هل حقا كردستان مستعمرة دولية؟

شارك هذا المقال:

هل حقا كردستان مستعمرة دولية؟

         د.آزاد أحمد علي

أول من افترض أن كردستان مستعمرة دولية هو البروفيسور التركي اسماعيل بيشكجي (ولد عام1939)، وهو في الوقت نفسه احد أهم من عالج القضية الكردية بشكل موضوعي وعلمي. تجسد تناوله العلمي في عدد كبير من الدراسات، والكتب ذات المحتوى المناقض تماما للثقافة السياسية السائدة في تركيا. دفع ضريبة فكره وموقفه سنوات طويلة من عمره، قضاها في السجن. حدث ذلك على الرغم من انه عالم إجتماع شهير، وشخصية أكاديمية بارزة. نال بشيكجي درجة البكالريوس في العلوم السياسية عام 1962 من جامعة أنقرة، ثم حصل على الدكتوراة في علم الاجتماع عام 1967. كان موضوع بحثه العلمي – السوسيولوجي: “دراسة التنظيم الاجتماعي للقبائل الكردية الرحل في شرق تركيا”، أي شمالي كوردستان. هذا وقد توج بحثه الأكاديمي بدراسات أخرى تعالج خصوصية المجتمع الكردي، وواقع كوردستان السياسي. أصدر لاحقا كتب عديدة حول بنية وسمات المجتمع الكوردي في شرق تركيا والأناضول.

منذ عام 1971 اعتقل وقدم للمحكمة بسبب نشره لتلك البحوث وموقفه الداعي لكشف النقاب عن الواقع الكردي في كردستان تركيا. واجه الاعتقال والسجن بشجاعة، ومن ثم فصل من الجامعة. حكم بشعرات السنين سجنا، بسبب دراساته العلمية حول كوردستان والمسألة الكوردية. نفذ فيه الحكم، وظل مسجونا في ظروف صعبة لمدة تتجاوز (15) خمسة عشرة عاما.

يعتبر كتاب (كردستان مستعمرة دولية)* خلاصة وتكثيفا لأفكار بيشكجي العلمية، وسجلا لمواقفه السياسية. منهجيا قسم كتابه الى قسمين،الاول بعنوان: تأملات حول هوية الاكراد وكردستان.

 أما القسم الثاني فجاء بعنوان: تأملات حول الطبقات الكردية السائدة. اضافة الى استنتاجات تتضمن كيفية تجاوز الاكراد لواقع التجزئة والتقسيم، وصولا الى أفكاره الثاقبة والريادية بصدد موضوع تاريخي وسياسي حساس، تم صياغته على شكل سؤال منهجي: لماذا لم تنشأ دولة كردية في الشرق الادنى؟

أفكار بيشكجي الجوهرية في كتابه “كردستان مستعمرة دولية” تتمحور حول كيفية وآلية تقسيم كردستان بين الدول الاستعمارية الغربية والمحلية. فأول اكتشاف علمي سوسيوسياسي مبكر أنجزه، هو اثباته ان كردستان أرض مستعمرة وبلد مقسم بين عدة دول استعمارية.

 يبين ويذكر ان أول تقسيم لكردستان كانت بين الدولة العثمانية التركية والدولة الصفوية الفارسية عام 1514م. كما ان كردستان كانت أول ساحة قتال وصراع بينهما، ورقعة جغرافية عازلة بين الامبراطوريتين أيام السلم في الوقت نفسه.

  التقسيم الثاني لكوردستان والمهم علميا بالنسبة لبشيكجي، والذي يستند اليه منهج بحثه، هو تقسيم كوردستان بين عدة دول امبريالية، فبعد تفكك الامبراطورية العثمانية قررت كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا (القيصرية اولا ومن ثم السوفيتية) بمساعدة ايران تقسيم كردستان الى خمسة اجزاء. الجزء الأول والرئيسي ظل تحت سيطرة الحكم التركي الجديد، والجزء الثاني استمر تحت حكم شاه ايران، أما الثالث فقد ضم الى حكم بريطانيا في دولة العراق المستحدثة، أما الجزء الرابع فقد إلحق بدولة الانتداب الفرنسي في سورية المصطنعة، في حين ظل الجزء الخامس الصغير نسبيا من كوردستان تحت الحكم السوفييتي (الأرمني – الاذريبجاني). علما أنه تأسس لاحقا في هذا الجزء الخامس جمهورية كردستان الحمراء ذات الحكم الذاتي (في منطقة نخش جوان)، الى ان فككها ستالين ووزع أكرادها على عموم دول الاتحاد السوفييتي وأقاليمها، واستوطن أغلبهم في اسيا الوسطى خلال اعوام (1926-1935).

 هذه الحقائق العلمية والاساس المنهجي العلمي شجع بشيكجي على الجزم: “بان كوردستان مستعمرة دولية مشتركة، تتشارك في استغلالها وحكمها وقمع شعبها، القوى الامبريالية المنتصرة في الحربين العالميتين الاولى والثانية، ومن ثم الدول المحلية الاربع التي تقتسم كوردستان”، فتوصل الى نتيجة سوسيوسياسية جديدة تتلخص بأن:  كردستان مستعمرة دولية مشتركة. هذا وقد اوضح بجلاء انه في قلب هذه المشكلة المعقدة (أي مشكلة كوردستان) يكمن النظام الاستعماري العالمي المطبق بأسوا أشكاله. ص25

 يستند في فرضيته على كارثة استخدم السلاح الكيميائي عام 1988 ضد شعب جنوب كردستان (في مدينة حلبجة) فيؤكد على انه لم تتحرك اي جهة دولية، أو دولة مجاورة لمنع هذه الجريمة. وبذلك يستدل بيشكجي على ان طريقة قمع الشعب الكردي واستغلال بلاده وادارتها جاءت بالتراضي بين مجموع القوى الكولونيالية المحلية والمركزية.

 هذا وقد سبق ان اكتشف بيشكجي بشكل مبكر في سبعينيات القرن العشرين، ان تقسيم كردستان على عدة دول لا تبرر في ان تتحول هذه القضية الى “مسألة أقليات” داخل حدود الدول التي تقتسم كوردستان، كما لايجوز اعتبار الكورد أقليات في هذه الدول بأي شكل من الأشكال:

 “يجدر التذكير في هذا المقام بأن الاكراد ليسوا أقلية فهم يعيشون في وطنهم وعلى أرضهم وهم السكان الاصليون لهذه البلاد ولم يأتوا الى كردستان من أقليم او منطقة اخرى وعلى العكس من ذلك لم يصل الاتراك على سبيل المثال الى الاناضول الا في القرن الحادي عشر الميلادي، فالاكراد ينتمون شأن العرب والفرس الى السكان الاصليين في الشرق الادنى.” ص26

ان الفكرة الاساسية الثالثة التي ترد في هذا الكتاب، تتركز حول السياسة التي اتبعت ضد الاكراد في بلادهم، من قبل الحكومات الاستعمارية، والتي تتلخص بسياسة:”فرق تسد، ثم دمر” لإلغاء الثقافة والشخصية الكردية، وبالتالي تحطيم الكيان الاجتماعي الكردي بدون رحمة.

يوجه البروفيسور اسماعيل بيشكجي نقده اللاذع لابناء جلدته الاتراك أولا، وكذلك يفضح زيف شعارات المجتمع والدولة التركية. فينتقد كل المنظمات اليسارية، ومنظمات حقوق الانسان، التي تغطي وتبرر السياسة التركية العنصرية ضد الشعب الكردي. ويطالب بعدم الازدواجية في المواقف، وتحقيق المساواة لكل الشعوب والأمم. بالتوازي مع هذه الانتقادات يتعمق بيشكجي في دراسة المجتمع الكردي وحركاته السياسية والاجتماعية، يدرسها بمنهج الباحث الاكاديمي، فيوجه سيل انتقاداته لتركيبة المجتمع الكوردي، يدين الطبقات الاجتماعية التابعة والعميلة للدولة التركية، وللدول الاستعمارية الاخرى، ويعتبر هذه الطبقات والنخب مسؤولة ايضا عن جريمة تقسيم كردستان.

يعد بيشكجي طبقات: “”آغوات، ملاك اراضي، رؤساء العشائر، رجال الدين، برلمانيون جدد، ادواتا بيد السلطات الحاكمة، وهدفهم جميعا بقاء كوردستان مجزأة ومستعمرة“. لكنه يتلمس في مراحل متأخرة من التاريخ، بان الوعي القومي الكردي قد تبلور، وتعرف الشعب على طريق الاستقلال والحرية. في هذا السياق توقف بيشكجي عند المحاكمات العسكرية لنشطاء الكورد في ديار بكر عام 1971م، فاعتبرها بداية لتنامي وعي كردي قومي جديد. حيث برز لدى النخب الكوردية يومئذ السؤال المهم “من نحن”. وذلك في لحظة مفصلية من تاريخ المجتمع الكردي، ومرحلة محددة من تطوره الاجتماعي والسياسي. ص87

 يجزم بيشكجي بأن ايديولوجية الدولة التركية قد أفلست إزاء الاكراد وقضيتهم، وينبه الى ان الدولة التركية تستخدم السلام سلاحا جديدا ضد الشعب الكوردي وقضيته، وذلك لخداعه، وليس بهدف حل المسألة جذريا.

في كتابه القيم هذا يبرر بيشكجي بقاء الاكراد بدون دولة ويحيلها الى عدة اسباب ومؤثرات موضوعية: “هي ارتباطهم الاجتماعي القبلي في المقام الأول، ولأن كوردستان شديدة الغنى بالموارد المادية والثروات ثانيا، كما ان كل منطقة فيها منعزلة عن الاخرى جغرافيا،” والاهم من كل هذا هو:

تشارك العديد من الدول المحلية والامبريالية والعمل معا لبقاء كردستان مجزأة، وتدمير كيانها الثقافي والاقتصادي المشترك، والسعي لنهب مواردها الطبيعية، وخاصة النفط.

 أخيرا يرى بأن الحرب المشتركة التي شنتها العديد من الدول على كوردستان لبقاء الاكراد بدون دولة هو لوحده كافي لاستمرار اضهادها وتشتت ابناءها.

  ترجم البرفسور بيشكجي موقفه السياسي الموضوعي بمطالبة كل القوى والشخصيات المحبة للسلام والمثقفين بأن يعملوا لتأمين حقوق الشعب الكوردي المتجسد في الاستقلال التام، كون الكورد اكبر امة في العالم لم تقرر مصيرها السياسي حتى الآن. لذلك يقترح بوضع المسألة الكوردية على جدول أعمال الامم المتحدة الراهن، وعقد مؤتمر عالمي لإيجاد حل عادل للمسألة الكوردية، لأنها قضية أممية بامتياز. وهذا ما اعترض ويعترض عليه العديد من القوى الكولونيالية المحلية وتلك الداعمة لها في  المراكز الكولونيالية العالمية. فعلى سبيل المثال وعشية انعقاد مؤتمر جنيف2 بصدد المسألة السورية لم توافق هذه القوى الكولونيالية على حضور وفد كردي مستقل، وكذلك لم يتم ادراج المسالة الكردية على جدول المؤتمر. وفي الجانب الآخر الاقتصادي يستنج ان بعض القوى الدولية تعارض حاليا عملية تصدير اقليم كوردستان العراق للنفط الى الأسواق العالمية، وهذا ما يؤكد نظرية بيشكجي العلمية فكوردستان حقا مستعمرة دولية، تتعاون دول وحكومات عديدة لاستمرار بقائها مستعمرة ومجزأة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • كردستان مستعمرة دولية، د.اسماعيل بيشكجي. ترجمة: الدكتور زهير عبدالملك، دار APEC ستوكهولم 1998. وكان هذا الكتاب الذي صدر بالتركية  ثم ترجم الى الألمانية، الأسبانية، الأنجليزية والكردية وغيرها من اللغات.

شارك هذا المقال: