من يكتب تاريخ الأكراد؟

شارك هذا المقال:

من يكتب تاريخ الأكراد؟

 

د. آزاد أحمد علي

1- دفيد ماكدول

  منذ حوالي ثلاثين سنة وتحديداُ بعد اتفاق الجزائر عام 1975 طويت صفحة
المسألة الكوردية ولفها النسيان في المنطقة، ولم يعد هناك من يسمع بها إلا نادراً، وخاصة في وسائط الإعلام المسموع، الأكثر انتشارا وشعبية يومئذ. فعمت الكآبة  في الأوساط  النخبوية والشعبية الكردية، وخيم الجمود على  حركة التحرر الكردية، كما خف النشاط السياسي الكردستاني، بل تراجع بحدة…

 في تلك الأجواء المريبة بصمتها،  أجواء كانت الأيام تمر فيها بتثاقل وكآبة، كانت أوقاتا يائسة، عنوانها البؤس والحرمان والخيبة. في ظل تلك المناخات الكئيبة، عندما كان يرد اسم الأكراد أو كردستان في الإذاعات، كانت الأجواء تتحرك، ويدب النشاط، إذ أن المذياع كانت وسيلة التلقي الأولى في المناطق الكردية. ما إن كان يرد اسم كردي أو الأكراد حتى تتفرقع الحناجر وترتفع الأصوات، وتسري الحرارة  في أوصال المجتمع الكردي، وتتناقل الألسن الخبر أو الحدث. أي خبر! أو أي حدث ذات صلة بالأكراد وقضاياهم.

دفيد ماكدول كان واحد من أهم الذين يثيرون الصخب في هذا المجال،  يحفزون ويحرضون على تلك الحركة،  كان الرجل من الصحفيين المهتمين بالشأن الكردي، إذ كان يعمل في الإذاعة البريطانية، وكان يجيب بين الفينة والأخرى على تساؤلات المستمعين حول المسالة الكردية، حول الأكراد بشكل عام: أصلهم وواقعهم، أوضاعهم السياسية والاجتماعية حينئذ.

 وغالباً ما كنا نسمع أن المستمع (محمد أو أحمد  من السودان) يسأل عن الأكراد
وأصلهم ومشكلتهم العويصة، وكانت B.B.C تجيب في برنامج (لكل سؤال جواب) أو(أنت   تٍسأل ونحن نجيب) بتردد وخبث.

  كانت بي بي سي ترد غالبا: “بأننا قد أحلنا السؤال على السيد: دفيد مكدول.
ربما لم يكن لأغلب المستمعين الأكراد غاية سوى ترداد اسم شعبهم وقضيتهم وحسب،
وبصرف النظر عن  مضمون الحديث، وبالتأكيد لم يكن يهم أحدا منا اسم المعلق، فالمهم أن يسمع العالم باسمهم الأكراد ولو عبر شتيمة أو من خلال طرفة! لذلك لم يكن مهماً إن كان السيد ماكدول يصفهم حينئذ بالمتمردين والقبليين وغيرها من الأوصاف
الإعلامية الفاقعة وغير الموضوعية، أو بالفرسان، وإنما الأهم أنه هنالك من كان يسمع بالأكراد عبر الأثير، وكان دائما هنالك عدد من المتطوعين العاطفيين الأكراد جاهزين ليزغردوا وينطلقوا  راقصين وطائرين في الأحياء، يخترقون المساكن والمجالس، يعبرون الأزقة فرحين ومسرورين جدا لنقل الخبر المهم عن الأكراد.

الخبر! أي خبر عن الأكراد؟  “لقد تحدثت B.B.C   عن الأكراد والقضية الكوردية وثمة تحول في مواقف الدول العظمى اتجاه القضية الكوردية”.

 وكانت هذه الأحاديث وأحيانا قليلة الأخبار  مجرد سرديات لا تغني ولاتسمن عن الجوع الحقيقي لهذا الشعب، جوعه الدائم لأن ينصف ولو معرفيا، أن يتم  وصفه كما هو وليس كما يعتقد أنه عليه.

دفيد ماكدول هذا الذي تمرس في الحديث عن الأكراد خلال سنوات طويلة، قام بتأليف كتاب كبير عن تاريخ الأكراد الحديث،  صدر الكتاب باللغة الانكليزية منذ أكثر من عشرة أعوام، نشر الكتاب في عدة طبعات انكليزية،  العنوان الأصلي للكاتب هو:

 AMODERN  HISTORY OF THE  KURDS

و الطبعات هي لأعوام 1996,1997, 2000 و 2004

أما الطبعة العربية فقد صدرت عن دار الفارابي عام 2004 تحت عنوان تاريخ الأكراد الحديث، ترجمة: راج آل محمد.

 النسخة العربية تقع  في  733  صفحة من القطع الكبير.

لدراسة محتوى الكتاب لابد من التوقف عنده واستعراضه بموضوعية، سنتوقف عنده ولن نزغرد فرحين لمجرد تلقف الاسم والعنوان فقط، كما كنا نفعل قبل ثلاثين سنة مع سرديات  ماكدول الإذاعية.

الكتاب كبير نسبيا لذلك يتوزع على خمسة أقسام، كل قسم جاء بعنوان) كتاب) أيضا.

الكتاب الأول: الأكراد في عصر القبلية والإمبراطورية.

 على الرغم من أن هذا العنوان غير دقيق منهجياً إلا أنها محاولة من الكاتب للتعريف المختصر بتاريخ الأكراد قبل القرن التاسع عشر، وبالتالي تطرق في هذا القسم إلى تاريخ الأكراد القديم دون الفصل والتمييز بين مراحلها.

 وهي عبارة عن ملاحظات عابرة ومجتزأة عن التاريخ الكردي القديم، لم يوفق فيها
الكاتب لضعف معلوماته من جهة، ولعدم اعتماده على مراجع ومصادر عديدة منوعة وموثقة ومتوافرة في هذا المجال. لذلك تهرب من الموقف  بعبارة ” ليس المقصود إثقال كاهل القارئ بالتاريخ المبكر والقديم لكردستان، ولكن ثمة ملاحظات تستحق الذكر لأنها تشير إلى خصائص القرنين التاسع عشر والعشرين لا تزال ماثلة…” ص59

 وهو بذلك قد قفز مباشرة إلى القرنين التاسع عشر والعشرين دون التمهيد علميا للمراحل التاريخية التي سبقتها، وخاصة المرحلة الإسلامية. ولم يوفق للربط بين العصور الوسطى والقرن التاسع عشر عبر ما اصطلح على تسميته بالانتقال إلى عصر القوميات. فمعلوماته ومعطياته التاريخية ضحلة وخاصة تلك المتعلقة بالمرحلة الإسلامية،  لكنه ركز على وصف الحملات والغزوات المغولية والتركمانية على كردستان، وكذلك حملات تدمير كردستان وخاصة مدنها (ديار بكر، ماردين، نصيبين،جزيرة ابن عمر، رواندوز…إلخ)  حيث أكد على أن معركة ملاذ كرد عام 1071 م   كانت بمثابة نهاية الحكم السلالات الكردية في كردستان واستلام السلاجقة الحكم في  أغلب مناطق كردستان عبر قادة تركمان. واستمرت غزوات الخوارزمين من أعوام 1217حتى 1230.

 لقد بين أن كردستان دمرت بعد غزوات المغول وسادت من بعدها الحياة القبلية
والبدوية ليترجح لاحقاً سيطرة البنى الاجتماعية القبلية على كردستان، تمهيداً
لتوزع مناطق كردستان بشكل نهائي بين الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية اثر
معركة جالديران عام  1516.

 ويبدأ الكاتب في سرده التاريخي والتأسيس لمنظوره لتاريخ الأكراد الحديث عبر وصف
علاقتهم بالصفويين والعثمانيين وموقع الأكراد الحرج في الصراع العثماني ـ الصفوي.
كاشفاً عن المناخات التي تبلورت فيها الإمارات الكردية المستقلة الكبرى مثل
(أردلان، بابان، وبوطان). كما يصف آلية تراجع دور العائلات الكردية الحاكمة التي
أسست وأدارت باقتدار المناطق الكردية ضمن  جغرافية هذه الإمارات، لحين تنامي وبروز دور رجال الدين المتمثلين في شيوخ الطرق الصوفية، وخاصة الشيخ عبيدالله النهري. وأوضح ثقل ودور هذا الأخير في قيادة النزعة الاستقلالية الكردية عن الدولة العثمانية.

بعد أن رجح الكاتب لدور رجالات الدين الأكراد في تنامي الحركات الاستقلالية، يمهد لفكرته الثانية والأساسية على ما يبدو، المتمثلة باضطهاد المسيحيين في كردستان، سواء كانوا أرمن أو نسطوريين أم آشوريين، حيث يبالغ في تضخيم هذا الجانب والنفخ فيه كما سنرى لاحقاً.
يستعرض لاحقا في الكتاب الأول دور الأكراد ونشاطهم السياسي في ظل الدولة
القاجارية ـ الإيرانية، إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ولكنه انسجاماً مع منهجه غير الموضوعي والمواقف المسبقة تجاه فعالية المجتمع الكردي  الذاتية، لايركز على الرغبة الكردية ونزوعه الموضوعي المبكر إلى الاستقلال عن السلطة الصفوية ولاحقاً القاجارية. ينعت  ماكدول هذه النشاطات والحركات بالتوسع وبالاستيلاء؟! “خلال الغزوات الأفغانية اعتباراً من 1709فصاعدا، استولى الأكراد، مثل أعداء إيران الخارجيين على أية منطقة استطاعوا الحصول عليها. ففي 1719 مثلاً استولت القبائل الكردية على همدان وتوغلوا في أصفهان نفسها تقريباً. وعندما سقط نادر شاه في عام 1747 الذي تم اغتياله في حادث عرضي أثناء حملة من حملاته لقمع التمرد الكردي، تضافرت القبائل البدوية من زاغروس، مثل:  الأكراد، اللور، البختياريين، إلى فارس بغية استغلال الفراغ في السلطة”
ص ـ124

  ولا يخف على القارئ أن كاتبنا ومؤرخنا “دافيد” كان من الممكن له صياغة هذه المعلومات
التي تعود إلى ما قبل ثلاثة قرون بطريقة أكثر موضوعية، وأقل مغالطة ودجلا واستفزازا، دون تدخل مباشر، و القيام بعمل جراحي تاريخي من قبله.

 في هذا القسم من الكتاب يتابع الكاتب الكشف عن أحداث تاريخية واجتماعية مفصلية في حياة أكراد إيران وتركيا وعلاقتهما المتبادلة مع السلطات المجاورة، ودور روسيا القيصرية “المسيحية”  وتدخلها السافر في الشأن الكردي، عن طريق استمرار محاولات  مد نفوذها السياسي إلى داخل أوساط أكراد كل من تركيا وإيران. علما أنه قد حدث هذا التدخل فعلياً عام 1913، فلقد كانت  لروسيا ثكنة تضم حوالي عشرة آلاف عسكري بين خوي ومدينة صاوجبلاق (مهاباد). لذلك  ساهمت روسيا مع بريطانيا  في رسم الحدود بين إيران وتركيا على طول المناطق الكردية، وبما يتوافق مع مصالحها. لكن بدأت الحرب العالمية الأولى عام  1914، ولم تحقق روسيا أهدافها.

 هذا ويستعرض الكتاب بشيء من الإسهاب بدايات تشكل الوعي القومي الكردي نهاية القرن التاسع عشر، ويسلط الضوء على  نشاط عدد من المثقفين والضباط والشباب الأكراد في استانبول، الذين قاموا بهذه المساعي القومية النهضوية الأولى.

 كما يركز ماكدول على الطابع الجماهيري للخط الاستقلالي الكردي عن السلطة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بقيادة العائلة الدينية “أسياد
نهري” في شمزينان، والعائلة البدرخانية كقيادة دنيوية في جزيرة  بوتان “ابن عمر”. ويتضح في هذا السياق علاقة كل هذا النهوض القومي الكردي بجمعية “تركيا الفتاة” التي كانت نصف مؤسسيها من الطلبة الأكراد. كما نوه أيضا إلى بداية التحالف الكردي ـ الأرمني ومساعي الاستقلال المشترك التي باركتها أوساط واسعة شعبية ونخبوية.

 بدأت التحالفات الكبرى إبان الحرب العالمية الأولى واتجه مزيد من الأكراد
للتحالف مع الأرمن والروس لتحقيق أماني الأكراد القومية والاستقلال عن السلطة العثمانية.

ينتهي هذا القسم من الكتاب بالحديث عن بعض تفاصيل الصراع الذي دار على
أرضن كردستان بين القوى العظمى إبان الحرب العالمية الأولى والتي أدت بالمحصلة إلى مزيد من الدمار والقتل والترحيل للأكراد العزل والأذى لجيرانهم.

الكتاب الثاني يأتي تحت عنوان: “ضم الأكراد” ويتضمن التأريخ للمرحلة الأكثر حساسية في تاريخ كردستان, المتمثل بإعادة رسم  خارطة الشرق الأوسط: “تقسيم كردستان العثمانية مع اتفاقية سايكس بيكو كان من المفترض أن تمنح كردستان إلى بريطانيا كمناطق نفوذ, وترجم ذلك بضم ولاية الموصل ـ كردستان العراق ـ حاليا إلى ولايتي بغداد والبصرة”

  في هذا القسم من الكتاب يجد القارئ تفاصيل ومقتطفات من الوثائق البريطانية التي تبين قدرة بريطانيا الأكيدة يومئذ على حل المسألة الكردية حلا جذريا. حيث يستعرض مقتطفات من مراسلات ارنولد توينبي مع سايكس، والتي تتضمن مقترحات عديدة حول أعادة تقسيم وأحيانا توحيد كردستان. وهي عبارة عن عمليات اقتطاع وضم، ولكن بالمحصلة لم تقرر بريطانيا توحيد كردستان وسعت لاستقلالها: “القرار القاضي بضم كردستان الجنوبية إلى بلاد الرافدين يوحي بحق تقرير المصير لبلاد الرافدين أكثر منه للأكراد “ص 199.

في عام 1919حدثت تحولات كبيرة في تركيا وبدأت مساعي الاستقلال الكردي تتراجع، فبعد احتلال اليونان لأزمير تم إثارة المشاعر الدينية لدى عوام الأكراد أكثر من القومية.  و يرد في الكتاب ما ينسب إلى ميجر نويل: “يبدو أن فكرة الحكم الذاتي الكردي تحت السيادة التركية قد ماتت، فالأتراك يعملون فقط على خطط إسلامية عامة، أن كلمة كردي تقمع بشدة  ويسجل بدلا عنها كلمة مسلم.” ص 210

 تفاصيل كثيرة وعديدة يسردها الكاتب، لكن من الأهمية التوقف  عند الموقف الأمريكي الذي أنسحب من الساحة واستلمت بريطانيا من بعدها ملف المنطقة. ولقد جاء الاتفاق الكردي الأرمني 20 تشرين الثاني 1919  جاء كمدخل إلى معاهدة سيفر:

” لقد أدى انسحاب أمريكا إلى وضع مصير كل شرقي الأناضول في حالة تغيير مستمرة، كما جعلت من الممكن التوصل إلى تسوية مرغوبة بين الأكراد والأرمن، رغم القتال الكردي ـ الأرمني على الأرض. وهكذا بات مصير كردستان من الناحية الإستراتيجية أكثر أهمية لبريطانيا في الوقت الذي باتت فيه احتمالات تجسيدها أقل… “ص 217

  لقد قسمت الدول الحليفة في الحرب العالمية الأولى كردستان العثمانية ولم يمنحوها أي شكل من أشكال الاستقلال، بل العكس أعادوا تفتيت بنيتها الاجتماعية ولم يساهموا في وحدتها السياسية. هذه الخلاصة لا يستنتجها الكاتب الذي يبحث عن ما يثبت عكس ذلك، وخاصة عدم قدرة بريطانيا على حماية استقلال كردستان، ووضع المزيد من القوات لحمايتها. علما أنه يقر بوجود تخبط بريطاني إزاء ذلك “في صيف 1921 أغرت نجاحات سمكو بريطانيا بإمكانية قيام كردي مستقل مقتطع من تركيا وإيران. ورغم أنها شكت في أن إيران سوف تسهل مرور القوات التركية إلى العراق من خلال أراضيها، فإنها قاومت، أي بريطانيا مثل هذه المغامرة، هذه المرة بسبب مخاطر تفكك الحدود التركية ـ الإيرانية.”  ص 234

 

 جاءت معاهدة سيفر كعهد دولي يعطي حق تقرير المصير للأكراد حسب المواد 62 و64 ولكن الخلل في هذه البنود تمثل في إقصاء المناطق الكردية في سورية وديرسم الواقعة غرب الفرات.

فيما بعد ساهمت كل من بريطانيا وفرنسا  في إفراغ  معاهدة سيفر من مضمونها وتعديلها بحيث يختفي بند الاستقلال، وهذا ما حدث في الواقع العملي.

تراجعت بريطانيا عن وعودها للأكراد بالاستقلال الذاتي، ولا يخفي ماكدول نزعته التبريرية فيقول: “الآن مقتضيات سياسة بلاد الرافدين دفعت بريطانيا إلى التراجع عن وعودها للأكراد خطوة خطوة، كذلك فإنه من المشكوك فيه أن الإدارات العربية المتعاقبة قد نوت تحقيق التزاماتها أبدا ….. لقد فرض الحكم العربي المباشر على الأكراد حال بروز طبقة جديدة بينهم تتمثل بالمشتغلين بالثقافة من غير القبليين في مدن كردستان. ومن سوء حظهم أنه في الوقت الذي باتوا فيه جاهزين لتحريك الأكراد كشعب وليس كقبائل, كانت بريطانيا قد تخلت عن عرضها في تقرير المصير” ص243

 لقد صرحت كل من بريطانيا وفرنسا في 7/11/1918 بأن هدفها هو: “التحرير الكامل والنهائي للشعوب التي عانت من اضطهاد الأتراك لفترة طويلة وإقامة إدارات وحكومات قومية والتي سوف تستمد سلطتها من الممارسة الحرة لروح المبادرة والاختيار لسكانها الأصليين )) ص261

ولكن تجاوزت وتناست كل من فرنسا وبريطانيا هذه الوعود والمبادئ، وأعادت تشكيل دول وحكومات تحت انتدابها. حيث تم التخلي نهائيا عن فكرة السماح بإقامة دولة كردستان المستقلة لصالح الحفاظ عليها كجزء من العراق، في آذار عام 1921 وبتوجيه من وزير الخارجية آنذاك تشرشل الذي أكد القول:  “أن مقتضيات إقامة الدولة العراقية أهم من المطالب الخاصة للأكراد.” ص 267

وجاء الملك فيصل ليتمسك بكردستان الجنوبية كجزء من العراق لتحقيق توازن (سني) مع الغالبية الشيعية في العراق. وتم تثبت ضم الأكراد إلى العراق.واستمرت الثورات والانتفاضات  طوال تاريخ نشوء الدولة العراقية.

في الفصل التاسع يرصد الكاتب كيفية ضم واخضاع مناطق أكراد تركيا إلى الجمهورية التركية الجديدة.  في البدء يوضح موقف أتاتورك من الأكراد بوصفهم مكونا أساسيا لتركيا: “لقد كان الأكراد على الدوام مصدر مساعدة قيمة للأتراك، حتى أنه يمكنني القول بأن الشعبين يؤلفان شعبا واحدا”  ص295

 وفيما بعد خلال أعوام 1920 و1921  تعهد أتاتورك بإقامة أدارة كردية ذات استقلال ذاتي، وعندما ثم صد التهديد الخارجي، تحولت فكرة شعبين متجاورين يوحدهما الجغرافيا والتاريخ والدين إلى سياسة دمجهم قسرا في أطار أمة تركية مصطنعة حسب أيديولوجيا  منظر تركيا القومي (ضيا  كوك آلب ـ مبادئ التركانية).

وبدءا بعام 1923 توجه أتاتورك  لقمع الأكراد، ولجأ لتعين الموالين له، وأبعدت المعارضة الكردية من المجلس القومي، وتم شغل المناصب الإدارية في كردستان من قبل الأتراك. وجاءت لوزان كمعاهدة تساعد على إلحاق كردستان بشكل نهائي بدول المنطقة المستحدثة وفي مقدمتها تركيا الجديدة، وفي عام 1924 تم حظر اللغة الكردية رسميا.

وبعد ذالك تم إلغاء الخلافة وبذلك انقطعت الأواصر الإيديولوجية الدينية بين الأكراد والأتراك، لذلك تجددت الحركة الكردية الاستقلالية المنظمة وتشكلت حركة آزادي، كما قامت انتفاضة بقيادة إحسان نوري باشا ثم فشلت، وأعقبت ذلك انتفاضة شيخ سعيد بيران عام 1925 التي قمعت بقسوة. ومن ثم تم في بحمدون بلبنان إنشاء  جمعية خويبون  الكردية عام 1927، التي أشرفت على انتفاضتي ديرسم وآكري خلال أعوام عام 1928-1938، حتى استقرت قوة الجمهورية التركية وأبادت قسم كبير من الأكراد  (سياسيون، عسكريون ومقاتلون، نساء وأطفال)، لكن العالم المتحضر ممثلا بأوروبا وأمريكا والإتحاد السوفيتي ظل صامتا على حدوث عمليات الإبادة الجماعية للأكراد، علما أن عدد الضحايا الأكراد في العقدين الأوليين من تاريخ تركيا  (1921-1939) بلغ مئات الآلاف  ماتوا بالسلاح التقليدي والغاز والإعدامات والتهجير والحجز داخل الكهوف حتى الموت جوعا وعطشا. ونجح بذلك قادة تركيا الجمهورية على ضم المناطق الكردية بقوة السلاح والإرهاب إلى تركيا المعاصرة.

  يتابع ديفيد مكدول توثيق آليات ومناخات ضم المناطق الكردية  في إيران أيضا إلى حكم  رضا شاه  في الفصل العاشر من الكتاب. ابان الحرب العالمية الأولى كانت إيران دولة مفككة، وكانت بريطانيا تطمع لضم المناطق الكردية غرب إيران إلى كردستان العراق لتديرها في إطار حكومة بغداد المركزية، إلا أنها كانت جهودا دبلوماسية وفردية وليست سياسية بريطانية عامة. من جانب آخر كانت المساعي الكردية  للاستقلال عن الحكومة الإيرانية جهودا قبلية  ومناطقية متمثلة بسمكو اّّّغا زعيم قبائل شكاك وغيره من زعماء القبائل، حيث افتقرت تلك الحركات إلى التنظيم السياسي. كما أن الشاه رضا  كان يريد فرض حكمه وسيطرته على المناطق الكردية في إيران بأقل الخسائر وعن طريق إعدام الزعماء وبأسلوب الغدر والتسميم والقتل السري، حيث اختفى معظم زعماء القبائل الكردية خلال أعوام ( 1923ـ 1932 ) أمثال  سمكو آغا, جعفر خان, الشيخ طه.

من جانب آخر أن لجأ رضا شاه  إلى سياسة تهجير القبائل الكردية من كردستان إلى أصفهان وهمدان ويزد, ومهما يكن كانت سياسية رضاه شاه اتجاه الأكراد أقل قسوة مما هي كانت عليه في تركيا. وفي الواقع أن سياسة كل من بريطانيا وفرنسا وبقبول أمريكي وسوفيتي   جعلت من المناطق الكردية عرضة للتمزق والدمار وألحقت بدول المنطقة، هذه الدول التي قامت على أنقاض ونتائج الحرب الكونية الأولى، وبدلا من أن يتم ترسيم حدود المناطق الكردية وتهيأة المناخ السياسي الإقليمي والدولي لاستقلال كردستان، حسب ما أعلنته الدول المنتصرة في الحرب، وانسجاما مع مبادئ ولسون. إلا أنه حدث العكس، فقد  تم تشجيع هذه الدول على ضم الأكراد بالقوة وإعادة تعقيد قضيتهم التي كانت مازالت سهلة الحل، لو تم ضم المناطق الكردية في إيران إلى تلك التي تقع تحت السلطة العثمانية سابقا، أو العكس.

 لقد منعت مصالح كل من بريطانيا وفرنسا من توحيد كردستان، وهيأتا المناخ السياسي للدول التي اقتسمت كردستان من الاتفاق على ترسيخ وتثبيت الحدود فيما بينها: “اتفقت كل من العراق وإيران وتركيا على أن استغلالهم  للأكراد الساخطين لإثارة المشاكل لبعضهم البعض اقل قيمة من تعاونهم سوية لخنق المعارضة الكردية. وهكذا تم في تموز 1937 التوقيع على ميثاق في قصر رضا شاه في سعد آباد, اعترفت فيه الأطراف الموقعة بالحدود القائمة وتعهدت بالتقيد بمبادئ حق الجوار. لقد كان هذا تطوراّّ مثبطاّّ للهمة بالنسبة لتعاون الأكراد داخل الدولة وضد طموحاتهم” ص352

لقد كانت أوروبا مسؤولة بامتياز عن هذه النهاية المأساوية لطموح شعب أراد تقرير مصيره السياسي، وضحى من أجل حقه هذا بسخاء.

 يستعرض مكدول في الكتاب الثالث الأوضاع والأحداث التي تدور في كردستان إبان الحرب العالمية الثانية والتي جاءت فاتحتها باحتلال كل من بريطانيا والإتحاد السوفيتي غرب إيران في آب  1941 وأجبرت رضا شاه  التخلي عن عرش إيران ومغادرة البلاد، وتنصيب ابنه محمد رضا لخلافة العرش. حدث ذلك لأن رضا كان مؤيداّّ قوياّّ لألمانيا.

 في أيلول 1942 تم تأسيس تنظيم سياسي كردي باسم  كومله (إحياء الأكراد ) وأصدر مجلته (نشتمان = الوطن) عام 1943، كان الخطاب الذي يحمله هذا التنظيم خطابا إيديولوجيا طبقيا. لكنه تحول خلال سنة إلى حزب يمثل طموحات معظم الأكراد. حيث انتمى رغم الخطاب الطبقي إلى صفوفه الأغوات والأغنياء وأخيرا رجل دين هو (قاضي محمد)، لقد زادت شعبية كومله في كردستان إيران ومناطقها الشمالية بخاصة، كما احتضنها في الوقت نفسه السوفيت الذين كانوا بصدد دعم النزعات الاستقلالية لكل من أذربيجان الإيرانية (بقيادة الحزب الشيوعي  ـ توده) وكردستان الإيرانية بقيادة (كومله) وزعيمه قاضي محمد.

 انبثق عن كومه لاحقا الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران (ح.د.ك.إ) عام 1945 بقيادة قاضي محمد، ويعتبر بذلك أقدم حزب كردي معاصر (مبني على أساس الديمقراطية المركزية)  ومازال يتمتع بنشاط وفعالية  في كردستان إيران. ازداد الحزب الفتي قوة في ظل النفوذ الإيديولوجي السوفيتي، كما توسع شعبيته خاصة عندما دعمه ملا مصطفى البرزاني بقوات عسكرية تقدر بألف مسلح، وذلك إثر فشل الثورة التي كان يقودها في العراق.

 تطورت الأحداث الإقليمية والدولية وزادت الحركة الكردية معها قوة في كردستان إيران، حتى تم إعلان الجمهورية الكردية في مهاباد بتاريخ 22/1 / 1946. ولكن ولسوء الحظ   انسحب السوفييت من الساحة  وعقدوا صفقة لإنشاء شركة نفط  سوفييتية – إيرانية مشتركة، واعتبروا الجمهورية الكردية الفتية شأن إيراني (داخلي). ثم اتفق الأذريون في تبريز  مع طهران للعودة إلى السلطة المركزية، وترك الجميع (السوفييت, بريطانيا, أذربيجان…) أكراد إيران وحدهم في مواجهة سلطة طهران، هذه السلطة التي انتقمت ودمرت بنيان جمهورية مهاباد وأحرقت الكتب الكردية وأغلقت المطبعة الوحيدة في المدينة. في 15/12/1946 احتلت قوات حكومة  طهران المدينة من جديد.  وفي 31/3/1947 أعدم  القاضي محمد في ساحة المدينة، وفيما بعد  تم إعدام كل أعضاء الحكومة. أن إعلان جمهورية مهاباد كانت انجازاً رمزياً للقومية الكردية في العصر الحديث،  أكثر مما هو انجاز سياسي، كونها أنها كانت ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً ومعزولة عن محيطها الكردي الأوسع (أكراد تركيا, أكراد إيران في المناطق الجنوبية, أكراد العراق).

 لقد خيم الصمت خلال عشرين عاماً على أكراد إيران، كما ظل وجود الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران (ح د ك إ) رمزياً, إلى أن عاود نشاطه بعد سقوط نظام بهلوي، بل صعد بقوة إلى واجهة الأحداث السياسية خاصة في عامي 1978/1979 كونه كان عمليا التنظيم الأقدم في إيران، فأعاد الحزب تنظيمه على أساس أنه قوة يسارية, وتحالف أكراد إيران ممثلاً بـ (ح د ك إ) مع الجماعات الماركسية واللينيية المعارضة للشاه مثل (فدائيو الشعب) خلق و(مجاهدو الإسلام)، كما طور برنامجه اليساري بقيادة الدكتور عبدالرحمن قاسملو  تحت شعار (الديمقراطية لإيران والحكم الذاتي لكردستان).

 لقد لعب أكراد إيران دوراً أساسيا في الإسراع بسقوط نظام الشاه، ففي خريف عام 1978 استولوا على ذخائر القوات الحكومية في ثكنات كردستان، وباتوا يشكلون قوة منظمة ومسلحة على الأرض, أكثر من أي قوة إيرانية أخرى. ورحبوا بقدوم الإمام الخميني.

إلا أنه وبعد ثلاث أسابيع فقط أصطدم  الأكراد بالنظام الجديد الذي تخوف من ديمقراطية وعلمانية ويسارية (ح د ك إ)، كما تخوفه من (سنية) الأكراد في كردستان الإيرانية.

حدث اصطدام عسكري طويل دام خلال أعوام 1979 / 1983 وظل الريف الكردي بيد الثوار الأكراد طوال هذه السنوات، إلا أن سلطة (الجمهورية الشيعية) قمعت الأكراد بعنف لم يسبق له مثيل في تاريخ إيران المعاصر. فقد جاوز عدد الضحايا عشرين ألف شخص, وأعدم الآلاف على يد (حراس الثورة) الباسداران بقيادة آية الله خلخالي المعروف ب  “قاضي الشنق”، وذلك لإجبار الأكراد على الخضوع للسلطة المذهبية الشيعية. وبالتوازي مع هذه الانتفاضة عرض الأكراد مشروع حكم ذاتي مؤلف من ثمانية نقاط، ولكن طهران لم تستجب.  تطورت هذه الأحداث خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية ولم يتوقف أكراد إيران عن ثورتهم ونضالهم ضد الحكم المركزي, وقد عرضت السلطة المركزية التفاوض مع قاسملو الذي اغتيل عام 1989 في جلسة تفاوض أولية، كما اغتيل من بعده خلفه صادق شرف كندي.

  قاطع أكراد إيران حكم هاشمي رفسنجاني, ومن بعده دعموا كثيرا الرئيس خاتمي الذي حصل على 76 % من الأصوات في كردستان الإيرانية، واهتم خاتمي بتطوير المناطق الكردية غرب إيران، إضافة إلى دعم ونشر الثقافة الكردية. وتحسنت أوضاع الأكراد نسبيا خلال حكمه.

 في الكتاب الرابع يعالج المؤلف القضية القومية الكردية في العراق عبر عنوان ملتبس هو:   “الأثنو قومية في العراق”

يبدو أن الكاتب من خلال مفهومه للأثنوقومية يريد أن يرصد  تبلور الوعي والنضال القومي الكردي المعاصر في أجزاء كردستان الرئيسية الثلاث.

لذلك يعتبر تولي شريحة من المثقفين قيادة الحركة الكردية في كردستان العراق  بعد وفاة الملك فيصل عام 1933 بداية لانعطافة جديدة للحركة القومية الكردية، ويتابع مسار عملية التطور والتحول في الحركة الكردية عموما، وتشكل التنظيمات السياسية بشكل خاص، وكان أولها جماعة ( برايتي) الأخوة، ومجموعة الحطابين في السليمانية، وجناح الحزب الشيوعي العراقي الكردي المعروف ب (آزادي)، إلى أن تشكلت منظمة هيوا (الأمل) في أربيل وكركوك وخانقين، إضافة إلى بغداد.  هذه المنظمة التي أرسلت مندوبيها إلى مهاباد عام1942. كما قام  مصطفى البرزاني بثوراته  في أعوام 1943/1945.

 لقد تفاعلت جهود الحزب الشيوعي العراقي ومنظمة (رزكاري كرد) وحركة مصطفى البرزاني لإعطاء دفع كبير للحركة القومية الكردية في كردستان العراق إبان الحرب العامية الثانية، ومهدت لقيام الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق (ح.د.ك.ع) عام 1946 الذي قاد الحركة الكردية في العراق واستقطب المثقفين، وأصبح ذات ميل يساري، حيث كان قائده مصطفى البارزاني ضيفا على الاتحاد السوفيتي لفترة طويلة.

زادت فعالية وجماهيرية الحزب لدرجة أن ساهم مع الضباط الأحرار للتخلص من الحكم الملكي الهاشمي عام  1958.

 في سياق متن الكتاب يستفيض الكاتب بالحديث عن علاقة  قاسم بالأكراد، وكذلك دور أكراد العراق  في ثورة عام 1958، وصولا إلى ثورة أيلول  الكردية عام 1961 ضد عبد الكريم قاسم نفسه. ومن ثم يعالج الباحث ويسرد تفاصيل عن الأوضاع الكردية إبان  حكم حزب البعث, حتى مطلع التسعينات القرن الماضي مرورا بتجربة الحكم الذاتي بقيادة المرحوم مصطفى البرزاني خلال أعوام 1970-1974.

 لكن من الملفت والمثير  أن  ديفيد مكدول يكتب عن أكراد العراق وعن واقع  حركتهم السياسية بكثير من الذاتية والانتقائية واللاموضوعية.

القسم الخامس (الكتاب الخامس) من الكتاب مخصص لموضوع الأثنوقومية في تركيا.

  في الفصل التاسع عشر يشير إلى ظاهرة إحياء الحركة القومية الكردية في تركيا خلال أعوام 1946 -1979، يؤكد فيها على أن الجرافات والمدرعات الكمالية قد نجحت في  سحق الحركة الكردية في الثلاثينات، ولم تشر المصادر إلى أية حركة خلال الأربعينيات سوى لقاءات كردية في ديار بكر عام 1945 واجهها الجندرمة التركية باعتقالات واسعة وإعدام 120 شخصا شنقا  حتى الموت.

 ينتقل  ماكدول لتعقب الانبعاث القومي الكردي من جديد في كردستان تركيا بجهود  شخصيات جديدة أمثال (موسى عنتر, طارق ضيا, يوسف عبد العزيز أغلوا) الذين أصدروا صحف ودوريات، وتأثروا بعودة البارزاني إلى العراق. قامت السلطات التركية بقمع حركة المثقفين وإغلاق صحيفتهم (الوطن التقدمي) واعتقال تسع وأربعين منهم، وخاصة سعيد آلجي الذي دافع عن حقوق الأكراد الفردية والجماعية.

 تزايد ضغط الحكومة التركية بدءا بعام 1960 على الأكراد من كافة النواحي (اعتقالات, تغيير معالم، إهمال اقتصادي) إثرها قامت مظاهرات في أغلب مدن كردستان (ديار بكر, ماردين, وان, بدليس).  تلتها أحداث دامية. بعد ذلك تنفس المثقفون الكورد شيء من الحرية والليبرالية في عهد  كورسيل، إلا أن القمع  والإلغاء لكل ما هو كردي كانت سياسة ثابتة لحكام تركيا الحديثة.

 المنعطف الهام في مسار الحركة الكردية في تركيا جاءت بعد ولادة أول حزب كردي معاصر عام 1965  الحزب الديمقراطي في كردستان تركيا(ح.د.ك.ت)، علما من أنه لم   يتمكن من بناء شعبية كبيرة. إلا أن الشباب الكردي وجد نفسه السياسي وتعبيراته الإيديولوجية في أحزاب يسارية عامة, وتواصلوا في السبعينات مع اليسار الفلسطيني. وفي المحصلة فشلت كل جهود تركيا في إنهاء الوعي القومي الكردي وردم جذوره الاجتماعية، وبالتالي منعه من التجسد والانخراط في حركات وأحزاب سياسية منظمة.

نهاية السبعينات تشكلت حركات سياسية كردية ذات شعبية واسعة, وساد العنف في البلاد. ويشير الكاتب إلى أن أبرز تلك الحركات كان حزب العمال الكردستاني pkk الذي تصاعد شعبيته، وبدء بشن حرب العصابات عام 1984 وحتى الآن.

  لا يخفي ديفيد مكدول إعجابه الشديد ب pkk وقدرته على زج الجماهير الواسعة في حرب ضد تركيا.

جدير بالذكر أن هذا الكتاب لا يتطرق لأكراد سورية إلا في ملحق الكتاب، وهذا مؤشر سياسي وله دلالاته العلمية التي تكشف منهجية الكاتب المسبقة في تسطير تاريخ الأكراد الحديث والتلاعب بالجغرافية الكردية، كما سيأتي ذكره لاحقا.

خاتمة

 على الرغم من موسوعية كتاب تاريخ الأكراد الحديث, الذي يصعب تلخيصه، نظرا لضخامته والكم الهائل من المعلومات التي احتوته، فقد قمنا في الصفحات السابقة باستعراض الخطوط والمضامين العامة للكتاب. وما هو خطير في هذا الكتاب أنه إلى جانب غزارة المعلومات، احتوى أيضا على غزارة في الأخطاء المقصودة وغير المقصودة. فمن ناحية المنهج العلمي للكتاب، فالمنهج ضعيف وربما وقع في شرك الموسوعية والرغبة  في كتابة تاريخ الأكراد الشامل، كل الأكراد. حيث هنالك خلط بين التصنيف الزمني والأيديولوجي – السياسي للأحداث والانتفاضات الكردية. أما أكبر نقطة ضعف في الكتاب هو افتقاد الباحث والإعلامي ديفيد مكدول للمعلومات التاريخية الأساسية القديمة، فضلا عن عدم معرفته التامة بتاريخ الأكراد القديم، وتاريخهم المدون في القرون الوسطى. إذ لم يطلع على ما كتب عن الأكراد في المصادر العربية الإسلامية، وثبت مراجعه تخلوا منها تماما. وينطلق  في بحثه من مجموعة من الإفتراضات، بل والشكوك ليصل إلى القرن التاسع عشر والعشرين مندهشا بوجود شعب هبط من السماء قائلا: “لكن في السنوات الأولى من القرن العشرين اكتسبت صفة مجموعة تعرف بالأكراد” وهذا خطأ بل جهل كبير بصيرورة تشكل الأمم في المنطقة عموما والأكراد خصوصا.

 وأثر حديثة عن مصطلح كردستان يقول: “وقد امتدت الحدود الجغرافية لهذا المصطلح بكل تأكيد عبر القرون المتتالية بانتقال الأكراد نحو الخارج”ص 39، دون أن يحدد ما هو هذا الخارج، وما هي حدود الداخل الكردي الذي يقصده!

 الكاتب يكشف عن منهجه وتفضحه رؤاه بسرعة، فهو منحاز بشكل فاضح لكل ما هو مسيحي في كردستان ومحيطها، حيث وصف الأرمن بالثوار كثيرا، ودائما ينعت الأكراد بالعصاة، كما يقول سهوا بأن الروس والأرمن حرروا مدينة وان عام 1915، وفي موقع أخر يصف استيلاء الأكراد على مواقع متعددة ب “الاحتلال” وإن كانت هذه المناطق كردية. وهو يبالغ في وصف “وحشية” الأكراد وقسوتهم بحق الأرمن, في حين لا يذكر شئ عن وحشية الروس والأرمن في تلك الحروب والصراعات، علما أنه يؤكد أن القوات الأرمنية: “قتلت 90% من  الأكراد في كل المناطق التي احتلوها” ص 178.

 وكذلك يمر مرور الكرام على غزو روسيا الدموي لرواندوز عام 1916 وتدميرها وقتل أهلها بالكامل. في الجانب الأخر يبالغ في تقدير أرقام قتلى المسيحيين وضحايا الصراعات في أعوام 1915-1919.

المسألة الجوهرية التي يجب أن لا تغيب عن ذهن القارئ  تكمن في أن الكاتب متأثر جدا بالمستشرقين وبالآراء المسبقة عن الكرد، فهو يردد أفكارهم على الرغم من اشتغاله الطويل في موضوع التاريخ  الكردي الحديث. كما يعتمد بشكل مطلق على الوثائق الاستخبارية البريطانية وعلى تقارير القناصل والرحالة طوال القرنين التاسع عشر والعشرين, دون محاكمة علمية وتدقيق لما ورد فيها، وكأن البعثات التبشيرية والقناصل الغربيين هم أنبياء لا يكتبون ولا ينطقون إلا ما هو صحيح تماما: ” لقد عرفنا هذه التفاصيل حول السكان المسيحيين بفضل البعثات الأمريكية والانكليكانية النشطة في الكتابة حول هذا الموضوع إلى القناصل البريطانيين العامين في تبريز …” ص 136

  وما لم يفهم من الكاتب وبدى نشاذا هو بعض أخطائه المقصود كاعتبار كركوك واربيل بلدات تركمانية،  إذ يؤكد على أن غالبية سكان كركوك كانوا قبل 1930 تركمانا، ص 461و ص493 وذلك بالطبع اعتمادا على مراسلة يتيمة من احد المستشرقين!

 إن إصرار الكاتب على قبلية ولا قومية المجتمع الكردي وتركيزه على سلبيات الأكراد بالتوازي مع إبراز إيجابيات السلطات والحكام المجاورين لهم، يؤكد لنا من جديد أن الفكر الإستشراقي الغربي الذي نمط ونمذج الأمة الكردية في صورة سلبية جامدة، هذا الفكر الذي مازال يشكك بحقيقة كردستان الجغرافية والتاريخية، يفعل فعله المباشر  ويؤثر في أمثال هذا الكاتب المجتهد الذي أهمل جل إيجابيات المجتمعات الكردية, ويبرر ضمنا للسياسة  الكولوينالية والمخادعة تجاه كردستان تاريخيا، يؤيد ضمنا على عدم قدرة الأكراد من إدارة مجتمعاتهم المنقسمة قبليا وطائفيا.

كما أنه يعاني من عقدة كركوك التي هي  خطيئة وعقدة السياسة البريطانية تجاه الشعب الكردي تاريخيا.

 إن كتاب ماكدول يذكرنا بسياسية بريطانيا العامة طوال قرون اتجاه شعوب العالم النامي، هذه السياسية المتخلصة في فتح الطرق ومن ثم زرع الألغام في محيطها لتتفجر لاحقا، وإلا لماذا دس ديفيد ماكدول قليل من السم في كل هذا الدسم من المادة التاريخية والوثائقية.

 من جانب آخر يقيس ديفيد مكدول الحركة القومية الكردية وانتفاضاتها بمقياس أوروبي دقيق ورومانسي, فالتجربة الأوروبية وتفاصيل تطور قومياتها وآليات إنشاء دولها القومية هي محض تجربة أوروبية، وإن التطور الاجتماعي – السياسي والأثنوقومي الخطي في أوروبا لن يتكرر في أي قارة وإقليم آخر من العالم.

 لذلك نجده متحسس من البنية القبلية الكردية ويحيل إليها فشل الحركات والانتفاضات القومية الكردية، ويحملها سبب الفشل في تحقيق الاستقلال، وهو بذلك يوضع العربة أمام الحصان. فلو كان المجتمع الكردي متجاوزا  البنى القبلية ومحققا  لوحدته  الاقتصادية، ومتخطيا في تطوره الاجتماعي عصر ما قبل القومية، لكان قد شكل دولته القومية قبل الشعوب الأوروبية أو بالتوازي معها، ولم تكن لجهود ماكدول المشكورة في كتابة تاريخ الأكراد أي معنى.

 ديفيد مكدول

شارك هذا المقال: