ملا محمد عبد اللطيف في سيرته الذاتية (1899- 1976م) … ومضات تاريخية و تدوين ما لم يدون

شارك هذا المقال:

ملا محمد عبد اللطيف في سيرته الذاتية (1899- 1976م)

ومضات تاريخية و  تدوين ما لم يدون

الملا عبد اللطيف

    محسن سيدا

كتب العديد من أدباء كرد سورية  وساستهم  سيرهم الذاتية ، سيرة خيباتهم وآمالهم ، إخفاقاتهم ونجاحاتهم . واللافت  أن معظم هؤلاء الكتاب جاؤوا من الأوساط الأدبية والسياسية وعلى سبيل المثال لا الحصر الشاعر  جكرخوين و الدكتور نور الدين ظاظا ، ومن خلال الدراسة المتأنية لسير هؤلاء  يمكن رسم معالم المجتمع الكردي الريفي  في بداية تشكل الدولة السورية وكيفية  دخول  القرى الكردية إلى تبعية الدولة السورية الناشئة و المخاض  السياسي و الثقافي لولادة الهوية السورية المتعثرة .  في هذا السياق تقدم سيرة الملا عبد اللطيف خطاباً مغايراً لمعاصريه من الكرد الذين عايشوا تفكك الدولة العثمانية و تشكّل الهويات الجديدة ، و معبراً عن شريحة واسعة من الأوساط الكردية .إن السجالات الفكرية  والسياسية التي رافقت تفكك الدولة العثمانية في الحواضر السورية لم تكن غائبة عن المجتمع الكردي و كانت بلدة عاموده و هي أقدم الحواضر الكردية في سورية مسرحاً لهذه السجالات الفكرية ، فيها درس و عاش الشاعر المعروف جكرخوين وأعلن تمرده الفكري عن نهج  استاذه  الملا عبيد الله الهيزاني ، بينما بقي، زميله في الدراسة ،الملا محمد عبد اللطيف متمسكاً بنهج استاذه الفكري و العقائدي و تبوّأ مكانه الحقيقي ،و ليس المجازي، في مدرسة عاموده بعد وفاة استاذه عام 1929م . إن تلميذي الملا عبيد الله،  جكرخوين و ملا عبد اللطيف في سيرتهما  يعكسان  بجلاء التيارات الفكرية السائدة في الاوساط الكردية والرؤى المغايرة للواقع . ولست  هنا بصدد إجراء مقارنة بين السيرتين رغم وجود  مسوغات كافية و مغرية   تدفع  الكتابة بهذا الاتجاه ، وإنما احاول  التعريف بسيرته المخطوطة والتي تستحق الطباعة والتداول لأهميتها التاريخية والإجتماعية.

نطالع في سيرة الملا عبد اللطيف سيرة  الريف الكردي ومدارسه الدينية  المستقلة في طرائق و مناهج تدريسها عن مدارس الدولة العثمانية .    نقرأ في هذه السيرة حياة  الناس من كرد وعرب و شيشان  بعيدأ عن المشاحنات الايديولوجية  و العصبوية ، كما نقرأ  أسماء الأمكنة والشخوص بمسمياتها الحقيقية قبل سياسات التتريك والتعريب .

يستهل المؤلف سيرته ببيان الوجه الشرعي لكتابة السيرة داعماً عمله بحديث نبوي شريف  ، يقول المؤلف : ” وكما أن لي آباء و اقرباء في النسب الطيني لي بفضل الله آباء و أقرباء في النسب الديني ………لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ” . كان والد الملا عبد اللطيف عالماً جليلاً درس العلوم الشرعية في مدرسة الشيخ عمر الزنكاني والشيخ عبد الحكيم الديرشوي مؤلف كتاب ( السطور في علم البيان ) وانتهى به المطاف في مدرسة و تكية  أبناء الشيخ حامد شاه ماردين في قرية عينكاف و توفي فيها عام 1934م .  بعد الحديث  عن نسبه و دراسة والده ينتقل المؤلف للحديث عن نفسه فيقول : ” إن العبد الفقير الضعيف محمد عبد اللطيف ابن العالم التقي المستقيم الملا إبراهيم ، كانت ولادتي في قرية عينكاف سنة 1315هـ تقريباً ، الموافق 1899م ، ثم توفيت والدتي و أنا ابن 3 سنوات فربتني جدتي فاطمة والدة أبي الصالحة التقية رضي الله عنها …….درست القرآن عند أستاذي الملا محمد عجاج ……..ثم دخلت مدرسة الوالد رضي الله عنه لطلب العلم مع الطلبة الكثيرين ، تعلمت عند والدي الخط و الأعمال الأربعة للحساب و بدأت بقراءة كتاب البناء  ثم متن العزي في علم الصرف ثم بكتاب عوامل الجرجاني و شرحه باللغة الكردية …….. و بقيت بمدرسة الوالد إلى أن بلغ عمري 13 سنة ، ثم ذهبت إلى مدرسة الأستاذ الملا يوسف إمام قرية “حصار ” . بقي المؤلف على هذه الحالة متنقلاً بين مدرسة والده في قرية عينكاف و مدرسة قرية ” حَصّار”  إلى عام 1914 م بداية الحرب العالمية الأولى . تركت الحرب العالمية أثراً بالغاً على المدارس فخلت المدارس من الطلبة بسبب التحاق قسم كبير منهم بالحرب ، يقول المؤلف في هذا الصدد : ” …. حيث حصل النفير العام للحرب و بدأت الحرب …….و خلت مدارس العلم من الطلبة إلا حجرة الوالد و حجرة الاستاذ بقيتا سالمتين فصرت اتردد و أقرأ في الحجرتين أربع سنوات و في ذلك الوقت أشتدّت الحرب في جبهة الشمال ، خصوصاً في ” حسن قلعة ” مع روسيا و في جبهة أستنبول في جبهة” جنا قلعة” مع دول البلقان و أستشهد فيهما مئات الألوف من الشهداء و بدأ أهالي الحدود الشمالية من ” وان ” و ما حولها إلى البحر الاسود من أرض الروم و ما حولها  يهاجرون. …………. و في عام 1332هـ  – 1915م أمرت الحكومة بقتل النصارى الأرمن لصدور الخيانة من بعضهم ،فلم يحصل التأديب للخائن فقط بل عمهم وعمّ الطوائف الأخر ، المجرم والبريء و حصل ظلم كثير و ما لا يحصى من مخالفة الشرع الشريف والمنكرات ، ثم حصلت النكسة العظمى من التقهقر و الويلات ….. “.بقي الملا  خلال الحرب العالمية الأولى  منكباً عل مواصلة دروسه في الـ ” الحجرتين ” المذكورتين لا يتعرض له أحد لصغر سنه ،و في هذه الأثناء و بسبب تقدم القوات الروسية في كردستان بدأ موسم هجرة الكرد إلى الجنوب ، يقول الملا :” انتقل إلى بلادنا كثير من المشايخ و العلماء و طلبة العلم و الفضلاء و تشرفنا برؤية كثير منهم كالشيخ رشيد بن السيد حمزة ابن الغوث الأعظم مولانا السيد الشيخ صبغة الله الأرفاسي ، قدّس سره، سَكَنَ “دشت حصار” في بيوت الشعر و الشيخ خالد البوغي سكن سنين في قرية ” كرجوس ” و هو من اجل خلفاء مولانا وسيدنا وشيخ شيخنا الشيخ محمد ضياء الدين ، قدس سره ” . ثم يذكر  الملا أساتذته وزملاءه في الدراسة و تنقله  بين قرية ” دارا ” و ” كفر زود” قرب فارقين .

في عام 1920م يتوجه وفد من أعيان قرية عاموده إلى قرية ” دارا ” لإقناع العالم ملا عبيد الله الهيزاني بالاستقرار فيها و ليكون إماماً و مرشداً لهم  ، فيذهب الملا ويبدأ التدريس فيها فيقول :” و اجتمع طلبة العلم عنده بكثرة حتى ضاقت ” الحجرة ” فبنوا حجرة ثانية و كنت معهم …… و كنت مع القراءة ادّرس الطلبة الكثيرين و أعيد الدروس معهم …… و أقوم بمصالح القرية و المهمات التي تُطلب من مختار القرية ” الحاج شيخموس داوي و الد الحاج عمر داوي رحمهما الله من كتابة دفتر البيادر و ما يطلب منه من تكاليف الدولة العثمانية في ذلك الوقت و كثيراً ما يأمرني الأستاذ بقراءة الخطبة فأمتثل و أحافظ على كل ما يوجب رضاه عني فأحبني و الحمد لله” . اعتاد علماء الكرد في مدارسهم   قراءة سلسلة من الكتب متعارف عليها بينهم ، و لا ينالون لقب  الـ ” ملا ” إلا بعد الانتهاء من قراء تها فيعطيه الاستاذ الإجازة مع ما يرافقها من حفاوة و تكريم . يقول الملا في هذا السياق : ” لما وصلت قراءتي عند الأستاذ إلى الانتهاء أراد أن يتفضل علي بإعطاء الإجازة فعمل مأدبة طعام دعي إليها العلماء و طلبة العلم ووجهاء القرية و ألبسني قميصه الخاص به و جبة شيخه و أستاذه ،  مولانا و أستاذ استاذنا ” السيد الشيخ محمد سعيد ” قدس سره …….. وقرأ الإجازة و ناولني إياها و الحمد لله .”  بعد نيله الإجازة يصبح إماماً في قرية ” كفرزوطا” عند الشيخ جلال الدين و شقيقيه الشيخ إبراهيم و الشيخ عز الدين في سنة 1337هـ الموافق لسنة 1921م و بقي  في قرية كفرزوطا حتى قيام ثورة الشيخ سعيد عام 1925م حيث قامت الحكومة التركية بإغلاق  المدارس الدينية الرسمية و غير الرسمية  و التضييق على العلماء ، فينتقل إلى قرية ” السفح “. يذكر الملا حول انتقاله إلى قرية السفح مايلي : ”  …..حيث أن الحكومة أمرت بغلق المدارس الدينية الرسمية و غير  الرسمية فتألمتُ لذلك و أردتُ أن انتقل إلى مكان يتيسر فيه تدريس  علوم الدين ، فانتقلتُ إلى قرية ” السفح ” و صرت إماماً عند إخواننا” الشاشان ……..بقيت عند الإخوان الشاشان ستُ سنوات هي من أطيب  أيام عمري …”.  بعد وفاة العالم ملا عبيد الله عام 1929م  خلت مدرسة عاموده من طلاب العلم ، فطلب أعيان القرية من الملا عبد اللطيف الانتقال إليها لوظيفة الإمامة  والتدريس .  يقول الملا في سيرته :” فانتقلت في سنة 1350هـ الموافق 1931م ، وبدأت بالتدريس بسرور و نشاط ، وكان قد انتقل إلى عاموده بسبب حادثة الشيخ سعيد رحمه الله كثير من المشايخ و العلماء و الطلبة فازداد عدد الطلاب إلى أن بلغوا أكثر من عشرين طالباً فازداد السرور و النشاط . ” .

تعدُ قرية عاموده من القرى القديمة في سهل ماردين و قد ورد ذكرها في كتاب ” أم العبر ” لمؤلفه الشيخ عبد السلام المارديني المتوفى سنة 1259هـ  الموافق لسنة 1843م فيذكر المارديني  تعرض قرية عاموده إلى النهب و استخراج ما كان في آبارها من الحنطة و الشعير، كما ورد أسمها في رحلة العلامة العراقي محمود الالوسي عام 1267هـ  1850م.   يورد الملا عبد اللطيف  بعض المعلومات عن تاريخ و جغرافية منطقة الجزيرة . فيقول : ” كانت عاموده في عهد العثمانيين قرية كبيرة كحاضرة للجزيرة لا تُقام الجمعةُ إلا فيها و في” السفح” التي كانت مركزاً للحكومة، فيها القائمقام وحاكم الشرع و مدير المال و غيرهم، ثم انتقلت في عهد العثمانيين إلى رأس العين فصارت بلدة .في حين أن الحسكة والقامشلي والدرباسية كانت أراضٍ خالية . ……..فعاموده كغيرها تحولت من قرية إلى بلدة فيها سوق و يسكن فيها المدير و الشرطة و ازداد سكانها فضاق المسجد القديم على المصلين ، وكانت عمارته في عهد رئيس عشيرة ” الدقورية ” ” الحاج إبراهيم آغا” الذي ذهب إلى الحج سنة 1316هـ 1898م و توفي في المدينة المنورة ……..كتبت على حجرة فوق الباب هذه العبارة : ( مسجد التقوى على تقوى لقد أسس البنيان منا للرضا ) تاريخه 1310هـ 1892م   ” . قام الفرنسيون في عام 1937م بقصف بلدة عاموده بالطائرات، و تباينت الروايات حول أسباب القصف و دواعيه ، و من خلال قراءة هذا الحدث في سيرة الرجلين جكرخوين و ملا عبد اللطيف نستخلص التباينات في مقاربة الحدث و الخلفية الإيديولوجية لكل منهما . يكتب ملا عبد اللطيف  في سيرته حول حادثة قصف عاموده مايلي : ” …. وسببها إن سورية لما صارت كدولة لها شأنها في الشرق الأوسط و بدأت في التقدم و الازدهار ، ما راق فرنسا ذلك لفوات مصالحها فسعت في الكيد لها و إيقاع الفتنة بين أهاليها و تمزيق أقطارها كما فعلت بلواء اسكندرون عملاً بالقاعدة المقررة ” فرّق تسد” و أرادت أن توقع تلك الفتنة في الجزيرة ، في حين إن القوات الوطنية في المدن الداخلية في حمص و حماة و غيرهما كانت مشتبكة بالحرب معها ، وأكابر الدولة و رجال السياسة كانوا في نقاش حاد في شتى المواضيع معها ، فأرادت فرنسا أن تضعف قوة الدولة و تعرقل سيرها . ……….وكذلك كان لفرنسا عمال في القامشلي يخدمونها و يسعون في رضائها بخلاف عاموده فإن الأكثرية الساحقة مخلصون لدينهم ووطنهم لا يخدمون مصالح فرنسا ، …… والأقلية الموالية لفرنسا في حسن جوار مع جيرانهم و طمأنينة . ……..فنقمت فرنسا على أهل عاموده كلهم من أجل إن الأكثرية مخلصون للدين والوطن …”  يتناول الملا عبد اللطيف حادثة قصف عاموده بالطيران الفرنسي مبيناً أسبابها ، من وجهة نظره ،  بشيئاً من التفصيل والنتائج المترتبة على القصف حيث تدمير البيوت وحرق الجامع في  الحارة الغربية وحرق مكتبات تحوي آلاف الكتب الدينية و هجرة الناس الى تركية  وتشريدهم .

   يختم المؤلف سيرته بالحديث عن طلابه الذين  منحهم الإجازة العلمية و غيرهم ممن درس عنده  و لم يتسنى له الحصول على الإجازة  فجعل من سيرته سيرة لجمهور  من العلماء و الأعيان من معاصريه  .    في الختام أود القول أنني أردت فقط  التعريف بهذا الكتاب الفريد والنادر وهو يستحق أن يرى  النور والتداول لتعمّ فائدته .

________________________________________________________________________________

شارك هذا المقال: