخرج من الإحصاء و فيه الأعلاق النفيسة و الأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا من مثله ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم فمنه الجبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهماً أو سبعة عشر مثقالاً … .. ” ( 22 ) هذا الكنز وزعه صلاح الدين على قواده و أرسل إلى نور الدين نصيبه منه و لكنه لم يأخذ هو نفسه شيئاً و هو أمر نادر الوقوع و باع بعض الكنوز و أرسل ثمنها إلى بيت المال و وهب المكتبة التي تضم مائة و عشرين ألف كتاب القاضيَ الفاضل و احتفظ بقصر الوزير مكاناً لسكناه بمعنى أنه لم يسكن في قصر العاضد و يروى أنه حين كان على مشارف حلب مثلت أمامه أختٌ صغرى للملك الصالح فأكرمها و قربها إليه فطلبت منه أن يرد قلعة إعزار إليها فلم يردَّ طلبها و حملها هدايا و ردها إلى أهلها مكرمة و الأمر ذاته فعله بعد رجوعه عن حصار الموصل حين أرسل هدايا إلى ابنة نور الدين و نسائه إكراماً لذكرى نور الدين و تكفيراً عن ردِّه إياهنّ خائبات بعد توسطهن لديه قبل ذلك لفك الحصار عن الموصل

و يشبه هادي العلوي علاقة صلاح الدين مع الرعية بعلاقة عمر بن الخطاب ” مهيوب إنما غير مخيف ، هكذا كان في حياته الشخصية داخل القصر كما في طريقة تعامله مع الحاشية التي كانت آمنة من نزواته و هي حالة شاذة في سلوك الخلفاء و السلاطين منذ ابتداء الخلافة العباسية فلم يتعرض أحد من أعوانه أو وزرائه أو قواده لعقوبة اعتباطية تصدر عن جنوح استبدادي و أقصى عقوبة كانت العزل كما فعل مع وكيل الخزانة بسبب بناء القصر ” ( 23 ) و من القرائن العملية على اهتمامه بالقضاء و العدل أنه ” كان يجلس للعدل و القضاء في كل يوم اثنين و خميس في مجلس عام يحضره الفقهاء و القضاة والعلماء و لقد رأيته ( القول لابن شداد )” استغاث إليه إنسان من أهل دمشق يُقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم و كان تقي الدين من أعز الناس عليه و أعظمهم عنده و لكنه لم يحابه في الحق ” ( 24 )و لا نغفل هنا جانب المروءة و الإنسانية في التعامل و هو ما تجاوز بطون كتب التراث الإسلامي ليصل إلى الأدب الأوربي كتعامله مع المرأة الفرنجية التي سرق بعض اللصوص المسلمين ابنتها فأرسل إلى سوق العسكر ليسأل عنها فاشتراها و أرجعها إلى أمها و المروءة ذاتها تظهر بعد حطين حين دخل أرناط صاحب الكرك مع ملك الإفرنج ” فشكا الملك العطش فأحضر له قدحاً من الشراب فشرب منه ثم ناوله أرناط فقال السلطان للترجمان : قل للملك أنت الذي سقيته و أما أنا فما أسقيه من شرابي و لا أطعمه من طعامي فقصد ــ رحمه الله ــ أن من أكل من طعامي فالمروءة تقتضي أن لا أؤذيه ثم ضرب عنقه بيده ” ( 25 ) و كان ذلك وفاء لنذره بقتل أرناط حين وصله قول الأخير أثناء إغارته على قافلة من مصر و سؤال من في القافلة عن الهدنة فأجابهم : ” قولوا لمحمدكم يخلصكم ” أما الملك بعد أن ارتعب من قتل السلطان لأرناط طمأنه ” لا تخف ، الملك لا يقتل ملكاً ”

و لا يمكننا تناول جوانب شخصيته دون ذكر النزاهة و الأمانة و صفاء الذمة التي تجمع عليها المصادر التاريخية فلم يكن من الخلفاء و السلاطين الذين يكنزون الذهب و الفضة فقد كان مقتصداً لم يسرف في بناء القصور و كانت ملابسه من القطن و الكتان و الصوف العادي و لم يترك في خزانته سوى ” سبعة و أربعين درهماً ناصرية و جرماً واحداً ذهباً و لم يخلف ملكاً ولا عقاراً و لا بستاناً و لا قرية و لا مزرعة و لا شيئاً من أنواع الأملاك ” ( 26 )

ومن الإشارات إلى زهده و تفرغه للجهاد و لا مبالاته بعيش القصور ما جاء في المنشور الذي أصدره العاضد عندما ولاه الوزارة سنة 1169 ميلادية ” و الجهاد أنت رضيع درِّه و ناشئة حجره ، ظهور الخيل موطنك و ظلال الخيام مساكنك ” ( 27 )

على أننا ينبغي أن نأخذ بعين الفكر أن أياً من أبعاد شخصية صلاح الدين و صفاته كفيلة بأرشفة اسمه في ذاكرة التاريخ فبعض الخلفاء اشتهروا بصفة العدل أو الشجاعة أن الزهد والنزاهة أو التسامح أو الحنكة  السياسية أو الاهتمام بالعلم ولعل التفرد الأميز هو جمعه بين تلك الصفات التي قلّما ما احتوتها شخصية تاريخية في إهابها

اختراق الشخصية الصلاحية لحاجز الزمن :

لعله من مظاهر الفرادة في الشخصية الصلاحية التجدد في الزمن فإذا كانت بعض الشخصيات تكتنفها العظمة في مرحلة تاريخية معينة ثم يكون مصيرها النسيان أو خبوّ ضوئها في أحسن الأحوال من خلال فقدانها الهالة التاريخية فإننا نرى نقيض ذلك في شخصية صلاح الدين و هو ما أسلف ذكره في قول فيليب حتي و لعل مردّ ذلك إلى البعد الإنساني مضافاً إلى أبعاد شخصيته الأخرى و خير وسيلة لاستقراء سمة تجاوزه لعنصر الزمن و الخلود التاريخي هو الوقوف على رمزيتها في الأدب مكتفين بصورة السلطان في الأدبين العربي و الأوربي لسببين أولهما بريق هذه الشخصية في المخيال العربي و أخذها الحيز الأهم رغم اختلاف القومية فصلاح الدين كردي و الأدب العربي الحديث متأثر بصعود الأفكار القومية بعد الربع الأول من القرن العشرين ، ثانيهما كون الأدب الأوربي يمثل الآخر الخصم و تناوله لشخصية صلاح الدين بإيجابية يبرز استثنائية هذه الشخصية لتجاوزها منطق التاريخ السائد و هو تشويه صوره العدو الخصم

شخصية صلاح الدين في مرآة الأدب العربي   :

يمكن اعتبار الشعر وثيقة تاريخية تشرح الواقع الذي تضيئه سلباً أو إيجاباً مقيداً بشروط معينة لكن ما يعنينا هنا كيف تجلت صورة صلاح الدين في عدسة الشعراء و المتقري لتلكم القصائد التي كتبت عن السلطان يصل إلى رؤية واضحة و هي تمثيله للجلال و التعظيم و الإكبار فهو حامي الإسلام و مقدساته ومحررها  وسيف الدين و السوبرمان في الخيال الشعبي يقول أبو علي الجويني في فتح القدس ممجداً صلاح الدين :

جند الســـــماء لهذا الملك أعوان                                           من شكّ منهم فهذا الفتح برهــــان

تســـــعون عاماً بلاد الله تصرخ                                   و الإسلام نُصَّاره صُمٌ و عميان

فالآن لبّى صــــــلاح الدين دعوتهم                                   بأمر من هو للمِعوانِ عـــــــــــــــوّان

إذا طوى الله ديوان العتـــــــاد                                  فما يطوى لأجر صلاح الدين ديوان

و يقول عماد الدين الأصفهاني :

و قام صلاح الدين بالملك كاملاً                                      و كيف ترى شمس الضحى تخلف البدرا

و لمّا صبَتْ مصر إلى عصر يوسف                                             أعاد إليها يوسف و العصرا

فأجرى بها من راحتيه بجنوده بحاراً                                        بحاراً فسمّاها الورى أُنملاً عشرا

و غيرُ ما سلف من الشعراء : ابن أسعد الموصلي و البهاء البخاري و ابن سناء الملك و عمارة اليمني مثالاً لا حصرا ، يستشف من تلكم القصائد رغم المبالغات في الصور البيانية كناية و استعارات و تشابيه أن صورة صلاح الدين استحوذت على الخيال الشعبي من أكثر من باب : التعظيم و التقديس و الإجلال حيث يرفع إلى مقام الأنبياء كما في أبيات عماد الدين الأصفهاني فحين احتاجت مصر إلى عصر يوسف النبي أرجع إليها صلاح الدين يوسف و عصره ( يوسف اسم صلاح الدين ) .

و إن قفزنا إلى العصر الحديث سنرى شخصية صلاح الدين تزداد بريقاً و عظمة دون التأثر بغبار التاريخ فهو رمز الخندق المضاد للهزيمة و الانكسار و الضعف ، لقد أصبحت هذه الكاريزما المتجددة مدداً تناديه الشعراء في عصر الهزائم فذكر الواقع العربي المنهزم يستدعي مناداة صلاح الدين

نزار قباني :

زمانك بستان و عصرك أخضر                        و ذكراك عصفور في القلب ينقر

رفيق ـ صلاح الدين ـ هل لك عودة                                 فإن جيوش الروم تنهى و تأمر

تناديك من شوق مآذن مكة                                    و تبكيك بدر يا حبيبي و خيبر

تعال إلينا فالمروءات أطرقت                               و موطن آبائي زجاج مكسّر

و أصرخ يا أرض المروءات احبلي                               لعلّ صلاحاً ثانياً سوف يظهر

و يقول أمل دنقل في قصيدته : خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين :

يا قارب الفلين

للعرب الغرقى الذين شتتهم سفن القراصنة

و أدركتهم لعنة الفراعنة

و سنة بعد سنة صارت لهم حطين

تميمة الطفل و إكسير الغد العِنِّين

و يكاد لا يكون هنالك شاعرعربي من العمالقة  لم يتناول في قصائده صلاح الدين و أحمد شوقي و الجواهري و أحمد مطر و محمود درويش في أكثر من قصيدة مثال لا حصر على ذلك

و استمر تناول الشخصية في فني القصة و الرواية كما في روايتي جورج جرداق و جرجي زيدان و كلتاهما تحملان ذات الاسم ” صلاح الدين ”

إذاً صلاح الدين في الواقع العربي المعاصر هو المجد الذي صارت محاولة استرجاعه عقدة نفسية لدى العرب فهو الزمن الأخضر و الحاجة إليه جعلت الشعراء الكتاب تناديه و تستذكره بتوسل أكثر من كونه نداء  ، إنها محاولات بعث لصلاح الدين .

شخصية صلاح الدين في الأدب الأوربي :

لعل أسطورة صلاح الدين أعمق مدلولاً في الأدب الغربي منه في الأدب العربي لا من ناحية التناول و إنما من كونها كانت تمثل الآخر العدو و هو أمر فريد من نوعه أن تتصدر شخصية مسلمة وجهت الضربة الأقسى للوجود الصليبي مشهد النبل و الفروسية في أدب هذا العدو تقول المستشرقة البريطانية كارول هيلينبرايد : ” تعد أسطورة صلاح الدين في أوربا مثالاً نادراً و استثنائياً لتحول محارب مسلم من العصور الوسطى إلى بطل أوربي و هو المثال للانتقال الثقافي البالغ الأهمية طالما أن صلاح الدين الأيوبي كان الخصم الرئيس للغرب المسيحي في زمن الحروب الصليبية ” و كان دخول صلاح الدين للأدب الأوربي من باب الأسطورة و الأدبيات الرومانسية فيظهر في صورة الزعيم الشهم و النبيل و النموذج الذي تقتدي به الفروسية المسيحية و إذا نحن تجاوزنا المرحلة الأولى في تناول الشخصية في القرن الثالث عشر نظراً لشح المصادر بين أيدينا نرى أن واحداً من أعظم كتاب عصر النهضة الأوربية و هو دانتي أليجري تناول في كتابه الشهير ” الكوميديا الإلهية ” شخصية صلاح الدين و إن كانت المفارقة أنه وضعه في الجحيم لكن في الحلقة الأولى بين فضلاء الوثنية و أبطالها و رغم أن صلاح الدين وُضِع وحده لكنه كان قريباً من رموز مثل سقراط و أفلاطون و اقليدس وبالقرب من ابن سينا و ابن رشد و لعل المفارقة تخف إذا علمنا أن دانتي وضع رسول الإسلام محمد في أعماق الجحيم و رغم ذلك يصف دانتي حضورهم ” أرواح عظيمة امتلأت أوداجي بالفخر لمجرد رؤيتهم ” و تناول بوكاشيو ( ت 1375 ) شخصية صلاح الدين في قصصه ” ديكاميرون”  أما ليسنغ ( ت 1781 ) فقد اختار صلاح الدين ممثلاً للإسلام في مسرحيته ” ناثان الحكيم ” و يصفه فيها بالمتسرع و المستبد و الوحشي يحكم بالنزوة و العنف و هو ما يجافي النظرة العامة لشخصية هذا السلطان و نحن نرى أن رؤية ليسنغ نابعة من جهله و عدم إطلاعه على المصادر الإسلامية و تأثره بالنظرة الاستشراقية ، كما تناول والتر سكوت ( 1832 ) شخصيتي صلاح الدين و ريكاردوس أو ريتشارد قلب الأسد في روايته ” الطلسم ” أو التعويذة ” و منها أخذ جورج سجعان جرداق ( 1933 ـ 2014 ) الشاعر و الروائي اللبناني فكرة روايته ” صلاح الدين ”

ما حاولنا إضاءته في هذه الدراسة بعضٌ من أبعاد هذه الشخصية التي تحولت إلى أسطورة متجددة على سبيل الإشارة لا الإيفاء  و كان ــ رحمه الله ــ هادي العلوي يأخذ عليه خطيئتين قتله للشاعر عمارة اليمني و أمره بإعدام الفيلسوف شهاب الدين السهروردي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر و المراجع :

1 ــ ثمة جدل حول تحديد موقع ( دُوين ) ففي حين تعتبرها بعض المصادر من أعمال أذربيجان صدر كتاب للمؤرخ العراقي عبد الخالق سرسام بعنوان ” صلاح الدين الأيوبي من جديد ” يحدد موقعها ب 10 كم شمال اربيل و الجدل انتقل إلى تحديد عشيرة صلاح الدين تلقائياً

2  ــ أبو المحاسن بهاء الدين بن شداد ، النوادر السلطانية و المحاسن اليوسفية ، مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة ، ص 9

3 ــ   هادي العلوي ، شخصيات غير قلقة في الإسلام ، دار الكنوز الأدبية ، ط2 ، ص 226

4 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 40

5 ــ ابن شداد المصدر السابق ، ص 55 ـ 56

6 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 198

7 ــ عماد الدين الكاتب الأصبهاني ، الفتح القسي في الفتح القدسي ، ص 344

8 ـ أحمد بن إبراهيم الحنبلي ،شفاء القلوب في مناقب بني أيوب ، تحقيق ناظم رشيد ، بغداد 1978 ، ص 188

9 ــ أبو شامة ، عيون الروضتين في أخبار الدولتين ، 2/ 90

10 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 9 ـ 10 / المقريزي ، السلوك لمعرفة الملوك ، 1 / 173

11 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 21

12 ــ ابن شداد ، النوادر السلطانية ، ص 7

13 ــ السيوطي ، بغية الوعاة في أخبار اللغويين و النحاة ، بيروت د ـ ت ، ص 367

14 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 9 ـ 10

15 ـ هادي العلوي ، المصدر السابق ، ص 239

16 ـ هادي العلوي ، المصدر السابق ، ص 240

17 ــ فيليب حتي ، صانعو التاريخ العربي ، ترجمة : أنيس فريحة ، دار الثقافة ، ط1 1969 ، ص 163

18 ــ كارول هيلينبراند ، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب ( بحث ) ، موقع مجلة الحوار

19 ــ كارول هيلينبرايد ، البحث السابق

20 ـ كارول هيلينبرايد ، البحث السابق

21 ــ هادي العلوي ، المصدر السابق ، ص 240

22 ــ ابن الأثير ، الكامل ، طبعة طورنبرغ ، مجلد 11 ، ص 242

23 ــ هادي العوي ، المصدر السابق ، ص 240 ـ 241

24 ــ ابن شداد ، النوادر السلطانية ، ص 14

25 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 24 ـ 25

26 ــ ابن شداد ، المصدر السابق ، ص 10

27 ــ أبو شامة ، عيون الروضتين في أخبار الدولتين ، المجلد الأول ، القاهرة ، ص 409

شارك هذا المقال: