الكرد و الإسلام – الطرق الصوفية وأدوارها الاجتماعية والسياسية

شارك هذا المقال:

مارتن فان برونسين

                               

الترجمة عن الإنكليزية: راج آل محمد

لقد كانت الطرق الصوفية حاضرة وبقوة في كردستان، والشيخ المتصوف ربما يكون أكثر تمثيلاً للإسلام الكردي من الخبير الشرعي. إن أكثر العلماء شهرة في التاريخ الكردي كانوا متصوفة، والكثير من هؤلاء المتصوفين كسبوا تأثيراً سياسيا كبيراً. كانت طرق صوفية مختلفة حاضرة في كردستان في فترة أو أخرى، ولكن في القرون القليلة الماضية سيطر على المشهد الطريقتان القادرية والنقشبندية.[i]  لقد لعبت الطرق في مراحل معينة أدواراً سياسية واجتماعية هامة لأنها تمثل نوعاً من التنظيم الاجتماعي المستقل عن القبائل (وعن الدولة أيضاً).

   إن الطرق الصوفية تشبه، إلى حد ما، مدرسة غير رسمية حيث تعرض مجموعة من الممارسات الروحية المعايرة والطرق الباطنية التي يمارسها المبتدئ في الصوفية تحت إشراف شخص خبير. وقد طوّر هذه الطرق مؤسسو هذه الطرق ولكن يُعتقد أنها تعتمد على تعليمات أوصاها الرسول نفسه شفوياً. يُسمح للصوفيين البارعين فقط أن يعلموا هذه الممارسات، وهم ما يُطلق عليهم اسم “المرشد” أو شيخ في كردستان. وهذا ليس لقباً غير رسمي إذ أن المرء يصبح شيخاً بإجازة مكتوبة من معلمه شخصياً، وواحد من شروطها هو البقاء لفترة طويلة من التعلم تحت إشراف مدرس، والإجازة لا تُعطى بشكل أوتوماتيكي.

   في كردستان نلاحظ حول الشيخ الواحد تنوعاً في المريدين. فأكثرهم إخلاصاً يعيش مع الشيخ، في منزله، في “زاوية” أو على الأقل بالقرب منه قدر الإمكان وهم يشاركون في تلاوة الخطب والتأمل اليومي. هناك حلقة أوسع من المريدين الذين أُدخِلوا أيضا إلى الطريقة والذين يجتمعون دورياً تقريبا من أجل صلوات جماعية بإمامة الشيخ أو خليفته. إن الشيوخ الذين لهم مريدون ويعيشون في مناطق نائية عادة ما يعينون خليفة أو أكثر من بين أكثر “طلابه” تقدماً في التحصيل العلمي. إن مجموعة كبيرة من المريدين لا تشارك بشكل فعّال في الممارسات الباطنية ويمكن ألا يُقبلوا في الطريقة ولكنهم ينجذبون إلى شخصية الشيخ الكاريزماتية. على عكس العلماء يمكن أن يقوم الشيخ بأعمال الرعي والسحر لإنجاز أعمال من المعجزات. حيث تتم استشارتهم في الأمور الأخلاقية والسياسية، ويتصرفون على أساس أنهم يشفون من الأمراض الجسدية والعقلية، ويهدئون من روع الأقرباء المتخاصمين. ويُعتقد أن مجرد حضورهم يجلب البركة كما يُعتقد أن لهم قوة الشفاعة عند الله.

   في كردستان هناك ميل لأن يكون منصب الشيخ متوارثاً. فكل شيوخ الطريقة القادرية في كردستان الجنوبية ينتمون إلى عائلتين فقط، البرزنجية والطالبانية. لقد اتسع مدى الطريقة النقشبندية بشكل سريع في القرن التاسع عشر، جزئياً على حساب الطريقة القادرية وبالتحديد لأن الكثير ممن مُنِحوا الإجازات لم يكونوا من أبناء الشيوخ. فقد درّب مولانا خالد ذي الشخصية الكاريزماتية، وهو كردي من منطقة السليمانية، والذي درس مع واحد من أعظم أساتذة الطريقة النقشبندية الهنود، عدد كبيراً من الفقهاء وعيّن أكثر من ثلاثين شيخاً في مناطق مختلفة من كردستان (إضافة إلى عدد أكبر من الخلفاء الذين تم تعيينهم في أجزاء مختلفة من الإمبراطورية العثمانية). ولكن في الأجيال اللاحقة، أصبحت هناك نزعة بين الكرد النقشبنديين لأن يكون منصب الشيخ وراثياً أيضاً. وبالنتيجة تطورت الكثير من فروع الطريقة إلى عشائر مستقلة تقريباً.وربما يمثل البرزانيون أبرز مثال في هذا السياق. لقد جذب شيوخ بارزان مريدين من أصول مختلفة، البعض منهم من أصول قبلية ولكن الأغلبية منهم فلاحون غير قبليين ممن عاشوا من قبل في أو قرب شيوخ قرية بارزان أو استوطنوا هناك فيما بعد. لقد تميزت الجماعة بشعور قوي بالمساواتية والرغبة في قبول الغرباء كأعضاء، ولكن في أثناء النزاعات مع القبائل المجاورة كانت تتصرف كقبيلة. وجماعة “حقا” التي ذُكرت أعلاه مثال آخر في هذا المجال.

   إن الطريقة النقشبندية لم تتسع بسرعة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بل زادت أهميتها السياسية أيضاً. فبحلول نهاية ذلك القرن نجد أن شيوخا من الطريقة النقشبندية قد شغلوا مناصب هامة في بقاع كثيرة من كردستان. وهذا الشيء مرتبط بتطورات سياسية رئيسية أخرى في تلك الفترة. ففي العقود الأولى من القرن ألغت الإصلاحات الإدارية آخر الإمارات الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي وأخضعت كل كردستان لحكام يتم تعيينهم مركزياً. لقد افتقر هؤلاء الحكام إلى السلطة الأخلاقية التي كانت لدى الأمراء الكرد، ولم يستطيعوا أن يبقوا النزاعات القبلية تحت السيطرة، كما فعل الأمراء الكرد. وقد تميزت العقود التالية بتزايد متواصل في العنف والنزاع، وتفاقمت حالة اللاستقرار نتيجة سلسلة هزائم ألحقتها القوى الأوربية بالإمبراطورية العثمانية والنشاطات الواضحة للبعثات التبشيرية بين الجاليات المسيحية المحلية. وهذا الموقف تحديداً هو الذي أقحم الشيوخ كوسطاء في تلك النزاعات. وبحكم سلطتهم المستقلة عن الانتماء القبلي وتجاوز مريديهم للحدود القبلية، فإن الشيوخ كانوا في موقع جيد لحل النزاعات إما من خلال التوسط بين الأطراف المتنازعة أو ببساطة من خلال فرض حل عليها. وقد أصبح البعض من هؤلاء الشيوخ دهاة سياسيين تمكنوا من فرض سلطتهم على شيوخ قبائل أكبر في مناطقهم. وقد أصبحوا في النهاية أكثر الناس قبولاً للتحدث باسم الكرد قاطبة[ii].

   لذلك فإنه ليس من باب الصدفة أن تكون أولى الانتفاضات الكردية ذات البعد القومي بقيادة متصوفة أو شيوخ: مثل الانتفاضات الكبرى بقيادة الشيخ عبيد الله (1880) وشيوخ بارزان في وسط كردستان، والشيخ سعيد (1925) في الشمال، والشيخ محمود برزنجي (1919، 1922 و1931) في كردستان الجنوبية إضافة إلى انتفاضات ثانوية أخرى.[iii] وكان ينبغي على القوميين العلمانيين أن يدخلوا في تحالفات لمدة طويلة مع هؤلاء الشيوخ لأن هؤلاء فقط كانوا قادرين على تعبئة وحشد الجماهير. وهذا الشيء لم يكن فقط في أوقات الثورات. فالشيخ عبيدالله، ابن الشيخ عبدالقادر، الذي استقر في استانبول بعد ثورة تركيا الفتاة لعام 1908، لعب دوراً قيادياً في الجمعيات الكردية التي تأسست هناك، وقد كان هو القائد الوحيد الذي تستمع إليه الطبقة العاملة في استانبول، في حين كان المثقفون العلمانيون ذوي الثقافة الحديثة مقطوعي الصلة مع تلك الدائرة الانتخابية.

   في القرن الحالي تم توجيه نقد لاذع للطرق الصوفية من جهات مختلفة: من قبل المصلحين المسلمين، من قبل الساسة ذوي الميول التحديثية ومن قبل المثقفين القوميين الكرد أيضا. رفض الشيخ سعيد النورسي، الذي كان مدرسوه يشتملون على شيخ من الطريقة النقشبندية والذي تعبّر كتاباته عن روحٍ صوفية، الفرق الصوفية حينما عملت في كردستان بما في ذلك الممارسات السحرية والخرافية التي ارتبطت بهم والتبجيل اللاعقلاني للشيوخ الوراثيين. (تسمى الحركة النورسية، التي انتظم فيها مريدوه، غالباً ما يسمون في تركيا باسم  tarikat أو الطريقة الصوفية، ولكن ليس لها قيادة وراثية ولا تنغمس في أعمال “الذكر” أو التلاوة الجماعية.)

   اعتبرت تركيا الفتاة وخلفاؤها الكماليون أن الطرق الصوفية مرتع للخرافة والرجعية، وعقبة في طريق التقدم. وكانت جمعيات بعض الشيوخ ذوي الميول القومية الكردية موضع شك أكبر. وقد كانت ثورة الشيخ سعيد القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد حظّرت الحكومة التركية في غضون أشهر جميع الطرق الصوفية. لقد أضر الحظر بشكل خاص بالطرق المدينية التي كان ينبغي عليها أن تعلق جميع نشاطاتها. ومن المفارقة بمكان أن بعض الشيوخ الكرد،وخاصة أولئك الذين تعاونوا مع الحكومة، قد حافظوا على مكانتهم الاجتماعية.إن الانتقال إلى ديمقراطية تشارك فيها عدة أحزاب والانتخابات العامة في أعقاب الحرب العالمية الثانية جعلت من الشيوخ مصدراً أساسياً لكسب الأصوات للأحزاب المحافظة حيث أصبح الكثير من الشيوخ الكرد أعضاء في البرلمان. في فترة ما بعد الحرب، كان بعض أشد المنتقدين للشيوخ الكرد هم المثقفون العلمانيون الكرد الذين ألقوا اللوم على الشيوخ في إبقاء سكان القرى جهلاء واستغلالهم اقتصادياً وبيعهم للدولة مقابل مزيد من النفوذ والمال[iv].

   إن الحظر على الطرق الصوفية في تركيا كان يصبح أقل حدة بشكل تدريجي وبحلول الثمانينيات كان بإمكان الطرق الصوفية أن تمارس نشاطها علانيةً مرة أخرى. لقد خفّ ارتباط الطريقة النقشبندية بالقومية الكردية وخاصة في المناطق التي يلتقي فيها السكان الأتراك والأكراد، والعلويين والسنة. والواقع أن الكثير من الشيوخ في هذه المناطق انتسبوا، ابتداء من أواسط السبعينيات، إلى حزب العمل القومي التركي الفاشي رغم أن أغلبية مريديهم في بعض الحالات لا يزالون من الأكراد. في حين جذب بعض الشيوخ الكرد الآخرين أعداداً كبيرة من التلاميذ غير الكرد. ويوجد الآن في استانبول عدة فروع كردية من الطريقة النقشبندية إما لأن الشيخ نفسه انتقل إلى هناك أو لأن مجموعة من مريديه نظموا أنفسهم هناك.[v]

   حينما حظّرت الطرق الصوفية في تركيا، هاجر قسم من الشيوخ الكرد إلى سورية التي اتبعت في ظل الانتداب الفرنسي إسلاماً وسياسات كردية أكثر ليبرالية من جارتها تركيا. إن في شمال شرق سورية التي استقر فيها أكراد آخرون اضطروا إلى مغادرة تركيا لسبب أو لآخر، نسبة عالية من الشيوخ لكل مجموعة من السكان. ولا يزال يحتفظ الكثير منهم بأعداد كبيرة من المريدين في القسم التركي من كردستان، ويقومون,منذ أن أصبح ذلك ممكناً مرة أخرى، بزيارات سنوية إلى المقاطعات الشمالية للحدود.



[i] مارتن فان برونسين، الحياة الدينية في دبار بكر: التعلم الديني ودور الطرق [الصوفية]، في مارتن فان برونسين وبوسخوتين Boeschoten ، أوليا جلبي في ديار بكر، وفي المصدر ذاته “الطريقة النقشبندية في كردستان في القرن السابع عشر.ومارتن فان برونسين، الآغا والشيخ والدولة: البنى الاجتماعية والسياسية في كردستان ( (London: Zed Books, 1992.

[ii] محاولة لشرح الأبعاد السيولوجية بتفصيل أكثر موجود في كتابي الآغا والشيخ والدولة.

[iii]  للاطلاع على ثورتي شيخ سعيد وشيخ عبيدالله انظر  Robert Olson, The emergence of Kurdish nationalism and Sheikh Said rebellion (Austin: Universtiy of Texas Press, 1989)  وثورتي الشيخ أحمد البارزاني والشيخ محمود انظر ديفيد مكدويل، تاريخ الكرد الحديث،  (London: I.B.Tausris, 1996) [وقد صدرت ترجمة هذا الكتاب عن دار الفارابي-ترجمة راج آل محمد، ط1، 2004] وللاطلاع على ثورات شيوخ بارزان الأولى انظر  Nikitine, “Les Kurdes racontes par eux-mêmes

[iv] هناك مقالة نقدية مبكرة كتبها محمد أمين بوزأرسلان،  Islâmiyet açisindan seyhlikagalik (Ankara: Toplum Yayinevi, 1964) . وأحد الشيوخ الكرد، قاسم كوفرفي ذو الثقافة الأجنبية، كان هدفاً لهجاء لاذع في قصيدة ألمعية غُفِلت من الاسم (كتبها كمال بورقاي) ونُشِِرت في الصحافة الوطنية الكردية في المنفى بعنوان  Serpêhatiyên |ex Qasim”  في “قصائد كردية (زيورخ،  Ronahi, 1972). لقد اشترك اليساريون الكرد مع الكماليين في احتقارهم لكل ما هو ديني، حيث اعتبروا الشيوخ كإقطاعيين مستغلين وظلاميين، انظر مثلاً سلسلة مقالات  C. Aladag  , “Milli mesele ve Kürdistan’da feodalite-asiret”  في المجلة الشهرية  Özgürlük Yolu,  تموز 1975.

[v] ربما كان أكثر الشيوخ الكرد نفوذاً من الذين استقروا في استانبول هو عبدالكريم آرفاسي. وهو الجد الأعلى لفرع اسكجي  Isikçi ، نسبة إلى حسين حلمي اسيق، وهو نقابي ناجح، من الطريقة النقشبندية،

شارك هذا المقال: