الكرد وتركيا وإيران بعد الحرب الأمريكية على العراق: سيناريوهات جديدة

شارك هذا المقال:

 

سيناريوهات جديدة؟[1]

مارتن فان برونسين 

الترجمة عن الإنكليزية : راج آل محمد

 

   على مدى السنوات الإثنتي عشرة الماضية تمتع الكرد في العراق بالحكم الذاتي في جزء من وطنهم على الأقل؛ وقد كانت المناطق الكردية تلك دولة مستقلة رغم أنها افتقرت إلى كل أشكال الاعتراف الدولي. ولم يكف الزعماء الأكراد عن الإعلان عن عدم وجود أية طموحات لديهم في الانفصال عن العراق بشكل دائم، وأن أهدافهم السياسية يمكن تلخيصها في الشعار: “الديمقراطية للعراق، والحكم الذاتي [الحقيقي] لكردستان”. والواقع أن هناك روابط كثيرة تربط الكرد ببقية العراق: تاريخ مشترك وتطلعات مشتركة نتيجة الاشتراك في النظام الثقافي نفسه ومن خلال الاستماع إلى ومشاهدة وسائل الإعلام ذاتها بالإضافة إلى عقود من الاشتراك في النظام السياسي ذاته. ولكن في قلب معظم الأكراد هناك حلم الدولة الكردية المستقلة، وعلى كل فإن كل الزعماء الكرد كانوا براغماتيين بما فيه الكفاية وقبلوا فكرة أن المجتمع الدولي- دول المنطقة، والقوى العظمى، والأمم المتحدة-لن تسمح بانقسام الدول القائمة.

   قبيل الحرب، وحينما بدا أن أصدقائي الكرد شغوفين برؤية أمريكا وهي تقاتل صدام، حذرتهم من أن نتيجة الحرب قد تؤدي إلى فقدانهم للاستقلال القليل الذي حصلوا عليه. فعندما سحب الزعماء الأكراد رجالهم المسلحين من كركوك والموصل بعد أن دخلوها وتخلوا عن المطالبة بالعراق الفيدرالي-بناءً على طلب من الأمريكان الذين لا يريدون أن يثيروا غضب تركيا حول كركوك التي تبدو مصممة على بقاء العراق دولة موحدة-أكد ذلك ما اعتقدته نتيجة محتومة. ولكن ربما يتبين أن الولايات المتحدة غير مستعدة بشكل كاف لبناء الأمة في العراق كمشروع كما أنه يفتقر إلى الشرعية الكافية. والأسابيع الأولى [لانتهاء] الحرب تعطي مبرراً للتساؤل فيما إذا كان فشل الولايات المتحدة في إقامة نظام مستقر في بغداد سوف لن يؤدي بالضبط إلى ما اعتبرتهُ مستحيلاً من قبل: دولة كردية مستقلة.

حق تقرير المصير القومي: ثلاثة أمواج

    كانت هناك ثلاثة أمواج من حق تقرير المصير القومي التي أدت إلى نشوء الدول الجديدة في القرن العشرين. الموجة الأولى ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حينما تفككت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية-الهنغارية  Habsburg المتعددة الإثنيات. وكانت مبادئ ويلسون المعلنة عن حق تقرير المصير تخص بالدرجة الأولى الرعايا المسيحيين لهاتين الإمبراطوريتين. وقد ظهر الكرد، ولوقت قصير، وكأن لديهم فرصة-إمكانية إقامة دولة كردية ذُكرت في معاهدة سيفر، وفكر بعض من واضعي السياسة البريطانيين في إقامة دولة كردية حاجزة بين تركيا الجديدة ميزوبوتاميا- ولكنهم فقدوها قبل أن تتشكل حركة قومية كردية قوية بما فيه الكفاية.

   الموجة الثانية ترافقت مع ميثاق الأمم المتحدة وزوال الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية والبرتغالية الاستعمارية. وقد فُهِم حق تقرير المصير القومي في حينه، الذي يحميه ميثاق الأمم، على أنه يخص المستعمرات السابقة فقط مع احترام للحدود القائمة. وقد دعمت الأمم المتحدة أيضاً مبدأ عدم انتهاك حرمة أراضي الدول الأعضاء فيها ولم تدعم أبداً الحركات الانفصالية. وقد تم الاعتراف بانفصال بنغلاديش عن باكستان وإريتريا عن إثيوبيا بعد الواقعة، ولكن لم يُسمح بحوادث مماثلة. ولا يمكن التصور أن تدعم الأمم المتحدة نضال الكرد من اجل الاستقلال.

   الموجة الثالثة بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، آخر إمبراطورية استعمارية، ويوغسلافيا.وقد تم إلى حد كبير تتبع قوانين الأمم المتحدة: فقط الجمهوريات التي كانت قائمة في الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا هي التي مُنِحت الاستقلال (وتم الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي): جورجيا أصبحت دولة مستقلة ولكن الشيشان بقيت في الاتحاد الروسي…الخ. ولكن التدخلات العسكرية خلقت بعض الحقائق الجديدة على الأرض التي لا تنسجم مع الحدود القائمة من قبل. فالتدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة في كوسوفو قد عزز الشخصية الإثنية للألبان في المنطقة وأدى إلى تطهير الصرب. ويبدو احتمال توحيد صربيا غير وارد غالباً. وربما هي مسألة وقت فقط حتى تتحول كوسوفو دولة مستقلة.

هل يمكن أن يؤدي التدخل الأمريكي في العراق إلى شيء مماثل في كردستان؟

إن تجاهل أمريكا للأمم المتحدة وحالة الجفاء بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، أقوى مؤيدين لوحدة الأراضي العراقية (لأسباب مختلفة)، يشيران إلى أن القوانين التي تحكم لعبة السياسة الدولية لم تعد تلك التي سادت في السنوات الخمسين الماضية. ورغم أن الولايات المتحدة في الواقع الحاضر تظهر رغبة قوية في العراق الموحد، فإن تجزئته لم يعد مستحيلاً كما كان من قبلُ.

عوامل استحسان العراق الموحد

   إن أحد الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تفضل عراقاً فدرالياً موحداً على الحكم الذاتي الكردي، ناهيك عن الاستقلال، هو أن بقية العراق سوف يحكمه الشيعة بقوة. إن الثورة الإيرانية ونتائجها قد جعلت الأمريكيين حذرين جداً من الشيعة. صحيحٌ أن شيعة العراق مقسمون والكثير منهم إما علمانيون في تفكيرهم أو متدينون ولكنهم يرفضون الإسلام السياسي، ولكن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق،القريب من “المتشددين” الإيرانيين والمعارض للوجود الأمريكي، هو ربما الأكبر والأفضل تنظيماً بين شيعة العراق. ويبدو أن الكرد، في نظر الأمريكان،يشكلون ضرورة في العراق لمنع السيطرة الشيعية. (لا يختلف هذا كثيراً عن الأسباب التي دعت البريطانيين إلى إلحاق ولاية الموصل بأغلبيتها الكردية بالعراق العربي). ولكن إذا نجح الأمريكان في إحداث تغيير-بأية وسيلة كانت- في إيران، فإن شيعة العراق سوف يكفون عن تشكيل تهديد وبالتالي فإن الحاجة إلى عراق موحد تصبح أقل إلحاحاً.

   قبل الحرب، صرحت تركيا بأنها سوف تعتبر ليس فقط الاستقلال الكردي، بل أيضاً قيام الفدرالية في العراق والانتقال الملحوظ للسلطة إلى الكرد تهديداً لأمنها وسببا لإعلان الحرب. ومن المرجح أن إيران وسورية لهما وجهة نظر ذاتها حيال التأثير المحتمل لحكم ذاتي كردي معترف به دولياً. ورغم حالة الجفاء بين الولايات المتحدة وتركيا، فإن واضعو السياسة الأمريكان سوف يتجنبون إحباط تركيا قدر الإمكان.

    بناءً على ذلك، لم يُعطِ  الزعماء الكرد أية إشارات تنم عن مقاومة قوية ضد مشروع العراق الموحد. وعلى عكس تصريحاتهم العلنية المبكرة عن مستقبل العراق الفدرالي، فإنهم منذ إعلان الحرب بقوا صامتين حول القضية تلك. وبدا أن البارزاني يذعن لاقتراح أن قواته من البيشمركه سوف تُحل في القوات العراقية المسلحة المستقبلية. وسرعان ما سحب الزعيمان [البارزاني والطالباني] قواتهما من مدن الموصل وكركوك التي استولوا عليها عندما طلب منهما الأمريكان ذلك، مظهرين بذلك بأنهما لا يحاولان خلق وقائع على الأرض في صيغة حكم ذاتي موسع لكردستان. ولكن تنازلات زعماء الكرد الواضحة حول هذه القضايا الهامة على ما يبدو خلقت عدم ارتياح بين الكرد العاديين.

العوامل التي تعمل ضد الدولة الموحدة

إن تجربة الكرد مع دمجهم في العراق لم تكن سعيدة جداً. اشترط البريطانيون، عندما قرروا ضم ولاية الموصل إلى العراق الجديد، أن يكون لدى الكرد ضمانات حول حقوقهم الثقافية وتمثيلهم في أجهزة الدولة. لقد تمتعوا على الدوام بحقوق أكثر مما تمتعوا بها في تركيا وإيران أو سورية، ولكن ليس كل الحقوق التي اعتقدوا أنهم يستحقونها، وهو ما شكل سبباً لكثير من الانتفاضات الثانوية وحروب  عصابات رئيسية أدت في عام 1970 إلى اتفاقية تمنحهم الحكم الذاتي. ولم يتم تنفيذ الشروط الكاملة للاتفاقية أبداً: حيث هُجِّرت أعداد كبيرة من العائلات الكردية من كركوك ومناطق إستراتيجية أخرى هامة حتى لا تشملها منطقة الحكم الذاتي. ورغم الحكم الذاتي الرسمي، دمرت السلطات العراقية خلال الثمانينيات نحو ثلاثة أرباع القرى الكردية. وقد وصلت الحملة إلى أوجها في المجزرة التي أودت بحياة 5000 كردي على الأقل (وربما سبعة أضعاف ذلك الرقم) في عام 1988. ولئن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن تجربة الكرد هذه بينت لهم بأن القوانين والتفاصيل الرسمية، وحتى الحكم الذاتي، ليست كافية لضمان أمنهم.

   وفق فهم الكثير من الكرد، فإن الاستقلال التام مدعوماً من قبل جيشٍ كردي هو الضمانة الوحيدة لأمنهم. ويمكن أن يكون البديل هو ضمانات أكيدة من الأمريكان بأن حقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية سوف تُحترم في عراق المستقبل (حيث يشكل الكرد أقل من ربع السكان). وسبب الموقف الثابت المؤيد للأمريكان من قبل الكرد العراقيين (رغم أن الأمريكان خانوهم مرتين في عام 1975 و1991) هو أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على توفير الضمانات الأمنية التي يحتاجها الكرد. وتشكل الضمانات الأمريكية لحقوق الكرد تعدياً دائماً على سيادة العراق.

   في الوقت الذي لا تفضل أي من جارات العراق تمزيقه، فإنها في الماضي خرقت مبدأ عدم التدخل. فقد استعملت كل تلك الحكومات في الماضي الأكرادَ كسلاح ضد إحدى جيرانها على الأقل لزعزعة أمن  تلك الجارة. وقد كانت للحركة السياسية الكردية عموماً صفقات مع الحكومة أو على الأقل مع أجهزة الاستخبارات السرية لدولة أو أكثر من الدول المجاورة. وقد طورت الأحزاب الكردية في العراق في هذا المجال علاقات رسمية ومتوازنة وأكثر ديمومة من أحزاب الأجزاء الأخرى من كردستان. فلدى الحزبين الرئيسيين مكاتب في دمشق وطهران وأنقرة، وقد كانت تركيا في الواقع هي التي سهلت الحماية الدولية للمنطقة الكردية في التسعينيات. ورغم أنها لم تعترف أبداً بحكومة إقليم كردستان، إلا أن الحكومة التركية أبقت على اتصالات رسمية وعلى مستوى رفيع مع الأحزاب الكردية العراقية وزعمائها. وليس من المستبعد أن تقتنع تركيا، مع مرور الوقت، بأن سلطةً كردية في شمالي العراق قد تشكل جارة أكثر جاذبية من حكومة مركزية قوية في بغداد.

   لم تفقد تركيا على الإطلاق اهتمامها بولاية الموصل السابقة. بل أن هناك من يعتقد أن ولاية الموصل برمتها من حق تركيا- أشار وزير الخارجية السابق يشار ياقس  Yasar Yakisبأن تركيا قد تطالب بتلك المنطقة.وفكر تورغوت أوزال، رئيس وزراء ورئيس تركيا الأسبق في إعادة دمج تلك المنطقة إلى تركيا. وبدا أنه يؤمن بأن نوعاً من الفدرالية بين تركيا وكردستان العراق قد يشكل فائدة متبادلة للطرفين ويشكل حلاً محتملاً لمشكلة تركيا مع القضية الكردية. وهذا يبين على الأقل بأن التزام تركيا بسلامة الأراضي العراقية قد أصبح أقل إخلاصا وثباتاً من ذي قبل.

تركيا وإيران وأكرادهما 

إن جمهورية تركيا العلمانية وجمهورية إيران الإسلامية يشكلان مرآة لبعضهما البعض، من خلال مواقفهما من مواطنيهما الأكراد. فتركيا ترفض الاعتراف بالإثنية باسم القومية المدنية وتفعل إيران الشيء نفسه باسم الإسلام. ولكن أي منهما لا يبديان التحفظ ذاته عندما يتعلق الأمر بأكراد العراق. فقد أدى نضال الكرد في العراق تاريخياً إلى جعل أكراد تركيا وإيران هادئين. لقد فشلت الحركات المسلحة للكرد في تلك الدولتين والبقية الباقية من قياداتها تعيش كلاجئين في كردستان العراق أو أوربا الغربية. والنضال الحالي الذي يقوم به أكراد تركيا وإيران هو بشكل رئيسي من أجل الاعتراف بالحقوق الثقافية. إن النجاح في العراق قد يعزز هذا النضال من أجل الحقوق الثقافية ولكنه لن يتحول بالضرورة إلى نضال سياسي أو عسكري.



[1] ملخص ورقة عمل مقدمة من قبل الباحث الهولندي في اجتماع  IDF  حول: “العدالة والأمن والديمقراطية” مدينة لاهاي الهولندية. 25 أيار 2003

شارك هذا المقال: