التحول نحو السوق بدون الديمقراطية في الصين – Marketization Without Democratization in China

شارك هذا المقال:

في عام1978 لم تكن هناك سجلات إحصائية رسمية حول الشركات الخاصة في الصين لأنها لم تكن شرعية وعددها لا يذكر. بعد ذلك بثلاثين عام فقط, أصبح القطاع الخاص محرك النمو الاقتصادي في الصين. في عام 2008 كان هناك أكثر من /34/ مليون شركة خاصة تستخدم أكثر من /200/ مليون شخص وتنتج أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي للبلد.
لقد قادت السرعة المدهشة لتطور القطاع الخاص في الصين المراقبين للتوقع بأن البلد يطور طبقة رأسمالية ستطالب بالديمقراطية. واعتمدت هذه التوقعات على منطق أن طبقة التجار المزدهرة ستسقط الحكومة الاستبدادية انطلاقاً من روح فكرة ” لا ضريبة بدون تمثيل سياسي”, وذلك اتباعاً للنموذج البريطاني والأمريكي في تطور الديمقراطية.
لكن هذه الحكمة المألوفة حول العلاقة السببية بين الأسواق الحرة والحرية السياسية لا تتوافق مع حالة الصين اليوم. ولا يعمل رجال الأعمال الصينيون بشكل جماعي على الدفع نحو الديمقراطية, ومن دأب منهم على انتقاد الحزب الشيوعي الصيني, وُضع تحت الرقابة أو سجن أو قمع أو تم نفيه. وبدلاً من الحرية السياسية, فإن انتشار قوى السوق عزز المرونة الاستبدادية واستمرارية النظام في الصين.

انقسام الرأسماليين:
لا يشكل مالكو الشركات الخاصة في الصين طبقة رأسمالية متميزة ذات هوية ومصالح مشتركة. إن لباعة الرصيف المتجولين ومالكي المطاعم مصالح واهتمامات مختلفة عن تجار العقارات ومالكي الشركات الـ500 الكبرى. إن المليونيرية و المليارديرية الذين ظهروا حديثاً راكموا ثرواتهم في ظل النظام السياسي الحالي. فمالك المشغل المنزلي مشغول بكدحه بحيث لا يهتم بفكرة أن التحول الديمقراطي يمكن أن يكون حلا لمشكلاته اليومية.
لكن حتى الفئة المتوسطة من الرأسماليين, التي قد يبدو أن لها مصلحة اقتصادية في المشاركة السياسية لضمان سيادة القانون وحماية حقوق الملكية الخاصة, تفتقد الأرضية المشتركة. منعت اختلافاتُ هوياتها الاجتماعية والسياسية النشاطَ الجماعي على أساس الطبقة.
نظراً لحداثة الإصلاحات باتجاه اقتصاد السوق, فإن القطاع الخاص الصيني يضم أناساً من خلفيات متنوعة جداً. إن بعض رجال الأعمال هم فلاحون تخلوا عن الزراعة العامة وأسسوا شركات تجارية في فترة مبكرة من مرحلة الإصلاح. و البعض هم من موظفي الحكومة الذين تم فصلهم أو تقليص صلاحياتهم. و آخرون هم مثقفون مهمشون أو بيروقراطيون سابقون خائبون تخلوا عن السياسة من أجل تحقيق معيشة محترمة. وهناك عدد كبير من رجال الأعمال هم أعضاء في الحزب الشيوعي الذين استغلوا علاقاتهم السياسية من أجل الحصول على الائتمان المصرفي والأراضي وغيرها من ممتلكات الحكومة بشروط تفضيلية.
مَنَعَ هذا النمطُ من الاختلافات تكوينَ الطبقة و من ثم الفعلَ الجماعي المستند على الطبقة. وفي الحقيقة فإن عدداً قليلاً جداً من رجال الأعمال يعتبرون أنفسهم رأسماليين, بل يفضلون أن يُعرَفوا بمواقعهم أو وظائفهم السابقة.

تجزؤ الصين:
قد يجادل البعض، أن انقسام الرأسمالية الصينية هو ظاهرة قصيرة الأجل. ربما قام الجيل التالي من رجال الأعمال بتطوير طبقة أكثر انسجاماً وقرر أن النظام الديمقراطي سيخدم مصالحهم بشكل أفضل.
قبل كل شيء, ومن خلال الاستقصاءات التي قمت بها لرجال الأعمال, معظم المؤشرات تدل على أنهم يفضلون أن يحصل أطفالهم, أو في الحقيقة طفلهم الوحيد(1), على تعليم جيد, وأن يحترفوا الوظائف الحكومية بدلاً من الانشغال بشركاتهم الخاصة. في معظم الحالات لا يطمح رأسماليو اليوم باستمرار أعمالهم التجارية لأجيال. لدرجة أن الآباء من رجال الأعمال الذين نجحوا في شق طريقهم يعتبرون الربح الخاص مجرد أداة انتقالية لتحقيق شكل أكثر احتراماً للمعيشة. ولدرجة أن الشركات التي ستنتقل للجيل التالي ستكون أقلية بسيطة, آخذين في الاعتبار الدرجة العالية من انتقال ملكية الشركات(من مالك لآخر), لذلك من غير المحتمل أن يلتئموا إلى قوة سياسية داعمة للديمقراطية.
حتى الرأسماليون الذين يشغلون شركات في نفس القطاع ونفس الحجم, لديهم مشاكل مختلفة وآراء سياسية مختلفة نتيجة الاختلافات المحلية في بيئة السياسة المتبعة تجاه القطاع الخاص. تماما كما تتغير هوية مالكي الشركات الصينية بسبب خلفياتهم المختلفة, فإن خبراتهم العملية تختلف حسب المناطق.
هناك مناطق تعرف بشروطها السخية للشركات الخاصة. والمثال الأبرز على ذلك هو (Wenzhou ) على الشاطئ الجنوبي لمقاطعة (Zhejiang ). وقبل فترة طويلة من تشريع الحكومة المركزية للقطاع الخاص, كان موظفو هذه المنطقة يسمحون للفلاحين بإدارة مؤسسات تجزئة ومشاغل صغيرة.
في المقابل فإنه في مناطق أخرى تمت ممارسة معاملة تمييزية ضد رأس المال الخاص بشكل منتظم طوال فترة الإصلاح. كانت الحكومات المحلية في المناطق التي ورثت هياكل حكومية ضخمة أو قطاعا عاماً واسعا من فترة “ماو” (1949-1976) أكثر كرها لمنح القطاع الخاص الوصول للموارد الأساسية (مثل القروض المصرفية) اللازمة لإنشاء شركات خاصة. كذلك فإن المناطق التي تلقت كميات كبيرة من الاستثمار الأجنبي المباشر استمرت في إعطاء المستثمرين الأجانب شروطاً أفضل من نظرائهم المحليين.
لذلك فإن الرأسماليين الصينيين يواجهون أنماطاً مختلفة من التحديات حسب المناطق التي ينشطون فيها, ومع ذلك تختلف إمكانية ممارستهم للنفوذ السياسي. تدافع جمعيات التجار، المنظمة بشكل مستقل، في (Wenzhou ) بشكل نشط عن أعضائها؛ بينما تسيطر الحكومة على جمعيات رجال الأعمال في المناطق الأخرى وهي ذات فائدة محدودة لمالكي الشركات. بهذا المعنى فإن التجزؤ السكاني الداخلي للرأسماليين هو انعكاس للاختلافات المكانية للأنشطة الاقتصادية للقطاع الخاص. إذا أصبح رجال الأعمال الساخطون أكثر حزما سياسيا في منطقة معينة فإنهم يواجهون مصاعب في كسب الدعم لمطالبهم على نطاق البلد .

المعارضة المكبوتة:
ليس رجال الأعمال هم القطاع الوحيد في المجتمع الصيني الذي يواجه القيود المناطقية على الفعل السياسي المنظم. فالمزارعون والعمال والمثقفون الذين يعانون من مشكلات معينة ويشتكون منها يواجهون المصاعب نفسها في الحصول على الدعم في كل المناطق.
في السنوات الأخيرة ازدادت عدد الاحتجاجات الجماعية والمظاهرات بشكل لافت, حيث تشير الاحصاءات الرسمية إلى أنه في عام 2003 كان هناك /58000/ احتجاج, و/74000/ احتجاج في عام 2004, و/87000/ احتجاج في عام 2005. وعلى الرغم من أن زيادة درجة حركية السكان وانتشار تكنولوجيا الاتصالات خففت من القيود التنظيمية التي تعود لمرحلة الإصلاح, فإن هذه الاحتجاجات بقيت ذات طابع مناطقي.
كانت الحركة السياسية الوحيدة التي شكلت تحدياً جدياً للنظام هي الحزب الديمقراطي الصيني. في عام 1998 تم تأسيس لجان الحزب المناطقية في /24/ مقاطعة ومدينة. لكن السلطات سارعت إلى نفي واعتقال واحتجاز قادة الحزب الديمقراطي, الأمر الذي أفشل عمليا جهود تأسيس الحزب على المستوى المركزي.
وبعد ذلك تم قمع ممارسي الـ(Falun Gong )(2) في عامي 1999-2000, وتم الحجر على المواطنين خلال انتشار فيروس جنون البقر(SARS ) في عام 2003, وتم قمع محتجي التيبت بشكل ناعم عام 2008. كل ذلك قدم أدلة إضافية على أن “بكين” تحتفظ بالقدرة على السيطرة على المواطنين خلال الأزمات.

المرونة الشيوعية:
يرى المراقبون, الذين يتوقعون تحولا ديمقراطياً في الصين, بأن انتشار قوى السوق ترافقها مجموعة من التأثيرات المربكة للاستقرار, وتتضمن الازدياد الواضح للتفاوت في الدخل وانتشار الفساد بين المسؤولين الحكوميين. وعلى الرغم من حدوث الاحتجاجات بشكل متزايد, لكن الطبقة الرأسمالية, الحامل المتوقع للديمقراطية, تغيبت بشكل لافت عن انفجارات السخط. علاوة على ذلك فإن القليل من حالات الاحتجاج كانت موجهة لتحدي احتكار الحزب الشيوعي الصيني للسلطة السياسية. حتى أن محاولة تأسيس الحزب الديمقراطي الصيني تمت من خلال القنوات الإدارية الرسمية, أي من خلال قواعد النظام السياسي الحالي.
وفي النهاية فإن إصلاحات السوق في الصين في ظل حكم استبدادي انتجت, وبشكل غير متوقع, معدلات عالية للنمو الاقتصادي, وهو أمر استفادت منه كل طبقات المجتمع. إن المستفيدين من نموذج الرأسمالية الاستبدادية للتنمية هذا لا يميلون لرفع الصوت للمطالبة بالإصلاحات السياسية التي يمكن أن تخل باستقرار المجتمع وتضر باستمرارية النمو الاقتصادي.
كذلك فإنه خلال /87/عاماً من وجوده, أظهر الحزب الشيوعي الصيني قدرة لافتة على مراجعة ذاته وتنشطيها من خلال تعديلات حادة في الأيديولوجيا وتركيبة الأعضاء والأهداف السياسية. لذلك ثبت إلى حد بعيد أن التحول نحو اقتصاد السوق اصبح مصدراً لشرعية الحزب وليس لسقوطه. لهذه الاسباب استمرت الصين في التملص من الترافق الشائع بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية.

(*) Kellee S. Tsai

المصدر:
E Journal USA – June 2008, Volume 13 Number 6
* (استاذ العلوم السياسية في جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة)
1 – باعتبار أن القوانين الصينية تمنع إنجاب أكثر من طفل في معظم المقاطعات (ملاحظة من المترجم)
2 – حركة روحية يجمع أنصارها بين ممارسة التأمل والحركة البطيئةqigong وبعض المعتقدات الفلسفية الشفهية. أدخلت للصين عام 1992 وقمعتها السلطات بدءا من عام 1999. (ملاحظة من المترجم)

شارك هذا المقال: