الحوار العربي الكردي التركماني

شارك هذا المقال:

الحوار العربي الكردي التركماني

د. مازن هاشم

ألا إنها لمن مفارقات الدهر أن يُدعى المرء إلى حوار أخيه.  فلقد أظلّتنا نحن جميعاً ثقافةُ حضارةٍ عظيمةٍ نظرتْ إلى الناس نظرة سواسيةٍ بالجذر الإنساني ونبذت التعالي والفخر، وجعلت العمل الصالح المصلِح أساس التفاضل… إلى أن ابتعدنا عن بوصلتنا التاريخية وتسرّبت إلى مياهنا إديولوجيات فاسدة، فنضبَ الضرع وعطِشَ الزرع ونبتت الشجيرات الخبيثة تفرّق بين أطياف المجتمع وتوغر الصدور وتنفخ في كِبْر النفوس وتدعو إلى جاهلياتِ التعصّب.

لم أختر لنفسي في أي بقعة من بقاع الأرض أُولد، ولكني أحب ما ولِدّت فيه، وهل من الأدب ألا أُجلّ ما اختاره خالقي لي!  وإنّ من طبائع النفوس أن يحبّ المرء الجوّ الذي ترعرع فيه وأن يجدَ فيه دفأً وسكينة.  وكما أنّ الأسرة هي المحضن الأول للأفراد، فإنّ العشير الذي ينتمي إليه المرء هو المحضن الواسع الذي يلمّ جمع الأسر.  والأسرة تزرع في أفرادها الخلق الرفيع وترعى حاجاتهم الأساسية، أطفالاً أكانوا أم شيوخاً ضعافاً بعد كهولةٍ وقوةِ شبابٍ.  وفي كنَف الحيّ والقرية والبلدة تتخاطب الأسر وجموع الأفراد وتتفاعل وتتلوّن أنشطتها لينشأ مجتمعٌ كبيرٌ له قيمُه وثقافته وعاداته ولغته.

وهكذا يتشكّل التنوّع البشريّ مجذّراً في بعدين اثنين.  البُعد الأول هو التأقلم مع البيئة المادية (الصلبة) للحياة التي تفتّقت فيها التجربةُ المخصوصة للقوم على نحو مهارات عيشٍ وتفاعلٍ مع الموارد المتوافرة الضرورية لقيام الحياة والتي تعِد بالرغد والأمان.  والبُعد الثاني هو الثقافة التي تمثّل المفاتيح الرمزية (الشيفرة) التي تنظّم حياة هؤلاء القوم.  فالتقاليد الشعبية والعادات والأعراف كلها وسائل (ناعمة) هي ضرورية أيضاً في حياة البشر، حيث تعمل على إفصاح القيم العليا للمجتمع وعلى وضع ضوابط تحمي هذه القيم وتشجّع على تمثّلها والتزام مقتضياتها.  ويتوّج هذا كلّه لغةٌ هي مفتاح سرّ الثقافة ومخزن تحصيلها والسجلّ المعنويّ لتاريخ الأمة.

وكما أن للأسرة ذكرياتٌ يتناقلها الأولاد عن فضل الأجداد والجدّات، وعن جهادهم وما لقوه في هذه الدنيا من عنتٍ وما قاموا به من كدحٍ وما أصابهم من رغدٍ وما ضمهم من فرحٍ وسرور… كما أنّ هذا طبيعيٌ بحقّ أصغر وحدةٍ في المجتمع، هو أيضاً صحيحٌ في الجماعة الكبيرة قبيلةً أو شعباً.

أقف بين يديكم لألقي كلمة عربي وأنا أتخاطب مع نفسي في محاولة تشخيص معنى انتماءي هذا… معنى عربيّتي.  وابتداءاً أعترف بأنه انتماء غير اختياري لم يكن لي في تحصيله كسب، ولذا ليس لي حقٌ في التباهي به، إذ كيف يتباهى المرء فيما لم يكدَّ به ويتعب.

ولكني أحبّ اللغة العربية، وأشعر نفسي عربياً بهذا المعنى… وإني لأطرب للشعر العربي، كما تكتحل عيناي بقراءة المنثور الرصين الذي تفنّن فيه كاتبه في تطويع الرمز للمعنى وفي إغناء المعنى بمتناثر الحروف.

وزادني شعوراً بهويتي انتشار شائعاتٍ عن ثقافتي التي وقعتُ في حبّها.  فزاد تعلّقي بسُمرتها، وطفقت أهيم في جبالها وأوديتها، وأجوب صحاريها وبحارها، فوجدت ساكني هذه البقاع من ألوانٍ مختلفة ومللٍ متنوعة وعاداتٍ متفاوتة، جمعتهم لغةٌ وحضارةٌ، وتاريخٌ ومعاناة.

 

ولقد سافرتُ وارتحلتُ وتعلّمتُ لغة قومٍ آخرين، لا يجمعهم مع منبتي القومي شيءٌ غير الأخوّة في الإنسانية.  وكان تذوّقي للغة غيري مفتاحاً لفهم ثقافتهم وفضاء مخيالهم، فخفّف ذلك غربتي وأضاف بعد طول مكثٍ طبقةً جديدة في تكويني.  ثم أدركت وشعرت أنّ الهويات هي طبقات موجٍ متداخلة، لا تنفي واحدةٌ الأخرى.

أعود لأقول، إنه لمن الغريب أن يُدعى الأشقاء إلى التعارف.  غير أنّ سياساتٍ ظالمةٍ وإديولوجيات قوميةٍ فاسدةٍ ملأت العقول وأوغرت الصدور وقدحت الشكوك وأدخلتنا حجراً مظلمة.  وها نحن نوقد مصباحاً صغيراً فنرى وجوهاً قد افتقدناه طويلاً، وما أن نُبسَت أولى الكلمات حتى أدركنا من منطق اللسان وملامح الوجه أنه هو الأخ والأخت الذي حالت بيننا وبين التواصل معهما الظروف… فإذا بهذا اللقاء المفاجئ يدفعنا بقوة إلى مراجعة ذكرياتنا في جوٍ من الثقة والتفاؤل، فتلاقحت الأفكار وتعانقت المشاعر وتوجهت الأبصار نحو مستقبلنا المشترك، سقفاً نبنيه معاً.

أبارك لنفسي المشاركة في هذا اللقاء الكريم… وأقف هنا مسروراً بمأدبةٍ ثقافيةٍ مليئةٍ باللطائف.  إنّ الثقافات مُلكٌ للبشرية، ليس لأي إنسان حقٌ في هدمها أو تهميشها.  وإنّ من أكبر الطغيان أن يُعتدى على هوية الإنسان وثقافته التي يستنشق هواءها.  وإذا كان الاعتداء على مال المرء وملكه يحيله فقيراً، فإنّ الاعتداء الثقافي يحيل بيئة الناس إلى قفرٍ لا ينبت فيه زرع.

وإنه لا معنى للحرية إذا كان المرء لا يستطيع أن يتكلمَ لغته ويحتفلَ بثقافته.  وإذا كانت الحدود القانونية توضع لتحميَ الحقوق، فإنها لن تنفع ما لم يقترنْ معها، بل يسبقْها، تفاهمٌ ثقافي وعزمٌ على احترام الآخر وتصميمٌ على مؤاخاته.  وإذا كان الكردي والتركماني في مدينتي التي نشأت فيها هو صديقي الذي جمعني معه ماءٌ وإدامٌ، فلِمَ لا يكون هذا بيني وبين أخي في الشمال أيضاً؟

وإنّ على السلك السياسي أن يخدم النسق المعيشي للشعوب، لا أن تعتديَ بيروقراطيات الحداثة ودهاليز مكاتبها على الثقافة والدّين والهوية. وإنه لا بدّ للنظام الإداري أن يكون مرآةً للتنوع الثقافي، يزيده تألقاً ولا يحشره في زوايا ضيقة.

تمرّ بلدنا التي ترعرعنا فيها، سورية، في محنة تاريخية قلّ أن تشابهها محنة في تاريخ الشعوب.  وإنّ مسيرة المستقبل ليست سهلةً وتتطلب نضوجاً غير اعتيادي.  وليس عندنا وقت للهو أو للحساسيات أو للتعصّب… وليس لنا خيارٌ إلا أن نعيش معاً بسلامٍ أو نسقط معاً في درك الشقاء.  والطريق أمامنا غير معبدة، طريقٌ وعرةٌ، ولكننا سوف نذلّلها بجهودٍ جبارة بعد أن انكشف الغطاء وعمّت الحكمة وتصافت الصدور… جهودٍ تتكاتف فيه قدراتُ المجتمعات الثقافية والقوميات المختلفة في مسيرة واثقة لا يثنيها عن إقامة العدل شيء.

وأرجو أن يكون هذا الملتقى فاتحة خير، لأنه حين تتلاقى الأرواح أولاً وتتعارف سرعان ما تتراصّ السواعد في صفوفٍ ليس فيها ثغرات، فيصبح الجسد الواحد قادراً على النجاح في العمل المشترك.  وكلّي أمل بمستقبل كردي تركماني عربي مُشرق.

شارك هذا المقال: