الكرد و الإسلام – التعلم الإسلامي في كردستان والعلاقات مع العالم الإسلامي الأوسع

شارك هذا المقال:

مارتن فان برونسين

الترجمة عن الإنكليزية: راج آل محمد

لقد جعلت الجغرافيا من كردستان منطقة حاجزة سياسياً بين الإمبراطوريات المجاورة –اعتبارا من عام 1500 تقريباً بين المناطق الداخلية للإمبراطوريتين العثمانية والصفوية، إيران القاجارية فيما بعد. كما كانت منطقة تنقل بين المناطق حيث اللغات الثلاث الرئيسية للإسلام العربية والتركية والفارسية تُحكى وتُكتب. مثل شيوخ القبائل والأمراء الصغار من الكرد، كيّف العلماء الكرد أنفسهم مع جيرانهم الأقوياء. فقد كان الكثير منهم يعرفون إضافة إلى الكردية والعربية والفارسية و/أو التركية، وهو ما مكّنهم من لعب دور الوسطاء بين المناطق الثقافية التي حددتها تلك اللغات. وقد أخذتهم مهنهم إلى أكثر من منطقة من تلك المناطق.

   ولعل خير مثال على مهنة “دولية” لعالم كردي هو الملا الشهير كوراني (توفي سنة 1488). وكان الملا قد وُلد في شهرزور في جنوبي كردستان وتلقى تعليمه الأولي من المعلمين المحليين. مع بلوغه سن الرشد، ذهب لطلب العلم إلى بغداد وديار بكر وحصن كيفا ودمشق والقدس والقاهرة- وهي مدن كانت تسيطر عليها قوى سياسية مختلفة. بعد مغادرته للقاهرة دُعي للدخول في خدمة الدولة العثمانية حيث أصبح المدرس الخاص للأمير محمد، الذي سيصبح في المستقبل السلطان محمد الفاتح، حيث وصل الملا كوراني أخير إلى أعلى منصب ديني في الإمبراطورية فأصبح أول مفتي لاستانبول. كما تم تعيين عدد آخر من العلماء الكرد كمدرسين في المدينتين المقدستين مكة والمدينة حيث استطاعوا أن يقوموا بفعالية بدور وسطاء ثقافيين بين المناطق التي تتكلم الفارسية والتركية والعربية. وقد ناقشتُ في إحدى مقالاتي السابقة تأثير العلماء الكرد على جزء بعيد من العالم الإسلامي: جنوب شرق آسيا.

في مدن كردستان أو المدن القريبة منها مثل ديار بكر، وحصن كيفا، وميافارقين (سيلفان)، وماردين، والموصل، وأربيل نجد مدارس مهيبة حيث يعود تاريخ بناء بعضها إلى أوائل القرن الثاني عشر أو القرن الرابع عشر. بُنيت هذه المدارس في أغلب الأحيان من قبل سلالات غير كردية حكمت تلك المدن والمنطقة. وهكذا أنشأ أفراد من سلالة آرتوكيد (التركية) المدرسة الخاتونية (القرن الثاني عشر) والزنجيرية (القرن الرابع عشر) إضافة إلى عدد من المدارس في ماردين والمدرسة المسعودية (القرن الثاني عشر أو الثالث عشر) في ديار بكر. تُنسب المدرسة الزنجيرية في ديار بكر وبشكل متباين أحياناً إلى سلالة آرتوكيد التركية الحاكمة في القرن الثاني عشر أو إلى حاكم كردي من السلالة الأيوبية في القرن الثالث عشر.[i] وأنشأت السلالات الحاكمة فيما بعد مدارسها الخاصة. ومثل هذه المدارس جذبت طلاباً مثل الملا كوراني، وبصرف النظر عن خلفياتهم العرقية، نجدهم مذكورين في سير العرب والأتراك والفرس إضافة إلى علماء الكرد. هذه المدارس كانت مُعدّة أساساً لتثقيف العلماء الذين سوف يدخلون في مرحلة ما في خدمة الدولة كقضاة أو رجال إفتاء أو مدرسين. في ظل الحكم العثماني دُمِجت هذه المدارس تحت تنظيم مُدار مركزياً بمناهج ووظائف ثابتة تقريباً تضمن انتقال الطلاب والمدرسين من قسم إلى قسم آخر في الإمبراطورية.[ii] ورغم تمركزها في كردستان، فإنه لم يكن هناك كثير من الخصوصية الكردية فيها.

   وقد أقام الحكام الذين احتفظوا بالحكم الذاتي داخل الإمبراطورية العثمانية مدارسهم الخاصة، التي يبدو أنها بقيت خارج نظام التعليم العثماني، ولاسيما في بدليس والجزيرة والعمادية التي كانت مراكز رئيسية للتعلم، وخرّجت علماء مشهورين.[iii] ولأن الكرد يتبعون المذهب الشافعي بينما المذهب الرسمي للإمبراطورية العثمانية هو المذهب الحنفي، فلابد أن المناهج في المدارس الكردية كانت مختلفة كثيراً عن المدارس العثمانية، على الأقل فيما يتعلق بالفقه.

   الفرق الآخر بين المدارس العثمانية والمدارس الكردية يكمن في المكانة التي أُعطيت للغة الكردية-على الأقل في القرن السابع عشر حيث ارتبط اسم بعض المؤلفين مع تلك المدارس التي قدمت أدباً كردياً مزدهراً. (الأجيال السابقة كانت تكتب حصراً إما بالعربية أو الفارسية.) ملا أحمدي جزيري الذي علّم في المدرسة الحمراء في جزيرة [ابن عمر] هو مؤلف ديوان مشهور في الشعر الكردي العرفاني والذي يُقارن غالباً مع حافظ [الشيرازي]. أحمد خاني (توفي في 1706 أو 1707) أخذ قصة حب ” مم و زين” الشعبية،وصاغها في قالب قصيدة طويلة مع الحفاظ على اسمها، وهو عمل أدبي عظيم متعدد المعاني و اعتبرته الأجيال اللاحقة ملحمة وطنية كردية. إضافة إلى هذا العمل الأدبي، كتب خاني عملين آخرين موجهين للتعليم الابتدائي وهما: قاموس عربي-كردي مكتوب في قالب شعري عنوانه نوبهار وكتاب آخر بسيط بالكردية حول العقيدة عنوانه (عقيدة الإيمان). يعتبر خاني وجزيري أشهر مؤلفين كرديين في تلك الفترة، ولكنهما ليسا الوحيدين بأي حال من الأحوال.  فالرحالة التركي المعروف (أوليا جلبي)الذي زار الكثير من هذه الإمارات في أواسط القرن السابع عشر، يعطي وصفاً حياً عن الحياة الدينية والثقافية في بدليس والجزيرة والعمادية ويتكلم عن علماء يكتبون الشعر بالكردية[iv].

   بالإضافة إلى المدارس الحكومية وتلك التي رعتها الأسر الكردية الحاكمة، كان هناك منذ وقت طويل نوع آخر من المدارس في كردستان، أكثر تواضعاً ولكن أكثر استقلالية، أي تلك المدارس الملحقة بجوامع القرى والتي كان يديرها ملالي حازوا شهرة واسعة في التعلم. هذه المدارس لم تكن تعلم طلابها من أجل مناصب رسمية ولكن لكي يصبحوا رجال دين (ملالي) لخدمة سكان القرية وربما البلدات الصغيرة. وقد لعب هؤلاء دوراً رئيسياً في نشوء الوعي القومي الكردي وفي تكامل أجزاء مختلفة من كردستان، فطلاب كل مدرسة كانوا من مناطق وخلفيات اجتماعية مختلفة، والوشائج القبلية لم تكن ذات أهمية كبيرة، إضافة إلى ذلك تم تشذيب اللغة الكردية فيها.[v]

   فترة الازدهار الثانية للأدب الكردي، والتي بدأت في القرن التاسع عشر في جنوبي كردستان هذه المرة، كانت وثيقة الصلة أيضا بعالم هذه المدارس. فأول شاعر قومي في اللهجة الكردية السورانية، حاج قادر كوي، وأكبر شاعرين دينيين، مولوي ومهوي، برزوا من هذه البيئة ووجدوا هناك أيضاً أول قراء لهم. فقصائد مولوي التي كُتبت باللهجة الكورانية لا تزال إلى يومنا هذا تلقى رواجاً بين الملالي الكرد. ومن الجدير بالملاحظة أنه، رغم كونه مسلماً أصولياً، يعبر عن أفكار تُذّكر بأهل الحق كالإيمان بالتقمص، مثلاً.

   كما برز رجل آخر من عالم المدارس الكردية في كردستان الشمالية ألا وهو الشيخ سعيد نورسي (1876-1960) الذي بات معروفاً كمؤلف لكتابات دينية أصلية ومؤثرة ويعتبر الجد الأعلى لحركة النورسية في تركيا. هناك جانب غير معروف كثيراً من شخصية سعيد النورسي ألا وهو التزامه الصارم ككردي لإنهاض شعبه الكردي وتخليصه من حالة التخلف العامة. إن الفترة الأولى من حياته المهنية، والتي كان من خلالها مجادلاً شديداً وناشطاً عُرِف باسم سعيد الكردي و منهمكاً في الجمعيات القومية الكردية وفي مدرسة كردية في استانبول في 1900-1910، هي التي أُبقيت طي الكتمان بشدة من قبل قيادة النورسية لدرجة أنها وضعت رقابة على كل كتابات سعيد النورسي وحذفت النشاطات الرئيسية من سيرته الذاتية. كان سعيد النورسي شخصية غير عادية وفريدة، ولكن بدمج الالتزام الشديد بالإسلام مع تعلق عميق بالشعب الكردي فإنه يعكس موقفاً كان منتشراً إلى حد ما بين رجال الدين الكرد.

   بعد إقامة الجمهورية التركية بوقت قصير في عام 1923 أمرت الحكومة بإغلاق المدارس التقليلدية كافة. ويبدو أن الحظر قد كان فعّالاً تماماً في غربي تركيا ولكن أخف وطأة من ذلك في الشرق الكردي حيث استمرت الكثير من المدارس بالعمل سراً حتى السبعينيات. لقد قوِّي الحظر في الواقع العلاقة بين المدارس والهوية الكردية، والتي قُمِعت في الوقت نفسه.[vi]لقد كان الملالي الكرد مميزين بين أولئك الذين أبقوا الشعور بالهوية القومية الكردية حياً خلال تلك السنوات التي فرضت فيها الدولة انصهاراً ثقافياً.



[i]Nejat Göyünç, XVI, yüzyilda Mardin sancagi (Istabul: I. Ü. Edebiyat Fak., 1969), pp.114-6; Sevket Beysanoglu, Anitlar ve kitabletri ile Diyarbakir tarihi, 1.cilt: Baslangiç Akkiyunlualari kadar (Ankara, 1987), pp.331-4, Cf. Martin Van Bruinessen, “Religious life in Diyarbakir: Isalmi learning and the role of the tariqats”, in Van Bruinessen &Boeschoten, Evliya ~alabi in Diyarbekir, pp.45-52.

[ii] I,H. Uzunçarsili, Osmanli deletinin ilmiye teskilati (Ankara: Türk Tarih Kurumu, 1965) Richard Repp, “Some observations on the development of the Ottoman learned hierarchy”, in Nikki R. Keddie (ed.), Scholars, Saints and Sufis (Berkeley: University of California

[iii]  بعض المدارس التي أُنشئت في الجزيرة من قبل الأسرة المحلية الحاكمة نُوقشت في  Abdullah Yasin, Bütün Yönleriyle Cizre (Cizre: Dicle Kitapevi, 1983);  والتي أقٌيمت في بدليس في  M. Olus Arik, Bitlis yapilarinda Selçuklu rönesansi (Ankara: Selçuklu Tarih ve Medeniyeti Enstitutu, 1971)

 [iv] قسم كبير من رحلات أوليا في كردستان مفقود في الطبعة المنشورة من سياحتْنامه (كتاب رحلات) التي اعتمدت على مخطوطة ناقصة. الأقسام المتعلفة بـ (بدليس) نُشرِت بشكل مقبول من قبل  روبرت دانكوف، أوليا جلبي في بدليس  (Leiden: Brill, 1990) لتقييم الأجزاء الأخرى حول كردستان، انظر مداخلتي في محضر جلسات مؤتمر برلين حول كتاب (شرفنامه) بعنوان “كردستان في القرنين السادس عشر والسابع عشر كما ظهرت في كتاب أوليا جلبي (سياحتنامه). أيار 1-3، 1998

[v] وصف ممتع للمدارس الكردية التقليدية كما كانت في كردستان تركيا حتى السبعينيات [من القرن الماضي] ومناهجها موجود في كتاب زين العابدين زنار في  Xwendina medresê (Stockholm: Pencînar, 1993)  التي ظهرت منها ترجمة إنكليزية في  Les Annales de l’Autre Islam 5 (1998)  وهناك معلومات ممتعة أيضا في عدد خاص عن “المدرسة” في المجلة الكردية الشهرية نوبهار العدد 36/64 (استانبول، حزيران/تموز 1998).

[vi] كان ينبغي على الآباء الذين يرغبون أن يتلقى أبنائهم التعليم في المدرسة التقليدية أن يرسلوهم إلى كردستان، وهو ما فعله البعض. أحد هؤلاء الخريجيين الترك من المدرسة الكردية هو توران دورسن  Turan Dursun الذي كتب كتاباً آسراً حول تجربته هناك في   (Kullen, Istanbul: Akyüz, 1990). دورسن الذي أصبح فيما بعد ملحداً ومجادلاً عنيفاً للدين يكتب باحتقار عن تخلف هذا الوسط، ولكن نوعية مناقشاته (نُشرت في سلسلة كتاب بعنوان:”المحظور في آلام الاحتضار: هذا هو الدين”  Tabu can çekisiyor: din bu”  Istanbul: Kaynak Yayinlari تظهر أن التدريب، فيما يخص العلوم الدينية على الأقل، كان صارماً.

شارك هذا المقال: