رحلات في كردستان و بلاد ما بين النهرين 2 – السليمانية

شارك هذا المقال:

في صبيحة اليوم التالي (الأول من تشرين الثاني)، تدرّجت في المدينة لأتعرف على ظروفها بشكل دقيق، لأن النظرة الخاطفة عند الدخول لا تكفي لتشكيل رؤية واضحة عن تلك الظروف. لكن، وأسفاه، لم تضعف هذه الجولة في المدينة من حدة الانطباعات الأولى. لم أشاهد فيها سوى التعاسة والقذارة والخراب والأشياء البغيضة. لم أجد في طول المدينة وعرضها أي سكن لائق. لا يتجرأ الناس، أياً كانت طبقتهم الاجتماعية، أو بالأحرى لا يمتلكون الوسائل، ليعيدوا بناء بيوتهم المدمّرة، لذا كانت الأكواخ التي ارتفعت على أنقاض البيوت القديمة وضيعة أكثر من المعتاد. ناهيك عن أن التراب التي تتشكل منه البيوت في السليمانية هو من طبيعة يتفتت بسرعة أمام عوامل الطقس، لذا ترى البيوت تنهار بسهولة إذا ما تركت دون عناية، وهكذا اجتمعت الكثير من العوامل لتجعل من المدينة على وشك أن تختفي من الوجود. لكنني وجدت الأسواق أفضل مما كنت أتوقع، مقارنة بالأشياء الأخرى، حيث كانت الدكاكين تشهد حضور العديد من الناس الذين كانوا يساومون على البضائع البسيطة، لا زالت لهذه الأشياء حضورها في المدينة، وفي الأمكنة المفتوحة يجتمع عدد جيد من الناس يشترون ويبيعون المنتجات القادمة من الريف المحيط بالمدينة. لقد أخبروني أن عدد العائلات التي تقيم في السليمانية يتراوح بين الألف وألف وخمسمائة عائلة، ولكن واقع المدينة يوحي بأن العدد الإجمالي للسكان فيها قد يصل، في الحدّ الأعظم، إلى خمسة آلاف نفس لا أكثر.

أما المدينة نفسها فتقع في وادٍ لا يمكن مشاهدتها إلاّ من المرتفعات المجاورة لها، لهذا إذا ما تيسّر لك أن تنظر إليها من التلال التي تقع عليها مقابر المدينة، وهما تلّتين، ستتمكن حينها من رؤية المدينة حتى إلى ما وراء المناطق الآهلة بالسكان. وعندما صعدت تل المقبرة لأتمكن من النظر إلى الريف المجاور للمدينة، سمعت نحيب امرأة، وعلى مسافة أخرى، وجدت بين القبور امرأة أخرى جالسة بالقرب من قبر جديد تبكي وتولول بيأس. تقدمت صوبها لأراقبها، لكنها لم تشعر بوجودي لأنها كانت غارقة في حزنها، ولو أرادت أن تراني لاستطاعت لأنني كنت أقترب منها من جهة الخلف. كانت منهمكة بتزيين القبر بالأحجار البيضاء الصغيرة بأسلوب جميل، وبطريقة تليق بالفقراء، وبين الفينة والفينة كانت تلوي يديها من شدة ألمها وحزنها، لتطلق مع هذه الحركة نبرات الألم المسعورة أكثر فأكثر كما لو أنها كانت تشعر بالعبث المطلق من هذا الطقس العاطفي المفجع. لقد شدّ حزنها العميق حتى نظر الخدم الذين كانوا يتبعونني في هذه الجولة، رغم أنهم قساة القلب بما فيه الكفاية في المواقف العادية، كانت المرأة جالسة لوحدها في تعاستها،  يا للروح المعذبة! بعيدة عن أنظار الناس، لم يكن يراها أحد سوى الذين يمرون بالمصادفة من هناك مثلنا، كانت تصب حزنها وألمها وحيدة على مسمع خالقها الذي وجد من الأنسب أن يرسل المأساة إلى الناس حتى يتدفق بها حزنهم.

حينئذٍ قال أحد الخدم: “لا بد أن تلك المخلوقة المسكينة مفجوعة بفقدان زوجها أو ابنها الوحيد الذي كان يسندها في الحياة في وقت قريب؛ ويبدو، يا سيدي، لا يوجد عندها أحد غيره تتكأ عليه بقية عمرها، لذا تجدها غارقة في هذا الحزن، لو كانت عندها شخص آخر تعتمد عليه في الحياة لكانت جلست في البيت وبكت على فقيدها مثل الآخرين”. وقال آخر مؤكداً على ما قاله الأول: “هذا صحيح، لذا تراها غير مهتمة بشيء. وحدهم أولئك الذين لا توجد سوى فكرة واحدة وحيدة في أعماقهم يمكنهم أن يحزنوا بهذه الطريقة، لا تستطيع أن تفكر بأي شيء آخر في الدنيا سوى فقيدها الغالي، يا للروح المسكينة”!

أرسلت واحداً من الخدم ليستفسر منها عن فقيدها الذي سبب لها كل هذا الأسى، كان ابنها، ابنها الوحيد، لم يكن يوجد غيره في هذا العالم يعيلها ويقدم لها فسحة من السعادة، لأنها كانت أرملة! لقد سبب سؤالنا لها المزيد من العذاب. كان واضحاً أنها فقيرة؛ لذا أعطيتها بعض النقود، فأخذتها وباركتني، أخذتها بدافع العطف وليس بدافع الارتياح، لأنها تركت النقود على القبر، ورفعت يديها تباركني وتطلب من الله أن يوفقني أينما سرت.

سأغادر موطن الباشا في هذا اليوم، لأنه ما من دافع يشدني أن أبقى في عاصمته، ولأن الرجل المسكين غارق حتى شحمة أذنيه في مشاكله الخاصة، وجدت من الأنسب أن نخفف عنه واجب الضيافة. لقد وجد الباشا الفرصة ليلمح لخادمي إذا ما كان لدي أي مسدس أو بندقية أريد أن أقايضه بحصان من أحصنته، سيكون سعيداً بذلك، عندما سمعت طلبه لم يكن لدي أي اعتراض على إضافة حصان من دم كردي جيد إلى بقية خيولي، لذا أرسلت لجنابه العالي بندقية فائضة عن حاجتنا، ومسدساً ذو فوهتين ليفحصهما. وربما يكون قد ألمح إلى ذلك على أمل أن نقدم له طلبه على شكل هدية، بالتأكيد أنه سوف لن يقبل شيئاً من ذاك القبيل على أساس المقايضة، أو أن يدفع ما يترتب عليه من قيمة ما طلبه، لأنه أعادهما إليّ مع بعض الأشياء الصغيرة لأقبلها منه كهدية. ورغم أنه تلقاهما بكلام لطيف عندما أرسلت له القطعتين لإلقاء نظرة عليها، كان استقباله لي اليوم ينقصه شيء من الود المعتاد، فاستنتجت أن توقعات جنابه لم تتحقق كما كان يرغب تماماً، الأمر الذي جعلني أن لا أكرر زيارتي إليه مرة أخرى.

لقد تعرضت اليوم مضطراً إلى خيبة أخرى من خيبات الأمل المخزية التي يتعرض لها الرحّالة في بلد مضطرب كهذا البلد. كان هناك سهل واسع يقع على بعد خمسة وعشرين ميلاً من السليمانية، حيث ينتهي فيه الوادي المسمى باسم المدينة -وادي السليمانية، ويقال أن هذا الوادي يحتوي على بعض الآثار، التي لم يكتشف الأوروبيين منها إلاّ القليل أو حتى لا شيء منها. ومن بين المسائل التي تعطي أهمية إلى هذا الوادي، هي أن مدينة سيازوروس القديمة كانت تقع فيه في الماضي، وإلى يومنا هذا تعرف آثارها بين السكان المحليين باسم شهرزور. لا شك أنك ترى معي أن الاسم الجميل لهذه المدينة يمكن أن يكون حقلاً غنياً للمتخصص في اللغات والآثار على حد سواء. ولو لم يسافر صديقي ماكنيل في مهمة إلى إنكلترا، لكنت شجعته أن نعمل سوياً  للكشف عن المخزون الأثري لشهرزور. لكن طالما لم يكتب النجاح لهذا المشروع، قطعت العهد على نفسي وله أن أقوم بزيارة إلى الموقع إذا تمكنت من ذلك، وأخبره فيما بعد ما وجدته في الموقع. وبوصولي إلى السليمانية تقدمت بطلب إلى الباشا أن يسمح لي بزيارة ذاك الجزء من مقاطعاته على أن يرافقني في الزيّارة دليل من عنده. في البداية لم يعترض الباشا على الطلب كون الموقع لا يحتوي إلاّ على بعض الركام، مع بعض قطع الآجرّ والفخار، ولا توجد فيه الأبنية أو التماثيل الحجرية، لكنه قال لي أن كمية الركام الموجودة هناك كبيرة جداً، وفي أكثر من موضع. لم يحبط هذا من عزيمتي لرؤية المكان، ولكن، يا لخيبة أملي، عندما أرسلت قاصداً إلى الباشا ليطلب منه الدليل الذي سيرافقنا إلى هناك، قال له الباشا إذا كنت قد صمّمتُ على الذهاب إلى شهرزور لا مانع لديه، لكنه لا ينصح بذلك. لأن المكان هو ملتقى للعلويين من كل المناطق، وإذا ما حدث أي شيء لخيولي، لا سمح الله، سيكون ذلك عاراً له لأنه لا يمتلك القوة الكافية لمنع وقوع أو معالجة مثل تلك الحوادث. قال أنهم فئة من الأكراد لا يعترفون بالتقاليد والأعراف، وأنهم يستطيعون القيام بارتكاب أي فعل إذا ما لمسوا أن صيدهم سمين أو يحمل معه ما يسرّهم. باختصار، إذا ما فضلت الذهاب فأنا المسؤول عما يمكن أن يحدث لي.

هذا هو نوع الاعتراض الذي يشتهر به الشرق، يلجأ الشرقيون إليه عندما يكون هناك رغبة في إقناع شخص بالعدول عن القيام بفعل ما دون الظهور بمظهر المعارض العلني والمباشر لرغبته. بكلمات أخرى أن هذا النوع من الاعتراض هو بمثابة الأمر من حيث القوة، لكن لا يظهر معه الرغبة العلنية لصاحبه، لأنه يلقي كل المسؤولية على عاتق المغامر، ويبرّئ ساحة المحذِّر من النتائج التي قد تحدث للمغامر بسبب اندفاعه وطيشه. ومن يعرف شخصية الإنسان الشرقي جيداً، سيدرك أن الناصح المحترم هو الذي سيعجّل من دفع المغامر نحو هذه النتائج.

لدي بعض الأسباب التي تجعلني أن أشك بأن الباشا منعني من القيام بهذه الزيّارة إلى شهرزور حتى لا يظهر ضعيفاً في عيون العامة، وبالأخص عند الحكومة الأذربيجانية، لأنني سمعت بأن تلك المنطقة هي من أغنى المناطق الواقعة ضمن حدود سلطته الباشوية، ولا شك أنه كان يفكر بأن هذا الأجنبي سيكتب التقارير عن غناها وخصوبتها. أياً كانت أسباب هذا المنع، لقد بذلت قصارى جهدي لكي أجعل الباشا يغيّر من رأيه لكنني فشلت، وقدمت في الوقت ذاته طلباً إلى القائد العام للقوات الإيرانية هناك بهذا الخصوص، لكن الطلب قوبل بالرفض أيضاً لذا أجبرت على التنازل عن رغبتي وأدرجت مشروع الزيّارة طي النسيان. لقد أصرّ الباشا على المخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها زيارة من هذا النوع، لهذا فأنه لا يستطيع أن يشجعني القيام بهذه المحاولة، هكذا تركت مغامرة الذهاب إلى شهرزور لبطل آخر أكثر حظاً مني. بعد ذلك عرفت أن الباشا كان محقاً جداً في تحذيره، لأن المكان يمتلئ في هذا الفصل باللصوص الذين ينحدرون جماعات جماعات من المناطق الجبلية في كرمنشاه، وهمدان، وأردلان، وفي هذه الحالة إذا ما تعرّض أحد ما إلى السرقة يصعب الكشف عن المعتدين فكيف بمعاقبتهم.

في سياق الحديث سمعت بعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بشهرزور، وأستطيع إيجازها بما يلي: يحد السهل من الشرق والجنوب جبال وعرة شاهقة العلو، تقع فيه مواقع أو أطلال خمس أو ست مدنٍ قديمةٍ. إحدى تلك المدن تسمى كَلِهْ (الحصن)، وتقع على هضبة عالية، ومن ثم هناك ياسين  تبّه، وكولَمْبَرْ،  واربط، وخرابَهْ وغيرها. التسمية الأخيرة تعني الآثار. لقد علمت من شخص أو شخصين بأن هناك في السهل نصب حجرية كبيرة الحجم عليها نقوش كتابية، يعتقد أنها مكتوبة بالأحرف الأوربية (الإغريقية أو الرومانية)، وقالوا أن أحد الموظفين الكبار من تبريز وجد نصباً من تلك النصب في اربط  بينما كان في طريقه إلى بغداد. وسمعت أيضاً، أنه تم إقلاع نصبٍ حجريٍّ من الأرض في قرية بوردَكر التي تقع في سفح تلال هذا الوادي من جهة الجنوب الغربي؛ وقال لي أحد الشيوخ بأنه هناك أيضاً معبد للتماثيل (بوتخانه) في السهل، حيث يوجد فيه حجر مغطى بالصور، ولم يتمكن أي من سكان المنطقة من فك رموز هذه الشخصيات، يبدو من كل هذا أن المقاطعة تحتوي، على الأرجح، على خزان من الآثار التي لم تكتشف بعد. وقيل أن أسفل هذا السهل يعج ببقايا الأبنية، لكن لا يوجد فيها شيء سوى الفخار والآجرّ.

قابلت هذا اليوم أيضاً سرتيب (الجنرال) محمود خان قائد القوات الإيرانية في السليمانية، ويتشكل قواته من أربعمائة جندي، وثمانين جندي من قوات المدفعية، توجد في حوزتها خمس بنادق وقطعتين صغيرتين من سلاح الهاون. إنه ضابط صغير، لكنه يمتلك القدرة الكافية على نهب وسلب البلد. في الواقع، لا تستطيع أي مقاطعة من إيران، أو من البلدان المجاورة، في وضعها الراهن، أن تقدم الطعام الكافي لجيشها القائم. يحاول الأمير أن يبقي هذه المقاطعة في مواجهة باشا بغداد، رغم أنها تابعة له، وحتى ينجز ذلك لحكومته بأقل النفقات، يحيل الخراب في المناطق التي صارت تحت سيطرته. ومن أبرز صفات محمود خان الملفتة للنظر هي أنه بطل يمكنه أن يقف في وجه العالم من أجل سلطة سيده. فإذا ما سمحت له وقدمت له ما يكفي من الوسائل، سيمحي أمير رواندوز عن وجه الأرض ويحاصر باشا بغداد داخل حدود ميزوبوتاميا. وإذا ما صدقته فأنه أستطاع أن يمسح بثلاثمائة جندي وبنصف هذا العدد من الخيول منطقة كرميان، الأراضي المنخفضة، ويمسح من الموصل إلى خانقين، ومن كرمنشاه إلى أبواب بغداد تقريباً، ولم يوقفه عن الزحف سوى حدث جلل، وهو أن باشا بغداد قد أرسل له بعض الهدايا القيمة مع بعض احتجاجاته الاسترضائية. في الواقع، ينتمي سرتيب خان إلى فئة واسعة الانتشار في إيران، وقد وصفها موريير كأسوأ الفئات المتباهية بالشجاعة، ولا يختلف أبنائها في هذا عن أمثالهم في البلدان الأخرى بشيء. إنهم ماهرين في التحريف، فإذا ما كان لديك الصبر الكافي،مثلي، للاستماع إلى سيل كلامه المتدفق ستسمع وصف الخان لمآثره العظيمة، كيف مدحه ملك الملوك في جلسة خاصة، وكيف وعده ولي العهد بمنحه السيف المزخرف بالذهب، وكلها من مصادر لا تشك في مصداقيتها، ومن ثم ستسمع شكاويه من عدم حصوله على الاستحقاق الكافي الذي يستحقه من الراتب أو الحصص، أو حتى يعود إلى أسرته التي (لم يزرها منذ خمس سنوات)، لأنه كان مشغولاً بأمر هذه الحملة التي لا يستطيع أحد أن يقوم بها أفضل من محمود خان. باختصار، تعرف الحكومة أن لديها قائداً شريفاً وصادقاً مثله، لكنها لا تعرف كيف تستخدمه، وبينما كنت استمع إلى كل هذا باستمتاع التقطت من حديثه الكثير عن أوضاع البلد وعن أوضاع عدوّه باشا رواندوز، وعرفت أنه كديك عجوز شجاع يريد أن يتباهى بمآثره كما يتباهى أي شخص منّا بها.

 ” يتبع …. “

شارك هذا المقال: