شجاعة الكرد بين الفقر وحراس السجون – (رحلات في كردستان و بلاد ما بين النهرين)

شارك هذا المقال:

شجاعة الكرد بين الفقر وحراس السجون

(رحلات في كردستان و بلاد ما بين النهرين)

 

ترجمة: عمر رسول

فصل من كتاب مترجم معد للطباعة ينشر في مدارات كرد على حلقات

 الحلقة السابعة والأخيرة من الرسالة السادسة

في الواقع، كان لدى رستم آغا، رغم فظاظته وعاداته النهبيّة، الكثير من الخرافات إن لم نقل الشكوك الدينية – وهي حالة شائعة عند الأوغاد واللصوص. لقد سألني بقلق عن السكين الذي أهديته، علّ أن تكون قبضته المصنوعة من قرن الثور نجساً. وحتى إن لم يكن نجساً فأنه يخشى أن يصلي والسكين معه. ربما أنك لا تعرف عندما يصلي أتباع محمد فأنهم يضعون كل ما معهم من الأسلحة والذهب والفضة وحتى الحرير جانباً، لأنهم يعتقدون أن هذه الأشياء تتناقض مع الحالة المتواضعة للعقل في تضرعه إلى الله. وحتى أن نكتة البيك حول لحم الخنزير كان فيها بعض الشك، وحتى أنه لا يمتطي جواده ويذهب في جولة للسرقة والقتل دون أن يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”! ويقول الوهابيون نفس الشيء عندما يقطعون رأس المدان بالجريمة أو أنهم يقولون: “الله أكبر”! وهكذا يفعل اللص عندما يركع أمام صورة العذراء بيديه المنغمستين في دم آخر ضحية له، وهو يقدم شيء من غنيمته مع صلواته إلى ” أمّ الرّب”!

من المؤكد أن يوم التوبة، فيما يخص إراقة الدماء والسلب، لم يأتي بعد لرستم آغا. لقد خاض الكثير من المعارك، قاتلاً سالباً بتلذذ كبير، ليظهر مدى قوة الشيطان في أعماقه. وأخبرني أنه جُرِحَ، على الأقل، اثنتي عشرة مرة، بالرغم من درعه الممتاز. وقال: “لدي دروع من كل نوع، وقد اعتدت أن أرتديها دائماً، ولكنني تعلمت أن لا أثق بها إلاّ قليلاً، بل أضع كل ثقتي بربي”! قال الجملة الأخيرة بثقة وبتأكيد كما لو أنه أكثر الناس استقامة على وجه الأرض. لقد انضم إلى الآخرين في التفجع على الأيام القاسية والظروف الصعبة التي يكابدها الكرد في الوقت الحالي. قال: “إن العصور الذهبية لكردستان قد أفَلَتْ، امتطِ الآن صهوة جوادك وتجول في كل كردستان، سوف لن تجد فيها الروح أو الإشراق. لقد مات كل الفرسان والجنود الأقوياء الماهرين، أو هربوا من البلاد، أو أنهم انصرفوا لشؤون الأرض بكل ما لديهم من طاقة وقوة ليلبّوا طلبات الباشا من النقود ولإطعام زوجاتهم وأولادهم؛ لأي شيء يصلح الجندي الذي عمل يوماً في الفلاحة”؟ أشاطره الرأي أن البلاد قد فقدت كل مظاهر الازدهار، والناس قد فقدوا الإشراق الروحي، ولكن يبدو أن البلاد لم ترضخ بهدوء إلى الاحتلال، والحوادث الخطرة التي تحدث على الطرق يثبت هذا الرأي بما فيه الكفاية. فقال رستم آغا: “آه! لا تخف، لم يبق من المشاكل إلا القليل، لا يوجد من يعترض طريقك إلاّ فئة قليلة هنا وهناك، لا توجد عصابات منظمة تهاجمك بخيولها الآن، لقد اكتفوا بما يمتلكون، وإنني أراهنك أنا، رستم بيك، على سلامتك، سوف لن يمسك أحد بين هنا وكفري..إنك صديق جيد.. صديق رائع..أحبك.. برأسك العزيز أحبك!.. إنك لا تشبه أبناء بلدك الذين مرّوا عليّ، أنهم لا يفعلون شيئاً سوى أن يأكلوا ويناموا؛ ولكن عيونك مفتوحة ويقظة، ولديك الإحساس: تأكد تماماً ستجد كفري غداً بأمان وسلام”.

أتجرأ أن أقول لقد تعرّفتَ الآن بما فيه الكفاية على رستم آغا، ويمكنك الاستغناء عنه؛ ولم يشدني هذا الحديث الطويل عنه إلاّ لأنه نموذج رائع عن الزعيم الكردي التقليدي. وفي صبيحة اليوم التالي أعطانا رسالة ودليلاً يرافقنا إلى كفري، لقد أقسم أكثر من مرة برأسه وعينيه، وبحياة ضيوفه، بأن أحداً لم يمس شعرة منّا طالما نحن في المناطق التي تطيع كلامه. هنا أيضاً، ومرة أخرى، سنضطر مغادرة أصدقائنا الكرد القساة، الذين قد تكون تعبتَ، ربما، من الحديث عنهم. شأنهم شأن الشعوب والأمم الأخرى، إنهم أبناء لظروفهم وتربيتهم، لكنهم يمتلكون صفات طبيعية قد تتحول إلى ميزة جيدة فيهم. إنهم شعب شجاع ومضياف على طريقته، ولكن الصفة الأخيرة فيهم قد ضعفت في السنوات الأخيرة بسبب الفقر والاضطهاد. وكمعظم المجتمعات الرعوية البطريركية فأنهم يتميزون بحب قوي للنسب والقبيلة، الحب الذي يجعلهم أن يكونوا شديدي الانفعال والصرامة في معاركهم؛ وإذا ما حدث أي انزعاج لابن القبيلة فقد يؤدي ذلك إلى سلسلة من أعمال القتل التي لا تعرف الشفقة أو الرحمة. وبعيداً عن طبيعتهم القاسية، يجعلوهم الخصوم، وحبهم للحروب والقتال، أن يكونوا طائشين في إراقة الدماء، وألاّ يقيموا وزناً لحياة الإنسان كما يقيمه بلد يشهد الاستقرار والسلام، ومع ذلك فإنّ حروبهم ليست مهلكة ومميتة، فإنّ نفس القلب الذي يخوض سلسلة لا متناهية لإراقة الدماء يمنعهم بقوة من ارتكاب فعل القتل عندما يشعروا بأدنى معاني الشفقة والإحساس الأخلاقي بالجريمة. يمكن وصف هذه الحالة بالحالة التي كانت سائدة عند القبائل شبه البربرية، عندما لم تكن هناك سلطة عليا مقتدرة تتحكم بالأوضاع كما ينبغي، وكما أشرت من قبل، إذا ما طاب لأي شخص أن يكوّن فكرة دقيقة عن العلاقات الاجتماعية والكدح في الحياة عند الكرد، والتركمان، أو حتى العرب، فإنني أحيله إلى الظروف التي مرت بها قبائلنا الاسكتلندية في المناطق المرتفعة قبل قرنين من الزمن.

يمتاز الكرد بشخصية طيبة ونشيطة، يختلفون قليلاً في بعض المسائل الجوهرية عن جيرانهم الإيرانيين. لكن سماتهم القومية هي سمات خاصة جداً بهم. يمتازون بملامح قوية، وبوجه بيضوي، وتتميز الصورة الجانبية لهم ببروز في الأنف وبتراجع نسبي للفم والذقن في خط نصف دائري. أما عيونهم فتمتاز بمحاجرها العميقة وبسوادها وحدّة ذكائها، أما الحواجب فهي عريضة وواضحة، ترتد قليلاً إلى الوراء لتكمل الصورة الجانبية للوجه، أما إذا دققت في التكوين العام لملامحهم ستجدها أرق بما لا يقاس من ملامح الإيرانيين التي تمتاز عادة بالتجهم القوي. عبثاً تبحث في كردستان عن الأنوف القصيرة المفلطحة. لا توجد هذه الصفة فيهم على الإطلاق. الفم عندهم يمتاز بتكوينه المنسجم، والأسنان تكون جميلة. أما اليد والأصابع فهي صغيرة ورفيعة. باختصار، يمتاز الكردي بشيء من الأناقة في هيئته العامة، وفي أي بقعة من العالم تجده ستعرف أنه ينتمي إلى أمّة جميلة الملامح.

تنطبق العلامات نفسها على النساء الكرديات أيضاً، بقدر ما تمكنت من الملاحظة. ففي بداية عمرهن يكن جميلات، ولكن عندما يهبط بهن العمر، تتغير ملامحهن لتقترب من ملامح الرجال، وهذا بالتأكيد غير مستحب لجمال المرأة، ثم سرعان مع تظهر عليهن علامات الشيخوخة والذبول. لقد توفرت لي فرص كافية لملاحظة هذه الصفات، بما أنهن لا يرتدين الحجاب مثل النساء الإيرانيات، بل يغطين فمهن وذقونهن بطرف المنديل الذي يغطي رؤوسهن، ولكن أقدّم أسفي على عدم قدرتي من الدخول إلى عالمهن الخاص لأرصد واجباتهن المنزلية. على أية حال، ما تمكنت من معرفته يجعلني أن أتصور أن حياتهن، وواجباتهن، وأعمالهن، تشبه كثيراً، في كل الوجوه، بتلك الموجودة عند القبائل الإيرانية. إن نساء الطبقة الغنية التي تعيش في المدن، يقمن في جناحهن الخاص زوجة كانت أو فتاة. أما النساء عند الطبقات الأقل غنىً والطبقات الفقيرة التي تعيش في القرى والخيام، يمارسن نفس الطقوس التي تمارسها المرأة التركمانية والعلوية كما وصفت لك.

وصلنا إلى كفري، بعدما قطعنا مسافة يصل طولها إلى حوالي خمسة وعشرين ميلاً عبر منطقة كئيبة موحشة، شبيهة بالمنطقة التي عبرناها في آخر رحلة لنا، ولكنها تتميز عن المنطقة السابقة بزيادة نسبة السهول فيها، لكن الحرائق قد التهمت معظمها، ولم نجد على طول مسافة الطريق أية قرية. كنّا في أشد الرغبة أن نرى كائناً بشرياً في هذه البراري لنستأنس به.

تقع كفري عند مدخل سلسلة من التلال المنخفضة، ولكنها تلال جرداء قاحلة مثل صخورها. وهناك إلى جانبها مجموعة من القمم لسلسلة ترتفع فوق السهل، وقد طالتها الحرائق أيضاً، أما المدينة نفسها فهي محاطة بالجدران، ولها إطلالة جميلة من الفسحة المفتوحة التي كنا نقترب منها. كانت أشجار النخيل الباسقة ترتفع من فوق الجدران، وهذا يعني أننا بدأنا نقترب من بوابة المنطقة العربية؛ وأن التغيير في الأزياء والمظاهر العامة للناس تؤكد لنا أننا قد أصبحنا داخل المناطق الخاضعة للسيادة التركية.

لقد سرنا باتجاه البيت الذي من المفترض أن ننزل فيه، وعند الوصول وجدنا مجموعة من الوجهاء الترك يجلسون على البسط الممدّدة خارج المنزل، رحبوا بنا بإيماءات لطيفة، ولكن بكلمات قليلة. كان الخدم من الأتراك، وكان كل شيء في المحيط يعلن بأن هناك تغيير في المنطقة أرضاً وناساً. ولأول مرة في هذه الليلة لم يكن هناك نزاع وجدال على الذرة والتبن لجيادنا، أو على الطعام لنا. لقد أنجز كل شي على أكمل وجه وببساطة دون أية كلمة أو سؤال. هناك فقط عادة تثير الغثيان وهي: بدلاً من أن تنتظر من يقدّم شيئاً لك على لطفك وتهذيبك، ترى الخدم جميعهم يتراكضون إليك عند مغادرتك يطالبونك بالبخشيش، وكان بين الجمع حارس لأحد السجون أيضاً، لم أتمكن من معرفة الحجّة التي جاء بها هذا الحارس حتى يكون بين طالبي البخشيش. لقد قدّرت مبلغاً من المال وأعطيتهم دفعة واحدة، وأهملت الآخرين وطلباتهم.

————————انتهت—————————–

شارك هذا المقال: