أكراد سوريا .. التاريخ والسياسة والمجتمع

شارك هذا المقال:

أكراد سوريا .. التاريخ و السياسة و المجتمع

جوردي تاجال

الترجمة عن الإنكليزية : الدكتور مسلم طالاس

تعرفة بالكتاب والمؤلف

 هذا الكتاب مساهمة فاصلة في دراسة التاريخ الكردي في سوريا منذ فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946) وحتى الوقت الحاضر.

         من خلال تجنب منهجية جوهرية بعينها يقدم Jordi Tejel تحليلاً عميقاً ومعقداً ومتناقضاً أحياناً للتركيب بين القبيلة والهويات المحلية والإقليمية والدولية من جهة وتكوين الاحساس بالأقلية الكردية في مواجهة توطد القومية العربية في سوريا من جهة أخرى. يحلل Tejel الأسباب الكامنة خلف “الاستثناء” السوري في سياق الشأن الكردي, مستخدماً مواد غير منشورة , وبشكل خاص ما يتعلق بمرحلة الانتداب (السجلات الفرنسية والصحف الكردية) ونظرية الحركة الاجتماعية. على الرغم من استبعاد الكرد من الشأن العام, بشكل خاص منذ عام 1963, فإن أكراد سوريا تجنبوا المواجهة المباشرة مع السلطة المركزية,  واختار أكثرية الكرد استراتيجية “النفاق” ,  التي رعت داخلياً أشكال من الهوية تتحدى الأيديولوجيا الرسمية. يستكشف هذا الكتاب الآليات التي قادت إلى ترسيخ الاحساس بالأقلية الكردية في سوريا المعاصرة, وهي عملية جارية ويمكن أن تأخذ شكلا من الراديكالية او حتى العنف.

         على الرغم من أن الكتاب يقدم منهجية مفاهيمية صارمة, فإن المادة الأثنية تجعل من المهم قراءته. وهو لن يجتذب فقط الباحثين ودراسي الشرق الأوسط, بل ايضاً سيجتذب المهتمين بالتاريخ والصراعات الاثنية والقومية ونظرية الحركة الاجتماعية……وغيرهم.

         جوردي تاجال (Jordi tejel) [المؤلف]: يحمل درجة دكتوراه فلسفة في التاريخ من جامعة فريبورغ – سويسرا  والسوسيولوجيا من (Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales-EHESS)- باريس –فرنسا. وهو الآن زميل ما بعد الدكتوراه في (EHESS). يهتم في أبحاثه بالتركيز على القومية في الشرق الأوسط, مع اهتمام خاص بحركية الكرد في الفترة ما بين الحربين. وقد الف العديد من الكتب والمقالات (Le mouvement kurde de Turquie en exil.Continuités et discontinuities du nationalisme kurde sous le  mandat français en Syrie et au Liban (1925–1946)).

Syria’s Kurds

History, politics and society

Jordi Tejel

 

مقدمة

قلما تعرضت وسائل الاعلام للكرد السوريين. ويسري الأمر نفسه على البحوث الأكاديمية التي تناولت سوريا, وحتى البحوث التي تناولت المسألة الكردية. معظم البحوث ركزت على المناطق الكردية في تركيا والعراق و, بدرجة أقل,  في إيران [1]. وهذا الأمر لا يخص فترة زمنية بعينها. وكذلك كان العامل الكردي هامشياً في الأعمال الكلاسيكية التي تناولت الانتداب الفرنسي (Longrigg 1958;Khoury 1987) وفترة الاستقلال في المشرق (Raymond 1980). والاستثناء الوحيد لذلك هو أعمال عصمت شريف وانلي, والتي تتميز عموما بالانحياز للكرد ((Vanly 1968, 1978, 1992)).

       فقط منذ التسعينات [من القرن العشرين], ونتيجة لزيادة أهمية مسائل حقوق الانسان في كل البلدان, ظهرت دراسات كاملة ومفصلة تتناول الكرد السوريين (Human Rights Watch 1991, 1996; McDowall 1998). توفر هذه الدراسات بعض المراجع التاريخية الضرورية, لكنها تؤكد على الوضعة الكردية كـ”أقلية” فيما يتعلق بالإطار القانوني السوري. شجعت الاضطرابات في القامشلي في مارس 2004 بدرجة كبيرة إصدار سلسلة من الأعمال(Montgomery 2005; Yildiz 2005)  والمقالات(Gambill 2004: 1–4; Gauthier 2005: 97–114, 2006: 217–31; Lowe 2006: 1–7; Tejel 2006: 117–33, 2007b: 269– 76) حول المسألة الكردية في سوريا. وعلى الرغم من ارتفاع الاهتمام بالمسألة الكردية في سوريا, تبقى هناك ندرة في الدراسات ذات المنظور الأنتربولوجي والتاريخي والسياسي إلى هذا الموضوع.

        هناك العديد من العوامل التي تتحمل مسؤولية هذه الفجوات في المعلومات. أولاً, وبشكل متناقض, اعتبر الكرد السوريين إما جماعة أمكن استيعابها من قبل بيئة الأكثرية العربية[2] أو اعتبروا سكان ملحقين لعبوا دوراً هامشيا في سوريا المعاصرة, على عكس أقليات اخرى (Hourani 1947) مثل الدروز والعلوية. واعتبر ضعف الحركة السياسية دليلاً على أن “بحث الكرد عن الهوية” مجرد ملجأ للنخبة (الوجهاء وملاك الأرض) نتيجة خسارتهم للسلطة في مواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في البلد.

       في سياق آخر فإن حقل الدراسات الكردية, الذي لا يزال ضيقاً, أصبح حقيقة منذ الثمانينات والتسعينات [من القرن العشرين] [3]. من منظور أعرض, فإن تركيز المؤرخين وعلماء السياسة على الدور الديكتاتوري للدولة والعائلة الحاكمة, والقومية العربية والصراع العربي الاسرائيلي, وموقع سوريا في سياق الحرب الباردة (Van Dam 1979, 1996; Kienle 1990; Perthes 1995; Ehteshami and Hinnebusch 1997) ألغى كل الديناميكيات الـعرضية التي تؤثر على مجالات المجتمع السوري رغم التصريحات الرسمية فيما يتعلق بعروبة واشتراكية سوريا. تتضمن هذه الديناميكيات أنماط الاستهلاك والاثنية والتصوف والاستيطان العشوائي في المدن الكبرى والفروقات المتنامية بين الاجيال. يسعى هذا الكتاب للمساهمة في الاندفاعة الجديدة للدراسات المعاصرة حول سوريا التي بدأها جيل جديدة من الباحثين الذي توجهوا في دراساتهم باتجاهات جديدة, مظهرين الاهتمام بـ”الهوامش” مع اعطاء الأولوية للأبعاد الانتروبولوجية والسوسيولوجية (Chiffoleau 2006; Dupret et al. 2007), بدون إهمال الأبعاد التاريخية .

         في الحقيقة أصبحت إمكانيات إجراء البحث الميداني في سوريا أكبر مع نهاية تسعينات القرن العشرين, مما أتاح المجال لبحوث انتربولوجية قيمة حول المشايخ الكرد في دمشق وحلب وكرداغ (Bottcher 1998; Christmann 1998;Pinto 2004). لكن تبقى هناك صعوبات بالغة في مواجهة إجراء بحث ميداني يركز على الهوية الكردية[4], لأن الكردية مازالت تعتبر علامة الفتنة (تقسيم المجتمع) من قبل النظام , على الرغم من التغيرات الكبيرة التي حدثت. وأخيراً فإن دراستنا استفادت من انتعاش الدراسات حول مرحلة الانتداب في نهاية التسعينات (Gelvin 1998; Méouchy 2002; Mizrahi 2003; Méouchy and Sluglett 2004; Provence 2005).

       وبدلا من تلخيص كل الفصول التي تشكل الكتاب, فإننا سنركز الضوء على بعض القضايا التي نعتقد أنها هامة من المنظور النظري والتجريبي. وأول هذه القضايا تتعلق بضرورة إعادة تقييم دورة فترة الانتداب (1918-1946) في انبثاق حركيات سياسية واجتماعية في المجتمعات الكردية بدءاً من تأسيس سوريا المعاصرة إلى الوقت الحاضر والتي تنتمي للـ longue durée.. كذلك نرغب في التأكيد على أهمية فترة الانتداب في التأسيس لثقافة سياسية محددة لممثلي الكرد المدنيين والدينيين, والتي عرفت بالمواجهة السلمية والتكيف مع مشهد سياسي غامض. وأخيراً سنتناول باختصار موضوع “الهوامش” في المجموعات الكردية وضرورة تأسيس “الجسور” بين الكرد وغيرهم من سكان سوريا وصياغة مراجعة مفصلة لتاريخ الكرد الذي ينطوي أحياناً على تمايزات آنية عن باقي سكان سوريا.

الكرد في ظل الانتداب الفرنسي بين الاستمرار والتغير:

يثبت تحليل ارشيف الانتداب, والمنشورات الكردية خلال الثلاثينات والأربعينات, والدراسات الميدانية التي تمت حول سوريا, أن الفترة الانتدابية يجب أن تعتبر مرحلة استمرار فيما بتعلق بالمرحلة العثمانية ووقت للتغير لسكان المشرق, بما فيهم الكرد. يجب أن  تعتبر هذه الفترة مرحلة استمرار باعتبار أن ميراث التنظيم الاثنو-ديني للإمبراطورية العثمانية[5] لم يستأصل واستمر في صبغ مفاهيم السياسة والمجتمع بعد فترة طويلة من سقوط استانبول كمركز سياسي للمنطقة (Karpat 1988: 35–53).

         المجموعة التي عرفت وميزت تحت الاسم العام “كرد” بعيدة عن التجانس. حيث تتضمن العديد من اللهجات والطوائف الدينية (سنة وشيعة وعلويين ويزيديين) والعديد من الهويات الاجتماعية والجغرافية (العشائرية وغير العشائرية). وعلى الرغم من ذلك يثبت الانتربولوجي (Martin van Bruinessen) ان الكرد كانوا مدركين لهويتهم المتميزة منذ عدة قرون, على الرغم من الانقسامات الداخلية. لكن “الحدود” التي تحدد الكرد تغيرت خلال الزمن. قبل الحرب العالمية الأولى كان التعارض بين الإسلام والمسيحية والقبلية واللاقبلية هي المحددات الرئيسية لتقسيم سكان الامبراطورية العثمانية (Bruinessen 1994: 21–6).

       لم تكن الاثنية هي المسالة المهيمنة على السكان الكرد قبل نشأة الدول الجديدة في الشرق الأوسط. وكان الانتماء لمجموعة أثنية[6] هو فقط أحد مكونات هويتهم. وتقلبت أهميتها في سياق إعادة اكتشاف هويتهم, وعدلت وفقاً لرغباتهم في علاقات مع عوامل متعددة.   المهم هو الشبكات الشخصية للانتماء التي بنيت من قبل الافراد, والشبكة الاثنية هي واحد من بين العديد. ويمكن أن يكون للشخص أو الجماعة أكثر من خاصية معرفة, مثل الطائفة و الاثنية والتحضر. لذلك فإن تصنيفات مثل “الاثنية” و”المجتمع” وجدت وشرعت واستمرت في سياق معادلة سياسية معقدة. لم توجد كتصنيفات مسبقة (Geertz 1973) بل كجماعات في ديناميكية علائقية (Barth 1969). في ظل ظروف تاريخية محددة, يمكن أن توضع الهويات الاثنية أو القومية أو حتى العابرة للقومية في الواجهة وتحدد الرهانات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, لكن طول العمر هو الذي يحدد أي الهويات هي البارزة في جماعة محددة (Gershoni and Jankowski 1997: xx).

        وسبب قدرة الاثنية على العمل كاداة سياسية هي أنه يمكن تصورها كمصدر طبيعي للتماسك (Berman and Lonsdale 1992: 317). إن اجتماع الافراد أو الجماعات حول هوية اثنية يمكن أن يحدث في سياق الحديث عن الهوية (Vali 2003) أو مذهب(Kedourie 1986) أو إيديولوجيا(Breuilly 1993) أو حتى قفزة خيال (Anderson 1983). إن القومية, بهيئتها الغامضة, قادرة على أن تجمع سوية تجمعات متنوعة يمكن أن تعرف ضمن ” جماعة اثنية”. من أجل تجاوز التقسيمات الموجودة في المجتمع, فإن على القومية أن تضم في سياقها مختلف الحساسيات (المحافظة والتقدمية والداعمة للغرب…..الخ) وتشجع الفعاليات القومية التي تمس كامل السكان الكرد وتدمج كل جوانب (الاجتماعية والدينية واللغوية والعشائرية والمحلية ) الجماعات المكونة.

          إن دور ” المقاولين السياسيين” في ترسيخ العلاقات مع الجماعات الأخرى حاسم (Smith 1981: 108). وهي النخب التي تقدم نفسها كناطق باسم “المجتمع المتصور” (Anderson 1983) وتبني , بسبب قدراتها الفكرية والتنظيمية, المجموعة القومية. من أجل أن توجد القومية هناك حاجة للعوامل الموضوعية  (العرق واللغة والقرابة ….الخ) التي سيتوضع عليها الوعي بهذا التميز أو الاختلاف (الهوية). ومن ثم يمكن للمقاول السياسي أن يدخل هذه الهوية المتميزة للحقل السياسي الحديث كأداة واعية وعقلانية.

         لكن, ووفقا  للانتربولوجي Olivier Roy, فإن القومية الاثنية نادراً ما تنطوي على فعل سياسي. غالباً ما يخُلق الفعل السياسي خارج المنطق الاثني الصارم, حتى إذا كانت الاثنية هي محور تميز اللاعبين. ” الأثنية هي ما ينطق به لكن ليست هي المفسر” (Roy 2004: 65). وهناك منطوق آخر مغذي في الحركية الاجتماعية مثل العصبيات ما دون القومية أو ما فوق القومية, كالعلاقات الدينية  مثل العصبية الشيعية في إيران التي خلقت نوع من الولاء لدولة إيران بالرغم من الاختلافات القومية .

       يضاف لذلك, كما اكد رشيد حمو, أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا عام 1957, فإن مفهوم المجتمع الكردي, المعرف كمجموعة متميزة بميزة واحدة, لغوية أو طائفية, والذي اعتبرته المجموعة هو الحد المحدد والعريض للتميز عن الآخرين خلال فترة النزاع, لم يكن حقيقياً في بداية عشرينات القرن العشرين[7]. من جهة أخرى, فإن العلاقات الأبوية والروابط المحلية والدينية والقبلية حددت الممارسات الاجتماعية وحركية السكان الكرد في شمال سوريا. فقط مع وصول المثقفين القوميين الكرد, الذين كانوا مقيمين سابقاً في استانبول, اتخذت فكرة “المجموعة القومية الكردية” صورة حقيقية في صفوف أقلية صغيرة من السكان الكرد في سوريا. منذ ذلك الوقت تم تحدي تصور الكرد كمجتمع معزز بالتماسك بين عوامله المختلفة على الأقل خلال فترة الانتداب الفرنسي.

       كذلك كرست فترة الانتداب العلاقة الثلاثية بين القوى الأوربية والدول المحلية والأقليات التي كانت موجودة  منذ القرن التاسع عشر[8] والتي استمرت حتى الوقت الحالي ( Khoury and Méouchy 2007: 20–1). في النتيجة فإن تأسيس نظام الانتداب في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى سمح لفرنسا وبريطانيا العظمى بالبقاء في الشرق الأوسط. وبينما ركزت فرنسا على تأسيس الانتداب في سوريا ولبنان, انشغلت بريطانيا بإدارة الدولة العراقية الجديدة.

         دفعت مشروعات التطوير الاقتصادي الاجتماعي للجزيرة والخلاف الفرنسي التركي حول رسم الحدود السورية التركية  لأن تستخدم فرنسا الورقة الكردية(Tatchjian 2004; Tejel 2007a). في النتيجة فإن الآلاف من المهاجرين الكرد, بما فيهم قادة الحركات الكردية في تركيا, انتقلوا إلى سوريا. وعلى الرغم من أن فرنسا لم تقدم سياسة واضحة ومتناسقة تجاه الكرد, فإن المثقفين “المقاولين السياسيين” الكرد وزعماء العشائر تمكنوا, بدرجة محددة, من تطوير استراتيجيات لمجتمعهم من أجل التكوين والعمل, بما فيها تنظيم الثورة المسلحة ضد النظام الكمالي, حول جبل أرارات شمالي شرقي تركيا 1927-1931 (Nouri Pacha 1986).

        كان ثمن هذا التحالف بين النخب الحديثة وزعماء القبائل هو اعتماد الحركة القومية على الروابط ما دون القومية  ومن ثم الاختلاط المتبادل بما سمح بتكوين هوية بين العصبية والمجموعة الاثنية (Roy 2004: 47).  كذلك فإن انغماس الحركة الكردية في ثورة آرارات اشار إلى أن القوميين الكرد في سوريا النشطين في سوريا تحولت وجهتهم إلى مناطق كردية أخرى, وبشكل خاص في تركيا والعراق. ومنذ ذلك الحين ترسخت توجهات الكرد نحو هذين البلدين, وهو أمر تم ترسيخه بدرجة كبرى في عهد حافظ الأسد. وقد عزز ذلك الحقيقة غير القابلة للجدال في الصفة العابرة للحدود للمسألة الكردية (Bozarslan 1997: 291–347)  واعتبار الكرد السوريين بأن الحدود مساحة مشتركة, بمقاييس اللغة والروابط العشائرية والاثنية والعائلية, أكثر من كونها خط فاصل.

       في نفس الوقت أكد استغلال الكرد من قبل الفرنسيين على الديناميكيات الموجودة بتعزيز التقسيمات الموجودة بين الجماعات الكردية المجزأة أصلاً. لذلك فإن الفرنسيين حثوا القوميين الكرد (وبدعم زعماء العشائر) على تركيز أنشطتهم السياسية على الجزيرة (Terrier Plan). وعوملت كل منطقة كردية كمنطقة منفصلة, بدون روابط سياسية بينهما. يضاف إلى ذلك ان الحالة السيئة للطرق بين مختلف المناطق الكردية في شمال سورية جعلت من الصعب جدا بناء العلاقات أو توحيد الحيز الكردي (Deutsch 1962).

.

السياسة وما دون السياسة:

المنهجيات الأداتية والحالية في تناول المسألة الاثنية لا تفسر لماذا يتشبث الناس من غير النخب بأثنيتهم ولماذا ينغمس أعضاء جماعة أثنية في حركة هوية. بالتأكيد يمكن لجماعات الروابط ما دون الاثنية, مثل قبائل محددة, أن تستخدم الاثنية لإخفاء مصالحها الأنانية في العصبية, لكن كيف يمكن تفسير اشتراك العناصر غير القبلية في الأعمال العسكرية باسم الهوية الاثنية؟ إذا استخدمت بعض القبائل الحركية الاثنية لتحسين وضعها, هل يعني هذا بالنسبة لأعضاء القبيلة, أن الاثنية غير ضرورية وجردت من معناها؟ واخيراً هل يعني نقص الفعاليات السياسية حول هوية اثنية في حالة معينة أنه ليست هناك مشكلة في المنطقة التي تلعب في تلك الأثنية دوراً مهيمناً؟

      تقليديا استخدمت الحركة الكردية السورية استراتيجية العمل السلمي, مع برنامج سياسي معتدل. وقد سمح البرلمان السوري الذي نشأ خلال الانتداب, على الرغم من عيوبه, بتواجد ممثلين مدنيين للمجتمعات الكردية. لكن انفتاح الفضاء السياسي السوري خلال الانتداب ليس هو العامل الوحيد الذي يفسر التكييف الواضح للقادة القوميين الكرد مع النظام القانوني السوري.

        كما هو الحال مع زعماء القبائل الآخرين وممثلي المجموعات الدينية, فإن القادة الكرد جندوا من قبل السلطات الفرنسية, مما خلق نوعا من الاتكالية فيما يتعلق بالآلية الإدارية. على الرغم من أن هذه العلاقات التفضيلية فتحت الطريق للأثنية الكردية لتأسيس سلطتها المحلية, فإن مساحة المناورة المتاحة لممثلي الكرد كانت محددة من قبل الفرنسيين. أجبرت النخب الكردية على العمل في مجال سياسي فيه العديد من اللاعبين الآخرين (سلطات الانتداب وضباط المخابرات والدولة المحلية ولاعبي الأقليات ..الخ) الذين غالبا ما اتخذوا مواقف معارضة لهم وكات هم مواقف مشوشة تجاه مزاعم الهوية الكردية في سوريا, وهي مواقف تم الحفاظ عليها طوال الانتداب والفترة التالية.

         في فترة ما بعد الانتداب أصبح الجو السياسي السوري بشكل متدرج أقل تسامحاً تجاه التعددية الاثنية. عروبة سوريا ومعاداة الامبريالية (وبشكل موازي معاداة الديمقراطية الغربية) ومعاداة اسرائيل, وبالنسبة لبعض القطاعات, روحية العروبة كانت عاملا مؤسساً للإجماع بين القوى السياسية والعسكرية في البلد, مستبعدة كل الرؤى الأخرى لبناء المجتمع السوري. شجع التقدم المتدرج للإجماع الايديولوجي في سوريا استراتيجية “التقية” (Mardin 1977; Scott 1990) في المجتمعات الكردية. وهذا الفعل الاستراتيجية يبين أنه في ظل ظروف محددة, يمكن للجماعات الاثنية أو الاجتماعية أو الدينية اختيار التخفيف من تمايزاتها من أجل مواجهة الاجماع الايديولوجي الرسمي. وشفافية التمويه تعتمد على درجة الهيمنة في العلاقة: وكلما كان هناك تفاوت أكبر في القوة بين المهيمن والتابع, وزاد تعسف ممارسة الهيمنة, كما زادت النسخ العامة[9] للتابعين  التي تمارس النمطية والشعائرية (Scott 1990: 3).

     ومثل كل المواطنين السوريين  فإن الكرد أكرهوا على العمل كما لو كانوا مخلصين للنظام وقيادته ومبادئه (Wedeen 1998, 1999). لكن الكرد أيضا شجعوا, خلال عقدين (1964-1984), على تهذيب هويتهم بعيداً عن المجال العام. وهذه الحقيقة تجذب اهتمامنا نحو الأنشطة والاستراتيجيات التي مارسها اللاعبون الكرد في المجال (دون السياسي), “وهي شريك صامت للنموذج المتكلم من المقاومة الشعبية” (Scott 1990: 199). وتأكيد أهمية الانشطة (ما دون السياسية) هو تاكيد أيضاً أنه خلف الواجهة الرسمية الاجماعية في سوريا, فإن تكوين  المجتمع الكردي سوريا, والمجتمع السوري عموماً, لم يعرقل بالقدر الذي يقوله البعض (Droz-Vincent 2004). في المقابل وفي مكان ما بين التمرد والخضوع (Badie 1987: 226, 231–2) هناك منطقة سياسية أكثر صعوبة على الفهم بالمقارنة مع الصراع السياسي المفتوح.

       إن حيوية المجموعات التابعة في (ما دون السياسة) يمكن أن تقاس بسهولة بعض رفع القناع. الطريق من التقية إلى التصريح يعتمد, بدرجة كبيرة جداً, على الفرص السياسية, لأن “أي الاعتماد على الظروف والهياكل السياسية , وحتى القوميات الأكثر مقاومة يمكن أن تختار التأكيد على وضعها الاقتصادي الاجتماعي أو هويتها المدنية أو التزامها الديني أكثر من تمايزها القومي الأثني”( Natali 2005: xxiii). لكن كما أثبت الحركة الجماهيرية للكرد السوريين في عام 2004, فإن إدراك نوافذ الفرص من قبل المستكشفين يمكن أن يتأثر بالذاتية. وهنا تظهر ضرورة النظر ليس فقط للعوامل المنطقية بل أيضا المساحات الذاتية.

المرحليات المتعددة:

كانت مرحلتا الانتداب وما بعد الانتداب (1946-1963) شاهداً على آليتين متوازيتين غير حصريتين: من جهة هناك زيادة الطابع الأثنين للأفراد والجماعات التي تعرف بالكرد, ومن جهة أخرى تكون مجتمع مدني[10] اعتمد على المساهمة النشطة لأفراد من كل الجماعات, غير المعتمدة على الروابط المشتركة, بل المعتمدة على الالتزام الإيديولوجي والفصائل السياسية (القوميين السوريين والقوميين العرب والشيوعيين).

       تعرض الكرد لعدد كبير من الإجراءات القانونية التي أثرت على كل سكان سوريا, مثل فرض حالة الطوارئ منذ عام 1963. وبجانب نشأة نظام شمولي في موقفه من الحريات الفردية, كان هناك أعمال رعاها النظام البعثي لم تؤثر فقط على الكرد بل على بعض الجماعات الأخرى, مثل تعريب أسماء القرى المسيحية. وقد كانت الهجرة من الريف إلى المدينة عاملاً آخر للتحول الاقتصادي الاجتماعي الذي لمس كل المناطق الطرفية. بوضوح كانت هناك العديد من الامكانيات لجسر الفجوة بين الكرد وغالبية المجتمع السوري.

         لكن من الضروري أن نتذكر أن سياسات النظم السورية ساهمت بشكل غير مقصود لكن بشكل مباشر في تطبيع العلاقات بين الكرد وباقي السكان بالطابع الأثني. خضع الكرد, الذي ميزتهم الحكومة كمجتمع أو جماعة, لسياسات تميزية , مثل المنع من تعليم لغتهم ومشروع تعريب منطقة الجزيرة الذي جرد 120000 مواطن من الجنسية, بالإضافة للعنف الرمزي المؤسسي الكامن في استبعاد هويتهم من تعريف سوريا[11]. وأخيراً فإن التصريح بأن  الكرد أجانب غذى بشكل تدريجي لدى الكرد فكرة أنهم “اقلية قومية.

        كذلك فإن الكرد بالإضافة لتأثرهم بالتحولات الاقتصادية الاجتماعية المحلية والقومية, فإنهم تأثروا بالديناميكيات العابرة للحدود, فيما يتعلق بهويتهم الاثنية الواسعة (Roy 1991: 22). تضمنت هذه الديناميكيات العابرة للحدود الشبكات القبلية والعائلية والدينية والثورات الكردية المسلحة في تركيا(1927- 1931 و1984-2007) والعراق (1943-1945 و1961-1970 و1986-1988), وزيادة استقلال كردستان العراق منذ عام 1991. لذلك أصبح ضرورياً وجود نظرة بديلة لتاريخ سوريا العام بتفصيلاته مع تناول الحقيقة الكردية فيها.

        نعلم أننا لم نضع يدنا على كل مستويات التحليل(Revel 1996), ولا غطينا كل المناطق الجغرافية أو المجال العام للموضوع, بما فيها قضايا الجنس وتوزيع الأراضي والزواج المختلط وغيرها, التي تتواجد في الهوامش ليس فقط في النظام السياسي السوري, بل أيضاً لدى الأحزاب السياسية الكردية, لكي نلقي الضوء على الطابع المعقد للسكان الكرد واندماجهم في المجتمع السوري. لكن هذه المهمة تتطلب وصولاً أسهل للمجال والمعلومات. مع ذلك نأمل أن نكون قد أدخلنا تساؤلات جديدة وقدمنا معلومات إضافية, تسمح في تنمية معرفتنا وفهمنا  لكرد سوريا.


[1]–  من الصعب علينا أن نذكر كل الأعمال التي تطرقت للمسألة الكردية  والهوية الكردية والقومية الكردية في هذه البلدان الثلاث لكن يمكن أن نذكر مساهمات : C.J. Edmonds (1957), Chris Kutschera (1979), Elizabeth Picard (1991), Martin van Bruinessen (1992), Amir Hassanpour (1992), David McDowall (1996), Philip Kreyenbroek and Christine Allison (1996), Hamit Bozarslan (1997), and Martin Strohmeier (2003)

[2]– تم إيراد الدور الكبير للكرديين المستعربين حسني الزعيم وأديب الشيشكلي كإثبات على الاندماج الناجح للكرد في المجتمع السوري.

[3]–  حول هذا الموضوع انظر:

European Journal of Turkish Studies, Thematic Issue no. 5 , http://www.ejts.org.

[4]-أجرينا دراستين ميدانيتين (إبريل 2001 و فبراير ومارس 2007) في سوريا. لسوء الحظ في الحالتين قاطعتنا قوى الأمن وطلبت منا مغادرة شمال سوريا. وبجانب من ذكرت أسماؤهم أرغب بشكر كل من قدم لنا ولم يذكر.

[5]– في عام 1936 اصدر المفوض الفرنسي العام في سوريا ولبنان مرسوماً تضمن الاعتراف القانوني بالجماعات الدينية التي سبق وأن اعترفت بهم الامبراطورية العثمانية وتم استيعاب قانوني الأحول الشخصية الخاص بهم في دستور 1930.

[6]– ينعرف الجماعة الأثنية على انه مجموعات محلية (قبائل و قرى وسكان مدن) تدعي الانتماء لأصل مشترك ونمط حياة ومبادئ اجتماعية للتنظيم ومجموعة أفكار,  ليست متشابهة بالضرورة,  لكن تبين  من خلال اختلافاتها أنها تنتمي لتقاليد مشتركة.

[7]– مقابلة مع الكاتب Rajo مارس 2007

[8]– نتيجة التحالف السياسي والعسكري بين الامبراطورية العثمانية وفرنسا عام 1534 تم وضع الأسس القانونية للتواجد الفرنسي في الشرق. في البداية كانت عملاً من طرف واحد منحه السلطان انطلاقاً من سلطاته الشخصية لبلد حليف الأمر الذي نتج عنه عدد من الفوائد فيا يخص الحرية الدينية وحرية التجارة والحصانة القضائية. لكن الأمر توسع بسرعة لقوى تجارية أخرى (مثل انكلترا) , وغيرت التنازلات طبيعة هبوط الإمبراطورية العثمانية.  اكتسب السفراء والمستشارون ولاء زبائن محليين من صفوف اليهود واليونانيين والأرمن والمجتمعات المسيحية الشرقية الأمر الذي قوض شيئاً فشيئاً سلطات الإمبراطورية. خلال القرن التاسع عشر تحولت المواضيع التقليدية للاقتصاد والقضاء إلى نظم حقيقي للتاثير الثقافي والسياسي ( بفضل عمل المبشرين وتطورات المجتمعات المحلية غير المسلمة).

[9]– يعرف  James C. Scott النسخ العام (public transcript) بأنه تفاعل مفتوح بين التابع والمهيمن (Scott 1990: 2).

[10]– من أجل التفصيل في فرضية وجود المجتمع المدني في سوريا انظر Hinnebusch (1995: 214–42)

[11]-نعني بالأقلية “أقلية قانونية واجتماعية” تعيش في سياق متميز وظروف من التكامل.

شارك هذا المقال: