سياسة الاستعلاء والتمييز القومي في المناطق الكوردية التاريخية في سوريا

شارك هذا المقال:

سياسة الاستعلاء والتمييز القومي في المناطق الكوردية التاريخية في سوريا
دأبت الحكومات السورية على استيلاد وخلق المعيقات التي حالت وتحول دون تقدم المجتمع السوري وتطوره وتحديثه بشكل عام، وعرفت الانظمة السورية باصرارها على تطبيق العوائق وحفر المتاريس والانفاق ونسج المتاهات لمنع حدوث اجراء اية اصلاحات تمس الظواهر السلبية في الدولة ـ لاسيما مؤخرا ـ في مختلف المرافق العامة في البلاد، ( الاقتصادية، الادارية، السياسية ، التعليمية ، والثقافية)، المدخل الى تحقيقها يكون بالاصلاح السياسي عبر توفير المناخات السليمة والمساعدة على نشوء تعددية سياسية حقيقة والغاء الاحكام العرفية وازالة الاثار الكارثية المدمرة لجملة المشاريع العنصرية التي اتخدت ضد الكورد وسلبت حقوقهم الانسانية، ناهيك عن حقوقهم القومية المشروعة اسوة بباقي المجتمعات الاخرى في العالم.
فبالعودة الى الوراء قليلا يدرك المتتبع والمطلع على حيثيات الشان الكوردي في سوريا ان الكورد يشكلون القومية الثانية في البلاد على اعتبار انهم يشكلون ما مجموعه نحو 15% من مجموع السكان في سوريا، واستنادا الى مساحات اراضيهم التاريخية والتي تبلغ نحو (25) الف كيلو متر مربع من مساحة سوريا على اقل تقدير، انهم قد تعرضوا الى حملات منظمة ومدروسة تمثلت في اولى اشكالها وانقاها، الى الاهمال المتعمد وغير اللائق على يد الشخصيات السياسية السورية العامة في فترة ما قبل الاستقلال اي خلال عهد الانتداب الفرنسي على سوريا (1920 – 1946) ويتضح ذلك التوجه المشبوه عن طريق تجاهل وجود الشعب الكوردي والذي اصبح يشكل جزءا من النسيج الاجتماعي السوري بعد اقرار بنود اتفاقية انقرة الحدودية بين سلطات الانتداب والسلطات التركية 1921، اثناء كتابة بنود الدسور السوري الاساسي الذي اقره المؤتمر التاسيسي الاول سنة 1928 ، ومعلوم ان الدستور المشار اليه، كتب بشكل لا يخلو من التعسف والافتقار الى الرؤية المنطقية والصحيحة حول حقيقة الواقع السوري، حيث كان حريا به ان يضع في عين الاعتبار ان الكورد كانوا مثلما كان العرب مستجدين تحت قبة سيادة دولة جديدة وهي التي قائمة على انقاض عدة ولايات عثمانية وسميت بالجمهورية السورية فيما بعد ، وان الكورد انفصلوا عن اخوانهم في الجوار الكوردي، نتيجة ارادات لم تحمل الخير او المستقبل المشرق لهم، والمدهش ان هؤلاء المسؤولين وفي تلك الفترة المبكرة لنشوء الدولة السورية لم يكلفوا خاطرهم البتة، حتى ولو بالاشارة الى ان هناك قومية اخرى متميزة تشكل مع القومية العربية كيان دولة محتملة الظهور في المستقبل، بعيدا عن قبضة سلطات الانتداب الفرنسي التي وفرت للطوائف الاخرى من المجتمع السوري كيانات ودول مستقلة في فترة مبكرة، او تقدير جهود الكورد الذين رضوا ان يصبح الوطن السوري بيئتهم الجديدة، بعد ان اقتطعت اراضيهم واصبح يشار اليها انها جزء من الدولة السورية، وما تحملهم عبء الدفاع عن عنها ومساندة الجهود الوطنية والانغماس في وتيرة العمل الاستقلالي وتقديم الالاف من افراده شهداء من اجل نيل سوريا لاستقلالها.
واسمترارا في المنحى الاقصائي التهميشي للكورد، تجاهل الوطنيون السوريون الذين تسلموا مقاليد الحكم بعد جلاء اخر جندي فرنسي عن البلاد في 17 نيسان 1946 اي وجود للقومية الكوردية ولم يتبادر الى مخيلاتهم حتى وجوب تعاطي مع الجانب الكوردي، عبر مواقفهم غير اللائقة وايدولوجياتهم المتنوعة المشارب وبرامج احزاب البلاد المختلفة، او حتى ضرورة الالتفات الى فكرة تكريم بعض الشخصيات الكوردية التي كانت لها مكانتها المميزة في الدفاع عن سيادة البلد ،والاقرار ان الكورد كانوا سندا حقيقيا في الحفاظ على كرامة الوطن والذود عن حياضه.
وفي ذاك السياق التنكري لحقوق الكورد، وامام انحسار مبدا ضرورة التعاطي السليم والحوار الايجابي مع الجانب الكوردي من خلال الاقرار ببعض من حقوفه القومية المميزة ، ظهر تيار عروبي تجذر بين صفوف الاوساط الاكثر رجعية في البلاد ، نادى بالغاء وتهميش واقصاء وشطب كل ما هو ليس عربي في سوريا ، واتحاذ مجموعة من التدابير والاجراءات الرسمية، المنافية لمبدأ حقوق الانسان العالمية والتي تنوعت ما بين مرسوم وتعميم ومشروع قانون او قرار في فترة الانقلابات العسكرية في سوريا ( 1949 – 1954) .
ومن المهم الاشارة هنا الى ان اواسط عقد الخمسينيات من القرن المنصرم ، شهد هو الاخر دخول عامل جديد ساهم الى حد بعيد في تغليب فكرة التعامل الامني من القضية الكوردية بدل التعامل الايجابي معها ، وكان اكتشاف مادة النفط الاستراتيجة في القرى الكوردية ( قره جوخ ، سويدية ، ورميلان ) هو ذاك العامل المهم ، فبدلا من ان يكون اكتشاف هذه المادة المهمة للدخل الوطني فال خير ومصدر سعادة للذين اكتشفت في اراضيهم، اصبحت على العكس من ذلك هما لا يزاح وكابوسا ثقيلا يجثم على صدورهم ، بسبب تلويث اراضيهم الزراعية اثناء عمليات استخراجها وترسخ عقلية وجوب تثبيت اقدام السلطات الامنية في تلك المناطق وترصد السكان البسطاء بشكل يومي، كون الابار النفطية هي في نطاق محيطهم السكني وداخل قراهم ، وكهذا وبدل ان يصبح النفط الكوردي مصدر عمليات تنموية ونهضوية للاوضاعهم المزرية ، اصبح بعبعا يهدد كيانهم المحلي، لاسيما بعد بروز الشعار الاكثر اثارة واستهجانا للسكان المحليين الكورد وهو شعار ( بترول العرب للعرب ) وزاد بعضهم عليها ( بترول العرب للعرب والاكراد ما لهم شيء وليذهبوا الى الجحيم ) ومثلت في رايهم انتكاسة حقيقية لامال وطموحات الجماهير الكوردية من امكانية الاستفادة من مزايا النفط وتحسين احوالهم المعيشية المزرية والتي تفاقمت بؤسا يوما بعد يوم .
مهما يكن الامر، يلاحظ من المذكرة التي قدمها الدكتور نورالدين زازا رئيس الحزب الرئيس الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا اثناء فترة اعتقالات التي طالت القيادات الكوردية سنة 1960 الى محكمة امن الدولة العسكرية العليا في دمشق ، انها تكشف عن جوانب كثيرة من ممارسات الدولة في حقل التمييز والاستعلاء القومي حيال الكورد، الى جانب انه يعد من اوائل الدراسات المنشورة في اوربا بمساعدة من التنظيمات الكوردية العاملة في سوريا وفروعها المنتشرة في اوربا، بغية حشد الدعم وكسب التاييد للقضية الكوردية هناك ووضع حد للغطرسة الحكومية البعثية في عمليات استهدافها للجزء من النسيج الاجتماعي السوري المغلوب على امره بسبب انتمائه القومي المغاير للقومية السائدة.
اللافت للامر انه بعد فشل تجربة الوحدة السورية – المصرية (1958 – 1961 ) وتسلم حكومة الانفصال لزمام الامور في سوريا (1961 – 1963 ) لم يذكر ان الاخيرة اقدمت على عمل مناف لكل القوانين ولوائح الشرائع العالمية والمحلية ، مثلما فعلت ضد الكورد ، حيث اصدرت المرسوم رقم (93 ) سنة 1962 والذي قضى باجراء احصاء استثتائي في محافظة الحسكة.
حيث جاء نصت المادة (1) من المرسوم التشريعي على اجراء ” احصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يحدد تاريخه بقرار من وزير التخطيط بناء اقتراح من وزير الداخلية “، كما ان المادة (6) نصت على ” عند الانتهاء من عملية احصاء السكان في محافظة الحسكة تشكل لجنة لدراسة نتائج الاحصاء وتقرير تثبيتها من سجلات الاحوال المدنية الجديدة او عدمه واعداد التعليمات اللازمة بذلك ” ومن المثير للاشمئزار ان الاحصاء اجري بالفعل في يوم واحد هو 5 تشرين الاول 1962 ، حيث تم تثبيت نتائجه خلافاً لاي منطق سليم ، وفقد جراء العقلية التسلطية الشوفينية اكثر عن (100,000) كوردي جنسياتهم ومنحوا وثائق اقامة وصفتهم بـ (اجانب اتراك ) في طريقة تفكير همجية وبربرية لاتحترم الانسان لانسانيته بل تفتعل الوسائل المنافية لاية صفة او يشتم منها الاعتزاز بمبد الوحدة الوطنية، تم تعديل تلك الصفة لتصبح (اجانب سوريين) بعد صدور المرسوم (276) سنة1969 .
الجدير بالاهتمام انه في الاطار نفسه، شنت وسائل الاعلام السورية خلال فترة بدايات الستينات من القرن الفائت، حملة دعائية ركزت فيه على ترويج و توجيه التهمة المسبقة الاعداد حول التسلل الكوردي المزعوم الى سوريا، بهدف اثارة الرأي العام السوري ضد الوجود الكوردي التاريخي واضعاف الحركة السياسية الكوردية الى اقصى حد ممكن، بعد ان شهدت الحركة انتعاشا ملحوظا مع تأسيس (البارتي) في 14 حزيرا 1957 وانتشاره الواسع بين الاوساط الكوردية، وساهمت وسائل الاعلام نفسها في فتح شهية النظام السوري في امطار الشعب الكوردي بوابل من المشاريع والتدابير العنصرية الشوفينية البعيدة عن روح القوانين والشرائع الدولية الداعية الى احترام خصوصيات الفئات المكونة لاي مجتمع انساني كان، والتي كانت اهم ثمراتها مشروعي الاحصاء الاستثنائي سنة1962 ـ كما سبق والاشارة ـ ومشروع الحزام العنصري الذي تم تنفيذه بين السنوات(1966ـ1975) والعديد من الممارسات الفاضحة في انتهاك حرمة وكرامة الانسان الكوردي الاعزل في محيطه السوري، لا لشيء سوى لانتمائه القومي الذي وهبها الله له.
بناء على ماتقدم، فان ظروف الحركة السياسية الكوردية في سوريا ومرحلتها الصعبة، الحت على الجميع التحرك من اجل توضيح مهمة ان الكورد في سوريا يتعرضون الى حملات قاسية من محو الهوية وسعي حكومي لاقتلاعهم من محيطهم من خلال تبني سياسات اقل ما يمكن ان توصف بها انها تصب في خانة الابادة العنصرية وتحمل مضامين برامج الهيمنة السياسية والاشتباك المبني على ضرورة صهر الكورد في البوتقة العربية تحقيقا لمعطيات النظرية العروبية التي روج لها البعث لعقود طويلة.
فضلا عن ما سبق ، من المهم التذكير ان حزب البعث العربي الاشتراكي كان ولايزال منكمشا على نفسه ويعاني من فوضوية طروحاته و بقي ـ الى يومنا هذا ـ يعيش في شرنقة عصور الاضطراب والقلق الاجتماعي في تعاطيه للمكونات المغايرة للمكون العربي ولم يسطتع حتى اللحظة ان يدخل عصر التحول والحراك السياسي والاجتماعي من خلال احتفاظه بالتعابير التي شاخت وهرمت واصبحت تعيش خارج التاريخ، من ذلك ان المادة (15) من دستوره جاءت تفيد “ن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والاقليمية “لاشك انها عبارة تدل دلالة واضحة انه اذا كان يحق للبعث وادواته مكافحة الولاءات الاجتماعية المشكلة للمجتمع العربي فلاشك انه كان يرتكب جريمة في حق الانسانية من خلال الدعوة الى مكافحة القوميات التي عاشت لقرون طويلة الى جانب العنصر العربي حتى قبل ان يهاجر ويستقر العرب في اوطان تلك القوميات، فضلا عن حقيقة استيلاء البعث على السلطة في كل من سوريا والعراق بالاعتماد على الولاءات التقليدية التي كان يدعي محاربته لها.
يستنتج مما تقدم قوله، ان الكورد في سوريا لم ينعموا تحت راية الحكومات السورية بالهدوء او ان مناطقهم التاريخية شهدت تطورات عمرانية، وان حركتهم القومية كانت دوما في معرض الدفاع عن نفسها وعن الشرائح الاجتماعية التي نذرت طاقاتها لتجنيبهم من الاخطار القوموية المحدقة بهم، ومن المعروف جيدا ان ابشع حالاته واسوءها كان ولايزال من حكومات البعث المتعاقبة.

شارك هذا المقال: