اليارسان والكاكائية.. جدلية الديانة والطائفة

شارك هذا المقال:

 

ينتمي أتباع اليارسان والكاكائية من الناحية الدينية إلى اتحاد يضم حركات قريبة من البعض يطلق عليهم طائفة (أهل الحق) في كثير من الدراسات الحديثة، وتدور خلافات كثيرة حول اعتبار هذا المعتقد ديانة مستقلة بذاتها أم امتداداً لتطور الحركات الصوفية المنحدرة من رواسب و جذور إسلامية وزرادشتية ومعتقدات قديمة كانت منتشرة في المناطق الكردية.

يعودُ تاريخ انتشار عقائد أهل الحق بين الكُرْد إلى القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي([1])، وظهرت بادئ الأمر على يد شخص يُدعى مبارك شاه خوشين الذي درس في لورستان وهمدان في صغره، وتوفي حوالي عام 467ه/1075م، وكان ينشد الشعر في التصوف والعرفان قبل زعامته لما عرف باليارسانية([2])، ورغم اتفاق أتباع أهل الحق على مجموعة من العقائد المشتركة إلاّ أنهم يختلفون في العادات والطقوس حسب مناطق انتشارهم([3]) مما خلق إرباكاً وحيرةً لدي الباحثين عن هويتهم وجذورهم الدينية.

وينتشر أتباع أهل الحق في بلاد الكُرْد دون غيرها من البلدان وليس لهم أتباع خارج الأثنية الكُرْدية، مما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار اليارسان “ديانة كردية بحتة”([4]).

تسميات الكاكائية واليارسان:

مثل اختلاف أتباع أهل الحق في العادات والطقوس يُعرف أتباع هذا المعتقد بأسماء مختلفة مثل: يارستان، تايفسان، سارلو، دين يار، نصيري، القلم حاجية([5])، لكن من بين جميع هذه الأسماء اشتهرت أسماء اليارسان والكاكائية وعلي إلهى، لأتباع هذا المعتقد، ويشتهر اليارسان بين أكراد إيران، وهي مركبة من جزئين (يار) و(سان) بمعنى صديق السلطان _ القائد _ الملك أو مرشد الحق ([6])، بينما الكاكائية([7]) هي الاسم الشائع بين أكراد العراق للعشائر الذين ينتحلون عقيدة أهل الحق، ومن جانبهم أطلق الرحالة والمستشرقون الغربيون على أتباع أهل الحق من أكراد إيران تسمية “علي إلهي” لأنهم يؤلهون الخليفة الرابع الراشدي علي بن أبي طالب، ويعتقدون أنه تجسيد للروح الإلهية ([8]).

يقبل أتباع اليارسان بكل الأسماء المطلقة عليهم إلاّ تسمية (علي إلهي) الذي أُطلق عليهم من قبل الرحالة الغربيين، فهم يعترضون عليه لأنه دخيل على تراثهم الديني، وعدم اعتقادهم بألوهية علي بن أبي طالب بشكل مطلق وعدم اعتقادهم بأفضليته عن مقام مؤسس العقيدة شاه خوشين (ت467ه/1075م) و الذي يعدونه  ذات الإله، ويعتقدون أنه سيظهر مرة أخرى للوجود قبل قيام الساعة وبمجرد ظهوره تنتهي الحياة([9])، وهم لا يرتبطون تاريخياً وعقائدياً بالذين ألّهوا علي بن أبي طالب في عصره ولا بغلاة الشيعة الأتراك القزلباش (العلويون) الذين يلبسون القبعات الحمراء المنسوبين إلى عقيدتهم بألوهية علي بن أبي طالب([10]).

ظهور اليارسانية في لورستان وانتقالها إلى شَهرَزور وهَورامان:

بدأت اليارسانية بالظهور والانتشار بادئ الأمر في المناطق الكُرْدية الواقعة في لورستان والمناطق التابعة لمقاطعة قرمسين (كرمانشاه) بالجبال خلال القرن 5ه/11م([11])، ثم انتقلت بعد هذه المناطق إلى شهرزور وأذربيجان، ثم أصبحت المناطق الكُرْدية الواقعة ضمن العراق مركزها الرئيسي([12]) ولقيت عقائد اليارسانية رواجاً في بادئ الأمر لدى الأكراد الذين كانوا يعتنقون قبل دخولهم الإسلام عقائد غريبة مثل عبادة الشمس والاعتقاد بالتناسخ([13]).

وتظهر الأخبار التاريخية الواردة من لورستان أن مؤسس عقيدة أهل الحق؛ شاه خوشين اعتمد على سبعة مرافقين في نشر تعاليمه كان من بينهم الشاعر المشهور بين الأكراد بابا طاهر الهمداني المعروف بـ (العريان) والمتوفي حوالي عام (450ه/1058م) الذي أصبح أحد أكبر دعاة أهل الحق وسخّرَ لدعوته ملكته الشعرية ([14]).

يعتقد بعض المؤرخين أن الأكراد الساكنين بإيران قصدوا وراء انتحال عقائد اليارسانية واتباع شاه خوشين الوقوف بوجه الإسلام وإحياء معتقداتهم الدينية القديمة([15])، لكن عددهم ظل محدوداً ولم يتمكنوا من نشر عقيدتهم بما فيه الكفاية في حياة شاه خوشين نفسه إلى أن ظهر خليفة له في شهرزور وهو السلطان إسحاق (سهاك) البرزنجي الذي يشكل مع شيخه شاه خوشين حجر الزاوية في معتقدات هذه الطائفة.

السلطان أسحق البرزنجي:

السلطان إسحاق البرزنجي هو إسحاق بن الشيخ عيسى البرزنجي الهمداني الذي يرجع نسبه للإمام موسى الكاظم، وينطق اسمه عند الأكراد بـ(سهاك)([16])، ورحل والد السلطان اسحق من همدان إلى شهرزور في خضم الهجمات المغولية التي أدت إلى سقوط دولة بني العباس (656ه/ 1258م)([17])، واستطاع السلطان إسحاق البرزنجي أن يجمع أهل الحق المبعثرين المتشتين ويوحد صفوفهم وينظم أفكارهم وتمكن من نشر عقيدتهم بشكل واسع في شهرزور وجبال هورامان وبين قبيلة جاف الكُرْدية بعد أكثر من قرن ونصف من وفاة المؤسس شاه خوشين، ويذكر عنه كرامات صوفية، توفي عام 754ه/1356م على الأرجح، وبفضل جهوده تمكنت اليارسانية من الانتشار من هَورامان وشهرزور حتى وصلت إلى باقي المناطق الكُرْدية([18]).

الجذور الدينية لليارسان (أهل الحق):

يعتقد أتباع أهل الحق أن الله تجسد في سبعة أجسام وفي كل مرة رافقه أربعة من الملائكة، وكان الإله تحت إشراف مرافقيه الأربعة، وكان نبي الإسلام محمد(l) أحد الملائكة المرافقين للإله المتجسد في جسد علي بن أبي طالب(E)([19])، ويعتقدون أن كلام الله لم يظهر في عهد علي(E)، بل ظهر في عهد الإله المتجسد في شخصي شاه خوشين والسلطان إسحاق وأن عصرهما هو الأساس في مسيرة إظهار الحقيقة([20]).

يؤمن أهل الحق بتناسخ الأرواح حيث يشبهون الموت وخروج الروح من الجسد بالوزة التي تختفي في الماء في مكان وتظهر مرة أخرى في مكان آخر، إن كان صالحا ففي جسد صالح وإن كان طالحاً ففي جسد حيوان مفترس([21])، ومن ناحية الشرائع تتفق جميع تعاليمهم الدينية المُنظمة على شكل أبيات شعرية، وما جاء في كتابهم المقدس (سَرَنجام)([22]) على تحريم واستنكار الكذب والخيانة الزوجية والبذاءة واللعن والسب وعدم احتقار أي دين وعدم التنديد بأي عقيدة مع الاهتمام بالأخوة الدينية القوية فيما بينهم، و يتكون كتاب سرنجام من مجموعة من الأناشيد والتعاليم الدينية لليارسان، وكتبت جميع النصوص الدينية المقدسة لأهل الحق باللهجة الكورانية التي تعتبر أحد فروع الرئيسية للغة الكُرْدية، ويعرف عند أتباع هذه العقيدة بلغة (ماجو) الدارجة في منطقة هورامان الجبلية الواقعة شمال شرق العراق على الحدود الإيرانية، ويتحدث هذه التعاليم الدينية عن توحيد الله ومجيء نبي الإسلام والملائكة وآدم وحواء وتنظيم شؤون طائفة اليارسان وتوزيع الأدوار بين طبقاتها المختلفة([23]).

ويحافظ أتباع أهل الحق على صوم ثلاثة أيام في السنة ويطلقون الشوارب ويحلقون اللحية لاعتقادهم بأن الإمام علي كان لايحلق شاربه، ويعتبرون ذلك علامة مميزة لهم، ويوزعون خبزاً خاصاً مع لحم مسلوق ويذبحون الديك في عيدهم الذي يصادف 15 يناير من كل عام ولايقيمون الصلاة، ويتكون غالبية عباداتهم من أدعية ومناجاة وليس لهم مراسم عبادة أو أداء فرائض معينة ويحرمون الخمر، ويحترمون أيام الأثنين والجمعة ويتظاهرون بالإسلام بشكل عام ويسمون المسلمين بالشريعة بينما يطلقون على نفسهم الحقيقة ([24]).

أما بخصوص جذور هذه المعتقدات فهناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن اليارسان لا تشكل ديناً قائماً بذاته، لكن آخرين يرون أن اليارسانية أصبحت ديانة مستقلة لكن عقائد هذه الطائفة ظهرت بتأثيرات مزدكية ونصرانية ويهودية وإسلامية، وتجتمع فيها رواسب أديان قديمة و بعض عقائد الشيعة الباطنيين مع الاعتماد على تنظيم الصوفية في إدارة أمور الطائفة([25]).

 

([1]) تومابوا: مع الأكراد، ترجمة آواز زنكنة، دار الجاحظ، بغداد، 1975م، ص 116؛ كريم نجم خضر الشواني: الكاكائية أصولها وعقائدها، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1989م، ص 15.

([2]) مبارك شاه: هو مبارك شاه ابن جلالة خانم بنت حاكم لورستان (السلطان أماناي)، يعتقد أتباعه أن جلالة خانم ولدت مبارك شاه دون زوج، وبسبب دخول قطعة من الشمس في جوفه (406ه/1015)، ولقب ابنه مبارك شاه بـ(شاه خوشين) و(بابا خوشين)، انظر: صديق بوركيي: ميَذووى ويَذةى كوردي، دار ئاراس، أربيل، 2008م، ج1، ص ص 76 _80.

([3]) دائرة المعارف الإسلامية، ج3، ص 95.

([4]) تهامي العبدولي: إسلام الأكراد، دار الطليعة، بيروت، 2007م، ص 126؛ مينورسكي: الأكراد ملاحظات وانطباعات، ترجمة معرووف خزندار، د.ن، بغداد، 1968م، ص 56.

([5]) خسرو جاف: اللر كرد أم لر، دار ئاراس، أربيل، 2005م ص 34؛ مهرداد أزدي: ئاين و تايفة ئاينييةكان لةكوردستاندا، مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني، لا 45؛ رشيد الخيون: الأديان والمذاهب بالعراق، مطبعة السبحاني، ص 415؛ هاشم كاكيى: ئةستيَرة طةشةى ئاسمانى شارةزوور”سولَتان ئيسحاقى بةرزنجي”، مجلة كاروان، الأمانة العامة للثقافة والشباب، بغداد، العدد 61، 1967م، ص 106.

([6]) كريم نجم الشواني: الكاكائية، ص 39.

([7]) سيسيل جون أدموندز: كرد ترك عرب، ص 226؛ كريم نجم الشواني: الكاكائية، ص 9؛ هاشم كاكيى: ئةستيَرة طةشةى ئاسمانى شارةزوور، ص 110.

([8]) سيسيل جون أدموندز: كرد ترك عرب، دار ئاراس، أربيل، 2004م، ص 226؛ محمد أمين زكي: خلاصة تاريخ الكُرْد،، ترجمة محمد علي عوني، د.ن، مصر، ط2، 1961م ص 290.

([9]) باسيلي نيكيتين: الكرد، دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة نوري طالباني، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر، السليمانية، ط2، 2007م، ص 397؛ رشاد ميران: رةوشى ئاينى و نةتةوةيى لةكوردستاندا، ص ص 155، 165؛ عباس العزاوي: الكاكائية في التاريخ، بغداد، 1949م، ص 100؛ هاشم كاكيى: ئةستيَرة طةشة، ص 107.

([10]) تهامي العبدولي: إسلام الأكراد، ص 129؛ عباس العزاوي: الكاكائية في التاريخ، ص 100.

([11]) دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة أحمد الشنتناوي، أبراهيم زكي خورشيد، عبالحميد يونس، دار المعارف، بيروت، د.ت، ج3، ص 102؛ محمد أمين زكي: خلاصة تاريخ الكُرْد، ص 289.

([12]) مينورسكي: الأكراد ملاحظات وانطباعات ص 56؛ ميهرداد أزدي: ئاين و تايفة ئاينييةكان لةكوردستاندا، 53.

([13]) خسرو جاف: اللر كرد أم لر، ص 41؛ أحمد تاج الدين: الأكراد تاريخ شعب، ص 71؛ نبيل زكي: الأكراد الأساطير والثورات، ص 27؛ محمد أمين زكي: خلاصة تاريخ الكرد، ص ص 289 _290.

([14]) دائرة المعارف الإسلامية، ج3، ص 102؛ سيسيل جؤن أدموندز: كرد ترك عرب، ص 236؛ باسيلي نيكيتين: الكُرْد، ص 398؛ رشاد ميران: رةوشى ئاينى و نةتةوةيى لةكوردستاندا، ص 176.

([15]) خسرو جاف: اللر كرد أم لر، ص 41؛ محمد أمين زكي: خلاصة تاريخ الكُرْد، ص 290.

([16]) انظر: عبدالكريم المدرس: علماؤنا في خدمة العلم والدين، ص ص 421 _422؛ هاشم كاكيي: ئةستيَرة طةشةى ئاسمانى شارةزوور، ص ص 103 _104.

([17]) عبدالكريم المدرس: علماؤنا في خدمة العلم، ص 422؛ هاشم كاكيى: ئةستيَرة طةشةى شارةزوور، لا، 87.

([18]) دائرة المعارف الإسلامية، ج3، ص 102؛ تهامي العبدولي: إسلام الأكراد، ص 127؛ سيسيل أدموندز: كرد ترك عرب، ص 226؛ خسرو جاف: اللر كرد أم لر؟، ص 43؛ ميهرداد أزدي: ئاين و تايفة ئاينييةكان لةكوردستاندا، لا53؛ رشيد الخيون: الأديان والمذاهب بالعراق، ص 418؛ تومابوا: مع الأكراد، ص 116.

([19]) باسيلي نيكيتين: الأكراد، ص 397؛ محمد أمين هوراماني: كاكةيى، مطبعة الحوادث، بغداد، 1984، ص 49.

([20]) دائرة المعارف الإسلامية، ج3، ص 102؛ محمد أمين هورامانى: كاكةيى، ص 49.

([21]) رشاد ميران: رةوشى ئاينى و نةتةوةيى، ص 164؛ مينورسكي: الأكراد ملاحظات وانطباعات، ص 57؛ محمد امين هوراماني: كاكةيى، ص 51.

([22]) شرفخان البدليسي: الشرفنامة، ص 23؛ خسرو جاف: اللر كرد أم لر، ص 41؛ رشاد ميران: رةوشى ئاينى و نةتةوةيى، ص 154؛ مينورسكي: الأكراد ملاحظات وانطباعات، ص 58؛ هاشم كاكيى: ئةستيَرة طةشةى ئاسمانى شارةزور، ص ص 97_ 105.

([23]) محمد أمين هوراماني: كاكةيى، ص 45؛ مينورسكي: الأكراد ملاحظات وانطباعات، ص 57.

([24]) دائرة المعارف الإسلامية، ج3، ص ص 98_104؛ خسرو جاف: اللر كرد أم لر، ص 41؛ محمد أمين هوراماني: كاكةيى، ص 54؛ مينورسكي: الأكراد ملاحظات وانطباعات، ص 57؛ عباس العزاوي: الكاكائية في التاريخ، ص 73.

([25]) دائرة المعارف الإسلامية، ج3، ص 95؛ باسيلي: نيكيتين: الأكراد، ص 258؛ رشاد ميران: رةوشى ئاينى و نةتةوةيى لةكوردستاندا، ص 168. ميهرداد أزدي: ئاين و تايفة ئاينييةكان، لا 53؛ رشيد الخيون: الأديان والمذاهب بالعراق، ص 412.

شارك هذا المقال: